بسم الله.
القارئ: بِسْمِ اللهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
"قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد" ـ الشيخ: سبحانه ـ لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام،حي لا يموت، قيومٌ لا ينام، خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤونة، مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة.
الشيخ: بِسْمِ اللهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد..,
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، نعوذ بك من الضلال بعد الهدى، ومن الكفر بعد الإيمان، نسألك الثبات على الإيمان حتى الممات.
هذه الجمل من هذه العقيدة المختصرة؛ عقيدة الإمام الطحاوي (رحمه الله وأجزل له المثوبة) اشتملت على جملة من صفات الله جل وعلا، وهي ليست راجعة إلى ترتيب معين يعني في ذكر صفات لله جل وعلا، أو في ذكر قواعد في الصفات، أو فيما يخالف فيه أهل السنة والجماعة غيرهم، إلا في بعضها كما سيأتي.
وهذا كما ذكرنا لك من قبل: راجع إلى أنه لم يرتب هذه العقيدة على ترتيب موضوعي منهجي، بحيث ينتقل من أنواع الإيمان إلى غيرها، وبين أنواع الإيمان يعني: أركان الإيمان وهكذا، ولهذا نذكر البيان على كل جملة بحسب ما اشتملت عليه، وفي ذلك إِنْ شَاءَ اللَّهُ فوائد.
قال رحمه الله "قديم بلا ابتداء، ودائم بلا انتهاء"، أراد رحمه الله بذلك أن يبين أن الله جل وعلا منزه عما خلق، فهو سبحانه خلق الزمان، والزمان لا يحويه، وكذلك خلق المكان والمكان لا يحويه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وذكر هنا أن الله جل وعلا سبق الزمان، وأيضاً سيدوم بعد انتهاء الزمان بلا انتهاء، وهذا المعنى الذي أراده عبر عنه بتعبير المتكلمين في أبدية الزمان في الماضي وفي المستقبل، وهذا خروج منهم عما جاء في النص من التفسير عن أبدية الزمان من الجهتين؛ وذلك أن أبدية الزمان يعني أن الله جل وعلا لا يوصف بأنه ابتدأ في زمان، ولا أنه ينتهي في زمان؛ لأن الزمان محدود مخلوق،والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كان قبل خلقه، وسيبقى سبحانه بلا انتهاء.
هذا المعنى يعبر عنه المتكلمون، ويعبر عنه أهل العقائد المختلفة بأنواع من التعبير منها هذا الذي ذكره الطحاوي، ومن المعلوم أن التعبير الذي جاء في الكتاب والسنة هو قول الحق جل وعلا:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}
وقوله سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} هذا في المعنى الذي أراده الطحاوي، ولهذا فسره النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام في دعائه بقوله: ((أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)). فليس قبل الرب جل وعلا زمان، وليس بعده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى زمان، وكما أنه ليس قبله شيء من المخلوقات، ولا بعده أيضاً شيئاً من المخلوقات، وهذان الاسمان الأول والآخر دلا على أنه سبحانه قديم كما ذكر بلا ابتداء، وأنه دائم سبحانه بلا انتهاء.
وما جاء في وصف الله جل وعلا في الْقُرْآنِ، وفي سنة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأكمل، بل هو الصحيح، وأما ما ذكر من الوصف فسيأتي ما فيه في المسائل المتعلقة بهذه الجملة.
فإذن قوله: "قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء" من جهة المعنى، ومن جهة الدليل عرفتها، والمتكلمون يعنون بكلمة قديم غير ما يعنى بها في اللغة؛ فإنهم يعنون بالقديم الذي تقدم على غيره، والغيرية هنا مطلقة بلا تقييد، فتشمل كل ما هو غير الله جل وعلا، يعني من جميع المخلوقات، فيكون قولهم في وصف الله بأنه قديم، أو في أسماء الله بأنه سبحانه القديم يعنون به المتقدم على غيره مطلقاً، وهذا التقدم يشمل كل الأزمنة الماضية وزيادة.
ولذلك احترز المصنف رَحمَهُ الله بقوله: "قديم بلا ابتداء"؛ لأن كونه متقدماً على غيره قد يكون من جهة التقسيم العقلي أن له ابتداء سبحانه معروف،وهذا مما لم يأذن الله جل وعلا لنا بعلمه، ولا تدركه أوهامنا، ولا عقولنا، ولا قلوبنا؛ ولذلك قال: "قديم بلا ابتداء"، وهذا هو معنى كما ذكرت لك اسم الله الأول الذي ليس قبله شيء.
فإذن تعبير المتكلمين عن الرب جل وعلا، عن اسمه الأول بكونه قديم، وأنه القديم هذا أرادوا به غير المعنى اللغوي، وأما المعنى اللغوي فإن القديم هو الذي صار متقدماً على غيره، وسيعقبه غيره، وقد سبقه غيره كما قال جل وعلا: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}، وكقول الحق جل وعلا: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} وأشباه ذلك.
والقدم، أو التقدم، أو القدم في اشتقاق هذه المادة في اللغة راجعة إلى ما تقدم على غيره. وهذا في اللغة، ومعلوم أن اللغة موضوعة للأشياء المحسوسة التي رآها، أو عرفها العرب؛ ولهذا دخل في اسم القديم المخلوقات، وإذا كان كذلك فإن القديم لا يوصف الله جل وعلا به كما سيأتي في المسائل.
إذن فكلمة قديم بلا ابتداء هذه عند المتكلمين لها معنى غير المعنى في اللغة، ومعناها عند المتكلمين،كما ذكرت لك، هو المتقدم على غيره، وفي اللغة المعنى أخص المتقدم، أو ما كان متقدماً على غيره، وتقدمه غيره، وهذا يجوز في اللغة, وهم لم يريدوا هذا المعنى؛ ولذلك جعلوها.. جعلوا القديم من أسماء الله، وجعلوا القدم صفة للحق جل وعلا.
إذا تبين لك ذلك فقوله: "قديم بلا ابتداء" هذا راجع إلى ما سمي بالأزلية، بأزلية الرب جل وعلا، وقوله: "دائم بلا انتهاء" راجع إلى أبديته جل وعلا، ولفظ أزلية هذا مركب، أو منحوت من: لم يزل، فلما أرادوا النسبة جعلوها بالأزل، يعني الزمان الماضي القديم جداً الذي لم يزل، لا يعرف له بداية، فيقال: هم يعبرون بأنه أزلي جل وعلا، أو أن صفات الرب جل وعلا أزلية، والتعبير عن هذه الأشياء بما جاء في الكتاب، والسنة هو الحق فلا يعبر عن هذه الأشياء بما لم يرد في الكتاب، والسنة؛ لأنه قد يشتمل على باطل، والمرء لا يعلم ذلك حتى من جهة الاحتمالات العقلية، أو الاحتمالات اللغوية.
المؤلف احترز فقال: "قديم بلا ابتداء"، وهذا فيه احتراز،جعل الجملة حق في نفسها لكن فيها مخالفة، وعبر عن الأبدية بقوله:"دائم بلا انتهاء".
إذا تبين لك ذلك فعندهم أن القدم هو قدم الذات، يعني عند المتكلمين وعند الأشاعرة وأشباه هؤلاء والمعتزلة عندهم القدم حينما يطلقونه يريدون له قدم الذات، وأما قدم الصفات فهذا فيه تفصيل، فقوله: "قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء" يعنون به قدم الذات، ودائم الذات، أما الصفات فلهم فيها تفصيل، و كان الطحاوي درج على ما درجوا عليه؛ لأنه عبر بتعبيرهم.
إذا تقرر لك ذلك ففي قوله: "قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء" مسائل:
المسألة الأولى: في وصف الله بالقدم، واسم القديم، وهذا كما ذكرت من الأسماء التي سمى الله جل وعلا بها المتكلمون؛ فإنهم هم الذين أطلقوا هذا الاسم القديم على الرب جل وعلا، وإلا فالنصوص من الكتاب والسنة ليس فيها هذا الاسم، وإدراج اسم الله، وإدراج القديم في أسماء الله هذا غلط، ولا يجوز؛ وذلك لأمور:
أما الأمر الأول: فإن القاعدة التي يجب اتباعها في الأسماء والصفات ألا يتجاوز فيها الْقُرْآن والحديث. ولفظ، أو اسم القديم، أو الوصف بالقدم لم يأتِ في الكتاب والسنة، فيكون في إثباته تعد على النص.
والثاني: أن اسم القديم منقسم إلى ما يمدح به، وإلى ما لا يمدح به؛فإن أسماء الله جل وعلا أسماء مدح؛ لأنها أسماء حسنى، واسم القديم لا يمدح به؛ لأن الله وصف به العرجون، والقديم هذا قد يكون صفة مدح، وقد يكون صفة ذم.
والثالث: أن اسم القديم لا يدعى الله جل وعلا به، فلا يدعى الله بقول القائل: يا قديم أعطني،ويا أيها القديم، أو يا ربي أسألك بأنك القديم أن تعطيني كذا. والأسماء الحسنى يدعى الله جل وعلا بها؛وذلك لقوله: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، فالأسماء الحسنى يدعى بها، يعني تكون وسيلة لتحقيق مراد العبد، ولهذالم يدخل الوجه في الأسماء، ولم تدخل اليدان في الأسماء ولا أشباه ذلك؛لأن هذه صفات، وليست بأسماء، والأسماء هي التي يدعى الله جل وعلا بها.
وإذا تبين ذلك فننتقل للمسألة الثانية: وهي ما ضابط.. أو المسألة الثانية: هي ضابط كون الاسم من الأسماء الحسنى، والاسم يكون من أسماء الله الحسنى إذا اجتمعت فيه ثلاثة شروط، أو اجتمعت فيه ثلاثة أمور:
الأول: أن يكون قد جاء في الكتاب والسنة، يعني نص عليه في الكتاب والسنة،نص عليه بالاسم لا بالفعل، ولا بالمصدر، وسيأتي تفصيل لذلك.
الثاني: أن يكون مما يدعى الله جل وعلا به.
الثالث: أن يكون متضمنا لمدح كامل مطلق غير مخصوص.
وهذا ينبني على فهم قاعدة أخرى من القواعد في منهج أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، وهي أن باب الأسماء الحسنى، أو باب الأسماء أضيق من باب الصفات، وباب الصفات أضيق من باب الأفعال، وباب الأفعال أضيق من باب الإخبار، واعكس ذلك فتقول: باب الإخبار عن الله جل وعلا أوسع، وباب الأفعال أوسع من باب الصفات، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء الحسنى.
وهذه القاعدة نفهم منها أن الإخبار عن الله جل وعلا بأنه قديم بلا ابتداء لا بأس به لكن.. لا بأس به؛ لأنه مشتمل على معنى صحيح،فلما قال: "قديم بل ابتداء" انتفى المحظور، وصار المعنى حقًّا، ولكن من جهة الإخبار، أما من جهة الوصف؛ وصف الله بالقدم، فهذا أضيق؛ لأنه لابد فيه من دليل.
وكذلك باب الأسماء وهو تسمية الله بالقديم هذا أضيق، فلابد فيه من اجتماع الشروط الثلاثة، التي ذكرت لك، والشروط الثلاثة غير منطبقة على اسم القديم، وعلى نظائره كالصانع والمتكلم، والمريد وأشباه ذلك؛ فإنها أولاً لم ترد في النصوص، فليس في النصوص اسم القديم، ولا اسم الصانع، ولا اسم المريد، ولا اسم المتكلم، ولا المريد، ولا القديم، أما الصانع فله بحث يأتي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
والثاني: أن الاسم القديم لا يدعى الله جل وعلا به، يعني لا يتوسل إلى الله به؛ لأنه في ذاته لا يحمل معنى متعلقاً بالعبد فيسأل الله جل وعلا به،فلا يقول: ياقديم أعطني؛ لأنه لا يتوسل إلى الله بهذا الاسم كما هي القاعدة في الآية: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا }،وثم فرق ما بين التوسل بالأسماء، والتوسل بالصفات.
والثالث من الشروط الذي ذكرناه: هو أن تكون متضمنة على مدح كامل غير مطلق، غير مختص، وهذا نعني به أن المدح،أن أسماء الله جل وعلا هي متضمنة لصفات، وهذه الأسماء لابد أن تكون متضمنة للصفات الممدوحة على الإطلاق، غير الممدوحة في حال، والتي قد تذم في حال، أو ممدوحة في حال وغير ممدوحة في حال، أو مسكوت عنها في حال، وذلك يرجع إلى أن أسماء الله جل وعلا حسنى،ي عني أنها بالغة في الحسن نهايته.
ومعلوم أن حسن الأسماء راجع إلى ما اشتملت عليه من المعنى، ما اشتملت عليه من الصفة، والصفة التي في الأسماء الحسنى، والمعنى الذي فيه لابد أن يكون دالا على الكمال مطلقاً بلا تقييد، وبلا تخصيص، فمثل اسم القديم هذا لايدل على مدح كامل مطلق.
ولذلك لما أراد المصنف أن يجعل اسم القديم، أوصفة القدم مدحاً قال: "قديم بلا ابتداء"، وحتى الدائم هنا قال: "دائم بلا انتهاء"، لكن لفظ القديم قيده بكونه: بلا ابتداء، وهذا يدل على أن اسم القديم بحاجة إلى إضافة كلام حتى يجعل حقًّا وحسناً، ووصفا مشتملا على مدح حق.
لهذا نقول: إن هذه الأسماء التي تطلق على أنها من الأسماء الحسنى يجب أن يكون مثلما قلنا: صفات مدح، وكمال, وأما مطلقة غير مختصة، وأما ما كان مقيداً، أو ما كان مختصا المدح فيه بحال دون حال فإنه لا يجوز أن يطلق في أسماء الله، ولهذا مثال آخر أبين من ذلك مثل المريد والإرادة؛ فإن الإرادة منقسمة إلى:
إرادة محمودة؛ إرادة الخير إرادة المصلحة، إرادة النفع، إرادة موافقة للحكمة.
والقسم الآخر إرادة الشر؛ إرادة الفساد،إرادة ما لا يوافق الحكمة... إلى آخره، وهنا لا يسمى الله جل وعلا باسم المريد؛ لأن هذا منقسم، مع أن الله جل وعلا يريد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويطلق عليه الفعل وهو سبحانه موصوف بالإرادة الكاملة، ولكن اسم المريد لا يكون من أسمائه؛ لما ذكرنا.
وكذلك اسم الصانع، لا يقال: إنه من أسماء الله جل وعلا؛ لأن الصنع منقسم إلى ما هو موافق للحكمة، وإلى ما ليس موافقاً للحكمة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يصنع وله الصنع سبحانه كما قال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}
وهو سبحانه يصنع ما يشاء، وصانع ما شاء كما جاء في الحديث:((إن الله صانع ما شاء)) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن لم يسم الله جل وعلا باسم الصانع؛ لأن الصنع منقسم أيضاً.
اسم المتكلم، المتكلم، لا يقال في أسماء الله جل وعلا المتكلم؛ لأن الكلام الذي هو راجع إلى الأمر والنهي منقسم إلى أمر لما هو موافق الحكمة؛ أمر بمحمود، وإلى أمر بغير ذلك ونهي عما فيه المصلحة، نهي عما فيه الخير، ونهي عما فيه الضرر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نهى عما فيه الضرر، ولم ينه عما فيه الخير بل أمر بما فيه الخير؛ ولذلك لم يسم الله جل وعلا بالمتكلم، وهذه كلها أطلقها المتكلمون على الله جل وعلا، فسموا الله بالقديم، وسموا الله جل وعلا بالمتكلم، وسموا الله جل وعلا بالمريد، وسموا الله جل وعلا بالصانع، إلى غير ذلك من الأسماء التي جعلوها لله جل وعلا.
فإذا تبين لك ذلك فإن الأسماء الحسنى هي ما اجتمعت فيها هذه الشروط، واسم القديم لم تجتمع فيه الشروط، بل لم ينطبق عليه شرط من هذه الشروط الثلاثة. والمؤلف معذور في ذلك بعض العذر؛ لأنه قال: "قديم بلا ابتداء" (كلام غير مسموع) الخالق غير، والصانع غير الخالق أولاً جاء في النص، والصانع ما جاء، ومن جهة المعنى الصنع الصنع فيه كلفة، فليس ممدوحاً، على كل حال، والخلق هذا إبداع وتقدير، فهو ممدوح الخلق،منقسم إلى مراحل، وأما الصنع فليس كذلك، {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}، فالخلق يدخل من أول المراحل، والصنع، لا الصنع ليس كمالاً، ممكن يصنع هو في غير أن يصنع ما هو محمود، وبصنع ما هو مذموم، يصنع بلا بدء ولا إنفاذ، وقد يصنع شيئاً لا يوافق ما يريده.
فلهذا لفظ اسم الخالق يشتمل على كمال ليس فيه نقص، وأما اسم الصانع فإنه يطرأ عليه، يطرأ عليه أشياء فيها نقص من جهة المعنى، ومن جهة الإنفاذ، لذلك جاء اسم الله الصانع.. جاء اسم الله الخالق، ولم يأتِ في أسماء الله الصانع.
المسألة الثالثة والأخيرة المتعلقة بهذه الجملة أن قوله: قديم ودائم كما ذكرنا عند أهل السنة يعبر عنه بالأول والآخر، كما جاء في النص، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوليته عند أهل السنة في ذاته، وفي صفاته، وآخر سبحانه في ذاته، وفي صفاته، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل متصفاً بالصفات،وهو أول بصفاته، وهو سبحانه لن ينقطع اتصافه بصفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الجهة الأخرى، يعني أن آخريته سُبْحَانَهُ، آخريته ذات وصفات، وأوليته سبحانه أولية ذات وصفات.
فنقول: علم الله سبحانه وَتَعَالَى أول، ورحمة الله جل وعلا أولى، وخلقه سبحانه أول، يعني: اتصافه بهذه الصفات كذاته سبحانه، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته.وهذا سيأتي له مزيد بيان عند قوله:"مازال بصفاته قديما قبل خلقه،لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفة، وكما كان بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبديا".
المقصود أن التعبير عن صفات الله جل وعلا بكونها أولى،والله جل وعلا أول بذاته وصفاته،هذا الموافق للنص،أما نقول: الكلام القديم، أو خلقه القديم، أو حكمته القديمة وأشباه ذلك، فإن هذا لم يرد،وأيضاً يحتمل معنى غير صحيح.
الجملة الثانية: قوله: "لا يفنى، ولا يبيد" وكونه سبحانه لا يفنى، ولا يبيد ذلك؛لكمال حياته جل وعلا، وكمال قيوميته،دل على ذلك قوله سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ}, ويدل عليها قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} في أحد تفسيرين، ويدل عليها قوله جل وعلا: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وذلك لكمال حياته، وكمال قيوميته، وإذا انتقى الأدنى انتفى الأعلى من باب أولى.
ولهذا قال: "لا يفنى ولا يبيد" سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأراد المصنف بقوله: "لا يفنى، ولا يبيد" أراد شيئين فيما يظهر:
الأول: أن هذا فيه مزيد وصف الله جل وعلا بكمال الحياة، وكمال القيومية جل وعلا، وتفسير لقوله: "دائم بلا انتهاء".
والثاني: أن بعض أهل البدع زعموا أن بعض صفات الله جل وعلا تفنى، أو أن بعض آثار أسمائه جل وعلا تبيد، ونحن نطلق القول بأنه جل وعلا لا يفنى، ولايبيد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذاته، وفي أسمائه، وصفاته،ولا نقيد ذلك في الزمن المستقبل بشيء، بلا نقول: هو على إطلاقه بأنه سبحانه آخر،فليس بعده شيء، وأنه لن يزال متصفاً بصفاته بمشيئته، وقدرته جل وعلا.
فإذن قوله: "لا يفنى، ولا يبيد" هذا لكمال ربوبيته سبحانه، وكمال اتصافه بالصفات.
ثم قال: "ولا يكون إلا ما يريد"، وهذه الجملة الأدلة عليها كثيرة من الكتاب والسنة؛ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}، وقال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والله سبحانه يشاء الأشياء،فتكون كما شاءها جل وعلا، ولا تخرج مشيئة العبد عن مشيئة الله جل وعلا للأشياء.
وقوله: "ولا يكون إلا ما يريد" يريد به المشيئة، يعني لا يكون إلا ما يشاءه سبحانه، فالإرادة هنا المعني بها الإرادة الكونية، وأراد بهذه الجملة الرد على القدرية، الذين يزعمون أن الرب جل وعلا أراد طاعة المطيع، وأراد إيمان المؤمن، ولكن أراد إيمان المكلف ولكن المكلف أراد الكفر، وأراد المعصية، فكان ما لم يرد الله جل وعلا، وهذا قول الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، كما هو قول المعتزلة وطوائف أيضا من القدرية يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، وأن الله جل وعلا لا يخلق فعله، فيحصل في الكون ما لا يريده جل وعلا؛ لأن الله سبحانه لا يريد الكفر ولا يريد الضلال، ولا يريد المعصية.وهذا القول باطل كما ذكرنا لك؛ لأن الإرادة المراد بها هنا الإرادة الشرعية.
وهنا نخلص في هذه الجملة إلى مسائل:
المسألة الأولى: أنه أراد بقوله: "لا يكون إلا ما يريد" أراد بالإرادة هنا المشيئة، والإرادة ـ إرادة الله جل وعلا ـ منقسمة إلى إرادة كونية، يعني: فيما يحصل في كون الله جل وعلا، وإرادة شرعية.
فأما الإرادة الكونية فكثيرة في النصوص، وهي مرادفة للمشيئة، فمشيئة الله هي الإرادة الكونية، فإذا قلنا: شاء الله كذا يعني أراده كونا، أما المشيئة فلا تقسم إلى مشيئة كونية وإلى مشيئة شرعية، بل هي نوع واحد هو مشيئة في كونه، أما الشرع فإنما يوصف بإرادة شرعية، وهذا يعني أن الإرادة الكونية التي هي المشيئة هي التي لا يخرج أحدٌ عنها، فقد يقع الشيء مأذوناً من الله جل وعلا و شاءه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كوناً وقدراً، ولكنه لم يرده شرعاً، ولم يرده ديناً، فتختلف الإرادتان، إذا تعلقت بمعصية العاصي، وكفر الكافر، فمن جهة معصية العاصي وقعت بإرادة الله الكونية، لكنها لم تقع بإرادة الله الشرعية، والله سبحانه قال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وفي المشيئة قال جل وعلا: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
وهذا راجع إلى علم الله جل وعلا فيهم بأنه سبحانه ما شاءه كان، وما لم يشأه لم يكن سبحانه وتعالى، ولو علم الله جل وعلا فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون يعني في علم الله جل وعلا فيما لم يقع، ولن يقع لو وقع، ولو شاءه كيف يكون.
فإذن صارت مشيئة الله جل وعلا هي الإرادة، والإرادة مرتبطة بالعمل، وبالحكمة، وهذا خلاف الإرادة الشرعية؛ فإن الإرادة الشرعية مطلوبة من العبد،أمر،أمر بكذا، ونهى عن كذا، فصار المأمور به، والمنهي عنه مراداً له شرعاً.
إذا تبين هذا فإذن قولنا: لا يكون إلا ما يريد هذا راجع إلى الإرادة الكونية فقط. والذين لم يفرقوا ما بين الإرادتين وقع منهم الغلط في معصية العاصي وضلال الكافر فيا سيأتي بيانه إن شاء الله في موضعه من مباحث القدر.
المسألة الثانية: أن قوله: " لا يكون إلا ما يريد" فيه تداخل ما بين إرادة الله جل وعلا وإرادة العبد، وإرادة العبد هي مشيئته، وهي خارجة عن رؤية الحكمة، وأما إرادة الله جل وعلا الكونية فهي منظور فيها بالحكمة، فالله سبحانه يريد بما يوافق الحكمة، والعبد يريد ما لا يوافق الحكمة، وقد يريد ما يوافق الحكمة.
وإذا كان كذلك فإرادة الله جل وعلا بالعبد موافقة للحكمة،سواء تعلقت بالمعين، أو تعلقت بالمجموع، وهذا يعني: أن إرادة العبد فيما يريده خارجة عن مقتضى حكمة الله جل وعلا، إذا أراد شيئاً في نفسه له يعني له بخصوصه، والله جل وعلا يريد من العبدما يوافق حكمته،فقد تجتمع الإرادتان فيما فيه حكمة لله جل وعلا، وقد تختلف الإرادتان فيما كان يريده العبد، ولا يوافق حكمة الله جل وعلا، وهذا يعني أن العبد قد يتجه بإرادته إلى شيء فيصرف عنه؛ لعدم موافقته لحكمة الله جل وعلا في نفسه، يعني فيما يتعلق بالعبد، أو فيما يتعلق بالمجموع، والله جل وعلا قد يريد الشيء كوناً ولا يكون إلا ما يريد لموافقته للحكمة في خصوص العبد في نفسه، أو ظهور الحكمة في نفسه، أو لظهور الحكمة في المجموع يعني في غيره.
ولهذا نقول: ما من شيء يريده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ملكوته إلا وهو موافق للحكمة، والشر ليس إلى الله جل وعلا، بل الله سبحانه لا يوصف، أو لا يضاف إليه إلا الخير، وأما العبد فقد يريد الشيء ويكون بالنسبة له شرا، فيخرج من هذه الجهة عن كونه موافقا للحكمة، يعني حكمة العبد ومصلحته، ولكنه بالنسبة لفعل الله جل وعلا وإرادته يوافق الحكمة التي هي منظور فيها إلى المجموع، وهذا يعني أن إرادة الله جل وعلا في ملكه إنما تكون على وفق الحكمة، وحكمة الله هي القاضية على هذه الأشياء جميعاً في الإرادات.
وهذا فيه رد على طوائف كثيرة من المبتدعة في مسائل القدر، يأتي بيانها مفصلاً إِنْ شَاءَ اللَّهُ في موضعهافي تعريف الظلم والعدل، وفي التحسين والتقبيح، وفي أيضا الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وفي وقوع المعصية ووقوع الكفر، وفي فعل العبد بنفسه، وهذه مسائل كبيرة تحتاج إلى بيان وتفصيل في موضعها.
المقصود من ذلك أن قوله:"لا يكون إلا ما يريد" هذا موافق لما أو تضيف عليها عبارة أن ما يريده موافق لمقتضى الحكمة المطلقة،سواء وافقت العبد المعين، أو وافقت المجموع، فالله سبحانه الشر ليس إليه،كما وصفه به النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله في الدعاء: ((والشر ليس إليك))، ففعله سبحانه خير محض،وقد يأذن بالشر المضاف إلى العبد، ولا يكون شراً بالنسبة لإرادته سبحانه،فالله لا يريد ظلماً للعباد، ولا يريد شراً بالعباد، وإنما العباد أرادوا ذلك بأنفسهم، وإذا وقع ذلك فإنما يقع بالإضافة إلى فعل العباد، وليس مضافا إلى الله سبحانه؛ لأن فعله سبحانه خير محض.