القارئ:
RAMS]http://www.afaqattaiseer.com/vb/uploaded/117_01263688430.rm[/RAMS]
والدين مبني على المصالح=في جلبها والدرء للمفاسد
الشيخ:
تضمن هذا البيت أن الشريعة مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، والمراد بالدِّين: الشريعة، مأخوذ من الفعل(دان) بمعنى أطاع، فمن دان لغيره وأطاعه؛ فإنه قد سلَّم الدين له، ولما كان أهل الإيمان يطيعون الله عـز وجل سميت شريعة الله الدين، قال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}.
وقوله هنا: (مبنيٌّ على المصالح) يعني: أن الشريعة راعت في وضع أحكامها المصالح، وواحدتها المصلحـة، [والمراد بها] المنفعة، وليست المنفعة والمصلحـة عائدة لله سبحـانه، فهو سبحانه الغني كما قال جـل وعـلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فهو سبحانه غني، وإنما المصلحة عائدة إلى الخلق، وليس المراد بذلك موافقة الأهواء والرغبات التي ترغبها النفوس؛ فإن ذلك مخالفٌ لمعنى الدين والطاعة، فإن الطاعة مبنية على الالتزام بأوامر الله، لذلك جاءت الشريعة بالنهي عن اتباع الهوى {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وفي اتباع الهوى مضارٌ عديدة وشرورٌ وخيمة، ليست المصلحة أبداً في اتباع الهوى.
إذا تقرر ذلك: فما هو المصدر الذي نحكم من خلاله أن هذا الفعل مصلحة أو مفسدة ؟
للناس في ذلك مناهج متعددة:
- فالمعتزلة يقولون:إن الأفعال تُعرف مصلحيتها للعباد ومفسدتها من خلال العقول، ولذلك هم أهل التحسين والتقبيح العقلي.
-والأشاعرة يقولون:إن مصدر الحسن والقبح هو الشارع، ووصف الفعل بالحسن والقبح وصف نسبي يختلف بالنِّسَبِ والإضافة، فالكذب ليس قبيحاً في ذاته، وإنما بحسب ما يضاف إليه.
وهذا الكلام خاطئ عقلاً وشرعاً،فكل الناس يعرفون أن الكذب قبيح، وأن الصدق حسن، ولذلك فإن الأفعال القبيحة أثبت الشـارع كونها قبيحةً على العبـاد قبل وجـود الرسـل، وإنما عاقبهم بعد بعثة الرسـل، وقال جـل وعـلا في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} فلو كان على قول الأشاعرة بأن مصدر الحسن والقبح هو الشارع، لكان معنى الآية يأمرهم بما يأمرهم به؛ لأن المعروف إنما يعرف من قبل الشارع.
والصواب في هذه المسألة أن للأفعال صفاتٍ ذاتيةً تثبت حسنها وقبحها ولو لم يوجد عقل أو شرع، فالصدق حسنٌ قبل ورود الشرائع، وقبل معرفة العقول لحسنه، ولكنَّ العقاب إنما يترتب على الأفعال بعد ورود الشريعة لقوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }.
وقد انتشر اليوم بين كثير من الكتاب المحدَثِينَ أن مصدر الحسن والقبح هو المجتمع، وهذا آتٍ من المناهج العِلمانية، ويقولون: ولذلك فإن الفعل يكون في زمان حسناً، وفي زمان آخر يكون قبيحاً، وهذا منهج خاطئ مخالف للعقل، ومخالف للشرع.
فالصواب أن للأفعال صفاتٍ ذاتيةٍ تثبت حسنها وقبحها، وأن العقوبة إنما تكون على الفعل بعد ورود الشرع.
وأما الثواب فقد اختلف أهل السنة فيه:
فمنهم من يثبت الثواب على الأفعال قبل ورود الشرائع.
ومنهم من ينفيه، ولعل في الحديث الوارد في ذلك: ((أسلمت على ما أسلفت من خير)) دليلٌ على اعتبار الثواب على الأفعال ولو قبل ورود الشرائع.
وهذه القاعدة
-قاعدة بناء أحكام الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد- يدل عليها أدلة عديدة.
- منها: قوله سبحانه: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، فمقتضى كون هذه الشريعة رحمة أن تكون جالبة للمصلحة دافعة للمفسدة.
- وقال جلا وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، فإكمال النعمة بإتمام هذا الدين، وتمام النعمة وإكمالها يكون بكون هذا الدين جالباً للمصالح دافعاً للمفاسد، وفي تعاليل الأحكام نجد أن الشريعة عللت كثيراً من أحكامها بمصالح الخلق، كما قال جـل وعـلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}فقوله:(حياة) هذا تعليل لهذا الحكم وهو القصاص لمصلحة الخلق، وفي استقراء أحكام الشريعة دليل قاطع على كون هذه الشريعة مصلحة للخلق.
ولأهمية هذه القاعدة اعتنى العلماء بها، بل قد أفردها الإمام العز بن عبد السلام بمؤلف كامل، وجعل أحكام الشريعة كلها تدور على هذه القاعدة.
وإذا تأمل الإنسان أحكام الشريعة وجد أن المصلحة فيها على أنواع:
- فمرات تكون المصلحة متحتمة واجبة مثل الصلوات المفروضة.
-ومرات تكون المصلحة مستحبة مندوبة مثل صلوات النوافل.
- ومرات تكون المصلحة يُراد وجودها في المجتمع، ولو لم يفعلها جميع أفراد المجتمع، مثل صلاة الجنازة، وتغسيل الميت.
- ومرات يراد بالمصلحة أن تتحقق من جميع الأفراد.
وهذه المصالح منها مصالح معتبرة للشارع نص على حكمها.
والعلماء يقسمون المصالح إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مصالح معتبرة، وهي التي شهد لها الشارع بالاعتبار، سواء كان ذلك بطريق الكتاب، أو بطريق السنة، أو بالإجماع، أو بالقياس.
والقسم الثاني: مصالح ملغاة،وهي المصادِمة لنص شرعي، ومثلوا لها بمن لا يرتدع عن التحفظ في يمينه إلا بالصيام، لا يردعه الإطعام ولا يردعه الكسوة، فلو قال قائل بأن هذا الشخص نوجب عليه صيام ثلاثة أيام؛ لأنه لا يرتدع عن التحفظ في يمينه إلا بالصيام، لكانت هذه مصلحة ملغاة في الشرع؛ لأن الشريعة جاءت بأن الحانث في يمينه يطعم، أو يكسو، أو يعتق، فإذا لم يجد انتقل إلى الصيام.
ولذلك ورد عن بعض العلماء المالكية أنه سأله ملكٌ من ملوك زمانه فقال: إني واقعت في نهار رمضان وكان معه العلماء والقضاة، فقال مقدمهم: يجب عليك صيام شهـرين متتابعين، فلما عادوا قالوا له: إن الشريعة جاءت بالعتق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعتق رقبة)) فقال: الرقاب عنده كثير، فلو لم نوجب عليه إلا إعتاق الرقبة لما ارتدع عن الوطء في نهار رمضان، فهذا ظن أن هذا الحكم مصلحة لكنَّ هذه المصلحة ملغاة في الشريعة، فلا تعتبر ولا يلتفت إليها، بل إنها في حقيقة الأمر مفسدة، فما ظنكم لو علم ذلك الملك بأنهم قد أخفوا عنه الحكم؟ هل سيطمئن بعد ذلك لفتوىً يفتونه بها ؟! بل هل سيستفتيهم فيما يأتي من الزمان ؟! سيعرض عنهم ويعمل على وفق هواه بدون الرجوع إلى فتاواهم.
فدلنا ذلك على أن تسمية ما ألغي مصلحة لا يصح، فلا يصح أن نقول: مصلحة ملغاة، وإنما يقال: ما يتوهم أنه مصلحة؛ لأن الشريعة لا يمكن أن تأتي بإلغاء مصلحة.
وقد وجد في عصرنا وزماننا من يتشبث بالعمل بالمصالح في إلغاء النصوص، ولذلك تجدهم يقولون: الناس في الغرب ليس لديهم إجازة إلا في يوم الأحد، فتكون صلاة الجمعة يوم الأحد لمراعاة أحوال الناس، فهذه مصلحة ملغاة، وهي ليست مصلحة، بل يتوهم أنها مصلحة، وهي مضادة للشريعة، ولو فُتح الباب لغُيِّرت مراسيم الشرع، ولم تسر أحكام الشريعة على منوال واحد.
القسم الثالث: مصالح مرسلة، وهى التي لم يأت بها نص، لا بإلغائها، ولا باعتبارها.
وقد اختلف العلماء في حجيتها:
- فمنهم من يثبت الحجية.
- ومنهم من ينفي الحجية.
وقد رأى شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- أنه لا يمكن أن توجد مصلحة مرسلة، بل جميع المصالح معتبرة في الشريعة.
ومن رأى مصلحة ظنها مرسلة، فلا يخلو من أحد أمرين:
الأمر الأول: أن تكون مفسدة ولا تكون مصلحة.
والأمر الثاني:أن يدل عليها نص من الشارع خفي على ذلك الفقيه.
وفي هذا القول قوة، وفيه إثبات لكمال الشريعة وشمولها، والناظر في النصوص الشرعية يجدها شاملة لأغلب أفعال العباد، وأن المرء لا يحتاج إلى القياس إلا في مواطن قليلة تسد النقص الوارد في دلالة النصوص على الحوادث.
كذلك تُقَسَّم المصالح إلى [قسمين أولهما]:
مصالح في الأحكام لا نعرف وجه كونها مصلحة، فهناك أحكام نجزم بأنها في مصلحة الخلق، لكننا لا نعرف وجه المصلحة، مثال ذلك: أكل لحم الجزور ينقض الوضوء، ما المصلحة في ذلك ؟ نحن لا نعرف المصلحة، فلا يحق لنا أن نترك الحكم لعدم معرفتنا بحكمة الحكم ومصلحته.
النوع الثاني:ببعض، واستقرارهما مع بعض، ولتحصيل الأبناء الصالحين، وتحصيل الأجر والثواب في ذلك، فهذه مصلحة معلومة، لكن كيف تكون نية العبد في مثل هذه الأعمال ؟
لابد أن ينوي العبد [ذلك] ليحصل على الأجر والثواب [ويقصد] وجه الله عز وجل والدار الآخرة.
فإن نوى المصالح الدنيوية فقط جاز له ذلك في المصالح الدنيوية التي نص عليها الشارع، لكن ليس له من الأجر الأخروي شيء.فإن نوى العبد بهذا العمل نية مضادة لمقصود الشارع؛ فإنه يكون آثماً بذلك، مثاله: من تزوج بقصد التحليل، هذه نية مضادة لمقصود الشارع، فيكون العبد مستحقّاً للإثم بها.
وكما أن المصالح تتقسم لأقسام عدة، كذلك المفاسد.
وقوله هنا: (على المصالح في جلبها) يعني في إحضارها أحكام معلومة المصالح للمكلفين، مثل: مشروعية النكاح؛ فإنه يراد لتحصيل السكن الروحي، واطمئنان الزوجين بعضهما والعمل بها.(والدرء للقبائح) الدرء المراد به الإبعاد، والمراد بالقبائح المفاسد.
والمفاسد:
- منها مفاسد مكروهة.
- ومفاسد محرمة.
والمفاسد المحرمة:
- منها ما هو كبائر.
- ومنها ما هو صغائر، وتتفاوت في نفسها إلى مراتب عديدة.
وقد ذكر المؤلف في شرحه للمنظومة كيف عادت أكثر أحكام الشريعة إلى اعتبار المصالح وإلغاء المفاسد.