(12) بَيَّنَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في هذهِ الجملةِ أنَّ الناسَ إذا ماتُوا يُبْعَثُونَ، يَبْعَثُهُم اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحْيَاءً بعدَ مَوْتِهِم للجَزَاءِ. وهذا هوَ النتيجةُ منْ إرسالِ الرُّسُلِ، أنْ يَعْمَلَ الإنسانُ لهذا اليومِ؛ يومِ البعثِ والنُّشُورِ، اليومِ الذي ذَكَرَ اللَّهُ سبحانَهُ وتَعَالَى مِنْ أحوالِهِ وأهوالِهِ ما يَجْعَلُ القلبَ يُنِيبُ إلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَخْشَى هذا اليومَ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً}.
وفي هذهِ الجُمْلَةِ إشارةٌ إلى الإيمانِ بالبعثِ، وَاسْتَدَلَّ الشيخُ لهُ بِآيَتَيْنِ.
(13) أيْ: من الأرضِ خَلَقْنَاكُم حينَ خُلِقَ آدمُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مِنْ تُرَابٍ.
(14) أيْ: بالدَّفْنِ بعدَ الموتِ.
(15) أيْ: بالبعثِ يومَ القيامةِ.
(16) هذهِ الآيَةُ مُوَافِقَةٌ تَمَامًا لقولِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} والآياتُ في هذا المعنَى كثيرةٌ جِدًّا، وقدْ أَبْدَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَعَادَ في إثباتِ المعادِ؛ حتَّى يُؤْمِنَ الناسُ بذلكَ، وَيَزْدَادُوا إِيمَانًا، وَيَعْمَلُوا لهذا اليومِ العظيمِ الذي نَسْأَلُ اللَّهَ سبحانَهُ وتَعَالَى أنْ يَجْعَلَنَا من العاملِينَ لهُ، ومِن السُّعَداءِ فيهِ.
(17) يَعْنِي أنَّ الناسَ بعدَ البعثِ يُجَازَوْنَ وَيُحَاسَبُونَ على أعمالِهِم، إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ:
-قالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (8) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
-وقالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
-وقالَ جَلَّ وَعَلاَ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.
فالحسنةُ بعَشْرِ أمثالِهَا إلى سَبْعِمائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، فَضْلاً من اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وامتنانًا منهُ سبحانَهُ وتَعَالَى، فهوَ جَلَّ وَعَلاَ قدْ تَفَضَّلَ بالعملِ الصالحِ، ثُمَّ تَفَضَّلَ مَرَّةً أُخْرَى بالجزاءِ عليهِ هذا الجزاءَ الواسعَ الكثيرَ.
أمَّا العملُ السَّيِّئُ؛ فإنَّ السيِّئَةَ بِمِثْلِهَا، لا يُجَازَى الإنسانُ بأكثرَ منها، قالَ تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، وهذا مِنْ كمالِ فَضْلِ اللَّهِ وإحسانِهِ.
ثمَّ اسْتَدَلَّ الشيخُ لذلكَ بقولِهِ تَعَالَى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا}، ولم يَقُلْ: بالسوءِ؛ أيْ: كَمَا قالَ: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.
(18) مَنْ كَذَّبَ بالبعثِ فهوَ كافر:
-لقولِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون}.
-وقالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (11) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (12) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (13) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (14) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (15) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
-وقالَ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}.
-وقالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وَاسْتَدَلَّ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بقولِهِ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيَةَ.
وأمَّا إِقْنَاعُ هؤلاءِ المُنْكِرِينَ فَبِمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً:إنَّ أَمْرَ البعثِ تَوَاتَرَ بهِ النقلُ عن الأنبياءِ والمرسَلِينَ في الكُتُبِ الإلهِيَّةِ والشرائعِ السماويَّةِ، وَتَلَقَّتْهُ أُمَمُهُم بالقَبُولِ، فكيفَ تُنْكِرُونَهُ وأنْتُمْ تُصَدِّقُونَ بما يُنْقَلُ إليكم عنْ فَيْلَسُوفٍ أوْ صاحبِ مَبْدَأٍ أوْ فِكْرَةٍ، وإنْ لمْ يَبْلُغْ ما بَلَغَهُ الخبرُ عن البعثِ لا في وسيلةِ النقلِ، ولا في شهادةِ الواقعِ؟!
ثانيًا:إنَّ أمْرَ البعثِ قدْ شَهِدَ العقلُ بإمكانِهِ؛ وذلكَ منْ وجوهٍ:
1- كلُّ أَحدٍ لا يُنْكِرُ أنْ يكونَ مَخْلُوقًا بعدَ العدمِ، وأنَّهُ حادثٌ بعدَ أنْ لمْ يَكُنْ، فالذي خَلَقَهُ وَأَحْدَثَهُ بعدَ أنْ لم يَكُنْ قادرٌ على إعادتِهِ بالأَوْلَى، كما قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، وقالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}.
2 - كُلُّ أَحَدٍ لا يُنْكِرُ عظمةَ خَلْقِ السماواتِ والأرضِ؛لِكِبَرِهِمَا وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِمَا، فَالَّذِي خَلَقَهُمَا قادرٌ على خلقِ الناسِ وَإِعَادَتِهِم بالأَوْلَى:
- قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}.
-وقالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
-وقالَ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
3 - كُلُّ ذِي بَصَرٍ يُشَاهِدُ الأرضَ مُجْدِبَةً مَيِّتَةَ النباتِ، فإذا نَزَلَ المطرُ عليها أَخْصَبَتْ، وَحَيِيَ نَبَاتُهَا بعدَ الموتِ. والقادرُ على إحياءِ الأرضِ بعدَ مَوْتِهَا قادرٌ على إحياءِ الموتَى وَبَعْثِهِم، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ثالثًا:إنَّ أَمْرَ البعثِ قدْ شَهِدَ الحِسُّ والواقعُ بإمكانِهِ فيما أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بهِ منْ وَقَائِعِ إحياءِ الموتَى، وقدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى منْ ذلكَ في سورةِ البقرةِ خَمْسَ حوادثَ؛ منها قَوْلُهُ: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
رابعًا:إنَّ الحكمةَ تَقْتَضِي البعثَ بعدَ الموتِ؛ لِتُجَازَى كلُّ نفسٍ بما كَسَبَتْ، وَلَوْلاَ ذلكَ لَكَانَ خَلْقُ الناسِ عَبَثًا لا قيمةَ لهُ، ولا حِكْمَةَ منهُ، ولم يَكُنْ بينَ الإنسانِ وبينَ البهائمِ فَرْقٌ في هذهِ الحياةِ:
- قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}.
-وقالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}.
-وقالَ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
-وقالَ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
فإذا بَيَّنْتَ هذهِ البراهينَ لِمُنْكِرِي البعثِ، وَأَصَرُّوا على إِنْكَارِهِم، فهم مُكَابِرُونَ مُعَانِدُونَ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِين ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.