المرحلة الرابعة.
موضوع البحث:
تعيين المراد بمواقع النجوم في قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم (75)} الواقعة.
المطلوب:
8: دراسة الأقوال الواردة في المسألة ومناقشتها وبيان القول الراجح.
اختلف في المراد بمواقع النجوم وقيل فيها :
أولاً: نجوم القرآن ، فالمراد به على أقوال :
1/ قيل محكم القرآن، قاله عبدالله بن مسعود وابن عباس ومجاهد
_روى الفراء : حدثني الفضيل بن عياض, عن منصور, عن المنهال بن عمرو رفعه إلى عبد الله فيما أعلم شك الفراء قال: { فلا أقسم بموقع النجوم}, قال: بمحكم القرآن، وكان ينزل على النبي صلى الله عليه نجوما).، وهذا القول شك به الفراء فيما رواه .
_وروى ابن جرير الطبري : حدّثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ قال: حدّثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن مجاهدٍ، {فلا أقسم بمواقع النّجوم}. قال: هو محكم القرآن.
_وكما ذكر في صحيح البخاري قوله : بمحكم القرآن، ويقال: بمسقط النّجوم إذا سقطن، ومواقع وموقعٌ واحدٌ ").
عند السلف رضوان الله عليهم ،أن المحكم ما ظهر معناه وانكشف كشفا يزيل الإشكال ويرفع الاحتمال وهو موجود في كلام الله تعالى ويقابله المتشابه .
لكن محكم القرآن بصفة عامة يراد به ،الإحكام العام لوصف كتاب الله ، فهو محكم القرآن وآياته ومعجزاته ، قال تعالى :( وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) ، فكما النجم نهتدي به من ظلمات البحر والبحر ، فكذلك القرآن هداية للبشر من الظلمات إلى النور وهو أبلغ تشبيه. والله أعلم .
2/ وقيل منازل القرآن،، إذ أنزل منجماً على رسول الله سنيناً . قاله ابن عباس ، وعكرمة
_روى ان جرير :حدّثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدّثنا هشيمٌ قال: أخبرنا حصينٌ، عن حكيم بن جبيرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: نزل القرآن في ليلة القدر من السّماء العليا إلى السّماء الدّنيا جملةً واحدةً، ثمّ فرّق في السّنين بعد قال: وتلا ابن عبّاسٍ هذه الآية {فلا أقسم بمواقع النّجوم} قال: نزل متفرّقًا . وروى ابن جرير : حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ قال: حدّثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم}. قال: أنزل اللّه القرآن نجومًا ثلاث آياتٍ وأربع آياتٍ وخمس آياتٍ.
قال الزجاج : وقيل إن مواقع النجوم يعنى به نجوم القرآن، لأنه كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجوما شيئا بعد شيء , ودليل هذا القول : {وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم * إنّه لقرآن كريم}).
فمعنى ذلك مواقعها هو نزولها ، ونجوماً هو نزولها متفرقة شيئاً بعد شيء في سنين ، فالقرآن أنزل جملة واحدة في السماء ، ثم أنزل متفرقاً على النبي صلى الله عليه وسلم .
3/وقيل مستقر الكتاب أوله وآخره). قاله ابن عباس
روى بن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما {فلا أقسم بمواقع النجوم} قال: مستقر الكتاب أوله وآخره) .
فكما أنزل القرآن منجماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا مبتداه ومنتهاه ، فنزوله على مراحل من اللوح المحفوظ للسماء الدنيا ثم نزوله متفرقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال السدي : وقِيلَ المُرادُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ نُزُولُ القُرْآنِ نُجُومًا مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ .
فكما في الأثر عن ابن عباس نزوله منجماً على على رسول الله ،فهو من الاخبار مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثانياً: وقيل الكواكب. ومنها نجوم السماء، مما أجمع عليه جمهور المفسرين لكن الاختلاف في مواقعها على أقوال :
1/مواقعها و مساقطها , ومغايبها ،قاله أبو عبيدة ، ومجاهد ، وقتادة ، وقاله عطاء بن رباح ، وقاله الحسن .
_قال أبو عبيدة : (فأقسم بمواقع النجوم , ومواقعها مساقطها , ومغايبها).
_روى ابن جرير الطبري : حدّثني محمّد بن عمرٍو قال: حدّثنا أبو عاصمٍ قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث قال: حدّثنا الحسن قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {بمواقع النّجوم}. قال في السّماء ويقال مطالعها ومساقطها.
_وروى ابن جرير الطبري : حدّثني بشرٌ قال: حدّثنا يزيد قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم}. أي مساقطها.
هذه الأحوال تكون في الدنيا ،. من غروبها ، وسقوطها ، ومواقعها ، فهذا دليل عظمة خالقهاوقدرته وبديع صنعه .
قال ابن تيمية : أن الرب تعالى يقسم بالنجوم وطلوعها وجريانها وغروبها إذ فيها وفي أحوالها الثلاث آية وعبرة ودلالة كما تقدم في قوله تعالى ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) وقال ( والنجم إذا هوى ) وقال ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب
قال الزجاج :ومواقع النجوم مساقطها، كما قال عزّ وجلّ : {فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب} .
فمعنى ذلك سقوط النجوم سواء في المشارق أو المغارب ، فهو محل الوقوع لخط سيرها ، ومكان مغيبها بعلم الله سبحانه .
2/ وقيل منازل النجوم
قاله قتادة ، وعطاء بن رباح
-رواه عبدالرازق : عن معمر عن قتادة في قوله فلا أقسم بمواقع النجوم قال منازل النجوم ،كذلك قاله عطاء .
وقال ابن عاشور : والمواقع هي : أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء ، وكذلك بروجها ومنازلها ،فيقصد بالمنازل هي أماكنها في بروجها ، فهي كسابقتها مواقعها ومحل خط سيرها بمنظومة عالية ،تدل على قدرة الخالق ، وحال غروبها وزوال أثرها.
3/وقيل انكدارها وانتثارها يوم القيامة.
قاله الحسن .
رواه ابن جرير : حدّثنا بشرٌ قال: حدّثنا يزيد قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، في قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم} قال: قال الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة.
هذا القول هو التفسير باللازم ، وهو دليل على أهوال يوم القيامة من انكدار النجوم لقوله (وإذا النجوم انكدرت ) .
وهو اثبات وقوع يوم القيامة ومافيها من أهوال ورد على الكفار لإنكارهم البعث .
قال ابن عطية : ولعل وقوعها ذلك اليوم ليس دفعة واحدة ، والتخصيص لما في ذلك من ظهور عظمته عز وجل ، وتحقق ما ينكره الكفار من البعث .
4/وقيل هي الأنْواءُ الَّتِي كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ مُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا.
قاله الضحاك .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ: الْأَنْوَاءَ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مُطِروا، قَالُوا: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا.
ولحديث ابن عباس : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للناس : ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ، فأما مَن قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنَوْء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب) رواه مسلم
قال ابن الأثير : المراد بالنوء في حديث الباب النجم ، وسمي نوءاً ،لأنه إذا سقط الساقط منها في المغرب ناء الطالع بالمشرق ، ينوء نوءاً ، أي :نهض وطلع ،وقيل : سقط وغاب .
فالعرب في الجاهلية يعتقدون بالنجوم إذا سقط منها نجم طلع بدله نجم ، فينزل المطر ، فينسبونه للإنواء ، ويقولون مطرنا بنوء كذا .
.
5/ وقِيلَ: مَواقِعُها عِنْدَ الِانْقِضاضِ إثْرَ العَفارِيتِ، ذكره ابن عطية وفخر الدين الرازي قولاً في تفسيرهما .
قال الرازي : مَواقِعُها في اتِّباعِ الشَّياطِينِ عِنْدَ المُزاحَمَةِ.
فمن وظائف النجوم رجوم للشياطين ، ولكل من يسترق السمع منهم ، فهي من اعجاز الله وحفظه لكتابه من الاستراق ،قال تعالى :(وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُومًا لِّلشَّيَٰطِينِ ۖ) ، وقال سبحانه :( لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ).
قال ابن عاشور : أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من عِلم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة ، وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون .
فالراجح أن المراد بمواقع النجوم ،عند أكثر المفسرين هي الكواكب المعروفة ، وجريانها ومنازلها ، ومطالعها ، فهي إعجاز من الخالق ، لكل مستقر ومستودع فسبحان الله أحسن الخالقين .
قال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب قول من قال: معنى ذلك: فلا أقسم بمساقط النّجوم ومغايبها في السّماء، وذلك أنّ المواقع جمع موقعٍ، والموقع المفعل من وقع يقع موقعًا، فالأغلب من معانيه والأظهر من تأويله ما قلنا في ذلك، ولذلك قلنا: هو أولى معانيه به.
و قال ابن القيم : لأن النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد بها الكواكب .