104 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ شَعَرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْحَيْضَةِ؟ قَالَ: ((لاَ، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
مفرداتُ الحديثِ:
- أَشُدُّ شَعَرَ رَأْسِي: شَدَّ الشيءَ: قَوَّاه وأَحْكَمَه، والعُقْدَةَ: أَحْكَمَها وأَوْثَقَهَا.
- أَفَأَنْقُضُهُ: نَقَضَ الحَبْلَ أو الشعَرَ: حَلَّ إبرامَه وعُقَدَه، والهمزةُ للاستفهامِ.
- يَكْفِيكِ: كَفَى الشيءُ يَكْفِي كِفايةً: حَصَلَ به الاستغناءُ عن غيرِه، فهو كافٍ، والمرادُ: يُغْنِيكِ الحَثْيُ عن نَقْضِ شَعَرِكِ.
- أنْ تَحْثِي ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ: بالثاءِ المثلَّثَةِ، يُقالُ: حَثَيْتُ وحَثَوْتُ، لغتانِ مشهورتانِ، والحَثْيَةُ: هي الحَفْنَةُ التي هي مِلْءُ الكفَّيْنِ مِن الماءِ وغيرِه، والجمعُ حَثَيَاتٌ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- عدمُ وُجُوبِ نقضِ المرأةِ شَعَرَها للغُسْلِ مِن الجَنَابَةِ أو الغُسْلِ من الحَيْضِ.
2- الاكتفاءُ بحَثْيِ الماءِ ثلاثَ مَرَّاتٍ على الرأسِ، هذا هو مَذْهَبُ جمهورِ العلماءِ، وسيأتي تحقيقُ الخلافِ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
3- يَدُلُّ الحديثُ على أنَّ للمرأةِ أنْ تَشُدَّ شَعَرَ رَأْسِها، ولم يُبَيِّنْ صِفَةَ الشَّدِّ, هل تَضْفِرُهُ أو تَعْكِصُهُ؟ وهذه الأمورُ عادِيَّةٌ، لا دَخْلَ لها في العبادةِ، فالعادةُ التي يَعْمَلُها الناسُ وليسَتْ زِيًّا خاصًّا بالكفَّارِ يَجُوزُ فِعْلُها.
خلافُ العلماءِ:
قالَ في الشرحِ الكبيرِ: لا يَجِبُ على المرأةِ نَقْضُ شَعَرِها لِغُسْلِها مِن الجَنابةِ روايةً واحدةً، ولا نَعْلَمُ في هذا خلافاً إلاَّ عن ابنِ عُمَرَ والنَّخَعِيِّ، ولا نَعْلَمُ أحداً وَافَقَهُما على ذلكَ؛ لِمَا رَوَتْ أمُّ سَلَمَةَ، أنها قالَتْ: يا رسولَ اللَّهِ، إني امرأةٌ أَشُدُّ شَعَرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُه للجَنَابَةِ؟ قالَ: ((لاَ، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ بِالْمَاءِ فَتَتَطَهَّرِينَ بِهِ)). رَوَاهُ مسلمٌ.
قالَ في المُغْنِي: اتَّفَقَ الأئمَّةُ الأربعةُ على أنَّ نَقْضَه غيرُ واجبٍ. ا هـ.
واخْتَلَفُوا في وُجُوبِ نَقْضِ شَعَرِ المرأةِ لِغُسْلِهَا مِن الحَيْضِ:
فذَهَبَ الإمامُ أحمدُ – في المشهورِ مِن مَذْهَبِهِ - إلى وُجُوبِ نَقْضِه، قالَ مهنَّا: سَأَلْتُ أحمدَ عن المرأةِ تَنْقُضُ شَعَرَها مِن الحَيْضِ؟ قالَ: نعمْ. فقلتُ له: كيفَ تَنْقُضُه من الحَيْضِ ولا تَنْقُضُه مِن الجَنَابَةِ؟ فقالَ: حَدَّثَتْ أسماءُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((تَنْقُضُهُ)). اهـ.
ولِمَا جاءَ في البُخَارِيِّ (316)، ومُسْلِمٍ (1211) من حديثِ عَائِشَةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لها: ((إِذَا كُنْتِ حَائِضاً فَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي)).
ولأنَّ أصلَ وُجُوبِ نَقْضِ الشعَرِ لِيُتَيَقَّنَ وُصُولُ الماءِ إلى ما تَحْتَه، فعُفِيَ عنه في غُسْلِ الجَنابَةِ؛ لأنه يَكْثُرُ فيَشُقُّ ذلك، بخلافِ الحَيْضِ.
وذَهَبَ أكثرُ العلماءِ، ومنهم الأئمَّةُ الثلاثةُ: إلى أنه لا يَجِبُ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عن أمِّ سَلَمَةَ، أنها قالَتْ: يا رسولَ اللَّهِ، إِنِّي أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ قالَ: ((إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ)). وهي روايةٌ عن الإمامِ أحمدَ، اخْتَارَهَا المُوَفَّقُ، والمَجْدُ، والشارِحُ، والشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ وغيرُهم؛ لحديثِ أمِّ سَلَمَةَ السابِقِ.
قالَ الشيخُ عبدُ العزيزِ بنُ بَازٍ: الصحيحُ أنه لا يَجِبُ عليها نَقْضُه في غُسْلِ الحَيْضِ؛ لِمَا وَرَدَ في بعضِ رواياتِ أمِّ سَلَمَةَ عندَ مُسْلِمٍ، أنها قالَتْ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي امرأةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضِ والجَنَابَةِ؟ قالَ: ((لاَ)).
ومذهَبُ الجمهورِ: أنه إذا وَصَلَ الماءُ إلى جميعِ شَعَرِها، ظاهرِه وباطنِه، مِن غيرِ نَقْضٍ لم يَجِبِ النقْضُ.
وقالَ الشيخُ مُحَمَّدُ بنُ إبراهيمَ: الراجِحُ في الدليلِ: عدمُ وُجُوبِ النقْضِ في غُسْلِ الحَيْضِ، كعدمِ وُجُوبِه في الجَنابَةِ، إلاَّ أنه في الحَيْضِ مشروعٌ؛ للأدِلَّةِ، والأمرُ فيه ليسَ للوجوبِ؛ بدليلِ حديثِ أمِّ سَلَمَةَ، وهذا اختيارُ صاحِبِ الإنصافِ.
وأمَّا الجَنَابَةُ: فليسَ مندوباً في حَقِّها، وإنما هو مُتَأَكِّدٌ في الحَيْضِ.
قالَ الزَّرْكَشِيُّ: الأوَّلُ هو الأَوْلَى؛ لحملِ الحديثيْنِ على الاستحبابِ.
ودليلُ مَن لا يُوجِبُ النقْضَ: بعضُ رُواياتِ حديثِ أمِّ سَلَمَةَ التي ذَكَرَتِ الحيْضَ معَ الجنابةِ، وقد قالَ ابنُ القَيِّمِ عن بعضِ هذه الرواياتِ: الصحيحُ في حديثِ أمِّ سَلَمَةَ الاقتصارُ على ذِكْرِ الجنابةِ دونَ الحيْضِ، وليسَ نَقْضُ شعرِ الرأسِ بمحفوظٍ للحائِضِ.
وقالَ الأَلْبَانِيُّ: إنَّ ذِكْرَ الحَيْضَةِ في الحديثِ شاذٌّ لا يَثْبُتُ.
وبهذا فمَذْهَبُ الإمامِ أحمدَ قويٌّ في هذه المسألةِ، وأنَّ حَمْلَ الحديثيْنِ على الاستحبابِ محملٌ حَسَنٌ.