تفسير القرآن بأقوال التابعين
من طرق التفسير المعتبرة؛ تفسير القرآن بأقوال التابعين، والأخذ عن التابعين واتّباعهم له أصل في القرآن؛ فإنّ الله تعالى قد أثنى على أصحاب نبيّه صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وبيّن ما أعدّ لهم من الثواب العظيم الذي يدلّ دلالة بيّنة على هدايتهم ورضا الله عزّ وجلّ عنهم.
ثم اشترط على التابعين شرطاً من أتى به كان مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يتّبعهم بإحسان كما بيّنه قول الله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}
ومن إحسان الاتباع أن يصدّق التابعون بما صدّق به الصحابة، وأن يقبلوا ما قبلوه، وأن يردّوا ما يردّوه، وأن يسيروا على منهاجهم، ويأخذوا دينهم بالاتباع لا بالابتداع.
وقد جعل الله تعالى موافقة الصحابة رضي الله عنهم فيما آمنوا به علامة بيّنة على الهداية كما دلّ على ذلك قول الله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}، وقد كانوا هم المخاطبين وقت نزول الآية.
وقد ورد الوعيد الشديد على مخالفة سبيلهم في قول الله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}.
وكان الصحابة يحذّرون من الذين يخالفون سبيلهم، ويبيّنون ما بيّنه الله في كتابه وما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب اتّباعهم بإحسان.
روى ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق إسحاق بن سليمان، قال: حدّثنا أبو سنانٍ [الشّيبانيّ] عن ابن عبّاسٍ أنه أتاه رجلٌ فذكر بعضَ أصحابِ محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم ورضي عنهم، كأنه يتنقَّص بعضهم؛ فقال ابن عبّاسٍ: {والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ} أمّا أنت فلم تتّبعهم بإحسانٍ).
فقد أوجب الله تعالى اتّباع سبيل المؤمنين، وتوعّد من خالفه، وسمّى لنا أئمة المؤمنين الذين يُقتدى بهم، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، والذين اتّبعوهم بإحسان.
ولذلك اشتدّ حذر الأئمة من أن يقولوا قولاً يخالفون به سلفهم من الصحابة والتابعين، كما قال الإمام أحمد: (إيَّاك أن تتكلَّم في مسألة ليس لك فيها إمام) رواه ابن الجوزي في مناقبه.
ولا شكّ أن أولى الناس بهذا الوصف من شهد لهم الصحابة رضي الله عنهم بإحسان الاتّباع، وأثنوا عليهم، وائتمنوهم على تعليم الناس وإفتائهم، وأمروا بالأخذ عنهم، ومن استفاض ثناء الأئمة عليهم بما يدلّ على صدقهم وعلمهم وفضلهم، وقد ورد في ذلك جملة من الآثار.
الأحاديث الواردة في فضل التابعين
وقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم على فضل التابعين في غير ما حديث حتى استقرّ ذلك في نفوس السلف الصالح رحمهم الله، وعرفوا شرط أفضليتهم فاعتنوا به واجتهدوا فيه.
وقد ورد في فضل التابعين أحاديث عدة:
- منها: حديث إبراهيم النخعي ، عن عبيدة السلماني، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» متفق عليه، وروي نحوه من حديث عمران بن الحصين، وحديث النعمان بن بشير، وغيرهما.
- ومنها: حديث أبي الزبير، عن جابر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان، يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل، فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم يكون البعث الرابع فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به).رواه مسلم.
- ومنها: حديث عبد الله بن العلاء قال: حدثنا عبد الله بن عامر، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصَاحَبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصَاحَب مَن صَاحَبَني» رواه ابن أبي شيبة في مصنفه وابن أبي عاصم في السنة وابن السمّاك، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فهذه الأحاديث تدلّ دلالة بيّنة على فضل التابعين للصحابة بإحسان، وسمّوا بالتّابعين لقول الله تعالى: {والذين اتّبعوهم بإحسان}..، وهذا الاسم الشريف يدلّ على أنّهم إنما نالوا أفضليتهم بإحسانهم اتّباع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن شُهد له بإحسان الاتباع فهو إمام من أئمة الدين، يُؤتسى به، ويعتبر تفسيره للقرآن، ويُحتجّ بروايته بالشروط المعتبرة عند أهل الحديث، وهي أن لا يخالف قوله نصّاً ولا قول صحابيّ ولا يخالفه أهل العلم من التابعين.
- فأمّا الاحتجاج بروايته فلأجل ما عُرف من عدالته وضبطه إلا أن يظهر في روايته علّة من العلل التي توجب الرد بما يعرفه أهل الحديث.
- وأما اعتبار قوله في التفسير؛ فالمراد به أنه له حظ من النظر، ويقبل بالشروط التي يأتي بيانها في أحكام تفسير التابعين.
- وأما الاتّساء بفعله فلأجل ما عرف من تأسّيه بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واهتدائه بهديهم، ولذلك يُشترط في التأسي به أن لا يُخالف هديَ النبي صلى الله عليه وسلم ولا هديَ أصحابه.
أعلام المفسّرين من التابعين:
عُرف بالإمامة في التفسير جماعة من التابعين منهم:
1. الربيع بن خثيم الثوري (ت:61هـ) وقد كان من العلماء الحكماء العبّاد من أصحاب ابن مسعود.
قال بكر بن ماعز: ( كان عبد الله بن مسعود إذا رأى الربيع بن خثيم مقبلا قال : {بشر المخبتين}، أما والله لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك). رواه ابن أبي شيبة.
2: مسروق بن الأجدع الهمْداني (ت:62هـ)؛ الإمام العابد الفقيه المخضرم، كان معروفاً بحرصه على طلب العلم ومجالسة الصحابة رضي الله عنهم.
قال الشعبي: (ما علمت أن أحداً كان أطلب للعلم في أفقٍ من الآفاق من مسروقٍ).
وقال علي بن المديني: (ما أقدم على مسروقٍ أحداً من أصحاب عبد الله، صلى خلف أبي بكرٍ، ولقي عمراً وعلياً، ولم يرو عن عثمان شيئاً، وزيد بن ثابت وعبد الله والمغيرة وخباب بن الأرت).رواه الخطيب البغدادي.
وروى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق أنه قال: (لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوجدتهم كالإخاذ؛ فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم؛ فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ). رواه ابن سعد والبيهقي وابن عساكر.
الإخاذ: مجمَع الماء؛ كالغدير ونحوه.
3: عبيدة بن عمرو بن قيس السلماني المرادي (ت: 72هـ) ، وهو من كبار التابعين وعلمائهم، ومن خاصّة أصحاب علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود.
4. زِرُّ بنُ حُبَيشِ بنِ حُباشةَ الأسديّ (ت: 82هـ)
الإمام المقرئ المفسّر، من المخضرمين، من كبار التابعين وأجلائهم وفقهائهم، وكان فصيحاً عالماً بالعربية، وفد على عمر، ولزم ابن مسعود وأبيّ بن كعب وعبد الرحمن بن عوف.
قال عاصم بن أبي النجود: (كان زر بن حبيش أعرب الناس، وكان عبد الله [بن مسعود] يسأله عن العربية). رواه ابن سعد.
وروى ابن سعد في الطبقات عن عاصم عن زرّ أنه قال: (خرجت في وفد من أهل الكوفة، وايم الله إن حرضني على الوفادة إلا لقاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما قدمت المدينة أتيت أبيّ بن كعب، وعبد الرحمن بن عوف، فكانا جليسيَّ وصاحبيَّ، فقال أبيٌّ: يا زرّ ما تريد أن تدع من القرآن آية إلا سألتني عنها).
5: أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي (ت: 83هـ تقريباً)
من خيار التابعين وعلمائهم، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه، وتلقّى العلم عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الأشعري، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم.
وكان ثقة عابداً زاهداً، من خاصة أصحاب ابن مسعود، وأعلمهم بحديثه، وأحفظهم له.
قال إبراهيم النخعي للأعمش: (عليك بشقيق، فإني رأيت الناس وهم متوافرون، وهم يعدونه من خيارهم). رواه الخطيب البغدادي.
6: أبو العالية رُفيع بن مهران الرياحي (ت: 93هـ)
الإمام القارئ المفسّر الفقيه، تابعيّ مخضرم، أدرك الجاهلية، وأسلم في خلافة أبي بكرٍ الصديق، وقرأ القرآن على عمر وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت.
وكان مملوكاً لامرأة من بني رياح فأعتقته سائبة لله.
وكان عابداً عالماً كثير تلاوة القرآن، حسن التفقّه فيه، وكان ابن عباس يُحبّه ويُكرمه ويقدّمه.
قال أبو العالية: كنت آتي ابن عباس وهو أمير البصرة، فيجلسني على السرير، وقريش أسفل، فتغامزت قريش بي، فقالت: يرفع هذا العبد على السرير! ففطن بهم، فقال: إن هذا العلم يزيد الشريف شرفا، ويجلس المملوك على الأسرة.) ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام.
7. سعيد بن المسيب المخزومي (ت:94هـ) ولد في خلافة عمر ورآه، وكان حريصاً على طلب العلم حسن الحفظ والفهم؛ فاجتمع له علم غزير على حين وفرة الصحابة في المدينة، وتفقه على زيد بن ثابت، وحفظ عن أبي هريرة حديثاً كثيراً، واعتنى بحفظ ما يبلغه من فقه عمر بن الخطاب وأقضيته حتى قال يحيى بن سعيد الأنصاري: (كان يقال: ابن المسيب راوية عمر).
قال الليث بن سعد: (لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته).
وقال علي ابن المديني: (لا أعلم في التابعين أوسع علما منه، هو عندي أجل التابعين).
أفتى في حضرة الصحابة، وكان من الصحابة من يسأله لعلمه وحفظه.
8: سعيد بن جبير الأسدي (ت:95هـ)
من جهابذة العلماء وكبار العبّاد، أخذ جلّ علمه عن ابن عباس وابن عمر وأخذ عن غيرهما من الصحابة وكبار التابعين، وكان حافظاً فَهِماً، وكان يسائل ابن عباس، ويحسن فهم مسائل العلم؛ فاعتنى به ابن عباس، وحدّثه فأكثر؛ حتى قال: لقد حفظت عني علماً كثيراً، وكان سعيد يكتب في صحف له، وكان يسمع سؤالات أصحاب ابن عباس له فيتفهّمها ويحفظها؛ حتى حصّل علماً غزيراً وهو شابُّ لم يبلغ الثلاثين من عمره؛ وأمره ابن عبّاس بالفتوى والتحديث؛ فكان مفتي أهل الكوفة في زمانه.
قال مجاهد :قال ابن عباس لسعيد بن جبير: حدّث.
فقال: أُحدِّث وأنت ها هنا !!
فقال: أوليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا شاهد؛ فإن أصبت فذاك، وإن أخطأت علَّمتك). رواه ابن سعد وابن أبي حاتم.
وقال: جعفر بن أبي المغيرة: كان ابن عباس بعدما عَمِي إذا أتاه أهل الكوفة يسألونه قال: تسألوني وفيكم بن أم دهماء) يعني سعيد بن جبير.
قال أشعث بن إسحاق: (كان يقال: سعيد بن جبير جهبذ العلماء). رواه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل.
الجهبذ هو الناقد البصير؛ الذي يميّز الصحيح من غيره.
9: أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي: (ت:102هـ)
وهو من أعلم أصحاب ابن عباس بالتفسير وأكثرهم سؤالاً له.
قال ابن أبي مليكة: (رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباسٍ عن تفسير القرآن ومعه ألواحه فيقول له ابن عباسٍ: اكتب، قال: حتى سأله عن التفسير كله).رواه ابن جرير.
قال مجاهد: (لقد عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم أنزلت، وفيم كانت؟). رواه الدارمي وابن جرير.
10: أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي (ت:104هـ)
الإمام الفقيه الحافظ قاضي الكوفة في زمانه، كان آية في الحفظ والفهم، حتى كان الصحابة يتعجّبون من حفظه وحسن سرده للحديث، وكان يحفظ على صدره ولا يكتب، وروى عن نحو مائة وخمسين من الصحابة.
قال محمد بن سيرين لأبي بكر الهذلي: (يا أبا بكر إذا دخلت الكوفة فاستكثر من حديث الشعبي، فإن كان ليسأل وإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأحياء).
قال ابن حبان: (روى عن خمسين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
روى مالك بن مغول، عن نافع، قال: سمع ابن عمر الشعبي وهو يحدث بالمغازي، فقال: (لكأنَّ هذا الفتى شهد معنا). رواه الخطيب البغدادي.
11: عكرمة البربري مولى ابن عباس (ت:104هـ)
لزم ابن عباس وخدمه، وأخذ منه علماً كثيراً، وكان ابن عباس يعتني بتعليمه، ويلزمه بذلك لما رأى من ذكائه وفهمه ونجابته، وأذن له بالفتوى في حياته.
- يزيد النحوي، عن عكرمة، قال ابن عباس: انطلق فأفت، فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته). ذكره الذهبي.
ومن مفسّري التابعين: علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد، والحسن البصري وطاووس بن كيسان، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة بن دعامة السدوسي، ومحمد بن كعب القرظي، وزيد بن أسلم العدوي، وغيرهم كثير.
طبقات التابعين
التابعون على ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: طبقة كبار التابعين، وهم الذين عاصروا كبار الصحابة رضي الله عنهم، وتلقوا عنهم العلم، ومنهم: الربيع بن خثيم الثوري، ومسروق بن الأجدع الهمداني، وعبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، وزرّ بن حُبيش الأسدي، وأبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، وأبو العالية رفيع بن مهران الرياحي، وسعيد بن المسيّب المخزومي، وغيرهم كثير.
والطبقة الثانية: طبقة أواسط التابعين، ومنهم: سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، ومجاهد بن جبر، وعامر بن شراحيل الشعبي، وعكرمة مولى ابن عباس، وطاووس بن كيسان، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة بن دعامة السدوسي، ومكحول الشامي، ومحمد بن كعب القرظي، وغيرهم.
والطبقة الثالثة: طبقة صغار التابعين، ومنهم: ابن شهاب الزهري، وأبو إسحاق السبيعي، وعبد الله بن عون، ومحمد بن المنكدر التيمي، وأيوب بن أبي تميمة السختياني، وزيد بن أسلم العدوي، ومنصور بن المعتمر السلمي، وسليمان بن مهران الأعمش، وغيرهم.
تفاوت درجات التابعين
التابعون على درجات متفاوتة لتفاوتهم في إحسان الاتباع وفي ضبط المرويات وفي الاجتهاد والفهم؛ ذلك أن التابعين ليسوا كالصحابة الذين اختصوا بخصيصة العدالة العامة؛ فكانوا كلُّهم عدولاً ثقاتٍ، لا مطعن فيهم من جهة الرواية وتبليغ الدين، قد اختارهم الله لصحبة نبيّه صلى الله عليه وسلم؛ فتلك ميزة للصحابة رضي الله عنهم لا يشاركهم فيها غيرهم.
وأما من بعدهم ففضيلتهم مشروطة بإحسانهم اتّباع الصحابة رضي الله عنه واتّصافهم بالعدالة والضبط، ولذلك فإنّ التابعين على درجات:
الدرجة الأولى: الأئمة الثقات الذين عُرفوا بالعلم والفضل والإمامة في الدين فهؤلاء بأعلى مراتبهم.
والدرجة الثانية: صالحون مقبولون ، ومنهم عباد معروفون، لا مطعن في عدالتهم ولا ضبطهم لكنّهم لم يكونوا معروفين بالاشتغال بالعلم كما عرف به أهل العلم من التابعين؛ فهؤلاء تقبل مروياتهم ويُحتجّ بها في الجملة إلا أن تخالف رواية من هم أوثق منهم.
والدرجة الثالثة: درجة الذين تعتبر روايتهم ولا يحتجّ بها إلا أن تعضد برواية آخرين، وأهل هذه الدرجة على أصناف:
أ- فمنهم صنف صالحون في أنفسهم غير متّهمين بالكذب، لكنّهم ضعفاء في الضبط، يقع منهم الخطأ في الرواية بما عرف به ضعف ضبطهم.
ب- وصنف مجهولو الحال تعرف أسماؤهم وأعيانهم ولا يُعرف حالهم.
ج- وصنف اختلف فيهم الأئمة النقّاد فمنهم من وثّقهم ومنهم من ضعّفهم؛ فهؤلاء منهم من يكون في حاله تفصيل فيلحق بالدرجة الأولى في بعض مروياتهم، ويلحق بالثالثة في غيرها في تفصيل كثير لأحوال تعارض الجرح والتعديل تدرس في علوم الحديث.
والدرجة الرابعة: الذين لا تعتبر روايتهم، وهؤلاء على أصناف:
أ- فمنهم الذين كَثُر منهم الخطأ وخلط روايات الثقات بالضعفاء من غير تمييز حتى استحقّوا الترك.
ب- ومنهم المتّهمون بالكذب.
ج- ومنهم غلاة المبتدعة.
أوجه عناية التابعين بالتفسير
والتابعون في عنايتهم بالتفسير على صنفين:
الصنف الأول: مفسّرون يفسّرون القرآن بما عرفوا من طرق تفسيره، ومن هؤلاء: أبو العالية الرياحي، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعامر الشعبي، والحسن البصري، وقتادة بن دعامة السدوسي، وزيد بن أسلم، والضحاك بن مزاحم، ومحمد بن كعب القرظي، وغيرهم كثير.
فهؤلاء لهم أقوال في التفسير يرويها عنهم أصحاب كتب التفسير المسندة، ومنهم من يجمع بين الاجتهاد في التفسير، ونقل التفسير عمّن تقدّم.
فأبو العالية يروي كثيراً عن أبيّ بن كعب وأبي موسى الأشعري وابن عباس وأنس بن مالك، وله أقوال تُروى عنه في التفسير.
وكذلك سعيد بن المسيب يروى عن أبي هريرة وعائشة وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وكعب الأحبار، وغيرهم كثير، وله أقوال في التفسير.
وكذلك سعيد بن جبير يروي عن ابن عباس وابن عمر وله أقوال كثيرة في التفسير تروى عنه.
وكذلك مجاهد وعكرمة وقتادة وزيد بن أسلم وغيرهم جمعوا بين القول في التفسير ونقله.
والصنف الثاني: نَقَلةٌ للتفسير؛ عماد عنايتهم بالتفسير على رواية أحاديث التفسير، ونقل تفاسير الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، ولا يكاد يُظفر لهم بأقوال في التفسير إلا نادراً.
وهؤلاء قد حفظوا للأمّة علماً كثيراً بحفظهم تفسير الصحابة رضي الله عنهم، وتفسير كبار التابعين.
وهؤلاء النقلة على ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: نقلة ثقات، ومنهم: قيس بن أبي حازم، وأبو الأحوص عوف بن مالك الجشمي، وأبو الضحى مسلم بن صبيح القرشي، وأبو رجاء العطاردي، وأبو مالك الغفاري، وأبو نضرة العبدي، وأبو تميمة الهجيمي ، وأبو المتوكّل الناجي، وأبو بشر اليشكري، والربيع بن أنس البكري، وأبو روق عطية بن الحارث الهمداني، وغيرهم.
والطبقة الثانية: نقلة متكلّم فيهم من جهة ضعف الضبط أو لاختلاف النقاد في أحوالهم، وهم على درجات متفاوتة، فمنهم: أبو صالح مولى أمّ هانئ، وشهر بن حوشب، وعطية العوفي، وعطاء بن السائب، وسماك بن حرب الذهلي، وعلي بن زيد بن جدعان.
والطبقة الثالثة: رواة ضعفاء في عداد متروكي الحديث، كيزيد بن أبان الرقاشي، وأبان بن أبي عياش، وأبي هارون العبدي، ويزيد بن أبي زياد الكوفي، وجويبر بن سعيد الأزدي.
تعظيم التابعين لشأن التفسير
كان التابعون على قدر عظيم من تعظيم القول في التفسير؛ وأخبارهم ووصاياهم في ذلك مشهورة مأثورة.
- قال عامر بن شراحيل الشعبي: « أدركت أصحاب عبد الله، وأصحاب علي وليسوا هم لشيءٍ من العلم أكرَه منهم لتفسير القرآن ». رواه ابن أبي شيبة.
- وقال عبيد الله بن عمر: « لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع». رواه ابن جرير.
- وقال مسروق بن الأجدع: « اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله ».رواه أبو عبيد.
- وقال إبراهيم النخعي:« كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه». رواه أبو عبيد.
- وقال القاسم بن محمد: « لأن يعيش الرجل جاهلا بعد أن يعلم حق الله عليه خير له من أن يقول ما لا يعلم » رواه الدارمي.
- وذكر يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن.
- وقال يزيد بن أبي يزيد:« كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع». رواه ابن جرير.
قال ابن كثير: (فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به؛ فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا، فلا حرج عليه؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب سكوت المرء عما لا علم له به، فكذلك يجب عليه القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه}، ولما جاء في الحديث المروى من طرق: ((من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار)).