مطلب فِي حُرْمَةِ إفْشَاءِ السِّرِّ وَذِكْرِ الآثَارِ الوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ
وَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ(إفْشَاءُ) أَيْ نَشْرُ وَإِذَاعَةُ سِرٍّ , وَهُوَ مَا يُكْتَمُ كَالسَّرِيرَةِ وَجَمْعُهُ أَسْرَارٌ وَسَرَائِرُ . قَالَ فِي القَامُوسِ: فشى خَبَرُهُ فُشُوًّا وَفَشْوًا وفشيا انْتَشَرَ وَأَفْشَاهُ نَشَرَهُ . وَلَعَلَّهُ يَحْرُمُ حَيْثُ أُمِرَ بِكَتْمِهِ أَوْ دَلَّتْهُ قَرِينَةٌ عَلَى كِتْمَانِهِ أَوْ مَا كَانَ يُكْتَمُ عَادَةً . أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "المَجَالِسُ بِالأَمَانَةِ إلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ , أَوْ فَرْجٍ حَرَامٍ , أَوْ اقْتِطَاعِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ " .
وَأُخْرِجَ عَنْهُ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إذَا حَدَّثَ رَجُلٌ رَجُلاً بِحَدِيثٍ ثُمَّ التَفَتَ فَهُوَ أَمَانَةٌ " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: مَنْ سَمِعَ مِنْ رَجُلٍ حَدِيثًا لَا يَشْتَهِي أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْتِمْهُ . وَأَخْرَجَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: مَا خَطَبَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا قَالَ " لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ , وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ " قَالَ فِي الفُرُوعِ: حُرِّمَ فِي أَسْبَابِ الهِدَايَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ = وَفِي الرِّعَايَةِ يَحْرُمُ إفْشَاءُ السِّرِّ المُضِرِّ
وَفِي التَّنْزِيلِ {وَأَوْفُواْ بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} وَلَمَّا عَرَضَ عُمَرُ رضي الله عنه بِنْتَه حَفْصَةَ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ قَالَ لَهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّك وَجَدْت عَلَيَّ حِينَ عَرَضْت عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إلَيْك شَيْئًا , فَقَالَ نَعَمْ , فَقَالَ إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ أَرْجِعَ إلَيْك فِيمَا عَرَضْت عَلَيَّ إلَّا أَنِّي كُنْت عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا العَبُ مَعَ الغِلْمَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ فَأَبْطَأْت عَلَى أُمِّي , فَلَمَّا جِئْت قَالَتْ مَا حَبَسَك؟ قُلْت بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ , قَالَتْ مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْت إنَّهَا سِرٌّ قَالَتْ لَا تُخْبِرْنَ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا . قَالَ أَنَسٌ: وَاَللَّهِ لَوْ حَدَّثْت بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُك بِهِ يَا ثَابِتُ . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ الخَبَرَ المَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ أَسَرَّ إلَى أَخِيهِ سِرًّا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُفْشِيَهُ عَلَيْهِ " .
وَقَالَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المطلب رضي الله عنه لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ يُدْنِيَك , يَعْنِي عُمَرَ رضي الله عنهم , فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا: لَا تفشين لَهُ سِرًّا , وَلَا تَغْتَابَنَّ أَحَدًا , وَلَا يَطَّلِعْنَ مِنْك عَلَى كِذْبَةٍ .
وَقَالَ الحُكَمَاءُ: ثَلَاثَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهَا: شُرْبُ السُّمِّ لِلتَّجْرِبَةِ , وَإِفْشَاءُ السِّرِّ إلَى القَرَابَةِ وَالحَاسِدِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً , وَرُكُوبُ البَحْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ غِنًى .
وَيُرْوَى: أَصْبَرُ النَّاسِ مَنْ لَا يُفْشِي سِرَّهُ إلَى صَدِيقِهِ مَخَافَةَ التَّقَلُّبِ يَوْمًا مَا .
وَقَالَ بَعْضُ الحُكَمَاءِ: القُلُوبُ أَوْعِيَةُ الأَسْرَارِ , وَالشِّفَاهُ أَقْفَالُهَا , وَالالسُنُ مَفَاتِيحُهَا , فَلْيَحْفَظْ كُلٌّ مِنْكُمْ مَفَاتِيحَ سِرِّهِ .
وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: إنَّ سِرَّك مِنْ دَمِك , فَانْظُرْ أَيْنَ تُرِيقُهُ .
وَكَانَ يُقَالُ: أَكْثَرُ مَا يَتِمُّ تَدْبِيرُ الكِتْمَانِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ = وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الخَفِيِّ
وَقَالَ آخَرُ:
فَلَا تُخْبِرْ بِسِرِّك كُلُّ سِرٍّ = إذَا مَا جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ فَاشٍ
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّمَا السِّرُّ مَا أَسْرَرْته فِي نَفْسِك لَمْ تُبْدِهِ إلَى أَحَدٍ .
قَالَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ رضي الله عنه: مَا اسْتَوْدَعْت رَجُلاً سِرًّا فَأَفْشَاهُ فَلُمْته لِأَنِّي كُنْت بِهِ أَضْيَقُ صَدْرًا حَيْثُ اسْتَوْدَعْته إيَّاهُ . وَإِلَى ذَا ذَهَبَ القَائِلُ:
إذَا المَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ = وَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ
وَقَالَ آخَرُ:
إذَا ضَاقَ صَدْرُ المَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ = فَصَدْرُ الَّذِي يَسْتَوْدِعُ السِّرَّ أَضْيَقُ
وَقَالَ آخَرُ:
إذَا مَا ضَاقَ صَدْرُك عَنْ حَدِيثٍ = فَأَفْشَتْهُ الرِّجَالُ فَمَنْ تَلُومُ؟
إذَا عَاتَبْت مَنْ أَفْشَى حَدِيثِي = وَسِرِّي عِنْدَهُ فَأَنَا الظَّلُومُ
فَإِنِّي حِينَ أَسْأَمُ حَمْلَ سِرِّي = وَقَدْ ضَمَّنْته صَدْرِي مَشُومُ
وَلَسْت مُحَدِّثًا سِرِّي خَلِيلاً وَلَا = عُرْسِي إذَا خَطَرَتْ هُمُومُ
وَأَطْوِي السِّرَّ دُونَ النَّاسِ إنِّي = لِمَا اُسْتُوْدِعْت مِنْ سِرٍّ كَتُومُ
وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ أَضْجَرَهُ كَتْمُ الأَسْرَارِ وَأَنَّهَا تَغْلِي فِي قَلْبِهِ غَلَيَانَ النَّارِ , مَا ذَاعَ وَشَاعَ فِي النَّثْرِ وَالأَشْعَارِ , فَمِنْهُ:
وَلَا أَكْتُمُ الأَسْرَارَ لَكِنْ أَبُثُّهَا , وَلَا أَدَعُ الأَسْرَارَ تَقْتُلُنِي غَمَّا
وَإِنَّ سَخِيفَ الرَّأْيِ مَنْ بَاتَ لَيْلَهُ حَزِينًا بِكِتْمَانٍ كَأَنَّ بِهِ حُمَّى وَفِي بَثِّك الأَسْرَارَ لِلْقَلْبِ رَاحَةٌ وَتَكْشِفُ بِالإِفْشَاءِ عَنْ قَلْبِك الهَمَّا وَقَالَ آخَرُ: وَلَا أَكْتُمُ الأَسْرَارَ لَكِنْ أُذِيعُهَا وَلَا أَدَعُ الأَسْرَارَ تَغْلِي عَلَى قَلْبِي وَإِنَّ ضَعِيفَ القَلْبِ مَنْ بَاتَ لَيْلَهُ تُقَلِّبُهُ الأَسْرَارُ جَنْبًا عَلَى جَنْبِ وَقَدْ قِيلَ: لَا تُطْلِعُوا النِّسَاءَ عَلَى سِرِّكُمْ يَصْلُحُ لَكُمْ أَمْرُكُمْ . وَالحَاصِلُ أَنَّ عَلَى العَاقِلِ كِتْمَانَ السِّرِّ , وَاَللَّهُ وَلِيُّ الأَمْرِ . وَقَالَ آخَرُ:
لَا تُودِعَن وَلَا الجَمَادَ سَرِيرَةً = فَمِنْ الجَوَامِدِ مَا يُشِيرُ وَيَنْطِقُ
وَإِذَا المُحَكُّ أَذَاعَ سِرَّ أَخٍ لَهُ = وَهُوَ الجَمَادُ فَمَنْ بِهِ يَسْتَوْثِقُ
مطلب فِي كَرَاهَةِ التَّحَدُّثِ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِمَا صَارَ بَيْنَهُمَا
(فَرْعٌ) يُكْرَهُ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ التَّحَدُّثُ بِمَا صَارَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لِضَرَّتِهَا , جَزَمَ بِهِ فِي الإِقْنَاعِ , وَحَرَّمَهُ سَيِّدُنَا الإِمَامُ الكَبِيرُ وَلِيُّ اللَّهِ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ رضي الله عنه , لِأَنَّهُ مِنْ السِّرِّ , وَإِفْشَاءُ السِّرِّ حَرَامٌ , وَذَكَرَهُ فِي الإِقْنَاعِ , وَكَذَا حَرَّمَهُ الآدَمِيُّ البَغْدَادِيُّ .
قَالَ فِي الفُرُوعِ وَهُوَ أَظْهَرُ . انْتَهَى . وَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ قُعُودٌ عِنْدَهُ فَقَالَ " لَعَلَّ رَجُلاً يَقُولُ مَا فَعَلَ بِأَهْلِهِ , وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا , فأرم القَوْمُ أَيْ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ المِيمِ أَيْ سَكَتُوا مِنْ خَوْفٍ وَنَحْوَهُ , فَقُلْت أَيْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ وَإِنَّهُنَّ لِيَفْعَلْنَ . قَالَ لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ مِثْلُ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ " . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ أَحَدُهُمَا سِرَّ صَاحِبِهِ " . وَفِي رِوَايَةٍ " إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا " . وَرَوَى البَزَّارُ عَنْهُ مَرْفُوعًا " أَلَا عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَخْلُوَ بِأَهْلِهِ يُغْلِقَ بَابًا ثُمَّ يُرْخِيَ سِتْرًا ثُمَّ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ , ثُمَّ إذَا خَرَجَ حَدَّثَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ . أَلَا عَسَى إحْدَاكُنَّ أَنْ تُغْلِقَ بَابَهَا وَتُرْخِيَ سِتْرَهَا , فَإِذَا قَضَتْ حَاجَتَهَا حَدَّثَتْ صَوَاحِبَهَا . فَقَالَتْ امْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُنَّ لِيَفْعَلْنَ وَإِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ . قَالَ فَلَا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ كَمِثْلِ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَرَكَهَا " .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " السِّبَاعُ حَرَامٌ " قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: يَعْنِي بِهِ الَّذِي يَفْتَخِرُ بِالجِمَاعِ , رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالبَيْهَقِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقٍ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الهَيْثَمِ , وَقَدْ صَحَّحَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ , قَالَ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ: السِّبَاعُ بِكَسْرِ السِّينِ المُهْمَلَةِ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ هُوَ المَشْهُورُ , وَقِيلَ بِالشِّينِ المُعْجَمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .