ثُمَّ مِنَ الْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ القُرُونُ الفَّاضلَةُ - القَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - كَانُوا غَيْرَ عَالِمِينَ وَغَيْرَ قَائِلِينَ فِي هَذَا البَابِ بِالْحَقِّ المُبِينِ; لأَنَّ ضدَّ ذَلِكَ إِمَّا عَدَمُ العِلْمِ وَالْقَوْلِ، وَإِمَّا اعْتِقَادُ نَقِيضِ الحَقِّ وَقَوْلُ خِلافِ الصِّدْقِ، وَكِلاهُمَا مُمْتَنِعٌ.
أَمَّا الأَوَّلُ فَلأَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَيَاةٍ وَطَلَبٍ لِلْعِلْمِ أَوْ نَهْمَةٍ فِي العِبَادَةِ يَكُونُ البَحْثُ عَنْ هَذَا البَابِ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ وَمَعْرِفَةُ الحَقِّ فِيهِ أَكْبَرَ مَقَاصِدِهِ وَأَعْظَمَ مَطَالِبِهِ، أَعْنِي بَيَانَ مَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ، لاَ مَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ.
وَلَيْسَتِ النُّفُوسُ الصَّحِيحَةُ إِلَى شَيْءٍ أَشْوَقَ مِنْهَا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الأَمْرِ. وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الوِجْدِانيَّةِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعَ قِيَامِ هَذَا المُقْتَضِي - الَّذِي هُوَ مِنْ أَقْوَى المُقْتَضِيَاتِ - أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ فِي أُولَئِكَ السَّادَةِ فِي مَجْمُوعِ عُصُورِهِمْ. هَذَا لاَ يَكَادُ يَقَعُ في أَبْلَدِ الخَلْقِ، وَأَشَدِّهِمْ إِعْرَاضًا عَنِ اللَّهِ وَأَعْظَمِهِمْ إِنكْبَابًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَقَعُ مِنْ أُولَئِكَ؟!
وَأَمَّا كَوْنُهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ فِيهِ غَيْرَ الحَقِّ أَوْ قَائِلِيهِ فَهَذَا لاَ يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمٌ وَلا عَاقِلٌ عَرَفَ حَالَ القَوْمِ.