قولُه:
. . . وأما أهلُ الهُدَى والفلاحِ فيؤمِنون بهذا وهذا ويؤمِنون بأن اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه، وما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكنْ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأحاطَ بكلِّ شيءٍ علْماً، وكلَّ شيءٍ أَحصاه في إمامٍ مُبِينٍ، ويَتضمَّنُ هذا الأصلُ، من إثباتِ علْمِ اللهِ وقدرتِه ومشيئتِه ووحدانيَّتِه وربوبيَّتِه وأنه خالِقُ كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه ما هو من أصولِ الإيمانِ ومع هذا لا يُنكرون ما خلَقَ اللهُ من الأسبابِ التي يَخلُقُ بها المسبِّباتِ، كما قالَ تعالى:{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاَ سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقالَ تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} وقالَ تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} فأَخبرَ أنه يَفعلُ بالأسبابِ، ومن قالَ إنه يَفعلُ عندَها لا بها فقد خَالفَ ما جاءَ به القرآنُ، وأَنكرَ ما خَلقَه اللهُ من القُوَى والطبائعِ، وهو شبيهٌ بإنكارِ ما خلَقَه اللهُ من القُوى التي في الحيوانِ التي يَفعلُ بها مثلَ قدرةِ العبدِ، كما أن من جَعلَها هي المبدِعةُ لذلك، فقد أَشركَ باللهِ، وأضافَ فِعلَه إلى غيرِه، وذلك أنه ما من سَببٍ من الأسبابِ إلا وهو مفتقِرٌ إلى سببٍ آخَرَ في حصولِ مسبِّبِه، ولابدَّ من عدَمِ مانعٍ يَمنعُ مقتضاه إذا لم يدْفَعْه اللهُ عنه فليس في الوجودِ شيءٌ واحدٌ يَفعلُ شيئاً إذا شاءَ إلا اللهُ وحدَه، قالَ تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فتَعلمون أن خالِقَ الأزواجِ واحدٌ.
الشرْحُ:
. . . أما أهلُ الإيمانِ والتوحيدِ والاستقامةِ على الشرْعِ فيؤمِنون بقدَرِ اللهِ السابقِ، وبما شرَعَه من شرائعَ، وأن اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ ولا يكونُ في ملكِه إلا ما يريدُ، وأنه بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وكلُّ شيءٍ قد أَحصاه في إمامٍ مبِين، والإيمانُ بهذا الأصلِ هو أحدُ دعائمِ الإيمانِ بوحدانيَّةِ اللهِ وربوبيَّتِه الشاملةِ.
ومع الإقرارِ بما ذُكرَ فأهلُ الإيمانِ والتوحيدِ لا يُنكرون ما خلَقَه اللهُ من الأمورِ التي جَعلَها اللهُ سبباً في حصولِ المسبِّباتِ، وذلك أن اللهَ علِمَ الأشياءَ على ما هي عليه وقد جَعلَ لها أسباباً بها يُعلَمُ أنها تكونُ، فلابدَّ من الأسبابِ التي قد عَلِمَها اللهُ سبحانَه وتعالى فلا يَنالُ العبدُ شيئاً إلا بما قدَّرَه اللهُ من جميعِ الأسبابِ واللهُ خالِقُ ذلك الشيءِ وخالِقُ الأسبابِ ولهذا قيلَ: (الالتفاتُ إلى الأسبابِ شرْكٌ في التوحيدِ، ومَحْوُ الأسبابِ أن تكونَ أسباباً نقْصٌ في العقلِ، والإعراضُ عن الأسبابِ بالكلِّيَّةِ قدْحٌ في الشرعِ) ومجرَّدُ الأسبابِ لا يُوجبُ حصولَ المسبَّبِ بل لابدَّ من تمامِ الشروطِ، وزوالِ الموانعِ وكلُّ ذلك بقضاءِ اللهِ وقدرِه, مثالُ ذلك الكلماتُ الطيِّباتُ من الأذكارِ المأثورةِ المعلَّقِ عليها جلْبُ المنافعِ، أو دفْعُ المضارِّ. فإن الكلماتِ بمنزِلَةِ الآلةِ في يدِ الفاعلِ تَختلفُ باختلافِ قوَّتِه وما يُعينُها وقد يُعارضُها مانِعٌ من الموانعِ، وكثيراً ما تَجدُ أدعيةً دعا بها قومٌ فاستُجيبَ لهم ويكونُ قد اقْتَرَنَ بالدعاءِ ضرورةُ صاحبِه وإقبالُه على اللهِ، أو حَسنةٌ تقدَّمَتْ منه جَعلَ اللهُ سبحانَه إجابةَ دعوتِه شكْراً لحسنتِه، أو صادفَ وقتَ إجابةٍ ونحوَ ذلك فأُجيبتْ دعوتُه فيَظنُّ أن السرَّ في ذلك الدعاءِ فيأخذُه مجرَّداً عن تلك الأمورِ التي قارنَتْه من ذلك الداعي. قالَ الشيخُ: (وهذا كما إذا اسْتعملَ رجلٌ دواءً نافعاً في الوقتِ الذي يَنبغي فانتفعَ به فظَنَّ آخَرُ أن استعمالَ هذا الدواءِ بمجرَّدِه كافٍ في حصولِ المطلوبِ، وكان غالِطاً فالأدعيَةُ والتعوُّذاتُ والرُّقَى بمنزلةِ السلاحِ والسلاحُ بضاربِه لا بحدِّه فقط فمتى كان السلاحُ سلاحاً تامًّا والساعدُ ساعداً قويًّا والمحَلُّ قابلاً والمانِعُ مفقوداً حصلَتْ به النِّكايةُ في العدوِّ ومتى تَخلَّفَ واحدٌ من هذه الثلاثةِ تَخلَّفَ التأثيرُ، فإذا كان الدعاءُ في نفسِه غيرَ صالحٍ أو الداعي لم يَجمْعَ بين قلبِه ولسانِه في الدعاءِ، أو كان ثَمَّ مانِعٌ من الإجابةِ لم يَحصُل الأثرُ).
والشاهِدُ من آيةِ الأعرافِ أن اللهَ أَخبرَ أن إِنشاءَ السحابِ سببٌ للمطَرِ. روى أبو الفرَجِ بنُ الجوزيِّ بإسنادٍ يرفعُه إلى عُبَيْدِ بنِ عُميرٍ أنه قالَ: (يَبعثُ اللهُ رِيحاً فتَقُمُّ الأرضُ، ثم يَبعثُ المثيرةَ فتُثيرُ السحابَ وذلك أنها تَحملُ الماء فتَمُجُّه في السحابِ، ثم يَمرُّ به فيُدِرُّ كما تُدِرُّ اللَّقْحَةُ). وقد رُويَ في الأثرِ أن الرياحَ أربعٌ: ريحٌ تَقُمُّ، وريحٌ تُثيرُ فتجعلُه كِسَفاً، وريحٌ تؤلِّفُ، فتجعلُه رُكَاماً، وريحٌ تُمْطَرُ، ورُوِيَ عن عبدِ اللهِ بن عبَّاسٍ - رضِيَ اللهُ عنهما - أنه قالَ: (إن اللهَ تعالى يُرسلُ الرياحَ فتُثيرُ سحاباً. ويَنزلُ عليه المطَرُ فتَتمخَّضُ به الريحُ كما تَمَخَّضُ النَّتُوجُ بولدِها). وأن الماءَ سببٌ لإنباتِ النباتِ، قالَ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتَ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} والشاهِدُ من آيةِ المائدةِ والبقرةِ: أن القرآنَ الكريمَ سببٌ في الهدايةِ لقومٍ، ويكونُ سبباً في الإضلالِ لقومٍ آخرين كما بيَّنَ اللهُ ذلك بقولِه: { إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
أما من زَعمَ أن اللهَ يَفعلُ عندَ حصولِ السببِ فقد أَنكرَ ما صرَّحَ به القرآنُ العزيزُ من أنَّ اللهَ يَفعلُ بالسببِ، وأَنكرَ أيضاً ما خَلقَه من القُوى والطبائعِ التي كوَّنَها اللهُ في المخلوقاتِ كالقوَّةِ المحرِقةِ التي جَعلَها اللهُ من طبيعةِ النارِ، وكالقوَّةِ المبرِّدةِ التي جَعلَها من طبيعةِ الثلجِ وكالقوَّةِ التي وَهبَها اللهُ للإنسانِ فبها يقومُ ويَقعدُ ويعملُ ويَتلذَّذُ ويتصرَّفُ، وكالإسكارِ الذي جَعلَه اللهُ من طبيعةِ الخمرِ، وكطبيعةِ مَنِيِّ الرجالِ الذي يَحصُلُ منه الولدُ، ومَنِيِّ الجمالِ الذي تَحصُلُ منه الإبلُ، إلى غيرِ ذلك من الطبائعِ التي جَبلَ اللهُ خلْقَه عليها. فسبحانَ مبدِعِ الخلْقِ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}.
كما أن من جَعلَ الحيوانَ هو الذي يُوجِدُ فعْلَ نفسِه، أو جَعلَ شيئاً من الأمورِ الطبيعيَّةِ يَفعلُ بمقْتَضى طبيعتِه فقد أَشركَ مع اللهِ غيرَه في الخلْقِ بإضافةِ فعْلِ ذلك الشيءِ إلى غيرِ اللهِ، وقد سَبقَ إيضاحُ أنه ما من سَببٍ من الأسبابِ إلا وهو مفتقِرٌ إلى سببٍ آخرَ لا استقلالَ له البتَّةَ، ولا بدَّ أيضاً في حصولِ المسبَّبِ من انتفاءِ الموانِعِ مع قَبولِ المحلِّ، واللهُ تَباركَ وتعالى خالِقُ الأسبابِ ومسبِّباتِها، فما من أَحدٍ يَفعلُ بالاستقلالِ ما يريدُ إلا ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، قالَ عزَّ وجلَّ: {وَمِنْ كُلِّ شيءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يعني فتَعلمون أن خالِقَ الزوجين من جميعِ أصنافِ الخلْقِ واحدٌ لا إلهَ للخلْقِ غيرُه، ولا ربَّ لهم سواه. قالَ الشيخُ: (وأما الأسبابُ المخلوقةُ كالنارِ في الإحراقِ، والشمسِ في الإشراقِ، والطعامِ والشرابِ في الإشباعِ والإرواءِ ونحوِ ذلك فجميعُ هذه الأمورِ سبَبٌ لا يكون الحادثُ به وحدَه بل لابدَّ أن يُنظَمَ إليه سببٌ آخَرُ، فالمطرُ وحدَه لا يُنبتُ النباتَ إلا بما يُنْظَمُ إليه من الهواءِ والترابِ وغيرِ ذلك ثم الزرعُ لا يَتِمُّ حتى تُصرفَ عنه الآفاتُ المفسِدةُ له. والطعامُ والشرابُ لا يُغذِّي إلا بما جُعِلَ في البدَنِ من الأعضاءِ والقُوى، ومجموعُ ذلك لا يُفيدُ إن لم تُصرَف المفسِداتُ. والمخلوقُ الذي يُعطيك أو يَنصرُك فهو مع أن اللهَ يَخلُقُ فيه الإرادةَ والقوَّةَ والفعْلَ، فلا يَتِمُّ ما يفعلُه إلا بأسبابٍ كثيرةٍ خارجةٍ عن قدرتِه تعينُه على مطلوبِه - ولو كان ملِكاً مُطاعاً - ولا بدَّ أن يَصرِفَ عن الأسبابِ المعينةِ ما يُعارضُها ويُمانعُها فلا يَتِمُّ المطلوبُ إلا بوجودِ المتَقَضِّي وعدمِ المانعِ.