قولُهُ:
وقد عُلِمَ أَنَّ طَرِيقَةَ سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثباتُ ما أثْبَتَهُ مِن الصفاتِ مِن غيرِ تَكْيِيفٍ ولا تمثيلٍ، ومن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، وكذلكَ يَنْفُونَ عنهُ ما نفاهُ عن نفسِهِ، مع إثباتِ ما أثْبَتَهُ مِن الصفاتِ مِن غيرِ إِلْحَادٍ، لا في أسمائِهِ, ولا في آياتِهِ.
الشرحُ:
معناهُ أنَّ السلفَ رَضِيَ اللهُ عنهم ورَحِمَهُم لا يَتَجَاوَزُونَ طريقةَ الكتابِ والسُّنَّةِ، ولا يُخَالِفُونَ ما جاءَ فيهما، بلْ يُؤْمِنُونَ بذلكَ, ويَصِفُونَ اللهَ بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ، وبما وَصَفَهُ بهِ رسولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِثْبَاتًا بلا تمثيلٍ، وتَنْزِيهًا بلا تعطيلٍ، على حَدِّ قولِهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شُيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
والمرادُ بالسلَفِ الصحَابَةُ والتابعونَ وتابِعُوهُم، وكلُّ مَن سَلَكَ طريقَهُم فهو سَلَفِيٌّ نسبةً إليهم، ومعنى السَّلَفِ المتقدِّمونَ بعكسِ الخَلَفِ، فإنَّهُم المُتَأَخِّرُونَ، فمنْ جاءَ بعدَ القرونِ المُفَضَّلَةِ، وسَلَكَ طريقةَ المُبْتَدِعِينَ فهو مِن الخَلَفِ، ومِن هؤلاءِ السلَفِ الإمامُ أحمدُ، ونُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ، ومحمدُ بنُ إدريسَ الشَّافِعِيُّ، والإمامُ مالكُ بنُ أَنَسٍ.
وَيُنَاسِبُ أنْ نَذْكُرَ هنا بعضَ ما جاءَ عن هؤلاءِ الأَئِمَّةِ في الصفاتِ.
قالَ نُعَيْمُ بنُ حمَّادٍ شيخُ البخاريِّ رَحِمَهُم اللهُ: (مَن شَبَّهَ اللهَ بِخَلْقِهِ كَفَرَ، وَمَن جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بهِ نَفْسَهُ كَفَرَ، وليس فيما وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهَ أو وَصَفَهُ بهِ رسولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْبِيهٌ ولا تَمْثِيلٌ). وقالَ الإمامُ الشافعيُّ – رَحِمَهُ اللهُ -: (للهِ أسماءٌ وصفاتٌ لا يَسَعُ أَحَدَاً جَهْلُهَا، فَمَنْ خَالَفَ بعدَ ثبوتِ الحُجَّةِ عليهِ كَفَر، وأمَّا قبلَ قيامِ الحُجَّةِ فَيُعْذَرُ بالجَهْلِ).
وَقَدْ سَبَقَت الإشارةُ إلى بعضِ ما جاءَ عن الإمامِ أحمدَ في هذا البابِ، أمَّا الإمامُ مالكٌ - رَحِمَهُ اللهُ - فَسَيَأْتِي بعضُ ما جاءَ عنهُ في هذا البابِ في موضعِهِ من هذهِ الرسالَةِ.
والتَّكْيِيفُ: معناهُ تَعْيِينُ كُنْهِ الصفةِ، يُقَالُ: كَيَّفَ الشيءَ, أيْ: جَعَلَ لهُ كَيْفِيَّةً مَعْلُومَةً، وَكَيْفِيَّةُ الشيءِ صفتُهُ وحالُهُ، ومعنى التَّكْيِيفِ اصطلاحاً: تَعْيِينُ كُنْهِ الصفةِ وكَيْفِيَّتِهَا، فَالمُكَيِّفَةُ هم الذينَ يَطْلُبُونَ تَعْيِينَ كُنْهِ صفاتِ البارِي، وهذا مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللهُ بهِ، فلا سبيلَ إلى الوصولِ إليهِ.
والتمثيلُ: هو التَّشْبِيهُ، يُقالُ: مَثَّلَ الشيءَ بالشيءِ, إذا سَوَّاهُ وَشَبَّهَهُ بهِ، وجَعَلَهُ مِثْلَهُ، وعلى مِثَالِهِ، فالشَّبِيهُ والمَثِيلُ والنَّظِيرُ ألْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ.
ومَعْنَى التحريفِ: تغييرُ ألفاظِ الأسماءِ والصفاتِ أو تغييرُ مَعَانِيهَا، فالتحريفُ لُغَةً: التَّغْيِيرُ وإِمَالَةُ الشيءِ عن وَجْهِهِ، يُقَالُ: انْحَرَفَ عن كَذَا, أي: مَالَ وعَدَلَ.
الأوَّلُ: تحريفُ اللفظِ كقراءةِ بعضِ المُبْتَدِعَةِ قَوْلَ اللهِ سبحانَهُ:{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} بِنَصْبِ لَفْظِ الجلالةِ، والثاني: التحريفُ المَعْنَوِيُّ، كقولِهم في قولِهِ سبحانَهُ وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى على العَرْشِ} اسْتَوْلَى عليهِ.
والتَّعْطِيلُ لُغَةً: الإِخْلاَءُ، يُقَالُ: جِيْدٌ عَطِلٌ – أي: خَالٍ مِن الزِّينَةِ، ومعناهُ هنا جَحْدُ الصفاتِ، وإنْكَارُ قيامِها بذاتِهِ سبحانَهُ، وَنَفْيُ ما دَلَّتْ عليهِ من صفاتِ الكمالِ.
وقولُهُ: (مِن غيرِ إِلْحَادٍ) أي: مِن غيرِ مَيْلٍ وعُدُولٍ عن الحَقِّ الثابتِ.
والإلحادُ معناهُ لُغَةً: الميلُ والعُدُولُ عن الشيءِ، ومنهُ اللَّحْدُ في القَبْرِ؛ لانحرافِهِ إلى جِهَةِ القِبْلَةِ، واصْطِلاَحًا: العُدُولُ بأسماءِ اللهِ وصفاتِهِ وآياتِهِ عن الحقِّ الثابتِ؛ فإنَّ أَتْبَاعَ رسولِهِ وَوَرَثَتَهُ القائِمِينَ بِسُنَّتِهِ لم يَصِفُوهُ إلاَّ بِمَا وَصَفَ بهِ نفسَهُ، ولم يَجْحَدُوا صفاتِهِ، ولم يُشَبِّهُوهَا بِصِفَاتِ خَلْقِهِ، ولم يَعْدِلُوا بها عما أُنْزِلَتْ لهُ لفظاً ولا معنًى، بلْ أَثْبَتُوا لهُ الأسماءَ والصفاتِ، وَنَفَوْا عنهُ مشابهةَ المخلوقاتِ، فكانَ إثباتُهُم بَرِيئاً مِن التشبيهِ، وتَنْزِيهُهُم خالِيًا من التعطيلِ، لا كَمَنْ شَبَّهَهُ حتى كَأَنَّهُ يَعْبُدُ صَنَماً، أو عَطَّلَهُ حتى كَأَنَّهُ يَعْبُدُ عَدَماً، فإثباتُ أوصافِ الكمالِ ونَفْيُ المُمَاثَلَةِ هي طريقةُ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ وَوَرَثَةِ الأنبياءِ.
بخلافِ الذينَ يُلْحِدُونَ في أسماءِ اللهِ وآياتِهِ، ويَتَأَوَّلُونَ نصوصَ الصفاتِ على غيرِ تأويلِهَا، ويَدَّعُونَ فيها صَرْفَ اللفظِ عن الاحتمالِ الراجحِ إلى الاحتمالِ المَرْجُوحِ بغيرِ دليلٍ، سِوَى آرائِهِم الكاسدةِ، وشُبَهِهِم الفاسدةِ، التي ظَنُّوهَا بَيِّنَاتٍ، وإنَّمَا هي في واقعِ الأمْرِ جَهَالاَتٌ وضلالاتٌ، فَتَأْوِيلُهُم لنصوصِ الصفاتِ حقيقتُهُ تحريفُ كلامِ اللهِ وكلامِ رسولِهِ عن مَوَاضِعِهِ، وَكَذِبٌ وافتراءٌ على اللهِ وعلى رسولِهِ؛ فإنَّ التأويلَ الصحيحَ هو الذى يُوَافِقُ ما جاءَ فى الكتابِ والسُّنَّةِ، وما خَالَفَ ذلكَ باطلٌ؛ فإنَّ كُلَّ تَأْوِيلٍ لم يَدُلَّ عليهِ دَلِيلٌ من السياقِ، ولا مَعَهُ قرينةٌ تَقْتَضِيهِ, فهذا لا يَقْصِدُهُ الهادِي المُبِينُ بكلامِهِ، إذاً لو قَصَدَهُ لاَلْحَقَ بهِ قرائنَ تَدُلُّ على المعنى المُخَالِفِ لظاهرِهِ حتى لا يُوقِعَ السامِعَ في اللَّبْسِ والخَطَأِ؛ فإنَّ اللهَ أَنْزَلَ كلامَهُ بَيَانًا وَهُدًى، فإذا أَرَادَ بهِ خِلاَفَ ظَاهِرِهِ, ولم يُلْحِقْ بهِ قرائنَ تَدُلُّ عَلَى المعنى الذي يَتَبَادَرُ غيرُهُ إلى فَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ لم يَكُنْ بياناً, ولا هُدًى.
فالتأويلُ إخبارٌ بِمُرَادِ المُتَكَلِّمِ, لا إنشاءٌ، فإذا قِيلَ: معنى اللفظِ كذا وكذا؛ كانَ إخباراً بالذي عني المُتَكَلِّمُ، فإنْ لمْ يَكُن الخَبَرُ مُطَابِقاً كانَ كَذِباً عليهِ.
قولُهُ:
فإنَّ اللهَ تعالى ذَمَّ الذينَ يُلْحِدُونَ في أسمائِهِ وآياتِهِ، كما قالَ تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وقالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَونَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِخَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} الآيةَ.
فَطَرِيقَتُهُمْ تَتَضَمَّنُ إثباتَ الأسماءِ والصفاتِ مع نَفْيِ مُمَاثَلَةِ المخلوقاتِ، إِثْبَاتاً بلا تَشْبِيهٍ، وتَنْزِيهًا بلا تَعْطِيلٍ، كما قالَ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
ففي قولِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رَدٌّ للتشبِيهِ والتمثيلِ، وقولِهِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رَدٌّ للإلحادِ والتعطيلِ.
الشرحُ:
يَعْنِي: أَنَّ السَّلَفَ أَثْبَتُوا للهِ أوصافَ الكمالِ, وَنَفَوْا عنهُ مُمَاثَلَةَ المخلوقاتِ، فلمْ يَسْلُكُوا طريقةَ المُبْتَدِعِينَ الذينَ ذَمَّهُم اللهُ على إِلْحَادِهِم وتَحْرِيفِهِم الكَلِمَ عن مواضعِهِ، ووجْهُ الذَّمِّ في الآيةِ الأولى أنَّ اللهَ أَمَرَ بِتَرْكِ المُلْحِدِينَ واجتنابِ طريقَتِهِم. وتَهَدَّدَهُم تعالى بقولِهِ: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بعدَ أنْ أَخْبَرَ بأنَّ لهُ الأسماءَ الحُسْنَى، وهي الكاملةُ العُلْيَا، وفي الآيةِ الثانيةِ أَخْبَرَ أنَّ إلحادَ المُلْحِدِينَ غيرُ خَافٍ عليهِ سبحانَهُ، بلْ هو يَعْلَمُهُ، وهذا تَهْدِيدٌ لَهُمْ أَكَّدَهُ بقولِهِ: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الآمِنِينَ هم الذينَ لا يُلْحِدُونَ في آياتِهِ، والذينَ يُلْقَوْنَ في النارِ هم المُلْحِدُونَ،ثم تَوَعَّدَهُم بقولِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، والعربُ قد تُخْرِجُ الكلامَ بلفظِ الأمْرِ، ومعناهُم فيهِ النَّهْيُ، أو التهديدُ والوعيدُ, كما قالَ تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، فقدْ خَرَجَ ذلكَ مَخْرَجَ الأمْرِ، والمقصودُ بهِ التهديدُ والوعيدُ والزَّجْرُ.
والشاهدُ من الإلحادِ هنا، هو إلحادُ التشبِيهِ، وإلحادُ التعطيلِ؛ فإنَّ الإلحادَ خمسةُ أقسامٍ:
ثالِثُهَا: تَسْمِيَةُ الأصنامِ بأسماءِ اللهِ، كَتَسْمِيَةِ اللاتِ مِن الإلهِ،والعُزَّى مِن العزيزِ، ونحوِهِ.
ورابِعُهَا: تسمِيَتُهُ سبحانَهُ بِمَا لا يَلِيقُ بجلالِهِ، كتسميةِ النصارَى لهُ أَبًا، وتَسْمِيَةِ الفلاسفةِ لهُ مُوجِباً – أو عِلَّةً فاعِلَةً.
وخامِسُهَا: وَصْفُهُ بما يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ عنهُ من النقائصِ، كقولِ أَخْبَثِ اليهودِ: (( إنَّ اللهَ فَقِيرٌ ))، وقولِهِم: (( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ))، فَذَمَّ المُلْحِدِينَ بالتشبِيهِ؛ لِتَشْبِيهِهِمْ صِفَاتِ اللهِ بصفاتِ خَلْقِهِ، وذَمَّ المُلْحِدِينَ بالتعطيلِ؛ لِتَعْطِيلِهِم الأسماءَ الحُسْنَى عن معانِيهَا، وَجَحْدِ حَقَائِقِهَا، تعالى اللهُ عن قولِ المُلْحِدِينَ عُلُوًّا كبيراً.
والمقصودُ أنَّ السَّلَفَ أَثْبَتُوا للهِ ما يَجِبُ إثباتُهُ إثباتاً بلا تمثيلٍ، وتَنْزِيهاً بلا تعطيلٍ، على مُقْتَضَى قولِهِ سبحانَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، والكافُ في قولِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَصَحُّ الأقوالِ فيها أنَّهَا صِلَةٌ، والحروفُ الزائدةٌ تَأْتِي فِي الأسلوبِ العربيِّ لتقويةِ المعنى وتأكيدِهِ، كَمَا فِي قولِ الشاعرِ:
ليسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ = خَلْقٌ يُوَازِيهِ فِي الفَضَائِلِ
وعلى هذا يكونُ المعنى ليسَ مثلَ اللهِ شيءٌ، والقولُ الثاني: أنَّ الكافَ بمعنى مِثْل؛ وعلى هذا يكونُ المعنى ليسَ مِثْلَ مِثْلَ اللهِ شَيْءٌ، وَوَجْهُ كونِهَا رَدًّا على المُشَبِّهَةِ المُمَثِّلَةِ النَّفْيُ الصريحُ بِأَنَّهُ ليسَ مثلَ اللهِ شيءٌ، وَوَجْهُ كونِهَا رَدًّا على أهلِ الإلحادِ والتعطيلِ أنَّ فيها نِسْبَةَ السمعِ والبصرِ إلى اللهِ حقيقةً، وذلكَ يَقْتَضِي اتِّصَافَ الباري بها، وإذا كانَ مُتَّصِفًا بها, وهي على ما يَلِيقُ بهِ فكذلكَ سائِرُ الصفاتِ.