المتن:
(سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقيل: يا أبا عبد الله { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى؟ فقال: " الاستواء غير مجهول ,والكيف غير معقول ,والإيمان به واجب ,والسؤال عنه بدعة " ثم أَمر بالرجل فأخرج ).
الشرح:
هذا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة ,وأحد الأئمة الأربعة رحمهم الله، هذا العالم الذي تضرب إليه آباط الإبل في المدينة ,عالم مشهور ,هو الذي قيل فيه: لا يفتى ومالك بالمدينة.
لما سأله رجل وهو في الدرس , قال له: يا أبا عبد الله { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى؟
فقال الإمام مالك رحمه الله: " الاستواء معلوم " ,وفي رواية: " الاستواء غير مجهول "
يعني: غير مجهول المعنى ,والرجل لم يسأل عن المعنى , وإنما سأل عن الكيفية , يقول: كيف استوى؟.
الإمام مالك يقول:والمعنى غير مجهول , أي المعنى معلوم , وما دام المعنى معلوماًفهذا هو الذي يقصد من اللفظ ,فالمعنى غير مجهول حتى تسأل عنه ,كان المفروض أنك تسأل عن المعنى، إذا كنت لا تعرفهفنحن نوضحه لك؛لأنه غير مجهول، أما السؤال عن الكيف فهذا غير معقول، ولا يجوز السؤال عن الكيفية ؛ لأن كيفية أسماء الله وصفاته لا نعلمها ,قال الله جل وعلا: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما }.
نحن لا نحيط بالله جل وعلا بذاته وبأسمائه وصفاته ,هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى ,لا أحد من الخلق يعلم كيفية ذات الله وأسمائه وصفاته ,لا يعلم ذلك إلا الله سبحانه وتعالى؛وذلك لعظمته سبحانه وتعالى ,الكيف غير معقول لنا، يعني: لا تدركه عقولنا ,فليس من حقك أن تسألنا عن الكيف؛لأنه ليس بإمكاننا أن نجيبك؛لأن هذا مما لا تدركه عقولنا.
ثم قال: " والإيمان به واجب " .
الإيمان به ,أي: بالاستواء على معناه، ودون التعرض لكيفيته أمر واجب على كل مسلم، التسليم والانقياد .
" والسؤال عنه" : يعني: عن الكيفية؛ لأن السائل سائل عن الكيفية ,
" السؤال عنه بدعة " أهل الضلال يقولون: السؤال عن المعنى بدعة ,ويجب تفويضه ,وهذا باطل ,الإمام مالك ما قال هذا ,يكذبون على الإمام مالك.
والإمام مالك وضَّح رحمه الله قال: " الاستواء غير مجهول " حتى يحتاج إلى سؤال ,
" والكيف غير معقول " : فلا يجوز السؤال عنه .
"والإيمان به " أي: بالاستواء معنى وكيفية " واجب "،
" والسؤال عنه " أي: عن الكيفية بدعة ؛ لأن الرجل سأل عن الكيفية ولم يسأل عن المعنى.
ثم قال للرجل: " ما أُراك إلا رجل سوء فأمر به فأخرج من الحلقة "، وهكذا يجب على العلماء أن يبعدوا مثل هؤلاء المشككين الذين يريدون التشكيك على الناس ,ويطردوهم حتى يتأدبوا ,وحتى يجتنبوا الناس، أمر به فأُخرج من حلقته؛ لأنه لم يأت من أجل التعلم ,وإنما جاء من أجل التغليط والمغالطات، السؤال له حدود ,ما كل شيء يسأل عنه، إنما يسأل عما أشكل مما يحتاجه الناس من أمور عباداتهم وأمور معاملاتهم ,السؤال عن هذا محمود { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }.
أما السؤال عن الأغاليط ,وعن الأشياء التي لا حاجة للناس بها ,وإنما هي من باب التكلف , وإشغال الوقت , والتضليل، والتشويش على الناس، فهذا السؤال محرم ,يجب الكف عنه ,وتعزير من يفعل هذا، كما فعل عمر رضي الله عنه بصبيغ الذي كان يسأل عن أشياء من متشابه القرآن ليس الناس بحاجة إليها ,فضربه عمر وطرده من المدينة.
فهؤلاء الذين يسألون مثل هذه الأسئلة التي لا حاجة بالناس إليها ,أو تشوش عليهم عقائدهم ,أو تشككهم في أمور دينهم، هؤلاء يجب أن يوقفوا عند حدهم، الإمام مالك رحمه الله طرد هذا الرجل من حلقته ؛ تأديباً له ,وحماية لطلبة العلم من شبهاته وتشكيكاته، الصحابة لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال: لماذا يبدو صغيراً ثم يكبر ثم يكبر ثم يتكامل ثم ينقص؟ الله جل وعلا أجابهم بغير ما سألوا عنه: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } هم سألوا عن حقيقتها , وهو سبحانه أجابهم عن فوائدها ,وأن هذا الذي ينبغي السؤال عنه، وأما السؤال عن حقيقة الهلال وخلقته ,فليس للناس فيه مصلحة، ولذلك أعرض عن جوابهم عما سألوا وأجابهم بجواب آخر:
{ قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تاتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون }.
قالوا: هذا فيه أنه ينبغي السؤال عما بالناس حاجة إليه وأن هذه الأبواب هي التي ينبغي أن يدخل منها طالب العلم , ولا يأتي البيوت من ظهورها , يدخلها مع والسطوح يتسلق الجدران، وهذا مثل من يسأل عما لا حاجة إليه أو فيه كلفة ,وفيه تشكيك أو تشبيه، مثل الذي يأتي البيت من سطحه ويتكلف ,وأما الذي يفتح الباب ويدخل أو يستأذن على أهل البيت ويدخل، هذا الذي يأتي البيوت من أبوابها، فالعلم كذلك له أبواب ينبغي سلوكها لمن يريد طلب العلم.
وقيل: إن معنى الآية أنهم كانوا في الجاهلية إذا أحرموا لا يدخلون البيوت مع الأبواب، وهم محرمون بزعمهم ,وإنما يأتون البيوت من ظهورها، فالله نَهاهم عن هذا الفعل ,وبين أنه لا حرج أن الإنسان يدخل من الباب وهو محرم ,ولا يتنافى هذا مع الإحرام، وأن هذا من التكلف الذي ما أنزل الله به من سلطان، ومن أهل البدع الآن من إذا أحرم لا يدخل تحت سقف ,ولا يركب في سيارة مسقوفة، وإنما يكشف سقف السيارة ,وهذا من جنس هؤلاء.
النبي صلى الله عليه وسلم ظلل عليه بالثوب وهو محرم ,يرمي الجمرة ,وضربت له قبة في نمرة ,فنزل فيها وهو محرم عليه الصلاة والسلام ,ولم يمتنع من الاستظلال بالخيمة ,ومن التظليل عليه بالثوب وهو محرم، وهذا من تيسير الله سبحانه وتعالى.
الحاصل: أن هذا الرجل الذي سأل مالكا عن الكيفية ,يسأل عما لا فائدة منه ,ولا حاجة إليه ,ولا تبلغه العقول ,وينبغي أن يتقاصر الناس عنه، وإنما كان الواجب أن يسأل عن معنى الآية: { الرحمن على العرش استوى } ما معنى استوى؟ فيقول: الاستواء معلوم، يبين له معنى الاستواء ,وأنه علو الله جل وعلا على عرشه , وارتفاعه على عرشه سبحانه وتعالى.