(1) مَنْزِلَةُ الْحَدِيثِ:
هذا الْحَدِيثُ لَه أهميَّةٌ عَظِيمَةٌ؛ لأنَّهُ تعرَّضَ لِبَيَانِ أُسسِ وقواعدِ الإِسْلامِ الَّتي عَلَيْهَا بُنِيَ، الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْعَبْدُ مسلمًا، وبغيرِهَا يَمْرُقُ مِن الدِّينِ.
قالَ النَّوويُّ: (إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَصْلٌ عظيمٌ فِي معرفةِ الدِّينِ، وَعَلَيِْهِ اعتمادُهُ وَقَد جَمَعَ أركانَهُ) أ. هـ.
فيجبُ الاعتناءُ بِهِ وحِفْظُهُ ونَشْرُهُ بَيْنَ المسلمينَ.
متَى يَكُونُ الْعَبْدُ مسلِمًا ؟:
لا يَكُونُ الْعَبْدُ مسلمًا إِلا بالقيامِ بأُسُسِ ودعائمِ وأركانِ الإِسْلامِ الَّتي بيَّنَها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، ومثَّلَ صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ لِهَذِه الأُسُسِ والدَّعائمِ بالبناءِ العَتيدِ المُحْكَمِ الثَّابتِ، الَّذي لا يقومُ إِلا عَلَى قواعدَ وإلا انهارَ عَلَى أهلِهِ، وبقيَّةُ خِصالِ الإِسْلامِ الواجبةِ مُتَمِّمَةٌ لَه، كَمَا أنَّ البناءَ لَه تَتِمَّاتٌ ضَروريَّةٌ لا يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ عَنْهَا.
والدَّعائمُ الأربعةُ المذكورةُ مَبْنيَّةٌ عَلَى الشَّهادةِ ؛ لأنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْهَا شيئًا دُونَ الشَّهادةِ ولم يَذْكُرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَقِيَّةَ أركانِ الإيمانِ والواجباتِ؛ لأنَّ الإيمانَ بأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مُستلزِمٌ لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِن مُعتقداتٍ وعباداتٍ، كَمَا لَم يَذْكُرِ الجهادَ وَهُو الفريضةُ العظيمةُ الَّتي فِيهَا عِزُّ أمَّةِ الإِسْلامِ، ورَفْعُ رايتِهَا، وقمعُ الكفَّارِ والمنافقينَ؛ وَذَلِك لأنَّها فرضُ كِفايَةٍ، وَلا تَتَعَيَّنُ عَلَى الجميعِ إِلا فِي بَعْضِ الحالاتِ.
أوَّلاً: الشَّهادةُ:
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بـُنـِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)) هَذِه مِن أَعْظَمِ دَعائمِ الإِسْلامِ؛ لأنَّ بِهَا يُعْصَمُ الدَّمُ والمالُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)).
وبها يَتقبَّلُ اللَّهُ مَا شَرَعَ لَنَا مِن أعمالٍ، وبها دُخولُ الجنَّةِ والنَّجاةُ مِن النَّارِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وبها تُغْفَرُ الذُّنوبُ مَهْمَا عَظُمَتْ.
ومعناها: الإقبالُ عَلَى اللَّهِ بالعِبادةِ الصَّادقةِ، والْبَرَاءةُ مِن عِبادةِ كلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، فَهُو الإلهُ الحقُّ فِي الوُجودِ، وكلُّ مَا سِوَاهُ مِن آلهةٍ باطلةٌ.
ومعنَى: مُحمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ: الشَّهادةُ لَهُ بأنَّهُ مُرسَلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ، تَجِبُ مَحَبَّتُهُ وطاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وتَصديقُهُ فِيمَا أَخبَرَ، وأَلا يُقدِّمَ عَلَى قولِهِ قولاً.
ثانيًا: الصَّلاةُ:
الصَّلاةُ هِي الصِّلَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وربِّهِ تباركَ وَتَعَالَى، يَجِبُ أداؤُهَا عَلَى هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَلـُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)).
أَفْلَحَ مَن أَدَّاها بِخُشوعٍ وإخباتٍ وخُضوعٍ، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} مَنْ حافظَ عَلَى أدائِهَا كَانَتْ لَهُ يومَ الْقِيَامَةِ نورًا وبرهانًا ونجاةً، وَكَانَ لَهُ عِنْدَ ربِّهِ عهدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الجنَّةَ.
الصَّلاةُ تربِّي فِي المسلمِ الوازعَ الَّذي بِه يَبتعدُ عمَّا لا يُرضِي اللَّهَ تَبارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.
الصَّلاةُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلاةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ)).
الصـَّلاةُ المفروضةُ تَمْحَقُ الذُّنوبَ والْخَطايَا.
حُكْمُ تَارِكِ الصَّلاةِ:
أَجْمَعَ عُلماءُ المسلمينَ عَلَى أنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ جُحودًا وإنكارًا لَهَا كَفَرَ
وخَرَجَ مِن مِلَّةِ الإِسْلامِ.
واخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَن تَرَكَهَا تَكاسُلاً وتَشاغُلاً عَنْهَا دُونَ عُذْرٍ يُعْتَدُّ بِهِ، مَع اعتقادِهِ بفَرْضِيَّتِها.
1- فمنهم مَنْ ذهبَ إِلَى الْقَوْلِ بتكفيرِهِ.
مِن الصَّحابةِ: عمرُ بْنُ الخطَّابِ، وعبدُ الرَّحمنِ بْنُ عوفٍ، ومعاذُ بْنُ جبلٍ، وأبو هُريرةَ، وعبدُ اللَّهِ بْنُ مَسعودٍ، وعبدُ اللَّهِ بْنُ عباسٍ، وجابرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وأبو الدَّرْدَاءِ، رَضِي اللَّهُ عَنْهُم.
ومِن غَيْرِ الصَّحابةِ:
أَحْمَدُ بْنُ حنبلٍ، وإسحاقُ بْنُ راهويْهِ، وعبدُ اللَّهِ بْنُ المبارَكِ، والنَّخَعِيُّ.
واستدلُّوا بالآتي:
- عنْ جابرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بـَيـْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلاةِ)).
- وعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شقيقٍ العُقَيْلِيِّ قَالَ: (كَانَ أصحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلاةِ).
2- ومنهُمْ مَن ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ بفُسوقِهِ، وعَدَمِ تَكفيرِهِ،
وَهَذَا قَوْلُ جُمهورِ العُلماءِ مِن السَّلفِ والْخَلَفِ مِنْهُم: مالكٌ، والشَّافعيُّ، وأبو حَنيفةَ.
واستدلُّوا بالآتي:
-قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءِ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)).
والشَّاهدُ فِي الْحَدِيثِ:
أنَّ تاركَ الصَّلاةِ قَدْ يُغفرُ لَهُ ، وَهَذَا يَعْنِي أنَّ تَرْكَهَا لَيْسَ كُفْرًا حَقيقيًّا؛ إذْ لَو كَانَ كُفْرًا لَمُنِعَتْ عنْهُ المغفرةُ.
وَكَذَلِك عَدمُ خلودِهِ فِي النَّارِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ تَرْكَ الصَّلاةِ لَيْسَ كُفرًا حقيقيًّا؛ لأنَّ المعروفَ أنَّ الكافرَ مُخلَّدٌ فِي النَّارِ.
وكذلك مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ قولُهُ جلَّ وَعَلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
عنْ حُذيفةَ بْنِ اليَمَانِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَدْرُسُ الإِسْلامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ، حَتَّى لا يُدْرَى مَا صَيِامٌ، وَلا صَلاةٌ، وَلا نُسُكٌ، وَلا صَدَقَةٌ، وَلَيـُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ فَلا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا)).
قَالَ صِلَةُ بْنُ زُفَرَلِحُذَيْفَةَ: (مَا تـُغني عَنْهُم: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَهُم لا يَدْرُونَ مَا صَلاةٌ، وَلا صيامٌ، وَلا نُسُكٌ، وَلا صَدَقةٌ ؟) فأَعْرَضَ عَنْه حُذيفةُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثلاثًا كلَّ ذَلِكَ يُعرِضُ عَنْه حُذيفةُ، ثمَّ أَقبلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالثةِ فقالَ: (يَا صِلَةُ، تُنْجِيهِمْ مِن النَّارِ، ثَلاثًا).
قالَ الألبانِيُّ مُعَقِّبًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: (هَذَا، وَفِي الْحَدِيثِ فائدةٌ فقهيَّةٌ هامَّةٌ، وَهِي: أنَّ شهادةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ تُنْجِي قائِلَهَا مِن الخلودِ فِي النَّارِ يومَ القِيامةِ، وَلَو كَانَ لا يقومُ بِشَيْءٍ مِن أركانِ الإِسْلامِ الأُخرَى كالصَّلاةِ وغيرِهَا، ثمَّ قَالَ: وَأَنَا أرَى أنَّ الصَّوابَ رأيُ الجمهورِ، وأنَّ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحابةِ لَيْس نَصًّا عَلَى أنَّهم كَانُوا يُريدونَ بالكفرِ هُنَا الْكُفْرَ الَّذي يُخَلَّدُ صاحبُهُ فِي النَّارِ، وَلا يَحْتَمِلُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ، فَكَيْفَ ذَلِك وَهَذَا حُذيفةُ بْنُ الْيَمَانِ -وهو مِن كِبارِ أُولَئِكَ الصَّحابةِ- يَرُدُّ عَلَى صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، وَهُو يَكادُ يَفهمُ الأَمْرَ عَلَى نحوِ فَهْمِ أَحمدَ لَهُ، فيقولُ: (مَا تُغْنِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَهُم لا يَدرونَ مَا صلاةٌ....؟) فيُجيبـُهُ حُذيفةُ بَعْدَ إعراضِهِ عَنْهُ: (يَا صِلةُ تُنجيهِمْ مِن النَّارِ، ثلاثًا).
فهذا نصٌّ مِن حُذيفةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أنَّ تارِكَ الصَّلاةِ -ومثلُها بقيَّةُ الأركانِ- لَيْسَ بكافرٍ، بَل هُو مُسلمٌ ناجٍ مِن الخلودِ فِي النَّارِ يومَ القِيامةِ) ا هـ.
كما يُعَضِّدُ مَن ذَهَبَ إِلَى هَذَا الرأيِ عُموميَّاتٌ مِنْهَا:
- عن عُبادةَ بْنِ الصَّامتِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مـَنْ شَهِدَ: أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ)).
وحملَ الجمهورُ الأَحَادِيثَ الواردةَ بتكفيرِ تاركِ الصَّلاةِ عَلَى الجاحدِ، أَو الْمُستَحِلِّ للتَّركِ.
كما حَمَلَ بعضُهُم الْكُفْرَ فِي الأَحَادِيثِ الواردةِ عَلَى كُفْرِ المعصيَةِ أَو الْعَمَلِ؛ لا الْكُفْرِ المُخْرِجِ مِن الملَّةِ؛ وَذَلِك أنَّ الْكُفْرَ والظُّلمَ والفسوقَ مَراتبُ.
وَلِهَذَا وَرَدَ عَن ابنِ عبَّاسٍ قولُهُ: (كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ) كَمَا جَعَلَ البخاريُّ رحمَهُ اللَّهُكِتَابَ الإيمانِ عِدَّةَ أبوابٍ مِنْهَا: بابُ كُفْرِ العشيرِ، وكُفْرٍ دُونَ كُفرٍ، وَلِهَذَا قَدْ يُوصَفُ المؤمنُ -كما وَرَدَ فِي نصوصٍ كَثِيرَةٍ- بالفِسقِ والظُّلمِ، أَو الشِّركِ، أَو عدَمِ الإيمانِ، أَو الْكُفْرِ، وَلا يُعَدُّ مُرْتَدًّا عَن الْمِلَّةِ، كَمَا روَى ابنُ مسعودٍ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)).
ولم يَقُلْ أَحَدٌ ممَّنْ يُعْتَدُّ بقولِهِ: إنَّ الكُفرَ هُنَا هُو المُخْرِجُ مِن الْمِلَّةِ، وممَّا يُخْرِجُ الكُفرَ هُنَا عَن معناهُ الحقيقيِّ كَذَلِك قولُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...}.
فهذا النَّصُّ يَشْهَدُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْكُفْرَ والظُّلمَ والفسوقَ والشِّركَ مَراتبُ، لِذَلِك حَمَلَ الجمهورُ نصوصَ تكفيرِ تاركِ الصَّلاةِ عَلَى كُفرِ النِّعمةِ، أَو عَلَى معنًى قَد قارَبَ الكُفرَ، أَو كُفرِ المعصيَةِ أَو الْعَمَلِ، كَمَا قَدَّمْتُ، والرَّاجحُ عندِي فِي هَذَا -وَاللَّهُ أعلمُ- قَوْلُ الجمهورِ.
ثالثًا: الزَّكاةُ:
الزَّكاةُ أوجبَهَا ربُّنَا تباركَ وَتَعَالَى عَلَى كلِّ مسلمٍ مَلَكَ نِصابًا مِن مالٍ بشروطِهِ.
وَهِي مأخوذةٌ مِن الزَّكاةِ، وَهُو النَّماءُ والطَّهارةُ والبركةُ.
وسُمِّيَتْ بِذَلِك: لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِن البركةِ فِي المالِ، وطهارةِ النَّفسِ لمؤدِّيها مِن أَدْرَانِ الشُّحِّ والبخلِ.
كما ثَبَتَ وُجوبُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي مَواضِعَ عِدَّةٍ، قَالَ تَبارَكَ وَتَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَالْمَقْصُودُ بِالصَّدقةِ الَّتي أُمِرَ حَبِيبُ ربِّ الْعَالِمِينَ صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ بأَخْذِهَا هِي: الزَّكاةُ المفروضةُ، الَّتي بيَّنَ الفُقهاءُ أحكامَهَا فِي مُصنَّفاتِهِم.
وكلامي حولَ الزَّكاةِ مقصورٌ حولَ النِّقَاطِ الآتيَةِ:
1- التَّرغيبُ فِي أدائِها: رَغَّبَ اللَّهُ جلَّ جلالُهُ عبادَهُ الأغنياءَ فِي أَدَاءِ زكاةِ أموالِهِم فِي مَواضعَ كَثِيرَةٍ مِن كتابِهِ الكريمِ، فبيَّنَ سبحانَهُ أنَّ:
- أَدَاءَ الزَّكاةِ مِن أسبابِ نزولِ رَحَماتِهِ عَلَى العبادِ، قَالَ عزَّوجلَّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}.
- أَدَاءَ الزَّكاةِ يُطَهِّرُ النَّفسَ ويُزَكِّيها مِن دَنَسِ البُخلِ والطَّمعِ والقَسْوَةِ عَلَى الضُّعفاءِ والبائسينَ، قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}.
- أَدَاءَ الزَّكاةِ مِن أسبابِ التَّمكينِ فِي الأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.
كَمَا رَغَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدَاءِ هَذَا الرُّكنِ العظيمِ ، بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّأَدَاءَ الزَّكاةِ مِن أسبابِ دُخولِ الجنَّةِ فِي أحاديثَ كَثِيرَةٍ:
- مِنْهَا: عَن أَبِي أَيُّوبَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ رجلاً قَالَ للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي بعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجنَّةَ قَالَ: ((تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكُ بِهِ، وَتُقيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ)).
- أَدَاءَ الزَّكاةِ سَبَبٌ فِي ذَهابِ شرِّ المالِ: عَن جابرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أرأيْتَ إِنْ أدَّى الرَّجلُ زكاةَ مالِهِ ؟
فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ شَرُّهُ)).
2- التَّرْهيبُ مِن مَنْعِ الزَّكاةِ:
أ- بَيَّنَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مآلَ مانِعِ زكاةِ الذَّهبِ والفضَّةِ يومَ الْخِزْيِ والنَّدامةِ، بأنَّ هَذِه الأموالَ الَّتي يَبْخَلُ بِهَا عَلَى عِبادِ اللَّهِ، سوفَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي سَقَرَ، ثمَّ يُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وباقي جَسَدِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.
ب- كَمَا بَيَّنَ سبحانَهُ بأنَّ مانِعَ الزَّكاةِ سوف يُطَوَّقُ يومَ الْمَعادِ؛بِسَبَبِ امتناعِهِ عَن أَدَاءِ حقِّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ، قَالَ عزَّ وجلَّ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
أَوْرَدَ ابنُ كثيرٍ فِي شرحِ هَذِه الآيَةِ الْحَدِيثَ: عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مـَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلَهْزَمَتَيْهِ -يَعْنِي شِدْقَيْهِ- ثمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالـُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا هَذِه الآيَةَ: {لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ)).
ج- عَن الأَحْنَفِ بْنِ قيسٍ قَالَ: ((جَلَسْتُ إِلَى مَلأٍ مِن قريشٍ، فجاءَ رجلٌ خَشِنُ الشَّعرِ والثِّيابِ والهيئةِ، حتَّى قامَ عَلَيْهِم فَسَلَّمَ ثمَّ قَالَ: بَشِّرِ الكانِزينَ برَضْفٍ يُحمَى عَلَيْهِ فِي نارِ جهنَّمَ، ثمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أحدِهِم حتَّى يَخْرُجَ مِن نُغْضِ كَتِفِهِ، ويُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كتفِهِ حتَّى يَخْرُجَ مِن حَلَمَةِ ثَدْيِهِ فَيَتَزَلْزَلُ)).
د- منعُ الزَّكاةِ سَبَبٌ فِي مَنعِ نزولِ الأمطارِ:
عَن ابنِ عمرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)).
رابعًا: الْحَجُّ:
فالحديثُ يدلُّ عَلَى أنَّ حَجَّ بَيْتِ اللَّهِ الحرامِ مِن قواعدِ الإِسْلامِ.
ومِنَ الأدلَّةِ الَّتي تؤكِّدُ فرضيَّتَهُ عَلَى المستطيعِ: قولُهُ جلَّ وَعَلا: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ذَكَرَ اللَّهُ سبحانَهُ وَتَعَالَى الحجَّ بأَبْلَغِ الألفاظِ الَّتي تَدُلُّ عَلَى وُجوبِهِ تأكيدًا لِحَقِّهِ، وتَعظيمًا لِحُرمتِهِ، وتقويَةً لفَرْضِهِ.
قالَ الشَّوكانيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (اللامُ فِي قولِهِ {لِلَّهِ} هِي الَّتي يُقالُ لَهَا: لامُ الإيجابِ والإلزامِ، ثمَّ زادَ هَذَا الْمَعْنَى تأكيدًا حَرْفُ {عَلَى}؛ فإنَّهُ مِن أَوْضَحِ الدَّلالاتِ عَلَى الوُجوبِ عِنْدَ العربِ).
والْحَجُّ واجبٌ فِي العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، عَن أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطـَبـَنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا))فقالَ رجلٌ: أَفِي كلِّ عامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فسَكَتَ حتَّى قالَها ثلاثًا، فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَمَا اسْتَطَعْتُمْ)).
وُجوبُ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ:
لا يَحِلُّ للمسلمِ المستطيعِ، الصَّحيحِ البدنِ، الَّذي يَمْلِكُ مِن المالِ مَا يَكفيهِ للحَجِّ ذَهابًا وإِيَابًا ويَكْفِي مَن يعولُهُم حتَّى يَرْجِعَ مِن الْحَجِّ، أَنْ يُؤخِّرَ فَريضةَ الحجِّ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبادِرَ بأدائِهَا،
وَذَلِك للأدلَّةِ الآتيَةِ:
1- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كـُسـِرَ، أَوْ مَرِضَ، أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ)).
قالَ الشَّوكانيُّ: (لَو كَانَ عَلَى التَّراخِي، لَم يُعيِّنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العامَ القابلَ))
اهـ.
2- عَن ابنِ عبَّاسٍ، عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((تَعَجـَّلـُوا إِلَى الْحَجِّ -يَعْنِي: الفَريضةَ- فإنَّ أحدَكُم لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ)).
وَوَجْهُ الدَّلالةِ مِن هَذَا الْحَدِيثِ وَاضِحٌ؛
لأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بالتَّعجيلِ، وَلا تُوجدُ قرينةٌ قَوِيَّةٌ تَحْمِلُ هَذَا الأَمْرَ (تَعَجَّلُـوا) إِلَى غَيْرِ ذَلِك، وَاللَّهُ أعلمُ.
3- وعن الْحُسْنِ قَالَ: قَالَ عمرُ بْنُ الخطَّابِ: (لَقَدْ همَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رجالاً إِلَى هَذِه الأَمْصَارِ، فيَنظرُوا كلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَّةٌ وَلَم يَحُجَّ، فيَضربُوا عَلَيْهِم الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بمسلمينَ، مَا هُمْ بمسلمينَ).
ذهبَ إِلَى الْقَوْلِ بوجوبِ الحجِّ عَلَى الفورِ:
مالكٌ ، وأبو حَنيفةَ، وَأَحْمَدُ، وَبَعْضُ أصحابِ الشَّافعيِّ، وزيدُ بْنُ عليٍّ، والمؤيَّدُ بِاللَّهِ، والنَّاصرُ، وأبو يُوسُفَ، وَمَا ذهبَ إِلَيْهِ هَؤُلاءِ، يُوافِقُ كثيرًا مِن الأدلَّةِ العامَّةِ، الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الْمُبادَرةِ فِي أعمالِ الْبِرِّ والطَّاعاتِ.
واحتجَّ مَنْ خَالَفَ هَذَا الْمَذْهبَ:
بأنَّ الْحَجَّ فُرِضَ سَنَةَ ستٍّ، ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَم يَحُجَّ إِلا سَنةَ عشرٍ، فَلَو كَانَ الْحَجُّ عَلَى الفورِ، لَم يُؤَخِّرْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّنةِ العاشرةِ.
وهنا أَكْتَفِي بِرَدِّ العلامةِ الشَّوكانيِّ عَلَى مَا استدلَّ بِه هَؤُلاءِ الْعُلَمَاءُ الأَعْلامُ، عَلَيْهِم سَحائبُ الرَّحمةِ.
قالَ الشَّوكانيُّ رحمهُ اللَّهُ: (واحْتَّجُّوا بأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ سَنَةَ عشرٍ، وفَرْضُ الحجِّ كَان سَنَةَ ستٍّ أَو خمسٍ، وأُجِيبُ: بأنَّهُ قَد اخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ الَّذي فُرِضَ فِيهِ الحجُّ، وَمِن جملةِ الأقوالِ أنَّهُ فُرِضَ فِي سَنَةِ عشرٍ، فَلا تأخيرَ، وَلَو سُلِّمَ أنَّهُ فُرِضَ قَبْلَ العاشرِ، فتراخِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ لكراهةِ الاخْتِلاطِ فِي الحجِّ بأهلِ الشِّركِ؛ لأنَّهُم كَانُوا يَحُجُّونَ ويطوفونَ بالبيتِ عُراةً، فلَمَّا طهَّرَ اللَّهُ البيتَ الحرامَ مِنْهُم حجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَرَاخِيهِ لعُذرٍ، ومَحَلُّ النِّزاعِ التَّراخِي مَعَ عدَمِهِ).
وممَّا يَرِدُ عَلَيْهِم كَذَلِك:
أنَّ قولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعَجـَّلـُوا إِلَى الْحَجِّ...)) يُقَدَّمُ عَلَى فِعْلِهِ، وَهَذِه قاعدةٌ أُصوليَّةٌ يُعملُ بِهَا عِنْدَ تَعارُضِ النُّصوصِ، وَاللَّهُ أعلمُ.
2- التَّرغيبُ فِي الْحَجِّ:
رغَّبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَّتَهُ فِي أَدَاءِ فَريضةِ الحجِّ، وبَيَّنَ الأَجْرَ والثَّوابَ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لِمَنْ حَجَّ بيتَهُ الحرامَ، وإليكَ بَعْضَ مَا وَرَدَ مِن الأَحَادِيثِ:
1-الحجُّ مِن أَفْضَلِ الأعمالِ الَّتي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى ربِّهِ جلَّ وَعَلا، كَمَا هُو مِنَ العِباداتِ الَّتي أَثَرُهَا وَاضِحٌ عَلَى النُّفوسِ، كَمَا هُو مِنْ أَكْثَرِ العِباداتِ ثوابًا.
عَنْ أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سـُئـِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟
قَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)).
قِيلَ: ثمَّ مَاذَا ؟
قَالَ: ((الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
قِيلَ: ثمَّ مَاذَا ؟
قَالَ: ((حَجٌّ مَبْرُورٌ)).
والحجُّ المبرورُ:
هُو أَنْ يؤدِّيَ الحجَّ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)) وَأَنْ يَجتهدَ عَلَى نفسِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ للحجِّ أَثَرٌ عَلَى طَهارةِ نفسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ زاهدًا فِي الدُّنيا، راغبًا فِي الآخِرَةِ.
2- إِذَا حجَّ المسلمُ كَمَا أمرَهُ ربُّهُ تَبارَكَ وَتَعَالَى، مُراعيًا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُراعاتُهُ مِن آدابٍ لِهَذِهِ العِبادةِ، فالْحَجُّ يُنَقِّيهِ مِن الذُّنوبِ والخطايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوبُ الأبيضُ مِن الدَّنَسِ.
عنْ أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سمعـْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).
قالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: (الرَّفَثُ: يُطلَقُ ويُرادُ بِه الجِمَاعُ، ويُطْلَقُ ويُرادُ بِه الفُحْشُ، ويُطْلَقُ ويُرادُ بِه خِطابُ الرَّجلِ المرأةَ فِيمَا يَتعلَّقُ بالجِماعِ، وَقَد نُقِلَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ كلُّ وَاحِدٍ مِن هَذِه الثَّلاثةِ عَن جماعةٍ مِن الْعُلَمَاءِ، وَاللَّهُ أعلمُ).
3- الحجُّ الْمَبْرُورُ جزاؤُهُ الجنَّةُ، الَّتي فِيهَا مَا لا عَيْنٌ رأَتْ، وَلا أذنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بشرٍ.
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ)).
4- الحجُّ جهادُ الضَّعيفِ والنِّساءِ:
عنِ الْحسنِ بْنِ عليٍّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: إنِّي جَبانٌ، وإنِّي ضعيفٌ، فقالَ: ((هَلُمَّ إِلَى جِهادٍ لا شَوكةَ فِيهِ؛ الْحَجِّ)).
وعن عائشةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهادَ أَفضلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجاهِدُ ؟
قَالَ: ((لا، لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهادِ حَجٌّ مَبرورٌ)).
خامسًا: صومُ رمضانَ:
1- وُجوبُ صيامِ رَمضانَ:
صومُ رمضانَ فرضٌ ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ جلَّ وَعَلا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}ومعنَى كُتِبَ أَيْ: فُرِضَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} كَمَا ثبَتَتْ فرضيَّتُهُ بالسُّنَّةِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وغيرِهِ مِن الأَحَادِيثِ.
وأَجمَعَتِ الأمَّةُ عَلَى أنَّ الصِّيامَ أَحَدُ أركانِ الإِسْلامِ الَّتي عُلِمَتْ مِن الدِّينَ بالضَّرورةِ، ومَنْ أَنْكَرَ فرضيَّتَهُ بَعْدَ قيامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ لا يَختلِفُ اثنانِ فِي كُفْرِهِ.
2- التَّرغيبُ فِي صَوْمِ رمضانَ:
أ- مَنْ صامَ رمضانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، مُبْتَغِيًا مَا أَعَدَّ اللَّهُ للصَّائمينَ مِن ثَوَابٍ جَزيلٍ، غَفَرَ اللَّهُ تَبارَكَ وَتَعَالَى لَه ذُنوبَهُ.
عن أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مـَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
قالَ الألبانيُّ: (فَإِنْ لَم يَكُنْ للإنسانِ ذنبٌ، يَكُونُ الصِّيامُ سببًا فِي رَفْعِ دَرجاتِهِ، كَمَا هُو فِي حَقِّ الأنبياءِ الْمَعصومينَ مِنَ الذُّنوبِ).
وعنْ أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( الصـَّلواتُ الْخَمْسُ، والْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)).
ب- وعنْ أَبِي هُريرةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَاكـُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عليكُمْ صِيامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّياطِينِ، فِيهِ لَيْلةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ)).
ومعنَى قولِهِ: ((تـُغـَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّياطِينِ))قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: (إنَّ الشَّياطينَ لا يَخْلُصونَ فِيهِ إِلَى إفسادِ النَّاسِ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُون إِلَيْهِ فِي غيرِهِ؛ لاشتغالِ المسلمينَ بالصِّيامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَواتِ، وبقِراءةِ الْقُرْآنِ، وَسَائِرِ العِباداتِ).
وهذا مُشَاهَدٌ، فنَجِدُ كثيرًا مِن النَّاسِ الَّذينَ كانُوا قَبْلَ رمضانَ مُقَصِّرينَ فِي أَدَاءِ الصَّلاةِ فِي الْجُمَعِ والجماعاتِ يَقومون بأدائِهَا فِي المساجدِ، كَمَا نرَى الكثيرَ مِن النَّاسِ يَتوبونَ ويُقْلِعُونَ عَن معاصيهِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ الكريمِ.
ج-وعنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عُتَقَاءَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ -يَعْنِي فِي رَمضانَ- وَإِنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَعْوةً مُسْتَجَابَةً)).
3-التَّرْهِيبُ مِن الإفطارِ فِي رَمضانَ:
الإفطارُ فِي يومِ رمضانَ مِنَ الكبائرِ، فيَجِبُ عَلَى المسلمِ أَنْ يَقِيَ نفسَهُ مِن غَضَبِ اللَّهِ وعِقابِهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.
عنْ أَبِي أُمامةَ البَاهليِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَتَانِي رَجُلانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ فَأَتَيَا بِي جَبَلاً وَعْرًا، فَقَالا: اصْعَدْ.
فقلْتُ: إنِّي لا أُطِيقُهُ.
فَقَالَ: إنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ.
قلْتُ: مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ ؟
قالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ.
ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُم دَمًا.
قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ ؟
قَالَ: الَّذينَ يُفْطِرونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ..)) الْحَدِيثَ.
ومعنَى ((يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ))أَيْ: قَبْلَ وَقْتِ الإفطارِ، وَهُو دُخولُ هلالِ شوَّالٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ وَعيدٌ شديدٌ، لِمَن تَعَمَّدَ الإفطارَ فِي رَمضانَ دُونَ عُذْرٍ يُعْتَدُّ بِه شَرْعًا نَسألُ اللَّهَ السَّلامةَ.