651- وعَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لها: ((طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1-عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا كَانَتْ مُحْرِمَةً عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ بالعُمْرَةِ، لتَتَمَتَّعَ بها إلى الحَجِّ، فحَاضَتْ قُرْبَ مَكَّةَ، فأمَرَها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ تُدْخِلَ الحَجَّ على العُمْرَةِ، ففَعَلَتْ، فصَارَتْ قَارِنَةً، فَلَمْ تَطُفْ، ولَمْ تَسْعَ إلاَّ بَعْدَ الوُقوفِ بعَرَفَةَ، والمَبِيتِ بمُزْدَلِفَةَ، ورَمْيِ جَمْرَةِ العَقَبَةِ، ثُمَّ قالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حِينَ حَجَجْتُ، فأَمَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فذَهَبَ بِهَا إلى التَّنْعِيمِ لَيْلَةَ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، فاعْتَمَرَتْ.
2-يَدُلُّ على أنَّ القَارِنِ لا يَجِبُ عليهِ إِلاَّ طَوَافٌ وَاحِدٌ وسَعْيٌ وَاحِدٌ، وهو مَذْهَبُ جُمهورِ العُلماءِ، ومنهم الأَئِمَّةُ الثلاثةُ، وعندَ الحَنَفِيَّةِ أنَّ القَارِنَ عليهِ طَوَافَانِ وسَعْيَانِ، واسْتَدَلُّوا على ذلكَ بأحادِيثَ, عن عُمَرَ وعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما ، ذَكَرَها الزَّيْلَعِيُّ في نَصْبِ الرَّايَةِ.
3- في الحديثِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ السَّعْيَ لا يَكُونَ إِلاَّ بَعْدَ طَوافِ نُسُكٍ، وإِلاَّ فَلاَ يَصِحُّ.
4-دُخولُ أَعْمَالِ العُمْرَةِ فِي أَعْمَالِ الحَجِّ فِي حَقِّ القَارِنِ بينَهما، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ مِن حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الحَجِّ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)).
5-عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْها لَمَّا وصَلَتْ معَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِيَ سرفٍ حَاضَتْ، فأمَرَها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ تُدْخِلَ العُمْرَةَ عَلَى الحَجِّ، وتَكُونَ قَارِنَةً، وقالَ لها: ((افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أَلاَّ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ)).
فأخَذَ الأَئِمَّةُ الثلاثةُ من هذا اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ للطَّوَافِ، أمَّا أبو حَنِيفَةَ رَحِمَه اللهُ فيَرَى أَنَّ مَنْعَها من الطَّوافِ هو لِئَلاَّ تَلْبَثَ بالمَسْجِدِ وهي حَائِضٌ، وعلى هذا فلا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ عندَه للطَّوَافِ، ولكنْ لَوْ طَافَتْ وهي حَائِضٌ صَحَّ طَوافُها، وعليها جَزَاءٌ حَسَبَ نَوْعِ الطَّوَافِ، كما هو مُفَصَّلٌ فِي المَذْهَبِ عندَه.
أمَّا بَقِيَّةُ العُلماءِ فقالوا: الحَائِضُ والنُّفَسَاءُ تُكْمِلُ أعمالَ الحَجِّ كُلَّها، عَدَا الطَّوَافِ فَلاَ يَصِحُّ.
خِلافُ العُلماءِ:
هذا الحديثُ مِن أَدِلَّةِ وُجوبِ السَّعْيِ، فالأقوالُ فِي حُكْمِهِ ثَلاثَةٌ:
أنَّه وَاجِبٌ، وأَنَّه سُنَّةٌ، وأَنَّه رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الحَجِّ، وكُلُّها مَرْوِيَّةٌ عن الإمامِ أحمدَ.
فذهَبَ كثيرٌ مِن العلماءِ إلى أنَّه رُكْنٌ، منهم الأَئِمَّةُ مالِكٌ، والشافِعِيُّ، وأَحْمَدُ في إحْدَى الرواياتِ عنه، وهي المَشْهورةُ في المَذْهَبِ، ومِمَّن رَأَى ذلك مِن الصَّحابةِ، ابنُ عُمَرَ وجَابِرٌ، وعَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ومَعْنَى ذلك أَنَّ الحَجَّ لا يَتِمُّ بدُونِهِ.
دَلِيلُهم: ما رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَن عَائِشَةَ قالَتْ: "طَافَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطَافَ المُسلمِونَ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ فلَعَمْرِي مَا أَتَمَّ اللهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ".
وذهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ إلى أنَّه سُنَّةٌ، لا يَجِبُ بتَرْكِه شَيْءٌ، ومنهم ابنُ عَبَّاسٍ، وأَنَسٌ، وابنُ الزُّبَيْرِ وابنُ سِيرِينَ، وهو رِوَايَةٌ عن الإمامِ أَحْمَدَ، ودَلِيلُهم ما يُفْهَمُ ظَاهِراً من الآيةِ: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
فأمَّا القولُ الثَّالِثُ: فوَاجِبٌ، وإليهِ ذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، وهو رِوَايَةٌ عن الإمامِ أَحْمَدَ، اخْتَارَها مِن أصحابِه القاضي، والتَّمِيمِيُّ، وصَاحِبُ الشَّرْحِ الكَبِيرِ، وصَاحِبُ الفَائِقِ، وجَزَمَ بها في الوَجِيزِ، ورَجَّحَها الإمامُ ابنُ قُدَامَةَ في المُغْنِي فقالَ: وقَوْلُ القاضي أقْرَبُ إلى الحَقِّ إنْ شَاءَ اللهُ تعالى، فإنَّ فِعْلَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصْحَابِهِ دَلِيلُ وُجوبِهِ؛ كالرَّمْيِ والحِلاقَةِ، ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ رُكْناً، وقَوْلُ عَائِشَةَ يُعارِضُه قَوْلُ غَيْرِها.
وقالَ في الشَّرْحِ الكَبِيرِ حِينَ ذَكَرَ رِوَايَةَ الوُجوبِ: وهو أَوْلَى؛ لأنَّ دَلِيلَ من أَوْجَبَهُ دَلَّ عَلَى مَطْلَقِ الوُجوبِ، لا علَى أنَّه لا يَتِمُّ الحَجُّ إلاَّ به.
أمَّا أَدِلَّةُ أنَّه سُنَّةٌ فغَيْرُ نَاهِضَةٍ، فالآيةُ نَزَلَتْ لَمَّا تَحَرَّجَ الصَّحَابَةُ مِن السَّعْيِ لوُجودِ صَنَمَيْنِ، أحَدُهما على الصَّفَا، والثاني على المَرْوَةِ في الجَاهِلِيَّةِ، وأَدِلَّةُ الوُجوبِ قَوِيَّةٌ، لَكِنَّها لا تُوصِلُه إلى الرُّكْنِيَّةِ.