فأَسْمَاؤُهُ الدَّالَّةُ عَلَى صِفَاتِهِ هيَ أَحْسنُ الأَسْمَاءِ وأَكْمَلُها، فليسَ في الأسماءِ أَحْسَنُ منها، ولا يَقُومُ غيرُها مَقَامَها. وتَفْسِيرُ الاسمِ منها بغَيْرِهِ ليسَ تَفْسِيرًا بمُرَادٍ مَحْضٍ، بلْ هوَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ والتَّفْهِيمِ، فلَهُ مِنْ كُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ أَحْسَنُ اسمٍ وأَكْمَلُهُ وأَتَمُّهُ مَعْنًى وأَبْعَدُهُ وأَنْزَهُهُ عنْ شَائِبَةِ نَقْصٍ، فَلَهُ مِنْ صِفَةِ الإِدْرَاكَاتِ العَلِيمُ الخَبِيرُ دُونَ العَالِمِ الفَقِيهِ، والسَّمِيعُ البَصِيرُ دونَ السَّامِعِ والْبَاصِرِ، ومِنْ صِفَاتِ الإِحْسانِ البَرُّ الرَّحِيمُ الوَدُودُ، دونَ الرَّفِيقِ والشَّفِيقِ والمَشُوقِ.
وكذلكَ العَلِيُّ العَظِيمُ، دونَ الرَّفِيعِ الشَّرِيفِ، وكذلكَ الكَرِيمُ، دونَ السَّخِيّ، والخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ، دونَ الصَّانِعِ الفَاعِلِ المُشَكِّل، والعَفُوُّ الغَفُورُ، دونَ الصَّفُوحِ السَّاتِرِ.
وكذلكَ سَائِرُ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى يُجْرِي عَلَى نَفْسِهِ أَكْمَلَها وأَحْسَنَها، وَلاَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، فأَسْمَاؤُهُ أَحْسنُ الأَسْمَاءِ، كَمَا أَنَّ صِفَاتِهِ أَكْمَلُ الصِّفَاتِ، فَلاَ نَعْدِلُ عَمَّا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا لاَ يُتَجَاوَزُ ما وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، ووَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مَا وَصَفَهُ بِهِ المُبْطِلُونَ.
ومِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَكَ خَطَأُ مَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الصَّانِعِ والفَاعِلِ والمُرَبِّي ونَحْوِها؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ الذي أَطْلَقَهُ سبحانَهُ على نَفْسِهِ، وأَخْبَرَ بهِ عنها، أَتَمُّ مِنْ هذا، وأَكْمَلُ وأَجَلُّ شَأْنًا؛ فَإِنَّهُ يُوصَفُ مِنْ كُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ بأَكْمَلِها وأَجَلِّها وأَعْلاَها، فيُوصَفُ مِن الإِرَادَةِ بأكْمَلِها، وهوَ الحِكْمَةُ وحُصُولُ كُلِّ ما يُرِيدُ بإِرَادَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16].
وبإِرَادَةِ اليُسْرِ لا العُسْرِ، كَمَا قَالَ تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185].
وبإِرَادَةِ الإِحْسَانِ وتَمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى عِبَادِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا}[النساء:26]. فإِرَادَةُ التَّوْبَةِ لَهُ، وإِرَادَةُ المَيْلِ لمُبْتَغِي الشَّهَوَاتِ.
وقَوْلُهُ: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَـكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}[المائدة:7].
وكذلكَ العَلِيمُ الخَبِيرُ أَكْمَلُ مِن الفَقِيهِ العَارِفِ، والكَرِيمُ الجَوَادُ أَكْمَلُ مِن السَّخِيِّ، والرَّحِيمُ أَكْمَلُ مِن الشَّفِيقِ، والخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ أَكْملُ مِن الفَاعِلِ الصَّانِعِ؛ ولِهَذَا لَمْ تَجِئْ هَذِهِ في أَسْمَائِهِ الحُسْنَى.
فعَلَيْكَ بمُرَاعَاةِ مَا أَطْلَقَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لمَعْنَى أَسْمَائِهِ وصِفَاتِه، وحِينَئذٍ فيُطْلَقُ المَعْنَى لمُطَابَقَتِهِ لَهَا دونَ اللَّفْظِ، ولا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُجْمَلاً، أوْ مُنْقَسِمًا، أوْ ما يُمْدَحُ بهِ وغيرُهُ؛ فإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِطْلاَقُهُ إِلاَّ مُقَيَّدًا كَمَا أَطْلَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}[البروج:16]، {وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم:26].
وقولِهِ: {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[النمل:88]؛ فإنَّ اسْمَ الفَاعِلِ الصَّانِعَ مُنْقَسِمُ المَعْنَى إِلَى مَا يُمْدَحُ عَلَيْهِ ويُذَمُّ، فلِهَذَا المَعْنَى -واللهُ أَعْلَمُ- لَمْ يَجِئْ في الأَسْمَاءِ الحُسْنَى المُرِيدُ، كَمَا جَاءَ فِيهَا السَّمِيعُ البَصِيرُ، وَلاَ المُتَكَلِّمُ الآمِرُ النَّاهِي؛ لانْقِسَامِ مُسَمَّى هَذِهِ الأَسْمَاءِ، بلْ وَصَفَ نَفْسَهُ بكَمَالاَتِهَا وشَرَفِ أَنْوَاعِهَا.
ومِنْ هَذَا يُعْلَمُ غَلَطُ بَعْضِ المُتَأَخِّرِينَ، وزَلَقُهُ الفَاحِشُ في اشْتِقَاقِهِ لَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ أَخْبَرَ بهِ عنْ نَفْسِهِ اسْمًا مُطْلَقًا، وأَدْخَلَهُ في أَسْمَائِهِ الحُسْنَى، فاشْتَقَّ منها اسْمَ المَاكِرِ، والمُخَادِعِ، والفَاتِنِ، والمُضِلِّ، تَعَالَى اللهُ عَن ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرً، انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلاَمِ الإِمَامِ ابنِ القَيِّمِ.
وقِيلَ: فَصْلُ الخِطَابِ في أَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى، هلْ هيَ تَوْقِيفِيَّةٌ أمْ لاَ؟
وحَاصِلُهُ أَنَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ تَوْقِيفِيٌّ، وَمَا يُطْلَقُ مِنْ بَابِ الإِخْبَارِ لاَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوْقِيفِيًّا، كالقَدِيمِ والشَّيءِ المَوْجُودِ، والقَائِمِ بنَفْسِهِ، والصَّانِعِ، ونحوِ ذَلِكَ.
{فَادْعُوهُ بِهَا} ؛ أي: اسْأَلُوهُ وتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِهَا، كَمَا تَقُولُ: اغْفِرْ لِي وارْحَمْنِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَقْرَبِ الوَسَائِلِ وأَحَبِّها إليهِ، كَمَا في (المُسْنَدِ) والتِّرْمِذِيِّ: ((أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ)).
والحَدِيثِ الآخَرِ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يَدْعُو وهوَ يَقُولُ: (اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، فَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى))، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ.
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ((اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ))، حديثٌ صحيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ.
ومنهُ: ((اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ، بِدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، يَاذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ))، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بنَحْوِهِ، واللَّفْظُ لِغَيْرِهِ.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ: (فهَذَا سُؤَالٌ لَهُ، وتَوَسُّلٌ إِلَيْهِ بِحَمْدِهِ، وأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هوَ المَنَّانُ، فهوَ تَوَسُّلٌ إليهِ بأَسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ، وَمَا أَحَقَّ ذَلِكَ بالإِجَابَةِ، وأَعْظَمَهُ مَوْقِعًا عندَ السُّؤَالِ.
واعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ بِهَا أَحَدُ مَرَاتِبِ إِحْصَائِهَا الذي قَالَ فيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ وغَيْرُهُ.
وهيَ ثَلاَثَةُ مَرَاتِبَ:
المَرْتَبَةُ الأُولَى: إِحْصَاءُ أَلْفَاظِهَا وأَسْمَائِهَا وعَدَدِهَا.
المَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: فَهْمُ مَعَانِيهَا ومَدْلُولِهَا.
المَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: دُعَاؤُهُ بِهَا كَمَا في الآيَةِ.
وهوَ نَوْعَانِ:
- دُعَاءُ ثَنَاءٍ وعِبَادَةٍ.
- ودُعَاءُ طَلَبٍ ومَسْأَلَةٍ.
فَلاَ يُثْنَى عَلَيْهِ إِلاَّ بِأَسْمَائِهِ الحُسْنَى وصِفَاتِهِ العُلَى، وكَذَا لاَ يُسْأَلُ إِلاَّ بِهَا، فَلاَ يُقالُ: يَا مَوْجُودُ وَيَا شَيْءُ وَيَا ذَاتُ، اغْفِرْ لِي.
بلْ يُسْأَلُ في كُلِّ مَطْلُوبٍ باسْمٍ يَكُونُ مُقْتَضِيًا لذلكَ المَطْلُوبِ، فيَكُونُ السَّائِلُ مُتَوَسِّلاً إليهِ بذلكَ الاسْم، ومَنْ تَأَمَّلَ أَدْعِيَةَ الرُّسُلِ -لاَ سِيَّما خَاتَمُهُم عَلَيْهِ وعَلَيْهِم السَّلاَمُ- وجَدَهَا مُطَابِقَةً لِهَذَا، كَمَا تَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَلاَ يَحْسُنُ: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ البَصِيرُ.
ولَكِنْ أَسْمَاؤُهُ تَعَالَى:
مِنْهَا: مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مُفْرَدًا، وهوَ غَالِبُ الأَسْمَاءِ؛ كالقَدِيرِ، والسَّمِيعِ، والبَصِيرِ، والحَكِيمِ. فهَذَا يَسُوغُ أنْ يُدْعَى بِهِ مُفْرَدًا ومُقْتَرِنًا بغَيْرِهِ.
فتَقُولُ: يَا عَزِيزُ، يَا حَكِيمُ، يَا قَدِيرُ، يَا سَمِيعُ، يَا بَصِيرُ، وإن انْفَرَدَ كلُّ اسْمٍ، وكذلكَ في الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، والخَبَرِ عنهُ، وبهِ يَسُوغُ لكَ الإِفْرَادُ والجَمْعُ.
ومنها: ما لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ مُفْرَدًا، بلْ مَقْرُونًا بمُقَابِلِهِ؛ كالْمَانِعِ، والضَّارِّ، والمُنْتَقِمِ، والمُذِلِّ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ هَذَا عنْ مُقَابِلِهِ؛ فَإِنَّهُ مَقُرونٌ بالمُعْطِي، والنَّافِعِ، والعَفُوِّ، والعَزِيزِ والمُعِزِّ، فهوَ المُعْطِي المَانِعُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، المُنْتَقِمُ العَفُوُّ، المُعِزُّ المُذِلُّ؛ لأَِنَّ الكَمَالَ في اقْتِرَانِ كُلِّ اسْمٍ مِنْ هَذَا بمُقَابِلِهِ؛ لأَِنَّهُ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ المُتَفَرِّدُ بالرُّبُوبِيَّةِ، وتَدْبِيرِ الخَلْقِ، والتَّصَرُّفِ فيهم إِعْطَاءً ومَنْعًا، ونَفْعًا وَضَرًّا، وانْتِقَامًا وإِعْزَازًا وإِذْلاَلاً.
فَأَمَّا الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بمُجَرَّدِ المَنْعِ والانْتِقَامِ والإِضْرَارِ فَلاَ يَسُوغُ، فهذهِ الأَسْمَاءُ المَمْزُوجَةُ يَجْرِي الاسْمَانِ منها مَجْرى الاسْمِ الوَاحِدِ الذي يَمْتَنِعُ فَصْلُ بَعْضِ حُرُوفِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ ولذلكَ لَمْ تَجِئْ مُفْرَدَةً، وَلَمْ تُطْلَقْ عليهِ إِلاَّ مُقْتَرِنَةً، فلوْ قُلْتَ: يَا ضَارُّ، يَا مَانِعُ، يَا مُذِلُّ؛ لَمْ تَكُنْ مُثْنِيًا عَلَيْهِ، وَلاَ حَامِدًا لهُ حَتَّى تَذْكُرَ مُقَابِلَتِهَا)
انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلاَمِ ابنِ القَيِّمِ، وفيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ.
وبِهِ يَظْهَرُ الجَوَابُ عَمَّا قَدْ يَرِدُ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرَ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى التي وَرَدَ عَدُّها في الحَدِيثِ، لَمَّا كَانَ إِحْصَاءُ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى والعَمَلُ بِهَا أَصْلاً للعِلْمِ بِكُلِّ مَعْلُومٍ، وكَانَتْ سَعَادَةُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا، فَمَا حَصَلَ مِنْ آثَارِهَا للعِبَادِ هوَ الذي أَوْجَبَ لَهُم دُخُولَ الجَنَّةِ؛ ولهذا جَاءَ الحديثُ الصَّحِيحُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ، أَنَّ ((مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ))، وذَكَرْنَا مَرَاتِبَ الإِحْصَاءِ؛ لأَِنَّ العَبْدَ مُحْتَاجٌ، بلْ مُضْطَرٌّ إلى مَعْرِفَتِهَا فَوْقَ كلِّ ضَرُورَةٍ.
وقَدْ قِيلَ: إنَّ اللهَ ذَكَرَها كُلَّها في القُرْآنِ، وَلاَ رَيْبَ أنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ أَكْثَرَها بِلَفْظِها، ومَا لَمْ يَذْكُرْهُ بِلَفْظِهِ فَفِي القُرْآنِ مَا يَدُلُّ عليهِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَاصَفْوانُ بنُ صَالِحٍ، أَخْبَرَنَاالوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ،أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بنُ أَبِي حَمْزَةَ، عنْأَبِي الزِّنَادِ،عنالأَعْرَجِ، عنْأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، هوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، المَلِكُ، القُدُّوسُ، السَّلاَمُ، المُؤْمِنُ، المُهَيْمِنُ، العَزِيزُ، الجَبَّارُ، المُتَكَبِّرُ، الخَالِقُ، البَارِئُ، المُصَوِّرُ، الغَفَّارُ، القَهَّارُ، الوَهَّابُ، الرَّزَّاقُ، الفَتَّاحُ، العَلِيمُ، القَابِضُ، البَاسِطُ، الخَافِضُ، الرَّافِعُ، المُعِزُّ، المُذِلُّ، السَّمِيعُ، البَصِيرُ، الحَكَمُ، العَدْلُ، اللَّطِيفُ، الخَبِيرُ، الحَلِيمُ، العَظِيمُ، الغَفُورُ، الشَّكُورُ، العَلِيُّ، الكَبِيرُ، الحَفِيظُ، المُقِيتُ، الحَسِيبُ، الجَلِيلُ، الكَرِيمُ، الرَّقِيبُ، المُجِيبُ، الوَاسِعُ، الحَكِيمُ، الوَدُودُ، المَجِيدُ، البَاعِثُ، الشَّهِيدُ، الحَقُّ، الوَكِيلُ، القَوِيُّ، المَتِينُ، الوَلِيُّ، الحَمِيدُ، المُحْصِي، المُبْدِئُ، المُعِيدُ، المُحْيِي، المُمِيتُ، الحَيُّ، القَيَّومُ، الوَاجِدُ، المَاجِدُ، الوَاحِدُ، الأَحَدُ، الصَّمَدُ، القَادِرُ، المُقْتَدِرُ، المُقَدِّمُ، المُؤَخِّرُ، الأَوَّلُ، الآخِرُ، الظَّاهِرُ، البَاطِنُ، الوَلِيُّ، المُتَعَالِي، البَرُّ، التَّوَّابُ، المُنْعِمُ، المُنْتَقِمُ، العَفُوُّ، الرَّءُوفُ، مَالِكُ المُلْكِ، ذُو الجَلاَلِ والإِكْرَامِ، المُقْسِطُ، الجَامِعُ، الغَنِيُّ، المُغْنِي، المَانِعُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، النُّورُ، الهَادِي، البَدِيعُ، البَاقِي، الوَارِثُ، الرَّشِيدُ، الصَّبُورُ))، قَالَ التِّرْمِذِيُّ:(هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، حَدَّثَنَا بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ عنْ صَفْوَانَ بنِ صَالِحٍ، وَلاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بنِ صَالِحٍ، وهوَ ثِقَةٌ عندَ أَهْلِ الحَدِيثِ).
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ غيرِ وَجْهٍ عنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولاَ نَعْلَمُ في كَبِيرِ شَيْءٍ مِن الرِّوايَاتِ ذِكْرَ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى إِلاَّ في هَذَا الحَدِيثِ.
وَقَدْ رَوَى آدَمُ بنُ أَبِي إِيَاسٍ هَذَا الحَدِيثَ بإِسْنَادٍ غيرِ هَذَا عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذَكَرَ فيهِ الأسماءَ، ولَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
قُلْتُ: يُشِيرُ إِلَى عَدَدِ الأَسْمَاءِ سَرْدًا، وإِلاَّ فَصَدْرُ الحَدِيثِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ خَرَّجَهُ بالعَدَدِ المَذْكُورِ ابنُ المُنْذِرِ، وابنُ خُزَيْمَةَ في (صَحِيحِهِ)، وابنُ حِبَّانَ والطَّبَرَانِيُّ،والحَاكِمُ في (المُسْتَدْرَكِ)، وغيرُهم بهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فيهِ (المُعْطِي)، وإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
ولَكِنَّ المُسْتَغْرَبَ منهُ ذِكْرُ العَدَدِ.
ورَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ الصَّنْعَانِيِّ، عنْ زُهَيْرِ بنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيِّ، عنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ، عن الأَعْرَجِ، وسَاقَ الأَسْمَاءَ، وخَالَفَ سِياقَ التِّرْمِذِيِّ في التَّرْتِيبِ والزِّيَادَةِ والنَّقْصِ.
فأَمَّا الزِّيَادَةُ فهيَ: (البَارِئُ، الرَّاشِدُ، البُرْهَانُ، الشَّدِيدُ، الوَاقِي، القَائِمُ، الحافِظُ، النَّاظِرُ، السَّامِعُ، المُعْطِي، الأَبَدُ، المُنِيرُ، التَّامُّ، القَدِيمُ، الوِتْرُ).
وعَبْدُ المَلِكِ لَيِّنُ الحَدِيثِ، وزُهَيْرٌ مُخْتَلَفٌ فيهِ، وحَدِيثُ الوَلِيدِ أَصَحُّ إِسْنَادًا، وأَحْسَنُ سِيَاقًا، وأَجْدَرُ أنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ:(هوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ).
قَالَ بَعْضُهم: (والعِلَّةُ في كَوْنِهِمَا لَمْ يُخَرِّجَاهُ بذِكْرِ الأَسَامِي تَفَرُّدُ الولِيدِ بنِ مُسْلِمٍ عَالِمِ الشَّامِيِّينَ الثِّقَةِ).
وقَدْ قِيلَ: (إِنَّ العَدَدَ المَذْكُورَ مُدْرَج)، قَالَ في (الإِرْشَادِ) مَا مَعْنَاهُ: (ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِن الحُفَّاظِ المُحَقِّقِينَ المُتْقِنِينَ أَنَّ سَرْدَ الأَسْمَاءِ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُدْرَجٌ فيهِ، وأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ العِلْمِ جَمَعُوهَا مِن القُرْآنِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ وسُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ، وَأَبِي زَيْدٍ اللُّغَوِيِّ).
وَقَالَ البَيْهَقِيُّ:(يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ للأسماءِ وَقَعَ مِنْ بعضِ الرُّواةِ؛ ولهَذَا الاحْتِمَالِ تَرَكَ الشَّيْخَانِ إِخْرَاجَ حديثِ الوَلِيدِ في (الصَّحِيحِ)).
قَالَ في (البَدْرِ): (والدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُما: أَنَّ أَصْحَابَ الحَدِيثِ لَمْ يَذْكُرُوهَا.
والثَّانِي: أَنَّ فيها تَغْييرًا بزِيَادَةٍ ونُقْصَانٍ، وذَلِكَ لاَ يَلِيقُ بالمَرْتَبَةِ العُلْيَا النَّبَوِيَّةِ)كذا قَالَ، وفيهِ نَظَرٌ؛ فإنَّ الزِّيَادَةَ والنُّقْصَانَ قَدْ تَكُونُ مِن الرُّوَاةِ وإنْ كَانَ الحَدِيثُ صَحِيحًا كَمَا في غَيْرِ ذَلِكَ مِن الأَحَادِيثِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في (الدُّعَاءِ)، والحَاكِمُ، وغَيْرُهُمَا، فزَادُوا: ((الرَّبُّ، الإِلَهُ، الحَنَّانُ، المَنَّانُ، البَارِئُ)).
وفي لفظٍ: ((القَائِمُ، الفَرْدُ)).
وفي لفظٍ: ((القَادِرُ)) بَدَلَ الفَرْدِ، و((المُغِيثُ، الدَّائِمُ، الحَمِيدُ)).
وفي لَفْظٍ: ((الجَمِيلُ، الصَّادِقُ، المَوْلَى، النَّصِيرُ، القَدِيمُ، الوِتْرُ، الفاطِرُ، العَلاَّمُ، المَلِيكُ، الأَكْبَرُ، المُدَبِّرُ، المَالِكُ، الشَّاكِرُ، الرَّفِيعُ، ذُو الطَّوْلِ، ذُو المَعَارِجِ، ذُو الفَضْلِ، الخَلاَّقُ))، وَلاَ أَظُنُّهُ يَثْبُتُ وإِنْ كَانَ بَعْضُ العَدَدِ صَحِيحًا.
وعَدَّ جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ منها: (المُنْعِمُ، المُتَفَضِّلُ، السَّرِيعُ).
وَقَالَ ابنُ حَزْمٍ:(جَاءَتْ في إِحْصَائِهَا أَحَادِيثُ مُضْطَرِبَةٌ، لاَ يَصِحُّ منها شَيْءٌ أَصْلاً).
وَنُقِلَ عنهُ أنَّهُ قَالَ: (صَحَّ عندِي قَرِيبًا مِنْ ثَمَانِينَ اسْمًا، اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الكِتَابُ والصِّحَاحُ مِن الأَخْبَارِ، فلْيُطْلَب البَاقِي بِطَرِيقِ الاجْتِهَادِ).
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ في (شَرْحِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى): العَجَبُ مِن ابنِ حَزْمٍ ذَكَرَ مِن الأَسْمَاءِ الحُسْنَى نَيِّفًا وثَمَانِينَ فَقَطْ، واللهُ يَقُولُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، ثُمَّ سَاقَ مَا ذَكَرَهُ ابنُ حَزْمٍ.
وفيهِ مِن الزِّيَادَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ: (الرَّبُّ، الإِلَهُ، الأَعْلَى، الأَكْبَرُ، الأَعَزُّ، السَّيِّدُ، السُّبُّوحُ، الْوِتْرُ، الْمُحْسِنُ، الْجَمِيلُ، الرَّفِيقُ، الدَّهْرُ).
وَقَدْ عَدَّها الحَافِظُ فَزَادَ: (الْخَفِيُّ، السَّرِيعُ، الْغَالِبُ، الْعَالِمُ، الْحَافِظُ، الْمُستَعَانُ).
وفي هَذَا نَظَرٌ يُفْهَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ذُكِرَ بَعْضُها فيما لاَ يَثْبُتُ مِن الحَدِيثِ، فهَذِهِ خَمْسَةٌ وسِتُّونَ ومِائَةُ اسْمٍ، أَقْرَبُها مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ سِيَاقُ التِّرْمِذِيِّ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ ففيهِ أَسْمَاءٌ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ، وفي بَعْضِها تَوَقُّفٌ، وبَعْضُها خَطَأٌ مَحْضٌ؛ كالأَبَدِ والنَّاظِرِ والسَّامِعِ والقَائِمِ والسَّرِيعِ، فهَذِهِ وإِنْ وَرَدَ عِدَادُها في بعضِ الأحاديثِ، فَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ أَصْلاً.
وكَذَلِكَ الدَّهْرُ والفَعَّالُ والعَالِقُ والمُخْرِجُ والعالِمُ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ لَمْ تَرِدْ في شَيْءٍ مِن الأَحَادِيثِ إِلاَّ حَدِيثَ: ((لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ)).
وَقَدْ مَضَى مَعْنَاهُ، وبَيَّنَّا خَطَأَ ابنِ حَزْمٍ في عَدِّهِ مِن الأَسْمَاءِ الحُسْنَى هناكَ.
واعْلَمْ أَنَّ الأَسْمَاءَ الحُسْنَى لاَ تَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ، وَلاَ تُحَدُّ بِعَدَدٍ؛ فَإنَّ للهِ تَعَالَى أسماءً وصِفَاتٍ اسْتَأْثَرَ بِهَا في عِلْمِ الغَيْبِ عنْدَهُ، ولا يَعْلَمُها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، كَمَا في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ))، رَوَاهُ أحْمَدُ وابنُ حِبَّانَ في (صَحِيحِهِ) وغيرُهما.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ:
(فجَعَلَ أَسْمَاءَهُ ثَلاَثَةَ أقسامٍ:
- قسمًا سَمَّى بهِ نَفْسَهُ فأَظْهَرَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ أوْ غَيْرِهم، وَلَمْ يَنْزِلْ بِهِ كِتَابُهُ.
- وَقِسْمًا أَنْزَلَ بهِ كِتَابَهُ، وتَعَرَّفَ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ.
- وقِسْمًا اسْتَأْثَرَ بهِ في عِلْمِ غَيْبِهِ، فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ؛ ولِهَذَا قَالَ: ((اسْتَأْثَرْتَ بِهِ))؛ أي: انْفَرَدْتَ بعِلْمِهِ، وليسَ المُرَادُ انْفِرَادَهُ بالمُسَمَّى بِهِ؛ لأَِنَّ هَذَا الانْفِرَادَ ثَابِتٌ في الأسماءِ التي أَنْزَلَ بِهَا كِتَابَهُ.
ومِنْ هَذَا قَوْلُهُ عليهِ السَّلاَمُ في حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: ((فَيَفْتَحُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ بِمَا لاَ أُحْسِنُهُ الآنَ))، وتلكَ المَحَامِدُ هيَ بأَسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ، ومنهُ قولُهُ: ((لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)).
وأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ))؛ فالكَلاَمُ جُمْلَةٌ واحِدَةٌ، وقَوْلُهُ: ((مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ))، صِفَةٌ لاَ خَبَرٌ مُسْتَقْبَلٌ، والمَعْنَى: لَهُ أَسْمَاءٌ مُتَعَدِّدَةٌ، مِنْ شَأْنِهَا أَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَهَذَا كقَوْلِكَ: لفُلاَنٍ أَلْفُ شَاةٍ أَعَدَّها للأَضْيَافِ، فَلاَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَها، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ بَينَ العُلَمَاءِ فيهِ).
وقولُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}[الأعراف:179]؛ أي: اتْرُكُوهُم وأَعْرِضُوا عنْ مُجَادَلَتِهِم.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ:
(والإِلْحَادُ في أَسْمَائِهِ هوَ: العُدُولُ بِهَا وحَقَائِقِها ومَعَانِيها عن الحَقِّ الثَّابِتِ لَهَا، وهوَ مَأْخُوذٌ مِن المَيْلِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَادَّةُ اللَّحْدِ، ومنهُ اللَّحْدُ وهوَ الشَّقُّ في جانبِ القَبْرِ الذي قَدْ مَالَ عن الوَسَطِ، ومنهُ اللَّحْدُ في الدِّينِ: المَائِلُ عن الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ.
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَالإِلْحَادُ في أَسْمَائِهِ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُها: أَنْ يُسَمِّيَ الأَصْنَامَ بِهَا، كتَسْمِيَتِهِم اللاَّتَ مِن الإِلَهِ، والعُزَّى مِن العَزِيزِ، وتَسْمِيَتِهم الصَّنَمَ إِلَهًا. وهَذَا إِلْحَادٌ حَقِيقَةً، فَهُمْ عَدَلُوا بأَسْمَائِهِ إِلَى أَوْثَانِهِم وآلِهَتِهِم البَاطِلَةِ.
الثَّانِي: تَسْمِيَتُهُ بِمَا لاَ يَلِيقُ بجَلاَلِهِ، كتَسْمِيَةِ النَّصارَى لَهُ أبًا، وتَسْمِيَةِ الفَلاَسِفَةِ لهُ مُوجِبًا بذَاتِهِ، أوْ عِلَّةً فاعِلَةً بالطَّبْعِ، ونحوِ ذلكَ.
وثالثُها: وَصْفُهُ بِمَا يَتَعَالَى عنهُ ويَتَقَدَّسُ مِن النَّقَائِصِ، كقَوْلِ أَخْبَثِ اليَهُودِ: إِنَّهُ فَقِيرٌ، وقَوْلِهِم: إِنَّهُ اسْتَرَاحَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ خَلْقَهُ، وقَوْلِهِم: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ، وأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا هوَ إِلْحَادٌ في أَسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ.
ورَابِعُها: تَعْطِيلُ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى عنْ مَعَانِيهَا، وجَحْدُ حَقَائِقِها، كقولِ مَنْ يَقُولُ مِن الجَهْمِيَّةِ وأَتْبَاعِهِم: إِنَّهَا أَلْفَاظٌ مُجَرَّدَةٌ، لاَ تَتَضَمَّنُ صِفَاتٍ، وَلاَ مَعَانِيَ، فيُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ السَّمِيعِ والبَصِيرِ والحَيِّ والرَّحِيمِ والمُتَكَلِّمِ، ويَقُولُونَ: لاَ حَيَاةَ لَهُ، ولاَ سَمْعَ، وَلاَ بَصَرَ، ولاَ كَلاَمَ، وَلاَ إِرَادَةَ تَقُومُ بِهِ، وهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الإِلْحَادِ فيها عَقْلاً وشَرْعًا ولُغَةً وفِطْرَةً، وهوَ يُقَابِلُ إِلْحَادَ المُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ أَعْطَوْا مِنْ أَسْمَائِهِ وصفاتِهِ لآلِهَتِهم، وهَؤُلاءِ سَلَبُوا كَمَالَهُ وجَحَدُوهَا وعَطَّلُوها، وكِلاَهُمَا أَلْحَدَ في أَسْمَائِهِ. ثُمَّ الجَهْمِيَّةُ وفُرُوخُهُم مُتَفَاوِتُونَ في هَذَا الإِلْحَادِ، فَمِنْهُم الغَالِي والمُتَوَسِّطُ والمُتَلَوِّثُ، وكُلُّ مَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِمَّا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ، أوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَدْ أَلْحَدَ في ذَلِكَ فلْيُقِلَّ أوْ لِيَسْتَكْثِرْ.
وخامسُها: تَشْبِيهُ صِفَاتِهِ بصِفَاتِ خَلْقِهِ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ المُشَبِّهونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
فهَذَا الإِلْحَادُ في مُقَابِلِهِ إِلْحَادُ المُعَطِّلَةِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ نَفَوْا صِفَاتِ كَمَالِهِ وجَحَدُوها، وهؤلاءِ شبَّهُوها بصِفَاتِ خَلْقِهِ، فجَمَعَهُم الإِلْحَادُ، وتَفَرَّقَتْ بهم طُرُقُهُ، وبَرَّأَ اللهُ أَتْبَاعَ رَسُولِهِ، ووَرَثَتَهُ القَائِمِينَ بِسُنَّتِهِ عنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَمْ يَصِفُوهُ إِلاَّ بِمَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ، ولم يَجْحَدُوا صِفَاتِهِ، وَلَمْ يُشَبِّهُوهَا بِصِفَاتِ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَعْدِلُوا بِهَا عَمَّا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ لَفْظًا ولا مَعْنًى، بلْ أَثْبَتُوا لَهُ الأَسْمَاءَ والصِّفَاتِ، ونَفَوْا عنهُ مُشَابَهَةَ المَخْلُوقَاتِ، فكَانَ إِثْبَاتُهُم بَرِيئًا مِن التَّشْبِيهِ، وتَنْزِيهُهُم خَالِيًا مِن التَّعْطِيلِ، لاَ كَمَنْ شَبَّهَ كأَنَّهُ يَعْبُدُ صَنَمًا، أوْ عَطَّلَ حَتَّى كَأَنَّهُ لاَ يَعْبُدُ إِلاَّ عَدَمًا.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ في النِّحَلِ، كما أنَّ أهلَ الإِسْلاَمِ وَسَطٌ في المِلَلِ، تُوقَدُ مَصَابِيحُ مَعَارِفِهم مِنْ {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ})
{سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ وَعِيدٌ وتَهْدِيدٌ.
قولُهُ: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}؛ يُشْرِكُونَ، أيْ: يُشْرِكُونَ غَيْرَهُ في أَسْمَائِهِ؛ كتَسْمِيَتِهم الصَّنَمَ إِلَهًا.
ويَحْتَمِلُ أَنَّ المُرَادَ الشِّرْكُ في العِبَادَةِ؛ لأَِنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ، فالإِشْرَاكُ بِغَيْرِهِ إِلْحَادٌ في مَعَانِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، لاَ سِيَّمَا مَعَ الإِقْرَارِ بِهَا، كَمَا كَانُوا يُقِرُّونَ باللهِ ويَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، فَهَذَا الاسْمُ وَحْدَهُ أَعْظَمُ الأَدِلَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَمَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ فَقَدْ أَلْحَدَ في هذا الاسْمِ، وعَلَى هَذَا بقِيَّةُ الأَسْمَاءِ.
وهذا الأَثَرُ لَمْ يَرْوِهِ ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، إِنَّمَا رَوَاهُ عنْ قَتَادَةَ، فاعْلَمْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: ((وعنهُ: سَمَّوا اللاَّتَ مِن الإِلَهِ، والعُزَّى مِن العَزِيزِ))، هَذَا الأَثَرُ مَعْطُوفٌ عَلَى سَابِقِهِ؛ أيْ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ، وكَذَلِكَ الأَثَرُ الثَّانِي عن الأَعْمَشِ مَعْطُوفٌ عَلَى سَابِقِهِ؛ أيْ: رَوَاهُ ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عنهُ.
والأَعْمَشُ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بنُ مِهْرَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ الكُوفِيُّ الفَقِيهُ، ثِقَةٌ حَافِظٌ وَرِعٌ، مَاتَ سَنَةَ(147) وكَانَ مَوْلِدُهُ أَوَّلَ سَنَةِ (61).
قولُهُ: ((يُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا))؛ أيْ: كَتَسْمِيَةِ النَّصارَى لَهُ أَبًا، ونَحْوِهِ كَمَا سَبَقَ.