المسألة الثالثة:
قال في ذكر خلق الجنة والنار: "خلق الجنة والنار قبل الخلق" وهذا مأخذه قول الله جل وعلا: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} , وهذه الجنة معناه أنها موجودة بعد أن نفخ الروح في آدم , وهذا يعني أنها تقدمت قبل خلق آدم.
وهذه الجنة التي سكنها آدم للعلماء فيها أقوال , أشهرها أنها جنة مخلوقة في الأرض، الثاني.. وليست بجنة الخلد، والثاني: أنها الجنة المعروفة دار الكرامة عند رب العالمين , ويرجح جماعة منهم ابن القيم , وكثير من المفسرين من المعتزلة ومن أهل السنة , أن الجنة هذه ليست هي جنة الخلد , ولهم في ذلك أدلة طول عليها ابن القيم في أول مفتاح دار السعادة بأكثر من أربعين صحيفة في ذكر هذه المسألة.
والصحيح أن الجنة هي الجنة المعهودة لأسباب كثيرة وأدلة من القرآن , ومن السنة من أعظمها قوله جل وعلا في وصف الجنة: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى...} إلى آخر الآيات.
هذه الصفات {إن لك فيها...}إلى آخره , وهذه ليست مناسبة للأرض؛ فالأرض وإن كان فيها مكان مرتفع جنة إلى آخره، مختلف عن بقية الأرض , فلا يوصف من فيه بهذه الصفات , أنه لا يظمأ ولا يضحى يعني ما يأتيه شمس فيها ولا يجوع ولا يعرى ونحو ذلك من الصفات , فهذه صفات تدل على أن المكان مغاير للأرض , ومن الأدلة أن الله جل وعلا قال في ذكرها لما عصى آدم:{اهبط منها} وهذا الإهباط والخروج يقتضي أن يكون من جهة عالية , والمكان الذي هو من جنسه , وإنه وإن هبط منه فإنه ليس خارجاً إلى غيره , بل هو منه إلى جنسه , ولا تحصل العقوبة بالإهباط , وإنما العقوبة بالإخراج , والله جل وعلا جعل في القرآن هذا , وهذا الإخراج والإهباط إلى أدلة أخرى معروفة.
المقصود أن قوله: "خلق الجنة والنار قبل الخلق" الجنة واحدة هي معروفة , وكل الأدلة التي فيها ذكر الجنة الغيبية فهي دار الكرامة التي أعدها الله لعباده , قال "وخلق لهما أهلا" , "خلق لهما أهلا" يعني به قبل خلق السماوات والأرض؛فإن الله جل وعلا كتب أنه سيخلق هؤلاء وهؤلاء , وأن الجنة لها أهلها , وأن النار لها أهلها , ولما خلق آدم أيضا نشر ذريته من ظهره , ثم قبض قبضة فقال: هؤلاء إلى الجنة , وقبض أخرى فقال: هؤلاء إلى النار.
فالله جل وعلا خلق الجنة وجعل لها أهلاً سيدخلونها , فضلاً منه وتكرما , وخلق النار وجعل لها من يملؤها , عدلاً منه وحكمة.
ولهذا قال بعدها: "فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه , ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه" ,
وهنا مسألتان:
الأولى:
الفضل هو الإكرام , والله جل وعلا علق دخول الجنة بالعمل الصالح:{ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} , وعلق دخول النار بالعمل السيئ وبالكسب السيئ:{جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون} ونحو ذلك من الآيات , وهذه الباء في المقامين هي باء السبب؛
فإن الله جل وعلا جعل الأعمال الصالحة وأعظمها التوحيد سبباًَ في دخول الجنة , وجعل الأعمال السيئة وأعظمها الشرك بالله سببا لدخول النار , ولكن هذا السبب ليس كافياً في تحقيق المراد , بل لا أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله جل وعلا , لهذا صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((لن يدخل أحدكم عمله الجنة)) , قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟قال: ((ولا أنا , إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)).
فدل على أن أصل دخول الجنة برحمة الله وفضله؛وذلك لأن الفضل هنا هو الامتنان , الفضل هنا هو الإعطاء والإكرام.
والأعمال وإن كان للعبد فيها أجور , فلو قوبلت بالنعم لصارت القسمة , أو لصار الشأن واضحاًً في أن العبد قوبلت أعماله بالنعم التي كرمه الله جل وعلا بها , وأيضا لو نظرت إلى أن العمل الصالح أصلاً ما كان من العبد إلا بإعانة وتوفيق من الله جل وعلا , فأصلا نشوء العمل الصالح هو بفضل من الله , وهدى من الله, وإعانة وتوفيق , فما يكون ناشئا عن ما يكون نتيجة فلا بد أنه فضل أيضا من الله جل وعلا.
والمسألة الثانية:
العدل، العدل معناه أن يعامل المرء بما يستحقه دون تفضل عليه ,
يعني: أن ينظر ويناقش الحساب , ويعطى ما يستحق , وأهل النار دخلوا النار بما يستحقون عدلاً من الله جل وعلا؛لأنه سبحانه لما علم بما في صدورهم لم يعنهم إعانة خاصة , ولم يوفقهم للعمل الصالح , بل خذلهم ,
يعني: لم يوفقهم , ترك إعانتهم على أنفسهم , فوكلوا إلى أنفسهم , وهذا عدل أن تعمل بما لديك وبما عندك من الاستعدادات والآلات... إلى أخره.
ولهذا قال الله جل وعلا في بيان منته على أهل الإيمان:{ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} , فدل على أن الله جلا وعلا منّ على هؤلاء بشيء , ولم يتفضل على أولئك , بل عاملهم بالعدل؛وذلك بسبب أن هؤلاء في قلوبهم الخير , وهم يريدونه , وأقبلوا عليه , وأولئك لا يريدون الخير ولا يحبون سماعه , ولم يريدوا الاهتداء أصلاً , فعاملهم الله جل وعلا بعدله , قال جل وعلا: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرههم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم} الآية , فقوله:{إن الذين كفروا} يعني: أن الكفر وجد منهم , الكفر أصلا في قلوبهم , ولهذا قال في آية النساء: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها...} الآية.
فدل هذا على أن المعاملة بالعدل , أن يوكل إلى نفسه , وهو أصلاً لم يعن ويتفضل عليه؛لأنه لم يسع إلى الخير , لم يوفق؛لأنه لم يسع , وفي قلبه حب للشر , ونوع بغض للخير , فلذلك لم يعنه الله جل وعلا على نفسه.
قال بعدها: "وكل يعمل لما قد فرغ له , وصائر إلى ما خلق له" يعني: أن من خلقهم الله جل وعلا كل يعمل لما كتب في الكتاب , أنه سيؤول إليه , فإن الله جل وعلا عالم بما العباد يفعلون إذا خلقهم , فهذا سيفعل الخير على تفاصيله فكتب عليه ذلك , وهذا سيعمل الشر على تفاصيله فكتب عليه ذلك , وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام:((اعملوا فكل ميسر لما قد خلق له)) يعني: أن الله جل وعلا خلق الجنة وخلق لها أهلاً , وهذا سيعمل حتى يصل إلى ما خلقه الله جل وعلا له , وخلق النار... إلى آخره.
وهذا سيأتي مزيد بيان له في القدر في المسائل القريبة إِنْ شَاءَ اللَّهُ الله تعالى.
قال: "والخير والشر مقدران على العباد" يعني: أن ما يفعله العبد من الخير أو يفعله من السوء فهو لم يحصل ابتداء منه دون قدر سابق , بل الله جل وعلا قدر عليه ذلك , ومعنى قدر عليه ذلك أي: أنه سبحانه علم ذلك منه , وكتبه عليه , وأنه أعانه بالأدوات والقدرة والإرادة, بحيث فعل الخير وفعل الشر , ما شاء الله كان , وقع الخير ووقع الشر بمشيئته , وهو سبحانه خالق كل شيء.
وذكره هنا بأن الخير والشر مقدران؛لأجل قوله عليه الصلاة والسلام في جوابه لجبريل ((وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)) , والثاني: لأن الفرق في مسألة القدر والخير والشر , وأفعال العباد , ونحو ذلك طرفان: الفرق المخالفة الطرف الأول الجبرية , والطرف الثاني القدرية والجبرية ,
يقولون: العبد مجبر على كل شيء , فهو كالريشة في مهب الريح , وكحركة الأمعاء في داخل البطن , ليس له فيها اختيار؛بل هو يجري كما يشاء الله جل وعلا , دون أن يكون العبد مختاراً للخير أو مختارا للشر , ويقابلهم القدرية بقولهم: الخير والشر ليسا مقدرين , بل العبد يعملهما , وهما عمل العبد وخلق العبد لفعله , والله جل وعلا يحاسب الناس على ما فعلوا , ليس الخير خلقا له في فعل العبد , وليس الشر خلقاً له في فعل العبد , ولم يقدرهما على العباد فعلاً وتركا؛وذلك لأنه عندهم ينافي العدل الواجب فيما قاسوا به أفعال الله جل وعلا , على أفعال قاسوا فيه أفعال العباد على أفعال الله جل وعلا نذكر عدة مسائل هنا:
الأولى: أن الخير والشر المقدرين على العباد يعني بهما ما يصيب العبد من خير ومن شر عليه , أما في فعل الله جل وعلا فليس في أفعاله سبحانه إلا الخير , كما قال عليه الصلاة والسلام في دعائه في صلاته: ((والشر ليس إليك)) , يعني: أن أفعال الله جل وعلا لا توصف بالشر؛بل كلها عدل أو فضل وخير بما فيها من الغايات المحمودة , لكن ما يضاف للعبد يكون شراً بالنسبة له , لكن بالنسبة للقدر هو خير يعني مثلاً مصيبة أصيب فلان بفقد والده , أصيب , أصيب بفقد ماله , هو بالنسبة له سوء وشر , لكن بالنسبة إلى القدر وفعل الله جل وعلا هو خير؛لأنه لا ينظر إلى المسألة بمجردها؛بل إلى الغاية المحمودة من ورائها , والغاية المحمودة من ورائها أن يبتلي العباد بذلك , يبتلي الحي ولا يبتلى الميت {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.
فإذن أفعال الله جل وعلا كلها خير , وأما ما يضاف إلى العبد فينقسم إلى الخير والشر , فقوله: "والخير والشر مقدران على العباد" يعني: الخير والشر الذي يحصل للعبد مقدر.
المسألة الثانية:
القدر هنا في قوله: "مقدران على العباد" يعني: أنهما لم يقعا استئنافاً , بل الله جل وعلا يعلم ما سيحصل على العبد, وكتب ذلك , وذكرت لك أن الفرق المخالفة في هذه المسألة في القدر ترى أنها طرفان , الجبرية والجبرية صنفان: جبرية غلاة وهم الجهمية الذين يقولون: الله جل وعلا يجبر العبد على كل شيء , وعلى الخير , على الشر , وإنما هو كالريشة في مهب الريح... إلى آخره، ويستدلون على ذلك بقوله جل وعلا: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} يقولون: إن الذي رمى في الحقيقة هو الله جل وعلا , ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ما رمى.وهذا قول الغلاة منهم غلاة الجبرية.
ويرد عليهم في هذا الاستدلال على وجه الاختصار بجوابين:
الأول: أن الله جل وعلا قال: {وما رميت إذ رميت} يعني: حين رميت فإن الله جل وعلا هو الذي رمى , وظاهر الآية كما هو واضح أنه أثبت للنبي صلى الله عليه وسلم رمياً فقال:{إذ رميت} ونفى عنه رمياً بقوله:{وما رميت} والنظر الصحيح يدل على أنه لابد من الجمع ما بين الرمي المنفي والرمي المثبت , وهذا يتضح بأن العبد إذا فعل الفعل فإن الفعل الذي يفعله سبب في حدوث المسبب , ولا يحصل المسبب , لا تحصل النتيجة بفعل العبد وحده في أكثر أو في جل المسائل , بل لابد من إعانة من الله جل وعلا , وهذا ظاهر في الرمي بخصوصه؛لأن الرمي عن بعد له ابتداء وله انتهاء , فابتداء الرمي من النبي عليه الصلاة والسلام , لكن الانتهاء بأن يصيب رمي النبل أو رمي الحصاة , أن يصيب فلاناً مشركا ويموت منه , هذا من الله جل وعلا؛لأن العبد ما يملك أن تكون رميته ماضية فتصيب.
ولهذا فيكون العبد هنا متخلصاً من رؤيته لنفسه ومن حوله وقوته مع فعله , فأراد جل وعلا أن يعلم نبيه والمؤمنين , أن يتخلصوا من إعجابهم ورؤيتهم لأفعالهم وأنفسهم فقال: افعلوا , ولكن الذي يمن عليكم ويسدد رميكم هو الله جل جلاله ,فيكون إذن معنى أصاب: أعان على التسديد.
الجواب الثاني: أنه لو قيل: إن.. على قول الجبرية: إن الله هو الذي يفعل الأشياء.لكان تقدير الآية كما قاله جماعة أن يقال: في كل فعل فعله العبد ما فعله , ولكن الله فعله , كأن تقول: ما صليت إذ صليت ولكن الله صلى , وما زكيت إذ زكيت ولكن الله زكى، وما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى... وهكذا في الأعمال القبيحة المشينة التي ينزه الله جل وعلا عنها بالإجماع كقول القائل (أعوذ بالله): وما سرقت إذ سرقت ولكن الله سرق، وما زنيت إذا زنيت ولكن الله... إلى آخره، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
والقول إذا كان يلزم منه اللازم الباطل يدل على فساده وعدم اعتباره؛لأن القول الحقيق , القول الصحيح قول الحق لا يلزم منه لوازم باطلة , والقول الباطل هو الذي ينشأ عنه لوازم باطلة , ما الفرق بين هذه وهذه؟الفرقة الثانية من الجبرية هم الجبرية المتوسطة , والجبرية المتوسطة أو (اللي) يعني الذين هم ليسوا بالغلاة هم الذين يتوسطون , فيقولون: العبد مجبور باطنا , لكنه في الظاهر مختار , يعني ظاهراً هو يختار يمشي ويروح ويأتي المسجد , ويذهب إلى المكان الثاني باختياره , لكنه في الباطن مجبر. وهذا قول كثير من أهل الكلام والأشاعرة والماتريدية , وجماعة ممن ينحون هذا المنحى , بأن الإنسان مجبور , لكنه في الظاهر ليس بمجبور.
وإذا كان كذلك فإنهم يجعلون أفعال الإنسان له , ولكنها عديمة الفائدة لا معنى لها , هؤلاء هم الذين يقال عنهم: نفاة الأسباب , يعني يقولون: إن الإنسان جامع زوجته فحملت يقولون: لم يحدث الحمل بالجماع , إذن كيف حدث الحمل؟يقولون: أحدث الله الحمل عند التقاء الرجل بالمرأة , لكن إن ماء الرجل يلتقي بماء المرأة أو بويضة المرأة ويحدث منها حمل بما أجرى الله الأسباب عليه فينفون ذلك , ويطردون هذا في كل شيء , يقولون: إن فعل الإنسان فيما يفعله كحركة السكين في قطعها للورق أو قطعها للخبز أو قطعها لما تقطع فيقولون بالتمثيل: إن الله هو الذي كأنه يحمل السكين والسكين تتحرك , هي التي تقطع , لكن في الواقع هي مجبورة على القطع , وإن كانت ظاهراً تتحرك وقطعت.
وهذا القول وهو قول هؤلاء مع زعمهم أنهم عقلاء , وأنهم متكلمون , وأنهم فلاسفة... إلى آخره , هؤلاء قولهم هذا ينفيه العقل البسيط , فضلاً عن العقل الرصين , وأحدثوا قولاً على هذا يسمى الكسب , سيأتي بيانه في موضعه , فالماء عندهم لم ينبت الأرض , الله جل وعلا يقول:{فأنبتنا به جنات وحب الحصيد} يعني أنبتنا (بإيش؟) بالماء , أنبتنا به جنات وحب الحصيد، يعني: أن النبات خرج (بإيش؟) بالماء , الماء سبب , والتراب سبب , لكن هل هذا يعني أن الله لم يفعل؟لم يخلق؟لم ينم؟ لا , الجماع سبب , الباء معناها أن الله لم يفعل؟ لا.
فإذن إثبات الأسباب هو سبيل العقلاء في أن السبب ينتج عنه المسبب , وأن الشيء تنتج عنه نتيجته , الفعل ينتج عنه نتيجته , الأثر يقتضي أن يوجد مؤثر , وهكذا , فإذا صار هنا هواء بارد لابد أن فيه مصدر , لهذا الهواء البارد الذي يأتينا يقول هؤلاء من الأشاعرة ونحوهم من نفاة الأسباب يقولون: لا , الهواء أرسله الله جل وعلا عند تشغيل الجهاز , وهذا مما يقتضي العقل أن ينفيه؛لأنه غير مطابق للعقل أصلاً , وهؤلاء تجد ذكرهم في كثير من كتب أهل العلم بعنوان: نفاة الأسباب , نفاة الأسباب , إذا قيل لك: نفاة الأسباب يعني الجبرية المتوسطة من الأشاعرة ونحوهم , عمل العبد بين فعل الله جل وعلا؛لأنهم يقولون بخلق الله للأفعال , وبين الفعل العبد الحاصل يسمونه كسباً.
ويأتي عند قوله: "وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد" الفرقة الثانية هم القدرية , والقدرية أيضا صنفان: قدرية غلاة , وهم الذين ينكرون علم الله السابق , ويقولون: الأمر مستأنف جديد , الخير والشر مقدر؟ لا , إنما هو مستأنف جديد , لا يعلم الله الخير حتى يقع , ولا يعلم الشر حتى يقع , تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً , وكان الله بكل شيء عليما سبحانه وتعالى , فهؤلاء هم الذين صاح بهم السلف وكفروهم , وقال فيهم الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم , فإن أقروا به خصموا , وإن أنكروا العلم , يعني علم الله جل وعلا (إيش؟) كفروا.
هؤلاء فرقة كانت موجودة وانتهت.
الفرقة الثانية: المعتزلة وأشباه المعتزلة , وهم الذين يسمون القدرية , وهم الذين يقولون: إن الإنسان يخلق فعل نفسه , وأن الله جل وعلا لا يضاف إليه خلقا كل ما هو سيئ , لا يضاف إليه خلقا الشر ولا القتل... ولا إلى آخره , ويقولون أيضا: إن فعل العبد واستطاعة العبد وقدرة العبد هذه ليس لله جل وعلا فيها مأخذ , بل قدرة المطيع وقدرة العاصي , وقدرة المؤمن وقدرة الكافر , إرادة المؤمن , إرادة الكافر للعمل واحد.
وهذا الأصل الذي قالوه وذهبوا إليه؛لأجل شبهة عندهم وضلال عندهم , وهو أنهم قالوا: إن العدل يوجب على الله جل وعلا أن يساوي بين العباد , والظلم بالتفريق ما بين هذا وهذا , ما بين المؤمن والكافر , المطيع والعاصي , هذا ظلم , فحكموا عقولهم وآراءهم في فعل الله جل وعلا , وفي تصرفه وصفاته جل وعلا , والله سبحانه وتعالى يقول: {فعال لما يريد} , ويقول جل وعلا:{لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} , وقوله: {لا يسأل عما يفعل} لجهتين:
الأولى: أن الله جل وعلا له التصرف في ملكه كيف يشاء.
والجهة الثانية: أن الله جل وعلا له الحكمة البالغة فيما يفعل , وفيما يجريه في ملكوته ويشاء , والعباد قاصرون عن معرفة الحكم في أنفسهم , فكيف بالحكم في أفعال الله جل وعلا وصفاته , وتصرفه في ملكوته؟!
وهؤلاء المعتزلة هم الذين يكثر رد الأشاعرة عليهم في مسائل القدر , وهم كالأشاعرة في مخالفة لما دلت عليه الأدلة.
الخلاصة أن هؤلاء وهؤلاء كل نزع بأدلة مختلفة , فهدى الله جل وعلا أهل السنة ومن عليهم بأنهم لم يفرقوا بين الكلم ولم يفرقوا بين الكتاب , بل أخذوا بكل الأدلة فقالوا بخلق الله جل وعلا لفعل العبد , وأن العبد يفعل حقيقة , وقالوا أيضا بأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء , فأعلموا كل النصوص , أعلموا كل النصوص والأدلة , وقالوا: {إن ربك فعال لما يريد} سبحانه وتعالى , لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه , ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن , جرى الأمر على ما يريده الرب جل جلاله , وتقدست أسماؤه , ثم أعملوا العقل الصحيح في أن الإنسان يحس من نفسه أنه مختار , يحس من نفسه أنه يذهب إلى الخير ويذهب إلى الشر , يذهب إلى الخير فينشرح صدره له , ويذهب إلى الشر , فيقتل ثم يندم وتعاقبه نفسه , وتؤنبه نفسه على ذلك , ففي الإنسان ما يحس به بأنه يختار ويختار , يختار الشر ويختار الخير , وهذه ضرورة في قلب كل أحد لا مفر منها , فالإنسان مختار لهذا ومختار لهذا.
ثم ثالثا يقال: إن أهل السنة نظروا إلى المسألة في قولهم في القدر , في أن الخير والشر مقدران على العباد , بأن من احتج على القدر فإنه يناقض نفسه , لماذا؟ لأنه كل من قال في القدر قولاً يقول مثلا: إن الله جل وعلا أعطاني.. إن الله جل وعلا كتب علي السيئات , وجعلني أفعل الشر وكذا , ثم يعذبني بالنار , لكنهم لا يتجاسرون أن يحكموا القضية المقابلة لذلك , وهي أن يقول القائل كذلك إذا جعلني أصلي , جعلني أطيع الله جل وعلا , وجعلني أفعل من الخيرات , فلماذا يثيبني؟
والمسألة هذه بمقابل هذه , فإذا كان قال القائل: كتب علي السيئات فلماذا يعذب؟ فكذلك لابد أن يقول: وكتب علي الخير فلماذا يثيب؟ والإنسان بطبيعته يهرب مما هو عليه , فلا يقر على نفسه بما فيه مصلحته بأن الخير الذي هو مصلحة له فيذهب ويسكت عنه؛
لأن فيه مصلحة له , لكن يأتي بما فيه مضرة عليه , أو بما فيه تبرير لفعله ليهرب من الواقع.
والحقيقة أن العقل الصحيح , وإدراك الإنسان لنفسه وفطرته وضرورياته يجد أنه يفعل الخير اختيارا , ويفعل الشر اختياراً , يفعل الخير فتنشرح نفسه له , ويفعل الشر فتنكره عليه؛لأنه مفطور على حب الخير وعلى كراهة الشر , فإذن اختياره دليل فطري في كل إنسان , مثل إحساس الإنسان , تحس بالشيء , الأعمى يحس ويقول: هذا كذا , ويستدل به ويكون متيقناً؛لأن دليله صار ضروريا , وكذلك يحس بالأمر الآخر فيكرهه لنفسه؛لأن دليله صار ضروريا.
نكتفي بهذا القدر [كلام ليس له فائدة علمية] وفقكم الله لما فيه رضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد. اقرأ , سم الله , اقرأ:
القارئ: بِسْمِ اللهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين , نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
قال العلامة الطحاوي رحمه الله تعالى:
والخير والشر مقدران على العباد , والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل , وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل , وبها يتعلق الخطاب , وهو كما قال تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} , وأفعال العباد خلق لله وكسب من العباد , ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون , ولا يطيقون إلا ما كلفهم , وهو تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله.
نقول: لا حيلة لأحد ولا حركة لأحد , ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله , ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله , وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره , غلبت مشيئته المشيئات كلها , وغلب قضاؤه الحيل كلها , يفعل ما يشاء , وهو غير ظالم أبدا تقدس عن كل سوء وحين , وتنزه عن كل عيب وشين , لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
الشيخ: بِسْمِ اللهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله حق حمده , وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما , أما بعد..,
مضى معنا طائفة من الكلام على الإيمان بقدر الله جل وعلا وشره , وأن الخير والشر مقدران من الله جل وعلا , فما يصيب العبد من خير فهو من الله جل وعلا تقديراً وتدبيراً , وما يصيب العبد من شر وسوء فإنه من الله جل وعلا تقديراً وتدبيراً , ومرمعنا مراتب الإيمان بالقدر , وما يتصل بهذا المبحث مما فيه تقرير لعقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألةالعظيمة التي أمر الله جل وعلا بالإيمان بها , والتسليم لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فيها.
ومر معنا أيضا أن القدر سر الله جل وعلا في خلقه , لم يعط حقيقته لملك مقرب , ولا لنبي مرسل , وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يعلم كل شيء , وهو جل وعلا الخالق لكل شيء , وهو سبحانه ذو الحكمة البالغة , لا يسأل عما يفعل وهم يسألون , ونحو ذلك من المباحث والموضوعات التي سبق الحديث عنها وسبق تقريرها على ما جاء في كتاب الله جل علا , وفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
ومبحث القدر من المباحث العظيمة في الملة؛ولأجل كونه سراً من أسرار الله جل وعلا , وإدراك كنهه , والحكمة, وإدراك كنهه وحكمة الله جل وعلا في عباده غير متحققة من كل وجه , فلذلك صار الخائض في القدر بلا دليل عرضة لمزلة القدر , بل لم يخض في القدر أحد بغير حجة وبرهان إلا وزلت قدمه وتنكب سواء الصراط ,
ولهذا ينبغي أن يتكلم في القدر بما جاء في النص دون زيادة؛لأنه أمر غيبي, ولا يمكن للعبد أن يخوض في الأمور الغيبية إلا مع الدليل , ودون الدليل فهو كالذي يسير في الظلمات , ليس بخارج منها.
والمخالفون في القدر كثيرون , ولهذا الطحاوي رحمه الله لم يرتب الكلام على مسائل القدر في موضع واحد؛حتى يمكن الناظر أن يبسط الكلام فيه بتقرير قول أهل السنة وقول المخالفين , وما يترتب على ذلك , بل فرق فأتى في آخر رسالته هذه بشيء من الكلام على القدر.
لكن من جهة النظر إلى خلاف المخالفين لهذا هذه الجمل التي معنا من قوله: "والخير والشر مقدران على العباد" إلى قوله: "وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات" هذه كلها لأجل خلاف المخالفين من الجبرية والقدرية.
وقبل أن نخوض في بيان كلامه , وما فيه من المسائل , نلخص شيئا من أسباب الضلال في القدر , والذي به خرج القدرية , سواء الغلاة أم المعتزلة أو الجبرية أو من ضل في مسألة أو في مسائل في هذا الباب:
السبب الأول: هو عدم الاقتصار , أو ترك الاقتصار على ما جاء في الكتاب والسنة من الواضحات المحكمات التي تبين حقيقة القدر , والأخذ بما فيهما من المتشابهات , وجعل ذلك أصلاً.
ومعلوم أن الواجب على العبد أن يأخذ بالمحكم , وأن يرد المتشابه إلى المحكم , قد أمر الله جل وعلا بذلك , وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم مرة على الصحابة وهم يتنازعون في القدر , كل ينزع إلى قوله بآية , فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان عليه الصلاة والسلام ,
يعني احمر وجهه عليه الصلاة والسلام؛وهذا لأجل أن الواجب على العباد أن يسلموا للمحكمات والأصول العامة , وأن يردوا المتشابه إلى المحكم على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم.
وبالتالي فإن كل تفسير لآيات القدر لم يكن معروفاً في زمن الصحابة رضوان الله عليهم , فإنه باطل وضلال؛لأنه من الأخذ بالمتشابه , وترك المحكم.
السبب الثاني والمنشأ الثاني للضلال في القدر: أن العباد لم يعرفوا حكمة الله جل وعلا في الأشياء , ولا حكمته فيما يقدر ويخلق من الخير ومن الشر , أو من المخلوقات بعامة , ولما لم يدركوا الحكمة فعارضوا فعل الله جل وعلا في ملكوته بما يرون من ظاهر رأيهم , فعارض الجاهل العالم واقتنع بجهله , فصار على شعبة ضلاله , ومعلوم أن حكمة الله جل وعلا في خلقه منها ما هو مدلل عليه , ومنها ما ليس بمعروف , ولذلك إذا جهلت الحكمة فإن المرء يسلم ولا يعترض.
الشيخ: في خلقه , منها ما هو مدلل عليه , ومنها ما ليس بمعروف.
ولذلك إذا جهلت الحكمة فإن المرء يسلم ولا يعترض, وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن سبب الضلال في القدر هو الجهل بحكمة الله فيما يخلق ويقدر , ثم الخوض في ذلك , قد لخصها شيخ الإسلام بقوله فيما ذكرته لكم مراراً في تائيته , حيث يقول:
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة هو الخوض في فعل الإله بعلة
فإنهم لم يفهموا حكمة له فصاروا على نوع من الجاهلية
وهذا حق؛ لأن حكمة الله غير معلومة , بل جعل الله جل وعلا مثالاً لمن جهل حكمته في أنه حرم العلم , في قصة موسى مع الخضر عليه السلام , وهذا ظاهر بين لمن يتأمل سورة الكهف , فإن موسى عليه السلام عارض الخضر بظاهر رأيه, والخضر يعمل على ما أمر الله جل وعلا بما يوافق حكمته , وهي الغاية المحمودة من وراء الأفعال , فلما عارض كان ممن لم يستطع صبرا , فحرم العلم {قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا}.
والسبب الثالث للضلال في القدر: هو قياس أفعال الله جل وعلا على أفعال العباد فيما هو من قبيل العدل والظلم , فنظروا إلى أفعال الرب جل وعلا , فجعلوا ما هو عدل في تصرفات البشر واجبًا وعدلاً في تصرفات الرب جل جلاله , وجعلوا ما هو ظلم من تصرفات البشر محرماً أو منفيا وظلماً في تصرف الرب جل جلاله , وهذا هو ضلال القدرية المعروف, حيث جعلوا العدل والظلم في تفسيرها في حق الله جل وعلا كتفسيرها في حق المخلوق , فقاسوا هذا على هذا , وضلوا في هذا الباب؛ لأن الخالق جل وعلا لا يقاس على المخلوق في أفعاله , وفي تدبيراته في ملكوته.
والسبب الرابع: إحداث ألفاظ ومصطلحات جعلت أصلاً في هذا الباب , ثم حمل الكتاب والسنة عليها , مثل لفظ الاستطاعة في تفسيرهم , والطاقة وما لا يطاق والتكاليف وأشباه ذلك , ومنها أيضا عند الجبرية الكسب ونحوه.
ومن المعلوم أن هذه الأمور الغيبية, كالقدر , الاصطلاح عليها بألفاظ وأسماء لمسميات لم يأت عليها برهان أنه يجعل المرء يؤصل ويقعد بشيء لا أساس له , ولهذا لما فهموا وظنوا من الشريعة أنه يقال: كذا مثلاً الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل , أو قالوا: الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل , كما سيأتي , أو قالوا: الكسب هو الاقتران , أو قالوا: كذا وكذا في تكليف ما لا يطاق , كما سيأتي الآن في هذا الموضع , فسروها بتفسيرات تخصهم , ولهذا ضلوا في أصل يجب الرجوع فيه إلى الدليل؛ لأن إحداث لفظ وإحداث مصطلح لا شك أنه سيترتب عليه أشياء كثيرة.
وسيأتي الكلام على الكسب مثلا , وهو أن الكسب مع وروده في الدليل في قوله مثلًا: {لها ما كسبت} ,{جزاء بما كانوا يكسبون} ونحو ذلك , مع ورود لفظ كسب يكسب والكسب , فإن تفسيرات تنوعت فيه وأحدثوا له فهما جديداً غير المراد في الكتاب والسنة , فصار ثم كسب عند الجبرية , وصار ثم كسب عند القدرية , وصار كسب عند أهل السنة , ولأجل أن هذا اللفظ في أصله , وإن كان واردًا , ولكن جعل مصطلحا على فكرة جديدة توافق ما هم عليه.
فإذن مسائل القدر المصطلحات الجديدة فيها هي سبب الافتراق فيه والضلال فيه , ولو ألغيت هذه المصطلحات , وبقي الناس على ما دل عليه الدليل , فإنه كثير من الخلاف فيه سيذهب , ولهذا عند النقاش والحوار مع المخالف في هذه المسائل , فيبحث معه أصلاً في اللفظ , وفي نشأته , ومن أين أتوا بهذه الألفاظ والتعريفات , لهذا العلم بالقرآن والسنة حجة على كل مخالف أحدث المصطلحات؛ لأن إحداث المصطلحات عقلي , واتباع الكتاب والسنة نقلي , ولهذا يغلب النقل العقل الحادث والمصطلح عليه في هذه المسائل.
الخامسة المسألة الخامسة: من الأسباب التي أنشأت الخلاف والفرقة في أبواب القدر ما يصلح أن يقرر بأن نقول: إن التساوي بين العباد في فعل الله جل وعلا , وادعاء أنهم سواء في كل شيء , يعني: فيما يفعل الله جل وعلا بهم هذا , مع كونه مخالفة , لكنه سبق مخالفة للدليل – لكنه نشأ عن تفريعات وأقوال جعلت الأقوال المخالفة في القدر كثيرة , أو أعيد صياغة هذا السبب بأن نقول: من أسباب ومنشأ الضلال في القدر الحكم على أفعال الله جل وعلا بأحكام من جهة النظر إلى الخلق , فجعلوا فعلا جل وعلا واجبا عليه بالنسبة للجميع , وجعلوا فعلاً لله جل وعلا ممتنعا عليه بالنسبة للجميع.
وسيأتي فيما سنذكر اليوم , إِنْ شَاءَ اللَّهُ , أن خلاف القدرية في مسألة الاستطاعة ناشئ عن أنهم قالوا: الواجب على الله جل وعلا أن يجعل الناس سواسية فيما يعطيهم , فكون هذا يوفق وهذا يخذل هذا غير سائغ؛ لأنه تفريق فإذا جعلنا الأصل هو: أن يكون الناس سواسية , فإن هذا قاعدة نبني عليها غيرها من مسائل القدر.
وهذا التقعيد أو هذه المقدمة نشأ عنها كثير من الخلاف خاصة عند المعتزلة , وبهذا نشأت أقوال كثيرة محدثة في القدر وخلاف متنوع في المسائل العقلية وما يجب على الرب جل وعلا وما لا يجوز عليه , وهذه تتضح أكثر ببحثنا في الاستطاعة إِنْ شَاءَ اللَّهُ... إذا تبين هذا , فالواجب إذن في مسائل الغيب بعامة ألا يتجاوز القرآن والحديث , وأن يسلم للدلالة , وإذا أشكل على المرء شيء فواجب عليه أن يقول: آمنا به كل من عند ربنا , كما يقول الراسخون في العلم مع أنهم يعلمون التأويل في كثير , لكن قد لا يعلمون التأويل في بعض , يعني: طائفة من الراسخين قد لا يعلمون ويعلمه غيرهم , فيقولون: آمنا به كل من عند ربنا , أما ضرب النصوص بعضها ببعض , أو الأخذ بالمتشابه وترك المحكمات , أو قياس أفعال الله جل وعلا على أفعال خلقه , ونحو ذلك من المسائل التي ذكرنا , أو الخوض في الحكم والمصطلحات , فإن هذا ينشئ الافتراق والضلال في هذا الباب؛ لأنه أمر غيبي بحت.
ولهذا ما أحسن قول من قال: القدر-قول علي رَضِي اللهُ عَنْهُ وقول غيره-:"القدر سر الله فلا تكشفه" يعني: لا تحاول كشفه , فإن من حاول كشفه لا شك أنه سيضل؛ لأنه سر من الأسرار اختص الله جل وعلا. هذه مقدمة للمسائل التي سيأتي بيانها إِنْ شَاءَ اللَّهُ.