القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين , نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال العلامة الطحاوي رحمه الله تعالى:
والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة.
الشيخ: قال رحمه الله: "والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة" يقرر العلامة الطحاوي رحمه الله في هذا وسطية أهل السنة والجماعة في هذا الأمر العظيم , وهو الأمن من مكر الله واليأس من روح الله جل جلاله , وأن اليأس هذا سبيل الكافرين , والأمن من مكر الله سبيل أهل الشهوات الذين لا يرقبون الله جل وعلا , ولا يرقبون صفات الرب جل جلاله , والدليل على هذا الأصل قول الله جل وعلا في الكافرين في اليأس: ] إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [ في قول يعقوب -u- لما قال لبنيه: ] يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [ , فنهاهم عن اليأس من روح الله , وعلل ذلك بأن هذا من خصال الكافرين , وأما الأمن فالأمن من مكر الله جل وعلا , جاء النهي عنه في غير ما آية منها قوله تعالى في سورة الأعراف: ] أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [.
والأمن من مكر الله كفر , واليأس من روح الله كفر أيضاً , كما ذكر قال: "ينقلان عن ملة الإسلام"؛ لأن الله جل وعلا وصف الكافرين والخاسرين الذين استحقوا العقوبة منه والعذاب بأنهم يأمنون من مكر الله , وييأسون من روح الله جل وعلا , وأما أهل السنة والجماعة فهم لا يأمنون , بل يخافون ذنوبهم , ويخافون عقوبة الله جل وعلا , ويعلمون أن الله سبحانه خافته ملائكته , وهم أقرب الأقربين وهم المقربون إليه جل وعلا , المطهرون من دنس الآثام , ومن رجس الذنوب , ويخافون ربهم كما قال: ] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ وكما قال: ] حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [.
واليأس أيضاً من روح الله هذا صفة أهل القنوط , فأهل السنة والجماعة بين هؤلاء وهؤلاء , لا يأمنون بل يخافون الله جل وعلا , ولا ييأسون بل يرجون , وهذه راجعةٌ إلى أنهم يعني أهل الحق وأهل السنة , يرجون رحمة الله ويخافون عذابه, كما وصف الله جل وعلا أولياءه المقربين بقوله: ] وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [ وهذه من صفات المتقين , وكذلك في قوله في سورة الأنبياء: ]إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً [ فجمع لهم بين الرغب والرهب.
إذا تبين ذلك فإن الأمن والإياس ردة عن الدين كما قال: "ينقلان عن ملة الإسلام بضابط"، ومن المهم معرفة هذا الضابط؛ لأنه هو نكتة المسألة وعقدتها , وهو أن الأمن يكون كفراً إذا انعدم الخوف , واليأس يكون كفراً إذا انعدم الرجاء, فمن لم يكن معه خوفٌ من الله جل وعلا أصلاً , يعني أصل الخوف غير موجود فقد أمن فهو كافر، ومن لم يكن معه رجاء في الله جل وعلا أصلاً فقد يأس من روح الله فهو كافر، إذاً الأمن والإياس مرتبطان , بل معناهما الخوف والرجاء، الأمن لأجل عدم الخوف , واليأس لأجل عدم الرجاء , فمن كان عنده خوف قليل ويأمن كثيراً فإنه من أهل الذنوب , لا من أهل الكفر فإن لم يكن معه خوفٌ أصلاً فإنه كافر بالله جل وعلا , كما قال هنا: "ينقلان عن ملة الإسلام" , أما أهل التوحيد أهل الذنوب من أهل القبلة فإنهم بقدر ما عندهم من الذنوب يكون عندهم أمن من مكر الله جل وعلا.
فإذن الأمن من مكر الله يتبعض , لا يوجد جميعاً فيذهب جميعاً , بل قد يكون في حق المعين أنه يخاف تارة ويأمن تارة، يصحو تارة ويغفل تارة، وكذلك في اليأس من روح الله يغلب على المرء الموحد تارة أنه ييأس إذا نظر إلى ذنبه , أو نظر إلى ما يحصل في مجتمعه , أو ينظر إلى ما قضى الله جل وعلا في هذه الأرض على أهلها من الشرك مثلاً , أو من الذنوب, أو من الكبائر , أو من القتل , أو من الفساد , فيأتيه يأس , فإن غلب عليه اليأس بحيث انعدم الرجاء لنفسه أو الناس فإنه يكفر بذلك، أما إذا وجد عنده اليأس ووجد عنده رجاء فإنه لا يخرج من الملة، فإذن هنا ضابط الأمن والإياس الذي ينقل عن الملة هو ما ذكرته لك، وأما الموحد المعين من أهل الإيمان فإنه يجتمع فيه بحسب قوة يقينه , يجتمع فيه أنه يعني قد يكون عنده أمن بحسب ذنوبه , ومن كمل الإيمان وحقق التوحيد فإنه يخاف ولا يأمن من عذاب الله جل وعلا , ولا يأمن من مكر الله، والأمن من مكر الله يعني الأمن من استدراج الله جل وعلا للعباد , قد وصف الله جل وعلا بعض عباده بقوله: ] سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [ هذا الاستدراج يحدث الأم وما عذبت أمة إلا وقد أمنت؛ لأن الله جل وعلا يبلوهم بالخيرات ويبلوهم بالسيئات ويبلوهم بالشر والخير فتنة , ثم هم لا يتوبون ولا هم يذكرون , فإذا وقع منهم الأمن وقعت عليهم العقوبة , نسأل اله جل وعلا لنا ولإخواننا العفو والعافية.
فهذا ضابط المسألة وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة , إذا تبين ذلك فالواجب على كل موحد كل مؤمن أن يعظم في قلبه جانب الخوف من الله جل وعلا فلا يفلح من أمن الله على نفسه طرفة عين، الله جل وعلا يقلب القلوب ويقلب الأبصار , وقال في وصف الأولين: ] وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ يرى العبد أن الخيرات تنفتح عليه وهو مقيم على الذنوب , وهو مقيم على المعاصي , وهو مقيم على الكبائر , سواء كان العبد فرداً أم كان مجتمعاً , بنو إسرائيل ادعوا أنهم أحباب الله جل وعلا , وأنهم أبناؤه و وأنه لا يعذبهم ولو حصل لهم تعذيب , فإنما تمسهم النار أياماً معدودة , والله جل وعلا عاقب بني إسرائيل العقوبة العظيمة , ولعنهم حيث قال سبحانه في سورة المائدة: ] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [ الآيات، فالواجب إذاً على الموحد أن يخاف ذنبه , ولا ييأس من روح الله, كل أحد يذنب ولكن إذا أذنب استغفر يخاف ذنبه , ويخشى أن الله جل وعلا لم يقبل توبته , لم يقبل حوبته , لم يقبل إنابته, يرجو رحمة الله جل وعلا , ويخاف ذنوبه , فما اجتمع هذان في قلب أحد إلا ونجا وهو رجاء الرحمة وخوف الذنوب , وهذا هو سبيل الحق الذي هو بين الأمن والإياس لأهل القبلة , أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من الراغبين الراهبين الخاشعين, وأن يجنبنا الأمن , كما نسأله أن يجنبنا الإياس , فإنه سبحانه على كل شيء قدير، نعم.