فَصْلٌ
في قَصْرِ المُسَافِرِ الصَّلاةَ
وسَنَدُه قَوْلُه تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ...} الآيَةَ.
(مَنْ سَافَرَ)؛ أي: نَوَى (سَفَراً مُبَاحاً)؛ أي: غَيْرَ مَكْرُوهٍ ولا حَرَامٍ, فيَدْخُلُ فيهِ الوَاجِبُ والمَنْدُوبُ والمُبَاحُ المُطْلَقُ- ولو نُزْهَةً وفَرْجَةً- يَبْلُغُ (أَرْبَعَةَ بُرُدٍ), وهي سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخاً بَرًّا أو بَحْراً, وهي يَوْمَانِ قَاصِدَانِ,(سُنَّ له قَصْرُ رُبَاعِيَّةٍ رَكْعَتَيْنِ)؛ لأنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ دَاوَمَ عليه بخِلافِ المَغْرِبِ والصُبْحِ, فلا يُقْصَرَانِ إِجْمَاعاً، قالَهُ ابنُ المُنْذِرِ.
(إذا فَارَقَ عَامِرَ قَرْيَتِه), سَوَاءٌ كَانَت البُيُوتُ دَاخِلَ السُّورِ أو خَارِجَهُ. (أو) فَارَقَ (خِيَامَ قَوْمِه) أو ما نُسِبَ إليه عُرْفاً؛ كسُكَّانِ قُصُورٍ وبَسَاتِينَ ونَحْوِهم؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إِنَّمَا كانَ يَقْصُرُ إذا ارْتَحَلَ.
ولا يُعِيدُ مَن قَصَرَ بشَرْطِه ثُمَّ رجَعَ قَبْلَ استِكْمَالِ المَسَافَةِ، ويَقْصُرُ مَن أَسْلَمَ, أو بَلَغَ, أو طَهُرَتْ بسَفَرٍ مُبِيحٍ, ولو كانَ البَاقِي دُونَ المَسَافَةِ, لا مَن تَابَ إذنْ، ولا يَقْصُرُ مَنْ شَكَّ في قَصْرِ المَسَافَةِ ولا مَن لم يَقْصِدْ جِهَةً مُعَيَّنَةً كالتَّائِهِ، ولا مَن سَافَرَ ليَتَرَخَّصَ، ويَقْصُرُ المُكْرَهُ كالأسِيرِ، وامرَأَةٌ وعَبْدٌ تَبَعاً لزَوْجٍ وسَيِّدٍ.
(وإن أَحْرَمَ) في الحَضَرِ (ثُمَّ سَافَرَ, أو) أَحْرَمَ (في سَفَرٍ ثُمَّ أَقَامَ), أَتَمَّ؛ لأنَّها عِبَادَةٌ اجتَمَعَ لها حُكْمُ الحضَرِ والسَّفَرِ, فغُلِّبَ حُكْمُ الحَضَرِ، وكذا لو سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ أَتَمَّهَا وُجُوباً؛ لأنَّها وَجَبَتْ تَامَّةً، (أو ذَكَرَ صَلاةَ حَضَرٍ في سَفَرٍ), أَتَمَّهَا؛ لأنَّ القَضَاءَ مُعْتَبَرٌ بالأداءِ وهو أَرْبَعٌ، (أو عَكْسُها)؛ بأن ذكَرَ صَلاةَ سَفَرٍ في حَضَرٍ أَتَمَّ؛ لأنَّ القَصْرَ مِن رُخَصِ السَّفَرِ, فبَطَلَ بزَوَالِه، (أو ائتَمَّ) مُسَافِرٌ (بمُقِيمٍ), أَتَمَّ، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: تلكَ السُّنَّةُ. رواهُ أَحْمَدُ.
ومنه لو ائتَمَّ مُسَافِرٌ بمُسَافِرٍ فاستَخْلَفَ مُقِيماً لعُذْرٍ, فيَلْزَمُه الإتمَامُ. (أو) ائتَمَّ مسافرٌ (بمَن يَشُكُّ فيهِ)؛ أي: في إِقَامَتِه وَسَفَرِه, لَزِمَهُ أن يُتِمَّ، وإن بانَ أنَّ الإمامَ مُسَافِرٌ؛ لعَدَمِ نِيَّتِه، لكنْ إذا عَلِمَ أو غلَبَ على ظَنِّهِ أنَّ الإمامَ مُسَافِرٌ بأَمَارَةٍ؛ كهَيْئَةِ لِبَاسٍ، وأَنَّ إمَامَهُ نَوَى القَصْرَ, فله القَصْرُ, عَمَلاً بالظَّاهِرِ، وإنْ قالَ: إنْ أَتَمَّ أَتْمَمْتُ، وإن قَصَرَ قَصَرْتُ. لم يَضُرَّ. (أو أَحْرَمَ بصَلاةٍ يَلْزَمُه إِتْمَامُهَا)؛ لكَوْنِه اقتَدَى بمُقِيمٍ أو لم يَنْوِ قَصْرَهَا مَثَلاً (ففَسَدَتْ) بحَدَثٍ أو نَحْوِه (وأعَادَهَا) أَتَمَّهَا؛ لأنَّها وَجَبَتْ عليهِ تَامَّةً بتَلَبُّسِه بها، (أو لم يَنْوِ القَصْرَ عِنْدَ إِحْرَامِهَا), لَزِمَهُ أن يُتِمَّ؛ لأنَّه الأَصْلُ, وإِطْلاقُ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إليه، (أو شَكَّ في نِيَّتِهِ)- أي: نِيَّةِ القَصْرِ- أَتَمَّ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّهُ لم يَنْوِه.
(أو نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِن أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ), أَتَمَّ، وإنْ أقامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ, قَصَرَ؛ لمَا في المُتَّفَقِ عليهِ مِن حديثِ جَابِرٍ وابنِ عَبَّاسٍ, (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِن ذِي الحِجَّةِ, فَأَقَامَ بها الرَّابِعَ والخَامِسَ والسَّادِسَ والسَّابِعَ, وصلَّى الصُّبْحَ فِي اليَوْمِ الثَّامِنِ, ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِنًى, وكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاةَ في هذهِ الأيَّامِ وقَدْ أَجْمَعَ عَلَى إِقَامَتِهَا).
(أو) كانَ المُسَافِرُ (مَلاَّحاً)؛ أي: صَاحِبَ سَفِينَةٍ, (معَهُ أَهْلُه لا يَنْوِي الإقَامَةَ ببَلَدٍ, لَزِمَهُ أن يُتِمَّ)؛ لأنَّ سَفَرَهُ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ معَ أنَّهُ غَيْرُ ظَاعِنٍ عَن وَطَنِه وأَهْلِه، ومِثْلُه مُكَارٍ ورَاعٍ ورَسُولُ سُلْطَانٍ ونَحْوُهم.
ويُتِمُّ المُسَافِرُ إذا مَرَّ بوَطَنِه أو ببَلَدٍ, له بها امرَأَةٌ, أو قَدْ تَزَوَّجَ فيه, أو نَوَى الإتْمَامَ ولو في أَثْنَائِهَا بَعْدَ نِيَّةِ القْصَرِ.
(وإن كانَ له طَرِيقَانِ)؛ بعَيِدٌ وقَرِيبٌ, (فَسَلَكَ أَبْعَدَهُمَا), قَصَرَ؛ لأنَّه مُسَافِرٌ سَفَراً بَعِيداً، (أو ذَكَرَ صَلاةَ سَفَرٍ في) سَفَرٍ (آخَرَ, قَصَرَ)؛ لأنَّ وُجُوبَهَا وفِعْلَهَا وُجِدَا في السَّفَرِ, كما لو قَضَاهَا فيه نَفْسِه، قالَ ابنُ تَمِيمٍ وغَيْرُه: وقَضَاءُ بَعْضِ الصَّلاةِ في ذلكَ كقَضَاءِ جَمِيعِهَا. اقتَصَرَ عليه في (المُبْدِعِ) وفيه شَيْءٌ.
(وإن حُبِسَ) ظُلْماً أو بمَرَضٍ أو مَطَرٍ ونَحْوِه (ولم يَنْوِ إقامَةً), قَصَر أَبَداً؛ لأنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه أَقَامَ بأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلاةَ وقَدْ حَالَ الثَّلْجُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الدُّخُولِ. رواهُ الأَثْرَمُ، والأَسِيرُ لا يَقْصُرُ ما أَقَامَ عِنْدَ العَدُوِّ، (أو أَقَامَ لقَضَاءِ حَاجَةٍ بلا نِيَّةِ إِقَامَةٍ) لا يَدْرِي مَتَى تَنْقَضِي, (قَصَرَ أَبَداًً), غَلَبَ على ظَنِّهِ كَثْرَةُ ذلكَ أو قِلَّتُه؛ لأنَّه عليهِ السَّلامُ (أَقَامَ بتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْماً يَقْصُرُ الصَّلاةَ). رواهُ أَحْمَدُ وغَيْرُه, وإسنادُه ثِقَاتٌ.
وإن ظَنَّ أن لا تَنْقَضِيَ إلاَّ فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ, أَتَمَّ. وإِنْ نَوَى مُسَافِرٌ القَصْرَ لم يُبَحْ, لم تَنْعَقِدْ صَلاتُه كما لو نَوَاهُ مُقِيمٌ.