بسم الله الرحمن الرحيم
سيرة صاحب السر بصير الفتن ( حذيفة بن اليمان )
( يا أمير المؤمنين.. أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب، كما اختلف اليهود والنصارى..) (1)
هكذا أطلقها حذيفة صرخةً مدويةً تستنهض أمير المؤمنين قبل وقوع فتنة عظيمة وشقاق بعيد..
كان ذلك سنة خمس وعشرين من الهجرة، وقد اجتمع أهل الشام وأهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان، وكان حذيفة بن اليمان ضمن تلك الغزوة فحزن لما رأى من حال المسلمين،
كل يستنصر لقرائته وينكر على أخيه القراءة التي يقرأ بها، وسمع ما كانت تنطق به ألسنتهم من كلمات التجريح، والتأثيم، فاستعظم ذلك، ففزع إلى عثمان رضي الله عنه، وأخبره بما رأى،
وقال له: (أدرك الناس قبل أن يختلفوا في كتابهم الذي هو أصل الشريعة، ودعامة الدين، كما اختلف اليهود والنصارى).(2)
وقد أدرك عثمان ثاقب النظر، حصيف الرأي، خطورة التحذير لا سيما أنه جاء من صحابي عارف بالفتن ومكامنها، وبعد المشورة كان جمعُ الناس على مصحف إمام هو سبيل حل النزاع واستئصال الخلاف.(3)
وهكذا هو الناصح لدينه، القوي في الحق، يفزع لما قد يُحدِثُ شرخا بالأمة، ويُنزلُ بقلوب أبنائها البغضاء، يسعى في الإصلاح والنصح لأولي الأمر..
فمن ذاك العَلَم المتبصر بالفتن، سليم القلب والمقصد.. إنه حذيفة بن اليمان.
يكنى بأبي عبد الله، وهو حذيفه بن حسيل (4) بن جابر من بني عبس(5)، وقيل حسل، ولُقب أبوه ب(اليمان) لأنه أصاب دما في قومه، فهرب إلى المدينة، وحالف بني عبد الأشهل من الأنصار،
فسماه قومه اليمان لأنه حالف الأنصار وهم من اليمن(6)، وأمه هى الرباب بنت كعب بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل(7).
أسلم حذيفة هو وأبوه، وهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (8) وخيره الرسول صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة (9)، وأرادا أن يشهدا معه بدراً، وكان المشركون قد استحلفوهما ألا يشهدا
مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحلفا لهم، ثم سألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم (10).
ولما أتت الفرصة التي ينتظهرها حذيفة، سارع، وشمر، وأعد العدة ليقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، وبدأت المعركة واشتد القتال وحذيفة يظهر براعة وبسالة، وكان أبوه شيخا كبيرا قد جُعل هو وغيره من الشيوخ
الذين لا يقوون على حمل السلاح أو القتال في الآطام مع النساء، فلم يصبر وكان ينتظر الشهادة، فلحق بالمقاتلين (11)*، وحين اختلط المسلمون أبصر حذيفة بعضا منهم يلاحقون أباه ولم يعرفوه،
فصرخ حذيفة وقلبه يكاد ينخلع: عباد الله أبي أبي..
لكن سبقت سيوفهم، وكل ما قدر الرحمن مفعول..
قُتل أبوه، خطأ على أيديهم..
فقال حذيفة بأسى ورباطة جأش لما علم الصدق منهم: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين..
ثم ما لبث أن أنطلق لساحة المعركة يقاتل، فلم يغفل عن الهدف الأسمى والمطلب الأعظم..
وزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، وأمر بديّة اليمان أن تُخرج، فتصدق حذيفة بدم أبيه على المسلمين (12).
قال أبو بكر: فوالله ما زالت في حذيفة منها بقية خير حتى لقى الله عز وجل (13).
فتلك منقبة لحذيفة من مناقبه الجليلة التي سنذكرها..
صاحب السر..
روي عن علقمة أنه أتى المدينة فجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم يسر لي جليسا صالحا، فجلس إليه أبو الدرداء، فلما علم أن علقمة أتى من الكوفة قال له: أليس فيكم صاحب السر
الذي لا يعلمه غيره، يعني حذيفة، وعدد له أسماء من الصحابة كل بما عُرف عنه (14).
لكن لمَ عُرف حذيفة بصاحب السر؟ وأي سر هذا ؟!
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أسرَّ لحذيفة بالمنافقين وأحوالهم، ولا يعلم أحد سواه هذا السر (15)، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحذيفة: إني مسر إليك أمرا فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلي عن فلان
وفلان وفلان -رهط عدة من المنافقين -(16)، وكان عمر بن الخطاب يتحرى خبر المنافقين، فسأل حذيفة: هل فى عمالى أحد منهم؟ قال: "نعم، واحد"، قال: من هو؟ قال: "لا أذكره"، فعزله عمر كأنما دَلّ عليه (17)،
وكان إذ مات الرجل وأعرض حذيفة عن الصلاة عليه علم عمر فينصرف ولا يصلي عليه ( 18).
وقد سأل عمر حذيفة يوما: يا حذيفة أنشدك بالله أمن القوم أنا؟
قال حذيفة: اللهم لا، ولن أبري أحدا بعدك.
فجادتا عينا عمر (19).
لله درك يا عمر تخاف أن تكون منهم وقد بُشرت بالجنة !
فهى هى منقبة أخرى لحذيفة، فهو الوحيد الذي عرف بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم..
علمت الشر لتوقيه..
خالط حذيفة أهل الصفة مدة فنسب إليهم، وعكف على العلم والعبادة، وكان عارفا بالفتن متبصرا بها،
فزهد في الدنيا وعزف عنها (20) ولربما كان ذلك لكثرة ما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديث الفتن، وما علمه من أحوال المنافقين، فأورث قلبه الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة.
كان حذيفة يكثر من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أحاديث الفتن والشر ليجتنبها، وكان أعلم الصحابة بها، وجاء عن حذيفة فيما روي في الصحيحين أنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير،
وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى) (21)، وهذا يدل على عقل وبصيرة، فإن العالم بالخير يأتيه، وقد يعرض له أمر لا تتبين حقيقته أخير هو أم شر، فإن عَلِمَ الشر كان ذلك أدعى لاجتنابه، والحرص على لزوم الخير،
فيمضي واثق الخطى، على بينة فيما يعرض له..
وقد سئل حذيفةُ يوما: أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر، ولا تدري أيهما تترك (22).
وروي عن حذيفة أنه قال: إني لأعلم الناس بكل فتنة هى كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما ذاك أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني من ذلك أسره إلى لم يكن حدث به غيري (23).
ومقولة حذيفة تبنئ عن علمه بنفسه، ومعرفته بإمكاناته، وحق له أن يقول ذلك فقد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث الفتن، وكان عمر رضي الله عنه يسأله عنها..
ففي جمع عند عمر كان فيه حذيفة، سأل عمر: أيكم سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن التي تموج موج البحر؟
فقال حذيفة وقد علم أن عمر يريده: أنا.
قال عمر: أنت لله أبوك.
فقال حذيفة: تعرض الفتن على القلوب عرض الحصيد، فأي قلب أنكره نكتت فيه نكتة بيضاء، وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء حتى تصير القلوب على قلبين.. الحديث.
ثم حدث حذيفة عمر بفتنة عظيمة وأن بينه وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر كسراً..
فقال عمر: كسرا لا أبا لك.
قال حذيفة: نعم.
قال: فلو أنه فُتح لكان لعله أن يُعاد فيغلق.
فأعاد حذيفة: بل كسرا(24).
وكان هذا الباب عمر، فبموته دبت الفتنة في الأمة، وكانت أول الفتن مقتل عثمان بن عفان..
وروي عن حذيفة أنه قال بعد موت عمر: كان كان الإسلام في زمان عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربًا، فلما توفي صار كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدًا(25).
مناقب حذيفة..
لحذيفة مناقب عديدة، ومواقف تفصح عن شخصية ذات بصيرة..
ومن مناقب حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له فكفي، وكان ذلك في ليلة من ليالي الحصار في غزوة الخندق، حيث البرد الشديد والجوع، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل من يأتي بخبر القوم،
وجعل يُرغِّب من عنده فقال: هو رفيقي في الجنة، ويكرر النداء، فما قام أحد، حتى نادى حذيفة ..
فقال: يا حذيفة، تسمع كلامي منذ الليلة ولا تقوم ؟
فقال حذيفة: ولا والذي بعثك بالحق، إن قدرت على ما بي من الجوع والبرد.
فقال له: اذهب في القوم فانظر ماذا يقولون..
وأمنه فقال: ليس عليك بأس.
وما أن انطلق حذيفة، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته (26).
فحُفظ حتى عاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قد دخل بين القوم حتى جلس معهم، وكُفي البرد والخوف، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما علم، وبعدم فرغ أصابه البرد، فألبسه الرسول صلى الله عليه وسلم
من فضل عبائته التي كانت عليه، فنام حذيفة حتى الصبح (27).
هكذا كان حذيفة حين يُطلبُ، رجل المهام..
وفي يوم قال عمر لأصحابه: تمنوا، فتمنوا ملء البيت الذى هم فيه جوهرًا لينفقوه فى سبيل الله، فقال عمر: لكنى أتمنى رجالاً مثل أبى عبيدة، ومعاذ بن جبل، وحذيفة، وأستعملهم فى طاعة الله تعالى (28).
وفي خلافة عمر كانت الفتوحات الإسلامية لأرض فارس، وكان عمر يُحسن استثمار الرجال كل في موقعه، فأمر بجيش تحت قيادة حذيفة، يسير به إلى النعمان بن مقرن ليلتحم معه تحت راية النعمان في قتال الفرس،
وقد سار مع حذيفة خلق كثير من أمراء العراق، والوجهة كانت نهاوند، وفي المعركة اشتد القتال بين العرب والفرس، وكان عمر قد كتب بأن يتولى حذيفة الراية بعد النعمان، فلما قتل النعمان، أخفى حذيفه خبر موته
لئلا تفتر العزائم، وأقام أخ النعمان ويقال له نعيم- وقيل سويد- مكانه تقديرا له،(29)، وذهب يحث المسلمين على القتال ويستنهض الهمم، ويرغبهم فيما عند الله من ثواب، حتى انتهى القتال بهزيمة الفرس هزيمة نكراء،
وفتح حذيفة بعد ذلك همذان والدينور وماء سندان (30) وشهد فتح الجزيرة ونزل نصيبين، وتولى المدائن (31).
فكان حذيفة قائدا حكيما، ومقاتلا شجاعا، وهذا لا يتعارض مع قلب رحيم، فمن مشاهد بره، ماروي عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر له ولأمه، وكان قد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم عارض، فقال لحذيفة: ما لك؟ فحدثه حذيفة بالأمر.
فقال: غفر الله لك ولأمك، أما رأيت العارض الذي عرض لي قبل؟
قال حذيفة: بلى.
قال: هو ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم عليّ وبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.(32)
فشهد هبوط ملك لم ينزل إلى الأرض من قبل حاملا البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم..
فأي فضل هذا الذي شهده حذيفة!
من أقوال حذيفة..
لحذيفة أقوال أحق أن تحفظ في الصدور،انتقيت منها ما قل ودل عنه، قال: إن الحق ثقيل وهو مع ثقله مرئ، وإن الباطل خفيف وهو مع خفته وبئ، وترك الخطيئة أيسر- أو قال: خير- من طلب التوبة،
ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا.
وعنه قال: ليس خياركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا خياركم من ترك الآخرة للدنيا، ولكن خياركم من أخذ من كل. (33)
وهذه مقولة بليغة، فالصحابة رضي الله عنهم لا سيما كبارهم قد فهموا حقيقة الزهد في الدنيا فلم يجتنبوها بالكلية، بل سخروها لتخدم آخرتهم..
وفاته..
كان حذيفة مدركا لحقيقة الدنيا وأنه لابد من يوم يغادرها فيه، فأرسل من يشتري له كفنا، فاشتروا له كفنا حلة عصب بثلاث مائة درهم، فقال: ما هذا لي بكفن، إنما يكفيني ريطتان بيضاوان ليس معهما قميص،
وإني لأترك إلا قليلا حتى أنال خيرا منهما أو شرا منهما، فابتاعوا له ريطتين بيضاوين. (34)
* الريطة: كل ملاءة غير ذات لفقين كلها نسج واحد، وقيل هو كل ثوب لين دقيق.
(انظر: لسان العرب لابن منظور).
وروي عن حذيفة أنه قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه وإن لم يدركه آن به في قبره، فشهد حذيفة أول الفتن التي كان يُحدثه بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان مقتل عثمان، ولما علم حذيفة بمقتله قال: والله لئن كان قتله خيراً ليحلبنه لبناً، وإن كان قتله شراً ليمتص بِهِ دَمًا (35)، وما لبث أن توفى بعده بأربعين ليلة، فمات في أوائل سنة ست وثلاثين بالمدائن(36).
رحم الله حذيفة بن اليمان العارف بالمحن وأحوال القلوب، المشرف على الفتن والآفات والعيوب، سأل عن الشر فاتقاه، وتحرى الخير فاقتناه.. (37)
الفوائد:
1. الاطلاع على سير الصحابة تكسب المروءة، وتهذب الأخلاق، وتعلي الهمم، وما أحوجنا لذلك في هذا الزمان.
2. المؤمن الفطن لا يكتفي بمعرفة سبل الخير، بل عليه معرفة الشر ليتقيه، وكم من بدعة انتشرت وروج لها بدافع الخير!
3. معرفة أحوال الصحابة وهديهم في الفتن، لها أكبر أثر في الثبات عند الشدائد.
4. معرفة المرء بقدراته وإمكاناته والتصريح بذلك، لا سيما من أهل الصلاح، يُحمل على رغبتهم في نفع الأمة.
5. تحري المرء عن حاله، من أحسن ما ينشغل به، وينفعه في دنياه وآخرته.
المراجع:
(1) [دلائل النبوة: 7/150]
(2) [معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ 1/423] بتصرف.
(3) [معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ 1/423] بتصرف.
(4) [ تهذيب الكمال: 5/496]
(5) [الطبقات الكبرى: 6/15] بتصرف.
(6) [تهذيب الأسماء واللغات 1/153] بتصرف.
(7)، (8)[تهذيب الأسماء واللغات: 1/154] بتصرف.
(9) [المعجم الكبير للطبراني: 3/163]
(10) [تهذيب الكمال: 5/497] بتصرف
(11) [المغازي للواقدي: 1/233-234] بتصرف
(12) [المغازي للواقدي: 1/233-234] بتصرف
(13) [صحيح البخاري: 5/39]
(14) [صحيح البخاري: 5/25]
(15) [تهذيب الكمال: 5/496] بتصرف.
(16) [ المغازي للواقدي: 3/1045]
(17) [تهذيب الأسماء واللغات: 1/154]
(18) [ المغازي للواقدي: 3/1045]
(19) [الزهد لوكيع: 1/791]
(20) [حلية الأولياء: 1/ 354].
(21) [تهذيب الأسماء واللغات: 1/155]
(22)[تهذيب الأسماء واللغات: 1/154]
(23) [تهذيب الكمال: 5/501]
(24) [ حلية الأولياء: 1/270]
(25) [الرياض النضرة: 2/420]
(26) [ المغازي للواقدي: 2/488-489] بتصرف
(27) [حلية الاولياء: 1/354] بتصرف
(28) [تهذيب الأسماء واللغات: 1/154]
(29) [ البداية والنهاية: 7/123-125]
(30) [ الثقات لابن حبان: 2/232]
(31) [ تهذيب الأسماء واللغات: 1/154]
(32) [ فضائل الصحابة: 1/58]
(33) [ تهذيب الكمال: 5/506]
(34) [المعجم الكبير للطبراني: 3/163]
(35) [البداية والنهاية: 7/214]
(36) [تهذيب الأسماء واللغات: 1/154]
(37) [ حلية الأولياء: 1/270]