القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال العلامة الطحاوي –رحمه الله-: "وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة, وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد, ولا ينقص منه, وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه, وكل ميسر لما خلق له, والأعمال بالخواتيم, والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله، وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه, لم يطلع على ذلك ملك مقرب, ولا نبي مرسل, والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان, وسلم الحرمان, ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً, وفكراً, ووسوسة؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه, ونهاهم عن مرامه, كما قال تعالى في كتابه: { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }"
الشيخ: سبحانه
القارئ:فمن سأل لم فعل؟ فقد ردّ حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
الشيخ:(غير مسموع)
هذه الجمل من هذه العقيدة المباركة شروع من الطحاوي –رحمه الله- في مسألة القدر، ومسألة القدر والبحث فيها من المسائل العظيمة جداً؛ لأن الخلاف فيها بين أهل السنة والجماعة وبين المخالفين كثير ومتنوع، والطحاوي لم يرتب الكلام على مسألة القدر, بل فرقه ولم أيضا يتناوله تناولاً منهجياً واضحاً بيناً, وإنما ذكر جملاً منه، ولهذا فإننا سنذكر إن شاء الله تعالى كل ما يتصل ببحث القدر في هذا الموضع إن اتسع له الوقت, ونحيل فيما نستقبل على هذا الموضع الذي نأتيه عند قوله:"وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه".
قال: "وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جملة واحدة فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه".
هذه الجملة أخذها انتزاعاً من عدد من أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام, وهذه الأحاديث وتلك الأحاديث متنوعة وثابتة في أن الله جل وعلا خلق الجنة, وخلق لها أهلاً, وعلم ما هم عاملون, وخلق النار, وخلق لها أهلاً وعلم ما هم عاملون، وأن الله سبحانه قبض قبضة للنار, وقبض قبضة إلى الجنة, وأن الله سبحانه لما استخرج ذرية آدم من ظهره قال: هؤلاء إلى الجنة, وهؤلاء إلى النار، فلا يزاد من ذلك العدد ولا ينقص، والأحاديث في هذا كثيرة متنوعة، لكن المراد من ذلك هو ذكر أعظم مراتب الإيمان بالقدر ألا وهي مرتبة العلم, حيث ذكر إن الله سبحانه علم عدد من يدخل الجنة, وعدد من يدخل النار، وكذلك علم أفعالهم, فعلم العدد يعني علم الإفراد وعلم الأعمال، والأعمال يدخل فيها القول, والعمل, والاعتقاد, والأحوال جميعاً(غير مسموع) جميع تصرفات أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهذا فيه إجمال لذكر هذه المرتبة العظيمة, وهي مرتبة العلم, ولهذا نقول إن هذه الجملة فيها تقرير لمرتبة العلم, والكلام على هذه المرتبة يمكن أن نرتبه لك في مسائل.
أن علم الله جل وعلا كما ذكر:"علم الله فيما لم يزل". يعني: أن علم الله أزلي وأبدي, وأن علمه سبحانه أول, وهذه كلها بمعنى واحد.
أن علم الله جل وعلا من حيث هو صفةله سبحانه متعلق بكل شيء, كما قال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }. وقال:{واللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.وقال أيضا جل جلاله:{وكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} وقال سبحانه: { وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً }. ونحو ذلك من الآيات، فعلم الله جل جلاله متعلق بكل شيء، وكلمه بكل شيء هذه فيها شمول للأشياء، والشيء يُعَّرف بأنه ما يصح أن يُعلم, أو ما يصح أن يؤول إلى أن يُعلم, فإذن ما سيقع سواء كان من جليل الأمر أو من حقيرة فهذا سيؤول إلى العلم، وأيضاً يصح أن يُعلم ويصح أن يؤول إلى العلم مما لم يقع؛ لهذا نقول إن علم الله جل وعلا بالأشياء شامل, وأن علم الله جل وعلا بالأشياء بدأ هو أول, لكن بدأ حيث أراده الله جل وعلا أن يوجد ذلك الشيء أو يكون الأمر على هذا النحو، أو أن لا يكون هذا الأمر, يعني: أن الله سبحانه وتعالى علم أحوال الأشياء على التفصيل وعلى الإجمال لما أراد خلقها، وإيجادها سبحانه وتعالى والله سبحانه يعلم تلك الأشياء على ما هي عليه, وعلمه بها أول، وإذا قلنا إن علمه سبحانه وتعالى بها شامل, وأنه جل وعلا علم تلك الأشياء إذ توجهت الإرادة إليها؛فإن ذلك العلم لم يسبقه جهالة وهذه من أصول المسائل أيضاً؛ لأن علم الله جل وعلا لم يسبقه جهالة, وهذه تنفعك في البحث مع القدرية نفاة العلم,
وقولنا: لم يسبقه جهالة, يعني: لا في الأزل فإذا قلنا: علم, ليس معناه أنه قبل ذلك كان جاهلاً بهذا الشيء لم؟ لأنه لم يكن شيئاً إلا لما توجهت الإرادة إليه، فلما توجهت الإرادة إليه بأنه يكون أو لا يكون أو إذا كان كيف يكون؛ فإنه سبحانه علمه بذلك سابق. فإذن علم الله جل وعلا لم يسبقه جهالة لا حين توجه إلى الإرادة, ولا حين وقع مشيئة كونية. والإرادة في قولنا: توجهت إليه إرادة, ليست هي الإرادة الكونية المتعلقة اللي تعرفونها اللي هي المشيئة التي إذا تعلقت بشيء كان, وإنما هي إرادة القدر, يعني تقدير الأشياء بأن هذا سيكون أولا يكون, وإن هذا سيخلقه الله, أو لا يخلقه الله, يعني الإرادة المرتبطة بالحكمة والتقدير في إيقاع الأشياء في أوقاتها.
أن مرتبة العلم من أنكرها كفر, ومراتب القدر أربعة كما تعلمون؛ أولها العلم, ثم الكتابة, ثم عموم المشيئة, ثم عموم خلق الله جل وعلا للأشياء، والمرتبة الأولى وهي العلم, من أنكرها كفر, وعلم الله سبحانه وتعالى كما ذكر لك الطحاوي أنه علم أهل الجنة وعلم أهل النار، يعني: علم حال المكلفين, وعددهم, وصفاتهم, وعلم أيضاً أعمالهم, وأيضاً هذا القدر المتعلق بالمكلفين، وأيضاً عِلْم الله تعالى بكل شيء حتى بغير المكلفين على التفصيل.
أن المنكرين للعلم علم الله جل وعلا السابق خرجوا في زمن ابن عمر -t- فقال ابن عمر في حقهم لمن سأله قال: أعلمهم أني منهم بريء, وذكر حديث الإيمان, يعني حديث جبريل الطويل المعروف عن عمر أبيه إلى آخره وفيه من أركان الإيمان، الإيمان بالقدر خيره وشره.
وهؤلاء كانوا يقولون: إن الله جل وعلا لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها, يعني أن الأمر أنف, مستأنف يقع ثم يُعلم. وشبهتهم شبهة القدرية هؤلاء أنهم قالوا: إن الله سبحانه علق أشياء في القرآن بالعلم الذي ظاهره أنه لم يكن قبل ذلك عالماً. وذلك من مثل قوله جل وعلا: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } وهذا فيه تعليق الأمر بعلم سيحصل, قال: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ}. يعني أنه قبل ذلك يعني كما يقولون لم يكن يعلم من سيتبع ممن سينقلب على عقبيه, وهذا الإيراد والاستدلال بالآية هو استدلال بالمتشابه وترك للمحكمات؛ ولهذا يرد عليهم هذا الاستدلال, بأن هذه الآية تفهم مع الآيات الأخر التي فيها علم الله جل وعلا بكل شيء حتى قبل وقوع الأشياء, كما قال سبحانه: {واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } كما ذكرت لك أن الشيء يعرف بأنه ما يؤول إلى العلم, ما يصح أن يعلم أو يؤول إلى العلم، وكذلك يستدل عليهم بقوله:{ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }. والأحاديث الكثيرة التي فيها علم الله جل وعلا بأهل الجنة, وعلم الله جل وعلا بأهل النار, وعلمه بعمل العاملين ونحو ذلك قبل خلق الخلق.
ويستدل أيضاً عليهم بقوله سبحانه:{ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }. وبقوله:{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }. والآيات في ذلك كثيرة التي فيها ذكر العلم بلفظ كان، كان الله بكل شيء عليماً.
وهؤلاء القدرية هم الذين قال فيهم السلف: ناظروا القدرية بالعلم, فإن أنكروه كفروا, وإن أقروا به خصموا, والقدرية هؤلاء سموا قدرية؛ لأنهم ينفون القدر, ونفي القدر قد يتوجه إلى نفي مرتبة من مراتبه, أو إلى نفي أكثر من مرتبة, فممن نفى أكبر المراتب وأعظمها وهي العلم هؤلاء هم القدرية الأوائل الذين يقال لهم: القدرية الغلاة، القدرية الغلاة ومن هؤلاء يعني: من القدرية الذين ينفون مرتبة عموم الخلق؛ المعتزلة, وهم مراتب, أعني القدرية في ذلك مراتب، وقد لخص شيخ الإسلام أصناف القدرية بقوله في تائيته القدرية:
ويدعى خصوم الله يوم معادهم = إلى النار طراً معشر القدرية
سواءً نفوه أو سعوا ليخاصمـــوا = به الله أو ماروا في الشريعة
يعني أن أعظم تلك الفرق اللي تدعى القدرية الذين ينفون القدر, وهم الغلاة نفاة العلم, أو المتوسطون وهم المعتزلة ومن شابههم.
المتعلقة بالعلم أن علم الله جل وعلا الشامل لكل شيء, الشامل لكل شيء هذا يفيد المؤمن في إيمانه بالقدر, وهو أنه سبحانه علم الأشياء, وعلم حال العبد, وعلم ما ستكون عليه هذه الأمور جميعاً, من دقائقها وتفاصيلها وإجمالها, وهذا يعني أنه ليس ثم شيء يقع على وجه الصدفة بلا ترتيب سابق، ولا تقدير سابق، فإذا كان الله علم؛ فإن معنى ذلك أنه سبحانه جعل هذا الذي علم أنه سيقع على وفق ما يشاؤه, على وفق الحكمة البالغة؛ لأن الرب المتصرف لأن الرب المتصرف ذا الملكوت لا يقع في ملكه إلا ما يشاء أن يقع، فإذا كان علم وأيقن العبد هذا العلم الشامل الكامل؛ فإنه يوقن بعده بالحكمة العظيمة, ولهذا مسألة الحكمة من وجود الأشياء مرتبطة بالقدر علماً ونفياً, يعني مرتبطة بالقدر علماً, أعني الحكمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى عليم ولأنه سبحانه ما شاء كان, ومرتبطة بالقدر نفياً, في أن الخوض في الحكمة خوض في القدر؛ ولهذا قال لك الطحاوي في آخر كلامه:"وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه". وقال في آخره أيضاً:" فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه, ونهاهم عن مرامه". إلى أن قال: "فمن سأل لم "
الشيخ: سبحانه جعل هذا الذي علم أنه سيقع على وفق ما يشاؤه , على وفق الحكمة البالغة؛ لأن الرب المتصرف, لأن الرب المتصرف ذا الملكوت لا يقع في ملكه إلا ما يشاء أن يقع، فإذا كان علم وأيقن العبد هذا العلم الشامل الكامل , فإنه يوقن بعده بالحكمة العظيمة , ولهذا مسألة الحكمة من وجود الأشياء مرتبطة بالقدر علماً ونفياً , يعني مرتبطة بالقدر علماً أعني الحكمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى عليم , ولأنه سبحانه ما شاء كان ومرتبطة بالقدر نفياً؛ في أن الخوض في الحكمة خوض في القدر، ولهذا قال لك الطحاوي في آخر كلامه: "وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه" وقال في آخره أيضاً: "فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه" إلى أن قال: "فمن سأل لم فعل فقد ردّ حكم الكتاب" وهذه هي التي يشكل على البعض كيف دخلت في القدر وهي مسألة الحكمة، إذا قال المرء لم حصل كذا؟ ولم قُدّر كذا؟ أو لم صار الأمر على هذا النحو؟ لم صار هذا غنياً وهذا فقيرا؟ لم صار هذا مريضاً وصار ذاك صحيحاً؟ كيف اتصل هذا السؤال بالقدر وصار المتشكك من القدرية؟؛ لأن المتشكك ينفي الحكمة, ولو أيقن بعموم العلم وعموم المشيئة لأيقن بحكمة الله جل وعلا الماضية، وأنه لا شيء يقع إلا والله سبحانه وتعالى علمه قبل أن يقع , وأراده كوناً وشاءه.
فهذا يعني أنه لم يقع إلا على وفق حكمة الله جل جلاله , فلهذا صار السائل في مسائل القدر بلم، صار معارضاً للقدر، لهذا قال لك ابن تيمية في البيت الذي في البيت ذكرته لك آنفاً , أو ماروا في الشريعة يعني أن القدرية منهم من يماري في الشريعة , يماري يعني يشكك ويجادل ويسأل وكذلك قال بعدها:
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة = هو الخوض في فعل الإله بعلة
فإنهم لم يفهموا حكمة لـــه = فصاروا على نوع من الجاهلية
فأهل الجاهلية عارضوا الشريعة بلم , والمتشككون عارضوا أفعال الله جل وعلا بلم، إذن فمن أعظم مراتب الإيمان بالقدر الإيمان , من أعظم مراتب الإيمان بالقدر الإيمان بعلم الله جل وعلا الشامل للأشياء، الشامل لكل شيء , فإذا أيقن العبد بهذا بعموم العلم وعلم معنى ذلك أيقن أيضاً بحكمة الله جلا وعلا واستسلم لقدر الله ولم يخض فيه بالسؤال؛ لأن القدر سر وهو مرتبط بعلم الله جل وعلا.
يوضح لك ذلك أن الله جل جلاله قص علينا في القرآن قصة الخضر مع موسى عليه السلام , أو عليهما السلام , فالخضر مع موسى اختلفا واعترض موسى على الخضر وسبب الاعتراض عدم العلم، لما كان موسى في تلك المسائل أنقص علماً من الخضر , واعترض حجب عن علم زائد , ولذلك صار السؤال سؤال الاعتراض مرتبطاً بالعلم , فإذا كان الخضر أعلم من موسى , فإذا كان الخضر أعلم منه وموسى حجب بالسؤال فدلّ على أن السؤال في أفعال الله , أو السؤال في قدر الله أو السؤال في تصرفات خلق الله جل وعلا أن هذا اعتراض على العلم , وإذا كان الله جل وعلا هو العليم بكل شيء فإنه لا يجوز للعبد أن يعترض على علمه , وعلى حكمته بلم، لهذا قال في آخر الكلام هنا: "فمن سأل لم فعل فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين" يعني قوله: {لا يُسأل عما يفعل}.
هذه بعض المسائل في كلامه على مرتبة العلم.