رسالة تفسيرية في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
المجموعة الخامسة
منيرة محمد - مضاوي الهطلاني - عابدة المحمدي
▪ تفسير قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}:
هذه الآية الكريمة نزلت ضمن التشريعات العديدة التي نزلت في هذه السورة المباركة التي تعنى بإعداد الأمة لعمارة الأرض والقيام بدين الله،فقال تعالى ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ )) وقد بين سبحانه في الأية السابقة أن دخول الجنّة منوط بعد رحمة الله تعالى بالصبر على ما قد يصيب الإنسان من مكاره هذه الدنيا،وذكر بعدها الإنفاق على من ذكر، ليطهر النفس من الشّح والجشع، ناسب أن يأمر بعدها ببذل النفس التى هي أغلى مايملك في سبيله،وما ذاك إلا تربية له وإصلاحاً لحاله،وإظهاراً للحق ودحراً للباطل،وقد عرفنا أن هذا الأمر قد سبقه مراحل من التهيئة والتدرج فقد كان غير مأذون به في مكة،ثم أذن الله لرسوله في قتال من يقاتله من المشركين،ثمّ عمم قتالهم،بعدها أوجب الله الجهاد،فقال تعالى (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ)) وفي هذا تعليماً لنابالتدرج في الأمور
- وللعلماء فيها أقوال:،فمنهم من يرى وجوبه على الكلّ كلّ فرد بعينه،وذلك من دلالة لفظة الآية،وذكر عطاء أنه يكفي العمل به مرةً واحدة، ومنهم من قال أن هذا الوجوب خاصٌ بأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم،ويعارض هذا القول كما ذكر "القرطبي" قوله تعالى : ( كتب عليكم القصاص )وقوله ( كتب عليكم الصيام ) .
- القول الثاني: أنه من فروض الكفايات ، إلا أن يدخل الكفار ديار المسلمين فإنه يتعين عندها على الكلّ،وهذا القول هو الذي عليه جمهور الأمة،ويشهد له كما ذكر "القرطبي " قوله تعالى ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) وقوله تعالى في سورة الحديد :( وكلا وعد الله الحسنى ) فلو كان القاعد مضيعا فرضا ما كان وعده الله بالحسنى ، إلا إن كان قد اسقطه عن نفسه بسبب قيام البعض به،فهذا يخشى أن يشمله ما ورد في الحديث الصّحيح "من مات ولم يغز، ولم يحدّث نفسه بغزوٍ مات ميتةً جاهليّةً". وقال عليه السّلام يوم الفتح: "لا هجرة، ولكن جهادٌ ونيّة، إذا استنفرتم فانفروا"
- وقوله تعالى:((وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ )) وقرئت بالفتح ،وقال "الزّجاج" كل ما في كتاب الله عزّ وجلّ من الكره فالفتح جائز فيه، إلا هذا الحرف فقد ذكر أبو عبيدة- أن الناس مجمعون على ضمه، والمعنى ذو كره - تنفر منه النفوس وشديداً عليها بجبلة الطبع، وإن علمت أن أمر الله لا يكون به إلا الخير والصلاح، وذلك لما فيه من المشقة البالغة والتعرض للقتل،ومن هنا نلحظ أن دين الإسلام يلامس الفطرة البشرية ولا يصادمها،بل يسعى إلى النهوض بها وتزكيتها وربطها بالعليم الخبير الذي يقدر عن علم ولطّف ....
- وقوله (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ..)
(عَسَى) منهم من قال أن الأولى للإشفاق والثانية للترجي ،وذكر الشيخ "ابن عثيمين" رحمه الله تعالى
أنها هنا تأتي للتوقع ،أوللترجية- لا للترجي - لأن الله عز وجل لا يترجى، كل شيئ عنده هين ، والمعنى أنه يريد من المخاطب أن يرجو هذا،أي افعلوا ما أمركم به عسى أن يكون خيراً،...
ونلحظ أنه عز وجل مثل لنا بأشد ما يكون على العبد وهو بذل نفسه في سبيل الله ليكون مادونه أولى بهذا
فما على العبد إلا الرضا والتسليم والإنقياد سواءً علم الحكمة من ذلك أم غابت عنه وذلك ليقينه بحكمته وسعة علمه ولطفه بعبده،فتحصل عندها الطمأنينة في النفس والسكينة للقلب وتقديم محاب الله على شهوات نفسه...
والمقصود من الآية تعليم العبد تلقي أمر الله بالإذعان والقبول واعتقادأنهاالخير والصلاح،وأن لم تتبين له صفته،لأنه هو العليم بما فيه صلاحه وحسن عاقبة أمره ...
وليست الآية كما ذكر السعدي - حصراً على القتال وحده بل هي شاملة لكلّ ما تحب النفس من أفعال الشّر لما تتوهمه من الرّاحة فيها،وما تكرهه من أفعال الخير لما تجده من المشقة فيها .
....... ..... .................................................
.
قوله تعالى :{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}البقرة[217]
مناسبة الآية
لما نزل الأمر بوجوب جهاد العدو و قتاله ، وهو أمر شديد وشاق ،كما قال تعالى{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }البقرة[216]
ثم جاءت هذه الآية، قوله تعالى :{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ }الآية البقرة[217] بعدها لتبين الجرم الكبير والأمر العظيم الذي، يستحق أن تبذل المهج وتزهق الأنفس وتنفق الأموال والأرواح ،في سبيله وهو القضاء على الكفر وأهله ، ونشر التوحيد ،وإعلاءه في الأرض، ليكون الدين كله لله ،فكتب الله أن يقتل مسلم مشركا في الشهر الحرام ،ليثير ويهيج الناس ليستشعروا عظم هذا الفعل وكبر هذا الجرم وهو القتل في الشهر الحرام مما جعلهم يسألون عن حكم هذا الفعل فردّ الله عليهم في الآية ليبين ماهو أكبر جرماً واعظم ذنباً منه عنده،
سبب نزول الآية
-قيل : أن رسول صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليها عبدالله بن جحش الأسدي ، مقدمه من بدر الأولى، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل المخزوميان والحكم بن كيسان في آخر يوم من رجب على ما ذكر ابن إسحاق، وفي آخر يوم من جمادى الآخرة على ما ذكره الطبري عن السدي وغيره. والأول أشهر قاله ابن عطية، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذاك كان في أول ليلة من رجب والمسلمون يظنونها من جمادى، وأن القتل في الشهر الحرام لم يقصدوه، وأما على قول ابن إسحاق فإنهم قالوا إن تركناهم اليوم دخلوا الحرم فأزمعوا قتالهم، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسر عثمان بن عبد الله والحكم، وفر نوفل فأعجزهم، واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام خوف فوتهم، فقالت قريش: محمد قد استحل الأشهر الحرم، وعيروا بذلك، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم، فنزلت هذه الآية. ذكر ذلك ابن عطية وابن كثير رحمهما الله.
-وقال العوفي عن ابن عباس: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردوه عن المسجد في شهر حرام، قال: ففتح الله على نبيّه في شهر حرام من العام المقبل، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام، فقال الله تعالى: { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ } من القتال فيه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا (عمرو بن الحضرمي) وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب، وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه، وأن المشركين أرسلوا يعيِّرونه بذلك، فقال الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، والشرك أشد منه. ذكره ابن كثير وقال:وهكذا روى أبو سعد البقال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنها أنزلت في سرية عبد الله بن جحش ، وقتل عمرو بن الحضرمي .
-وقيل :أن سبب هذه الآية أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من بني كلاب في رجب فنزلت، ذكره المهدوي
قال ابن عطية : وهذا تخليط من المهدوي. وصاحبا عمرو كان عندهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو قد أفلت من قصة بئر معونة.
-أثر هذه الحادثة على الناس
هيّجت هذه الحادثة الناس ،سواء المسلمين أو المشركين أو اليهود ،فأما أصحاب القصة من المسلمين ،فأسقط في أيديهم وظنوا أنهم قد هلكوا، لما قال لهم رسول صلى الله عليه وسلم :"ما أمرتكم بقتالٍ في الشهر الحرام "
فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.،وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا،
وأما يهود فقالت: تفاءل بذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: عمرو بن الحضرميّ قتله واقد بن عبد اللّه: عمرٌو: عمرت الحرب، والحضرميّ: حضرت الحرب، وواقد بن عبد اللّه: وقدت الحرب. فجعل اللّه عليهم ذلك لا لهم. ذكره ابن كثير
وأما المشركين فقد قالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال.فركب وفدٌ من كفّار قريشٍ حتّى قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة فقالوا: أيحلّ القتال في الشّهر الحرام؟ فأنزل اللّه: {يسألونك عن الشّهر الحرام [قتالٍ فيه]} الآية. وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ في كتاب "دلائل النّبوّة".ذكره ابن كثير
قوله تعالى :{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}البقرة[217]
القراءات :
-وردت في مصحف عبد الله بن مسعود «يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه» بتكرير عن، وكذلك قرأها الربيع والأعمش،
-وقرأ عكرمة «عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل» دون ألف فيهما،
نسخ الآية:
وقال الزهري ومجاهد وغيرهما: قوله {قل قتالٌ فيه كبيرٌ} منسوخ بقوله {وقاتلوا المشركين كافّةً} [التوبة: 36]، وبقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5].
وقال عطاء: «لم تنسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم»، ذكره ابن عطية وقال وهذا ضعيف .
المراد بسؤالهم عن الشهر الحرام :
أي عن القتال في الشهر الحرام ، لأن العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام ،قواما تعتدل عنده، فكانت لاتغير فيه على أحد ولا تسفك الدماء في الأشهر الحرم ،وهي الأربعة التي ذكرها الله في كتابة (ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب )
وقوله :{قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ}
المسائل اللغوية
{قتال} مرتفع بالابتداء، و {كبير} خبره،
-معنى {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ}
أي : قتال عظيم ، أي لا يحل ، ولكن ما صنعتم أيها المشركون أكبر من القتل في الشهر الحرام.
قوله تعالى :{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ۚ}
-مسائل لغوية:
-وصد : مبتدأ مقطوع مما قبله ، وخبره {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ۚ} و{ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } معطوف على {سَبِيلِ اللَّهِ}
والمعنى : ثم عدد الله صنائعهم و أفعالهم التي أكبر من القتل في الشهر الحرام ،فقال :وصد عن سبيل اللّه، وكفر به، وإخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند اللّه، أي: أعظم إثما وجرماً.
-وقال الفراء: {صدٌّ }عطف على {كبيرٌ.}
وخطأه ابن عطية لأن هذا القول يلزم منه أن يكون {وَكُفْرٌ بِهِ } عطف على {كبيرٌ.} فيكون المعنى : أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بين فساده.
ومعنى الآية :
إنكم ياكفار قريش تعيبون علينا وتستعظون القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلونه من الصد عن دين الله لمن أراد الدخول فيه ، ومن كفركم بالله و إخراج أهل المسجد عنه ، وكما فعلوا بالرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه بإخراجهم من مكة ، أكبر وأعظم جرما وإثماً عند الله من القتل في الشهر الحرام. ثم أضاف لأفعالهم وجرائمهم جريمة أخرى .
فقال:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ}
المراد بالفتنة في الآية:
اختلف في المراد بالفتنة هنا على أقوال وهي:
-قيل: الفتنة التي تفتنون بها المسلمين عن دينهم ،حتى تردوهم إلى الكفر بعد إيمانهم.قاله جمهور المفسرين ،ذكره ابن عطية وابن كثير
-وقيل:أي فعلكم بكل إنسان بفتنته أشد من فعلنا . ذكره ابن عطية
-وقيل : هذه الأشياء كفر ،والكفر أكبر من القتل. قاله الزجاج
-وقيل :الفتنة هنا الكفر أي كفركم أشد من قتل أولئك ،قاله مجاهد وغيره ذكره الزجاج وابن عطية.
-دلالة قوله:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ}
فدل ذلك على عظم وشدة كفرهم وفتنتهم للناس بصدهم عن دينهم أو بإخراجهم منه كلها أشد وأعظم من القتل
قال تعالى:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ}
-المقصود من الآية:
قال ابن عطية :في هذه الآية : خبر من الله وتحذير منه للمؤمنين من كيد الكفار .
بعد أن بين الله عظم جريمة الكفر وعظم ما صنعه الكفار بالمؤمنين عنده ،
بين شدة عداوة الكفار للمؤمنين ، ومداومتهم على عدواتهم، تحذيرا لهم منهم ،وتهييج للمسلمين لجهادهم وقتالهم وقطع دابرهم قبل أن يحققوا مطامعهم ،ويفتنوهم عن دينهم ،فخير البرية محمد صلى الله عليه وسلم لولا تثبيت الله له لكادوا أن يفتنوه ،فكيف بمن هو دونه ،وكيف بضعيف الإيمان ،
قال تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [73]وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قليلاً}[74]الإسراء
فهم يداومون على إيذاء المؤمنين ،ليفتنوهم عن دينهم ،ويرجعونهم إلى الكفر ،ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فعداوتهم لا تنقطع ،بمرور الأزمان وتعاقب الليالي و الأيام ،فغايتهم وأهدافهم منصبة على السعي لرد المسلمين كفارا ،فعلى المسلمين أن يأخذوا حذرهم ولا يأمنوا جانب الكفار مهما ألانوا جانبهم وأظهروا محبتهم وموالاتهم فهم العدو فاحذرهم ،
-دلالة قوله {إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ}
يدل على استبعاد استطاعتهم رد المسلمين عن دينهم ،قاله الزمخشري. وهذا الاستبعاد لمن وَقرَ الإيمان في قلبه وخالطه بشاشته ،ويدل على ذلك ،قول هرقل لأبي سفيان :(وسألتك: هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه , فزعمت أن لا , فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد) رواه البخاري
وإما ضعيف الإيمان ،ومن كان يعبد الله على حرف ،فإنه لا يأمن الفتنة والنكوص على عقبيه ،ومن فعل ذلك فله الجزاء العظيم في الدنيا والآخرة ،
قال تعالى :{ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قوله:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}
-القراءات
{يَرْتَدِدْ} بفك التضعيف فيرتدد جزم بالشرط، والتضعيف يظهر مع الجزم، لسكون الحرف الثاني - وهو أكثر في اللغة -
وفي هذا الموضع لا يجوز فيه إلا {من يرتدد }لإطباق أهل الأمصار على إظهار التضعيف وكذلك هو في مصاحفهم، والقراءة سنة لا تخالف، إذا كان في كل المصحف الحرف على صورة لم تجز القراءة بغيره.
وقرئ: {يا أيها الذين امنوا من يرتدّ} بالإدغام والفتح وهي قراءة الناس إلا أهل المدينة فإن في مصحفهم من يرتدد وكلاهما صواب.
ويجوز أن تقول: من يرتدّ منكم فتكسر لالتقاء السّاكنين إلا أن الفتح أجود لانفتاح التاء، وإطباق القراء عليه). ذكره الزجاج
-معنى{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}
أي من يرجع عن دين الإسلام إلى الكفر .
{فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ }
-القراءات
قرأ أبو السماك {حبٓطٓت}بفتح الباء في جميع القرآن.
-معنى : حبط العمل
إذا انفسد في آخر فبطل . قاله ابن عطية.
-عظم ذنب الكفر
وبهذا يتبين أن ذكر هذه الآية بعد فرض الجهاد وإيجابه على المسلمين ،ليبين أهمية الجهاد ،لأن أعظم الذنوب الكفر بالله والشرك قال تعالى : {إن الشرك لظلم عظيم } والجهاد هو للقضاء على الكفر ونشر التوحيد.
والشرك هو الذنب الذي لا يغفر لصاحبه إن مات عليه ،إما القاتل فهو تحت المشيئة ،قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}النساء[116]
-جزاء من مات مرتداً
وممايدل على عظم جرم الكفر بالله ،أنه من إرتد عن دينه ،ومات كافراً ،فإنه يحبط جميع عمله ، هذا جزاء الآخرة ،
-جزاء المرتد في الدنيا
أما في الدنيا فقد ذكر الفقهاء أحكام للمرتد منها :
-استتابة المرتد :
اختلف العلماء في استتابة المرتد على أقوال:
-قيل : يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل.قالته طائفة من العلماء
-وقيل :يقتل دون أن يستتاب ،قاله عبيد بن عمير وطاوس والحسن- على خلاف عنه- والشافعي في أحد قوليه: ، وروي نحو هذا عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل.
ووجه قولهم ابن عطية فقال : ومقتضى قولهما إنه يقال له للحين: راجع، فإن أبى ذلك قتل،
-وقيل : «إن كان المرتد ابن مسلمين قتل دون استتابة وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب»، قاله عطاء ابن أبي رباح وذلك لأنه يجهل من فضل الإسلام ما لا يجهل ابن المسلمين، ذكر هذه الأقوال ابن عطية رحمه الله
واختلف القائلون بالاستتابة:
-قيل :يستتاب ثلاثة أيام. قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه.
-وقيل : «يدعى إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل».قاله الزهري
-وروي عن علي أبي طالب رضي الله عنه أنه استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله،
قيل : يستتاب محبوسا أبدا، قاله النخعي والثوري ،
قال ابن المنذر: واختلفت الآثار عن عمر في هذا الباب.
قال ابن عطية رحمه الله: كان رضي الله عنه ينفذ بحسب جرم ذلك المرتد أو قلة جرمه المقترن بالردة.
وكذلك اختلفوا في ميراث المرتد :
قيل: ميراث المرتد لورثته من المسلمين، قاله علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه
وقيل : ميراثه في بيت المال، قاله مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور
وأجمع الناس على أن ورثته من أهل الكفر لا يرثونه إلا شذوذا، روي عن عمر بن عبد العزيز وعن قتادة، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافه). ذكر هذه الأقوال ابن عطية رحمه الله
-فضل الإيمان بالله على أهل السريّة:
من فضل الله عليهم أن غنموا ، وطمعوا أن يكتب لهم الجهاد
فإنه لما نزلت هذه الآيات ،سريّ عن المؤمنين وأصحاب السريّة ما أصابهم ،غنموا ما أخذه اصحاب السرية من المشركين ،فقسم رسول الله تلك الغنيمة ، بعد أن قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريشٌ في فداء عثمان بن عبد اللّه، والحكم بن كيسان، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لا نفديكموهما حتّى يقدم صاحبانا -يعني سعد بن أبي وقّاصٍ وعتبة ابن غزوان -فإنّا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعدٌ وعتبة، فأفداهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منهم.
فأمّا الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا. وأمّا عثمان بن عبد اللّه فلحق بمكّة، فمات بها كافرًا.
وقد ذكر عن بعض آل عبد اللّه [بن جحشٍ] أنّ اللّه قسم الفيء حين أحلّه، فجعل أربعة أخماسٍ لمن أفاءه، وخمسًا إلى اللّه ورسوله. فوقع على ما كان عبد اللّه بن جحشٍ صنع في تلك العير.فكانت هي أوّل غنيمةٍ غنمها المسلمون. وعمرو بن الحضرميّ أوّل من قتل المسلمون، وعثمان بن عبد اللّه، والحكم بن كيسان أوّل من أسر المسلمون. ذكره ابن كثير عن ابن هشام عن زياد عن ابن اسحاق.
-ولسعة فضل الله على أهل الإيمان ، ما جعل أصحاب السريّة ،يطمعون بفضل الله ،أن يكتب لهم أجر الجهاد في هذه السريّة، فقالوا: يا رسول اللّه، أنطمع أن تكون لنا غزوةٌ نعطى فيها أجر المجاهدين [المهاجرين] ؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ:
{إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة اللّه واللّه غفورٌ رحيمٌ} فوضعهم اللّه من ذلك على أعظم الرّجاء.
قال ابن إسحاق: والحديث في هذا عن الزّهريّ، ويزيد بن رومان، عن عروة.ذكره ابن كثير وأيضا روي من طرق أخرى
وبهذا يتبين إن أعظم ذنب الكفر ، وأن الصدّ عن الدين وعن المسجد الحرام ، كفر وهو أعظم عند الله من القتال ،في الشهر الحرام ،وإن كان القتال في الشهر المحرم لا يحل .
.....................................................................
قوله تعالى :
(ِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (218)
- سبب نزول الآية :
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا تَجَلَّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ حِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ، طَمعُوا فِي الْأَجْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا غَزْوَةٌ نُعطَى فِيهَا أَجْرَ الْمُجَاهِدِينَ [الْمُهَاجِرِينَ] ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَوَضَعَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَعْظَمِ الرَّجَاءِ.ذكره ابن كثير .
- معنى الهجرة :
من انتقل نقلة إقامه من موضع إلى موضع وقصد ترك الأول إيثارا للأخر.ذكره ابن عطية .
وقد رد ابن عطية من قال أن الهجرة الانتقال من الحاضرة إلى البادية وذلك لكثرة وقوعها في العرب ولا يعد من قال ذلك أهل مكة من المهاجرين .
- معنى جاهد :
جاهد مفاعله من جهد إذا استخرج الجهد . ذكره ابن عطية
- معنى يرجون :
أي يطمعون ويستقربون . ذكره ابن عطية
- أحوال الرجاء مع الخوف :-
قيل أن الرجاء مقترن معه خوف دائما ، كما أن الخوف معه رجاء.
وقديأتي أحيانا الرجاء بمعنى ما يقارنه من الخوف تجوزا ، كما قال الهذلي: [الطويل]
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عوامل .
- وقيل :إذا اقترن حرف النفي بالرجاء كان بمعنى الخوف ، ، كقوله عز وجل: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا [سورة يونس والمعنى لا يخافون.
- وقيل: إن الرجاء في الآية على بابه، أي لا يرجون الثواب في لقائنا، وذلك خوف العقاب .
- وقيل : اللفظة من الأضداد دون تجوز في إحدى الجهتين، وقد رد ابن عطية هذا القول واستشهد بقول الجاحظ في كتاب البلدان: «إن معنى قوله لم يرج لسعها أي لم يرج برء لسعها وزواله، فهو يصبر عليه» ذكره ابن عطية .
- معنى الآية :
جمع الله في هذه الآية أعظم الأعمال الصالحة التي تكون سببا من أسباب رحمة الله تعالى وسعادة العبد فالإيمان بالله تعالى هو الفيصل بين أهل السعادة وأهل الشقاء والهجرة في سبيل الله دليل على ترك الدنيا ومحابها من مال وولد ووطن ابتغاء مرضاة الله ونصرة لدينه, والجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام ورفع راية الإسلام وحماية للإسلام والمسلمين وبذل للنفس رخيصة في سبيل الله ,فاستحقوا بذلك رحمت الله تعالى ومغفرته