(45) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصلٌ في أقسامِ الفناءِ... ).
الشرحُ:
أَقُولُ: قَصْدُ شَيْخِ الْإِسْلاَمِ هَهُنَا هو الردُّ على الصوفيَّةِ الحُلُولِيَّةِ والاتِّحَادِيَّةِ بِذِكْرِ معانِي الفناءِ.
حيثُ ذَكَرَ للفناءِ معنًى صحيحًا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى، وذَكَرَ للفناءِ مَعْنَيَيْنِ باطِلَيْنِ يُصَادِمَانِ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى.
فقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ما حَاصِلُهُ:
"الفناءُ" على ثلاثةِ أقسامٍ حَسَبَ اصطلاحِ الشرعِ واصطلاحِ الصوفيَّةِ.
الأَوَّلُ: هو الفناءُ الدِّينِيُّ الشرعيُّ المطلوبُ الواجبُ الذي جاءَتْ بهِ الرُّسُلُ والشرائعُ، وأُنْزِلَتْ بهِ الكُتُبُ السماويَّةُ.
وهو أنْ يَفْنَى المَرْءُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عنهُ بِفِعْلِ ما أَمَرَهُ اللَّهُ بهِ، فَيَفْنَى عن عبادةِ غَيْرِ اللَّهِ بعبادةِ اللَّهِ تَعَالَى، وعن طاعةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بطاعَتِهِ وطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا الفناءُ يُسَمَّى في الشرعِ: التَّقْوَى والبِرَّ والإحسانَ والإسلامَ والإيمانَ.
وهوَ فناءٌ مطلوبٌ شَرْعًا مأمورٌ بهِ في الإسلامِ.
الثاني: الفناءُ عن رؤيةِ ما سِوَى اللَّهِ وشهودِ غَيْرِ اللَّهِ.
فَيَفْنَى المرءُ بِمَعْبُودِهِ عن عبادتِهِ, أي: يَشْتَغِلُ باللَّهِ إلى حَدٍّ يَتْرُكُ عبادتَهُ، ويَتْرُكُ التكاليفَ الشرعيَّةَ، بحيثُ يَغِيبُ عن الكونِ حتى يَغِيبَ عن نفسِهِ, إلى أنْ لا يُشَاهِدَ إِلاَّ اللَّهَ.
وهذا النوعُ من الفناءِ قد يَقَعُ فيهِ كثيرٌ مِن الصوفيَّةِ الحُلُولِيَّةِ وأصحابِ وِحْدَةِ الشهودِ ]أي: الذينَ لا يُشَاهِدُونَ إِلاَّ اللَّهَ الواحدَ، ولا يُشَاهِدُونَ الكونَ مع اعتقادِهِم أنَّ الكونَ موجودٌ[.
وهذا النوعُ من الفناءِ إِلْحَادٌ وزَنْدَقَةٌ؛ لأَنَّ هذا الفناءَ لم يُعْرَفْ للأَنبياءِ والمُرْسَلِينَ ولا السابقِينَ الأَوَّلِينَ من المهاجرينَ والأَنَّصارِ.
الثالثُ: الفناءُ عن وجودِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، بحيثُ يَعْتَقِدُ أنَّ الوجودَ واحدٌ، وأنَّ الموجودَ واحدٌ وأنَّ الكونَ هو اللَّهُ بِعَيْنِهِ، وأنَّ اللَّهَ هو الكلبُ والخنزيرُ والفهدُ والقردُ والحِرْباءُ والناكحُ والمنكوحُ والعاشقُ والمعشوقُ والواطِئُ والمَوْطُوءُ، وهذا الفناءُ قد يَقَعُ فيهِ الصوفيَّةُ الوُجُودِيَّةُ من المَلاَحِدَةِ والزنادقَةِ أمثالِ الحَلاَّجِ، وابنِ عَرَبِيٍّ، وابنِ سَبْعِينَ، وابنِ الفارضِ، وعبدِ الكريمِ الجِيلِيِّ، وهذا الفناءُ أعظمُ كُفْرٍ على الإطلاقِ، وأَكْبَرُ زَنْدَقَةٍ وأقبحُ إلحادٍ، وهؤلاءِ أَشَدُّ كُفْرًا من اليهودِ والنصارَى.
(46) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(وهو أنْ يَفْنَى عن شهودِ ما سِوَى اللَّهِ).
الشرحُ:
أي: هذا النوعُ الثاني من الفناءِ –
هوَ أنْ يَفْنَى المرءُ عن رُؤْيَةِ ما سِوَى اللَّهِ، فلا يُشَاهِدُ غَيْرَ اللَّهِ، بلْ لا يُشَاهِدُ إِلاَّ اللَّهَ، مع اعتقادِ أنَّ غَيْرَ اللَّهِ موجودٌ، ولكنَّهُ لا يُشَاهِدُ إِلاَّ اللَّهَ، وذلكَ كاعتقادِ الناسِ أنَّ النجومَ موجودةٌ في النهارِ, ولكنَّهُم لا يُشَاهِدُونَ النجومَ لأجلِ شُعَاعِ الشمسِ، فهؤلاءِ أَيْضًا لا يُشَاهِدُونَ الكونَ لأجلِ قُوَّةِ شعاعِ نورِ اللَّهِ تَعَالَى - حَسَبِ زَعْمِهِم الفاسدِ- وهو فَنَاءُ أصحابِ وِحْدَةِ الشهودِ من الصوفيَّةِ الحُلُولِيَّةِ.
(47) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فهوَ الفناءُ عن وجودِ السِّوَى)
الشرحُ:
أي: النوعُ الثالثُ مِن الفناءِ هو فَنَاءُ المَرْءِ عن وجودِ سِوَى اللَّهِ، بِحَيْثُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لا مَوْجُودَ إِلاَّ اللَّهُ, وأنَّ الكونَ كُلَّهُ هو اللَّهُ، وأنَّ اللَّهَ هو الكلبُ والخنزيرُ والفهدُ والقردُ بِأَعْيَانِهَا.
فهذا الفناءُ فناءُ أصحابِ وِحْدَةِ الوجودِ, وهم الوجوديَّةُ الاتحاديَّةُ الذينَ هم أَشَدُّ كُفْرًا منها؛ الحُلُولِيَّةِ، وهو مذهبُ الغُلاَةِ مِن الصوفيَّةِ.