. . . المسألةُ الثانيةُ التي ذكرها شيخُ الإسلامِ في قولِه: " فإنْ أَعْياكَ ذلك فعليكَ بالسُّنَّةِ فإنها شارحةٌ للقرآنِ موضِّحةٌ له"... إلى آخِرِ كلامِه , هي قضيةُ تفسيرِ القرآنِ بالسُّنَّةِ النَّبويةِ.
وإذا رجعتَ إلى التفسيرِ بالسُّنَّةِ فإنكَ ستجِدُ أنه على نوعين:
النوعُ الأولُ: تفسيرٌ مباشرٌ للآياتِ، وهو قليلٌ، ومِن أمثلَتِه آيةُ الظُّلمِ المذكورةُ سابقًا: {الَّذين آمَنُوا ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بظُلْمٍ} فسَّرَها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بالشِّركِ وذَكرَ الآيةَ الأخرى: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ}.
النوعُ الثاني: استفادةُ المفسِّرِ من السُّنَّةِ في تفسيرِ القرآنِ، وهو كثيرٌ، ومثالُه ما يَذكُرُه بعضُ المفسِّرين عندَ قولِه تعالى: {وجِيءَ يومَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} من قولِه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((يُؤْتَى بجَهنَّمَ لها سبعون ألفَ زِمامٍ , لكُلِّ زمامٍ سبعون ألفَ ملَكٍ يَجُرُّونها)).
فالتطابُقُ واضحٌ بينَ معنى الآيةِ ومعنى الحديثِ؛ فلهذا تُعتبرُ تفسيرًا لها، وكذلك قولُه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((أمَّا عثمانُ فقد أتاهُ اليَقينُ من رَبِّهِ)). وذَكرَ الطبريُّ في تفسيرِ قولِه تعالى: {واعْبُدْ ربَّكَ حتى يَأتِيَكَ اليَقينُ} أن المرادَ باليقينِ الموتُ، ثم أورَدَ هذا الحديثَ.
وكذلك ما ذَكرهُ البخاريُّ رحمهُ اللَّهُ في قولِه تعالى: {وهو أَلَدُّ الخِصامِ}. حيث ذَكرَ الحديثَ الواردَ عن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها: ((أبْغَضُ الرجالِ إلى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ)). مع أنَّ هذا ليس فيه بيانٌ لمعنى الآيةِ، وإنما ذَكرهُ البخاريُّ؛ لأن اللفظَ الذي وَردَ في الآيةِ هو نَفسُ اللفظِ الذي وَردَ في الحديثِ.
كما يَذكرُ البخاريُّ أيضًا في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مكانًا عَلِيًّا} قولَه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((ورأيتُ إدريسَ في السَّماءِ الرابعةِ)).
وكذلك قولُه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((كُتِبَ على ابنِ آدَمَ حظُّهُ من الزِّنا أَدْرَكَ ذلك لا محالةَ، فالعينانِ تَزْنِيان وزِناهُما النظَرُ، واليدانِ تَزْنِيانِ وزِناهُما البطْشُ)) الحديثَ , يَسْتَشْهِدُ به ابنُ عباسٍ في تفسيرِ قولِه تعالى: {إلَّا اللَّمَمَ} فيَجعلُ اللَّمَمَ هو هذه الأعمالَ التي ذَكرَها الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ.
والأمثلةُ على هذا النوعِ كثيرةٌ جدًّا، وأحسَنُ مَن استفادَ من السُّنَّةِ في التفسيرِ هو ابنُ كثيرٍ رَحمهُ اللَّهُ، وإن كان هذا المنهجَ الذي نَهَجَهُ المحدِّثون قَبلَه في كُتبِ السُّنَّةِ كالبخاريِّ والترمذيِّ والنَّسائيِّ وسعيدِ بنِ منصورٍ والحاكمِ في المُستدرَكِ، وأعلاهم شأنًا في ذلك هو البخاريُّ رحمهُ اللَّهُ.
والمقصودُ أنَّ الاستفادةَ من السُّنَّةِ في بيانِ القرآنِ متنوِّعةٌ وكثيرةٌ، فأحيانًا قد يكونُ فيها بيانٌ للفظِ، وأحيانًا قد يكونُ مجرَّدَ بيانِ أنَّ هذا اللفظَ المذكورَ في الآيةِ وَردَ ذِكرُه في الحديثِ.
وإذا نظرتَ إلى هذا ونظرتَ أيضًا إلى أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى ذَكرَ مُجمَلاتٍ في العباداتِ وغيرِها لا تَتَبَيَّنُ إلا مِن طريقِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، كمعرفةِ عددِ الصلواتِ المأمورِ بها في قولِه تعالى: {وَأقِيمُوا الصَّلاةَ} ونحوِ ذلك.
فإذا أَدخلْتَ مثلَ هذا التفسيرِ في التفسيرِ النبويِّ فلا شكَّ أنَّ التفسيرَ بالسُّنَّةِ سيكونُ كثيرًا، وهذا ما أراده الأئمةُ مِثلُ الشافعيِّ حينما قال: كُلُّ ما حَكمَ به الرسولُ فهو من مفاهيمِ القرآنِ.
فإذا كان ما حَكمَ به يدخُلُ في ذلك فمعنى هذا أنَّ ما أراد بيانَه يدخُلُ من بابٍ أولى.
هناك مسألةٌ متعلِّقةٌ بهذا الموضوعِ، وهي أنَّ الترتيبَ الذي ذَكرَهُ شيخُ الإسلامِ لمصادِرِ التفسيرِ حينَما قدَّمَ القرآنَ على السُّنَّةِ وقدَّمَ السُّنَّةَ على الصحابةِ وقدَّمَ أقوالَ الصحابةِ على أقوالِ التابعين، هل هذا الترتيبُ من جهةِ استعمالِ المفسِّرِ لها يُعتبرُ ترتيبًا فنيًّا أو هو ترتيبٌ عِلميٌّ؟
الواقعُ أنه ترتيبٌ فنيٌّ، قُصِدَ منه التنْبِيهُ على أنَّ التفسيرَ يُستفادُ من هذه الطرقِ الأربعِ، وليس المرادُ أنها مراحِلُ، إذا لم نَجِدْ كذا نَنزِلُ إلى كذا؛ لأنَّ مَن عَرَفَ طريقةَ التفسيرِ وَجدَ أنَّ هذه المصادِرَ الأربعةَ وغيرَها تتداخلُ، ولا يمكنُ فصلُ بعضِها عن بعضٍ، فأحيانًا تُذكرُ الآيةُ ويُذكرُ معها ما وَردَ من آياتٍ مماثلةٍ لها في المعنى، وأحيانًا تُذكرُ الآيةُ , ويقالُ: اختلفَ أهلُ التفسيرِ فيها على أقوالٍ: القولُ الأولُ كذا ويَشهدُ له حديثُ كذا، والقولُ الثاني كذا وتَشهدُ له آيةُ كذا.
إذًا هنا تداخُلٌ بينَ مصادرِ التفسيرِ حالَ إعمالِ المفسِّرِ لهذه المصادِرِ التي ذَكرَها، وليس المَقامُ هنا مَقامَ ترتيبِ مصادرِ الاستدلالِ، واللَّهُ أعلمُ، هذا الذي أراه في تقسيمِ شيخِ الإسلامِ لهذه المصادرِ، وإنما ذَكَرْتُه؛ لأنَّ بعضَ المعاصرِين فَهِمَ من كلامِ شيخِ الإسلامِ أنه أراد ترتيبًا علميًّا، فيبتدئُ الإنسانُ بالمصدرِ الأولِ ثم الثاني وهكذا. وهذا لا يلزمُ أن يكونَ في جميعِ الآياتِ، قد يَنطبقُ على تفسيرِ بعضِ الآياتِ، ولكن في جملةِ التفسيرِ لا يمكنُ أن يَنضبِطَ هذا المنهجُ، وشيخُ الإسلامِ لم يُطبِّقْ هذا المنهجَ حتى يقالَ: إنَّ هذا التقسيمَ مرادٌ به الترتيبُ عندَه، بل طريقَتُه في تفسيراتِه دَمجُ هذه الطُرقِ بعضِها ببعضٍ، ولكن الذي يَبدو أنه إنما أرادَ التَّنْبِيهَ على مُجمَلِ هذه الطُّرقِ.