دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > تيسير اللطيف المنان

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 10:05 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي قصص الأنبياء

قصص الأنبياء
فصول في ذكر ما قص الله علينا في كتابه من أخبار الأنبياء مع أقوامهم


قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصول في ذكر ما قص الله علينا في كتابه من أخبار الأنبياء مع أقوامهم
قد قص الله علينا في كتابه قصصا طيبة من أخبار أنبيائه، ووصفها بأنها أحسن القصص، وهذا الوصف من الله العظيم يدل على أنها أصدقها وأبلغها وأنفعها للعباد؛ فمن أهم منافع هذه القصص أن بها يتم ويكمل الإيمان بالأنبياء، صلى الله عليهم وسلم، فإننا وإن كنا مؤمنين بجميع الأنبياء على وجه العموم والإجمال، فالإيمان التفصيلي المستفاد من قصصهم، وما وصفهم الله به من الصدق الكامل والأوصاف الكاملة التي هي أعلى الأوصاف، وما لهم من الفضل والفواضل والإحسان على جميع نوع الإنسان، بل وصل إحسانهم إلى جميع الحيوانات بما أبدوه للمكلفين في الاعتناء بها والقيام بحقها، فهذا الإيمان التفصيلي بالأنبياء يصل به العبد إلى الإيمان الكامل، وهو من مواد زيادة الإيمان.
فمن ذلك أن في قصصهم تقرير الإيمان بالله، وتوحيده، وإخلاص العمل له، والإيمان باليوم الآخر، وبيان حسن التوحيد ووجوبه، وقبح الشرك، وأنه سبب الهلاك في الدنيا والآخرة.
وفي قصصهم أيضا عبرة للمؤمنين يقتدون بهم في جميع مقامات الدين: في مقام التوحيد والقيام بالعبودية، وفي مقامات الدعوة والصبر والثبات عند جميع النوائب المقلقة، ومقابلة ذلك بالطمأنينة والسكون والثبات التام، وفي مقام الصدق والإخلاص لله في جميع الحركات والسكنات واحتساب الأجر والثواب من الله تعالى، لا يطلبون من الخلق أجرا ولا جزاء ولا شكورا إلا الأمور النافعة للخلق.
وفيها أيضا عبرة لاتفاقهم على دين واحد وأصول واحدة، ودعوة إلى كل خلق جميل وعمل صالح وإصلاح، وزجرهم عن كل ما يضاد ذلك.
وفيها أيضا من الفوائد الفقهية والأحكام الشرعية والأسرار الحكمية شيء عظيم لا غنى لكل طالب علم عنها.
وفيها أيضا من الوعظ والتذكير والترغيب والترهيب، والفرج بعد الشدة، وتيسير الأمور بعد تعسرها، وحسن العواقب المشاهدة في هذه الدار، وحسن الثناء والمحبة في قلوب الخلق - ما فيه زاد للمتقين، وسرور للعابدين، وسلوة للمحزونين، ومواعظ للمؤمنين - فليس المقصود من قصصهم أن تكون فقط سمرا، وإنما الغرض الأعظم منها أن تكون تذكيرا وعبرا.
واعلم قبل الشروع فيها أن كثيرا من قصصهم صلوات الله وسلامه عليهم أعادها الله في كتابه مرات عديدة بأساليب مناسبة لمقاماتها، وربما يكون في موضع منها ما ليس في المواضع الأخر من الزيادات والفوائد، أو يأتي بها بألفاظ غير ألفاظ القصة الأخرى، والمعاني متفقة أو متقاربة، فعلى حساب أن هذا التعليق مختصر سوف آتي بهذه القصص، وأجمع القصة في موضع واحد، وأحرص على ما دلت عليه ألفاظ الكتاب من سياقها من أولها إلى آخرها، وأتبع كل قصة بما يفتح الله به من الفوائد الأصولية والفروعية والأخلاق والآداب والمواضيع المتنوعة، راجيا من الله أن يوفقني بذلك للصواب اللفظي، والإخلاص الباطني، وموافقة رضاه، وأن يجعل بذلك النفع العام، إنه جواد كريم). [تيسير اللطيف المنان: 1/170-171]

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 10:08 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي فصل في قصة آدم، أبي البشر، عليه الصلاة والسلام

فصل في قصة آدم، أبي البشر، عليه الصلاة والسلام


قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في قصة آدم، أبي البشر، عليه الصلاة والسلام
لم يزل الله أولا ليس قبله شيء، ولم يزل فعالا لما يريد، ولا خلا وقت من الأوقات من أفعال وأقوال تصدر عن مشيئته وإرادته بحسب ما تقتضيه حكمة الله الذي هو حكيم في كل ما قدره وقضاه، كما هو حكيم في كل ما شرعه لعباده، فلما اقتضت الحكمة الشاملة والعلم المحيط من الله والرحمة السابغة خلق آدم أبي البشر الذين فضلهم الله على كثير ممن خلق تفضيلا، أعلم الملائكة وقال:
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]
يخلف من كان قبلهم من المخلوقات التي لا يعلمها إلا هو.
{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]
وهذا منهم تعظيم لربهم وإجلال له عن أنه ربما يخلق مخلوقا يشبه أخلاق المخلوقات الأول، أو أن الله تعالى أخبرهم بخلق آدم، وبما يكون من مجرمي ذريته، قال الله لملائكته:
{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]
فإنه محيط علمه بكل شيء، وبما يترتب على هذا المخلوق من المصالح والمنافع التي لا تعد ولا تحصى.
فعرفهم تعالى بنفسه بكمال علمه، وأنه يجب الاعتراف لله بسعة العلم، والحكمة التي من جملتها أنه لا يخلق شيئا عبثا، ولا لغير حكمة، ثم بين لهم على وجه التفصيل، فخلقه بيده تشريفا له على جميع المخلوقات، وقبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها، وطيبها وخبيثها، ليكون النسل على هذه الطبائع، فكان ترابا أولا، ثم ألقى عليه الماء فصار طينا، ثم لما طالت مدة بقاء الماء على الطين تغير ذلك الطين فصار حمأ مسنونا، طينا أسود، ثم أيبسه بعدما صوره فصار كالفخار الذي له صلصلة. . وفي هذه الأطوار هو جسد بلا روح، فلما تكامل خلق جسده، نفخ فيه الروح فانقلب ذلك الجسد الذي كان جمادا حيوانا له عظام ولحم وأعصاب وعروق وروح هي حقيقة الإنسان، وأعده الله لكل علم وخير، ثم أتم عليه النعمة، فعلمه أسماء الأشياء كلها.
والعلم التام يستدعي الكمال التام، وكمال الأخلاق، فأراد الله أن يري الملائكة كمال هذا المخلوق، فعرض هذه المسميات على الملائكة وقال لهم:
{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]
في مضمون كلامكم الأول الذي مقتضاه أن ترك خلقه أَوْلَى، هذا بحسب ما بدا لهم في تلك الحال، فعجزت الملائكة عليهم السلام عن معرفة أسماء هذه المسميات، وقالوا:
{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]
قال الله: {يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]
شاهد الملائكة من كمال هذا المخلوق وعلمه ما لم يكن لهم في حساب، وعرفوا بذلك على وجه التفصيل والمشاهدة كمال حكمة الله، وعظموا آدم غاية التعظيم؛ فأراد الله أن يظهر هذا التعظيم والاحترام لآدم من الملائكة ظاهرا وباطنا، فقال للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]
احتراما له وتوقيرا وتبجيلا، وعبادة منكم لربكم، وطاعة ومحبة وذلا؛ فبادروا كلهم أجمعون، فسجدوا وكان إبليس بينهم، وقد وجه إليه الأمر بالسجود معهم، وكان من غير عنصر الملائكة؛ كان من الجن المخلوقين من نار السموم، وكان مبطنا للكفر بالله، والحسد لهذا الإنسان الذي فضله الله هذا التفضيل؛ فحمله كبره وكفره على الامتناع عن السجود لآدم كفرا بالله واستكبارا، ولم يكفه الامتناع حتى باح بالاعتراض على ربه، والقدح في حكمته، فقال:
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]
فقال الله له: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]
فكان هذا الكفر والاستكبار والإباء منه وشدة النفار هو السبب الوحيد أن يكون مطرودا ملعونا، فقال الله له:
{فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13]
فلم يخضع الخبيث لربه، ولم يتب إليه، بل بارزه بالعداوة، وصمم التصميم التام على عداوة آدم وذريته، ووطن نفسه لما علم أنه حتم عليه الشقاء الأبدي أن يدعو الذرية بقوله وفعله وجنوده إلى أن يكونوا من حزبه الذين كتبت لهم دار البوار، فقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36]
فيتفرغ لإعطاء العداوات حقها في آدم وذريته.
ولما كانت حكمة الله اقتضت أن يكون الآدمي مركبا من طبائع متباينة، وأخلاق طيبة أو خبيثة، وكان لا بد من تمييز هذه الأخلاق وتصفيتها بتقدير أسبابها من الابتلاء والامتحان الذي من أعظمه تمكين هذا العدو من دعوتهم إلى كل شر، أجابه: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 37 - 38]
فقال لربه معلنا معصيته، وعداوته آدم وذريته:
{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17]
قال إبليس هذه المقالة ظنا منه؛ لأنه عرف ما جبل عليه الآدمي.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]
فمكنه الله من الأمر الذي يريده إبليس في آدم وذريته، فقال الله له:
{اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا - وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} [الإسراء: 63 - 64]
أي: إن قدرت فاجعلهم منحرفين في تربية أولادهم إلى التربية الضارة، في صرف أموالهم المصارف الضارة، وفي الكسب الضار، وأيضا شارك منهم من إذ تناول طعاما أو شرابا أو نكاحا، ولم يذكر اسم الله على ذلك في الأموال الأولاد، وعدهم أي: مرهم أن يكذبوا بالبعث والجزاء، وأن لا يقدموا على خير، وخوفهم من أوليائك، وخوفهم عند الإنفاق النافع بالفحشاء والبخل، وهذا من الله لحكم عظيمة وأسرار، وإنك أيها العدو المبين لا تبقي من مقدورك في إغوائهم شيئا، فالخبيث منهم يظهر خبثه، ويتضح شره، والله لا يعبأ به، ولا يبالي به.
وأما خواص الذرية من الأنبياء، وأتباعهم من الصديقين والأصفياء، وطبقات الأولياء والمؤمنين فإن الله تعالى لم يجعل لهذا العدو عليهم تسلطا، بل أقام عليهم سورا منيعا، وهو حمايته وكفايته، وزودهم بسلاح لا يمكن لعدوهم مقاومتهم بكمال الإيمان بالله، وقوة توكُّلهم عليه:
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]
ومع ذلك فأعانهم على مقاومة هذا العدو المبين بأمور كثيرة: أنزل عليهم كتبه المحتوية على العلوم النافعة، والمواعظ المؤثرة، والترغيب إلى فعل الخيرات، والترهيب من فعل الشرور، وأرسل إليهم الرسل مبشرين من آمن بالله وأطاعه بالثواب العاجل، ومنذرين من كفر وكذب وتولى بالعقوبات المتنوعة، وضمن لمن اتبع هداه الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وأنه لا خوف عليه، ولا حزن يعتريه؛ وأرشدهم قي كتبه، وعلى ألسنة رسله إلى الأمور التي بها يحتمون من هذا العدو المبين، وبين لهم ما يدعو إليه هذا الشيطان، وطرقه التي يصطاد بها الخليقة.
وكما بينها لهم ووضحها فقد أرشدهم إلى الطرق التي ينجون بها من شره وفتنته، وأعانهم على ذلك إعانة قدرية خارجة عن قدرتهم؛ لأنهم لما بذلوا المجهود، واستعانوا بالمعبود، سهل لهم كل طريق يوصل إلى المقصود.
ثم إن الله تعالى أتم نعمته على آدم، فخلق منه زوجته حواء من جنسه وعلى شكله؛ ليسكن إليها، وتتم المقاصد المتعددة من الزواج والالتئام، وتنبث الذرية بذلك، وقال له ولزوجته: إن الشيطان عدو لكما، فاحذراه غاية الحذر، فلا يخرجنكما من الجنة التي أسكنكما الله إياها، وأباحكما أن تأكلا من جميع ثمارها، وأن تتمتعا بجميع لذاتها إلا شجرة معينة في هذه الجنة، فحرمها عليهما، فقال: {فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19]
وقال الله لآدم في تمتيعه بهذه الجنة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118 - 119]
فمكثا في الجنة ما شاء الله على هذا الوصف الذي ذكره الله، وعدوهما يراقبهما ويراصدهما، وينظر الفرصة فيهما، فلما رأى سرور آدم بهذه الجنة، ورغبته العظيمة في دوامها، جاءه بطريق لطيف في صورة الصديق الناصح، فقال: يا آدم، هل أدلك على شجرة إذا أكلت منها خلدت في هذه الجنة ودام لك الملك الذي لا يبلى؟ فلم يزل يوسوس ويزين ويسول ويعد ويمني ويلقي عليهما من النصائح الظاهرة، وهي أكبر الغش حتى غرهما، فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها وحرمها عليهما، فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما بعدما كانا مستورين، وطفقا يخصفان على أنفسهما من أوراق تلك الجنة، أي: يلزقان على أبدانهما العارية؛ ليكون بدل اللباس، وسقط في أيديهما، وظهرت في الحال عقوبة معصيتهما، وناداهما ربهما:
{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22]
فأوقع الله في قلبيهما التوبة التامة، والإنابة الصادقة.
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37]
وقالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]
فتاب الله عليهما، ومحا الذنب الذي أصابا، ولكن الأمر الذي حذرهما الله منه، وهو الخروج من هذه الجنة إن تناولا منها تحتم ومضى، فخرجا منها إلى الأرض التي حشي خيرها بشرها، وسرورها بكدرها.
وأخبرهما الله أنه لا بد أن يبتليهما وذريتهما، وأن من آمن وعمل صالحا كانت عاقبته خيرا من حالته الأولى، ومن كذب وتولى فآخر أمره الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، وحذر الله الذرية منه فقال:
{يا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]
وأبدلهم الله بذلك اللباس الذي نزعه الشيطان من الأبوين بلباس يواري السوآت، ويحصل به الجمال الظاهر في الحياة، ولباس أعلى من ذلك، وهو لباس التقوى، الذي هو لباس القلب والروح بالإيمان والإخلاص والإنابة، والتحلي بكل خلق جميل، والتخلي عن كل خلق رذيل؛ ثم بث الله من آدم وزوجه رجالا كثيرا ونساء، ونشرهم في الأرض، واستخلفهم فيها؛ لينظر كيف يعملون.
* فوائد مستنبطة من هذه القصة أصولية وفروعية وأخلاق وآداب: فمنها أن هذه القصة العظيمة ذكرها الله في كتابه في مواضع كثيرة صريحة لا ريب فيها ولا شك، وهي من أعظم القصص التي اتفقت عليها الرسل، ونزلت بها الكتب السماوية، واعتقدها جميع أتباع الأنبياء من الأولين والآخرين، حتى نبغت في هذه الأزمان المتأخرة فرقة خبيثة زنادقة أنكروا جميع ما جاءت به الرسل، وأنكروا وجود الباري، ولم يثبتوا من العلوم إلا العلوم الطبيعية التي وصلت إليها معارفهم القاصرة.
فبناء على هذا المذهب الذي هو أبعد المذاهب عن الحقيقة شرعا وعقلا أنكروا آدم وحواء، وما ذكره الله ورسوله عنهما، وزعموا أن هذا الإنسان كان حيوانا قردا، أو شبيها بالقرد، حتى ارتقى إلى هذه الحال الموجودة، وهؤلاء اغتروا بنظرياتهم الخاطئة المبنية على ظنون عقول من أصلها فاسدة، وتركوا لأجلها جميع العلوم الصحيحة، خصوصا ما جاءتهم به الرسل، وصدق عليهم قوله تعالى:
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]
وهؤلاء أمرهم ظاهر لجميع المسلمين، ولجميع المثبتين وجود الباري، يعلمون أنهم أضل الطوائف، ولكن تسرب على بعض المسلمين من هذا المذهب الدهري بعض الآثار والفروع المبنية على هذا القول، إذ فسر طائفة من العصريين سجود الملائكة لآدم أن معناه تسخير هذا العالم للآدميين، وأن المواد الأرضية والمعدنية ونحوها قد سخرها الله للآدمي، وأن هذا هو معنى سجود الملائكة، ولا يستريب مؤمن بالله واليوم الآخر أن هذا مستمد من ذلك الرأي الأفن، وأنه تحريف لكتاب الله، لا فرق بينه وبين تحريف الباطنية والقرامطة، وأنه إذا أولت هذه القصة إلى هذا التأويل توجه نظير هذا التحريف لغيرها من قصص القرآن، وانقلب القرآن - بعدما كان تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة - رموزا يمكن كل عدو للإسلام أن يفعل بها هذا الفعل، فيبطل بذلك القرآن، وتعود هدايته إضلالا، ورحمته نقمة، سبحانك، هذا بهتان عظيم.
والمؤمن في هذا الموضع يكفيه لإبطال هذا القول الخبيث أن يتلو ما قصه الله علينا من قصة آدم وسجود الملائكة؛ فيعلم أن هذا مناف لما قصد الله ورسوله غاية المنافاة، وإن زخرفه أصحابه، ولووا له العبارات، ونسبوه إلى بعض من يحسن بهم الظن، فالمؤمن لا يترك إيمانه، ولا كتاب ربه لمثل هذه الترويجات المغررة، أو المغرور أصحابها.
ومنها فضيلة العلم، وأن الملائكة لما تبين لهم فضل آدم بعلمه عرفوا بذلك كماله، وأنه يستحق الإجلال والتوقير.
ومنها أن مَنْ مَنَّ الله عليه بالعلم عليه أن يعترف بنعمة الله عليه، وأن يقول كما قالت الملائكة والرسل: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، وأن يتوقى التكلم بما لا يعلم، فإن العلم أعظم المنن، وشكر هذه النعمة الاعتراف لله بها، والثناء عليه بتعليمها، وتعليم الجهال، والوقوف على ما علمه العبد، والسكوت عما لم يعلمه.
ومنها أن الله جعل هذه القصة لنا معتبرا، وأن الحسد والكبر والحرص من أخطر الأخلاق على العبد، فكبر إبليس وحسده لآدم صيره إلى ما ترى، وحرص آدم وزوجه حملهما على تناول الشجرة، ولولا تدارك رحمة الله لهما لأودت بهما إلى الهلاك، ولكن رحمة الله تكمل الناقص، وتجبر الكسير، وتنجي الهالك، وترفع الساقط.
ومنها أنه ينبغي للعبد إذا وقع في ذنب أن يبادر إلى التوبة والاعتراف، ويقول ما قاله الأبوان من قلب خالص، وإنابة صادقة؛ فما قص الله علينا صفة توبتهما إلا لنقتدي بهما، فنفوز بالسعادة، وننجو من الهلكة؛ وكذلك ما أخبرنا بما قاله الشيطان من توعدنا وعزمه الأكيد على إغوائنا بكل طريق إلا لنستعد لهذا العدو الذي تظاهر بهذه العداوة البليغة المتأصلة، والله يحب منا أن نقاومه بكل ما نقدر عليه من تجنب طرقه وخطواته، وفعل الأسباب التي يخشى منها الوقوع في شباكه، ومن عمل الحصون من الأوراد الصحيحة، والأذكار القلبية، والتعوذات المتنوعة، ومن السلاح المهلك له من صدق الإيمان، وقوة التوكل على الله، ومراغمته في أعمال الخير، ومقاومة وساوسه والأفكار الرديئة التي يدفع بها إلى القلب كل وقت بما يضادها، ويبطلها من العلوم النافعة والحقائق الصادقة.
ومنها أن فيها دلالة لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين لله ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات كلها، لا فرق بين صفات الذات، ولا بين صفات الأفعال.
ومنها إثبات اليدين لله كما هو في قصة آدم صريحا: لما خلقت بيدي، فله يدان حقيقة، كما أن ذاته لا تشبهها الذوات، فصفاته تعالى لا تشبهها الصفات). [تيسير اللطيف المنان: 1/172-181]

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 10:10 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي قصة نوح صلى الله عليه وسلم

قصة نوح صلى الله عليه وسلم


قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (قصة نوح صلى الله عليه وسلم
مكث البشر بعد آدم قرونا طويلة وهم أمة واحدة على الهدى، ثم اختلفوا وأدخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة، فكان قوم نوح قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم، فجاءهم الشيطان فأمرهم أن يصوروا تماثيلهم؛ ليتسلوا بها وليتذكروا بها أحوالهم، فكان هذا مبتدأ الشر؛ فلما هلك الذين صوروهم لهذا المعنى جاء من بعدهم وقد اضمحل العلم، فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء وَدًّا وسُواعا ويَغُوث ويَعُوق ونَسرا؛ قد كان أوَّلوكم يدعونهم ويستشفعون بهم، وبهم يسقون الغيث وتزول الأمراض، فلم يزل بهم حتى انهمكوا في عبادتهم على رغم نصح الناصحين، ثم بعث الله فيهم نوحا صلى الله عليه وسلم يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخلاقه، فقال:
{يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]
ورغبهم في خير الدنيا والآخرة فقال: {يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ - يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 2 - 4]
فلما بادأهم بالأمر بالإخلاص لله، وتسفيه آرائهم، وتخويفهم بعقوبات الدنيا والآخرة قالوا:
{مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]
وطلبوا منه أن يطرد من كان معه من المؤمنين استكبارا منهم، واستنكافا على الحق وعلى الخلق، فبين لهم أنه ليس به ضلال، وإنما به تزول الضلالة عن الخلق، وأنه رسول أمين على بينة من ربه وبراهين واضحة، وأن المؤمنين لا يحل طردهم، بل حقهم الإكرام والاحترام، وأنه لا يدعي لهم طورا يزاحم فيه الرب فقال:
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود: 31]
فلم يزل يدعوهم ليلا ونهارا وسرا وجهرا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ونفورا وإعراضا وتواصيا منهم على الإقامة على ما هم عليه من عبادة غير الله والتمسك بها، فقال نوح:
{رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا - وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا - وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 21 - 23]
فلما رأى أن التذكير لا ينفع فيهم بوجه من الوجوه؛ وأنه كلما جاء قرن كان أخبث مما قبله، قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا - إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27]
فأجاب الله دعوته، وأمره أن يصنع الفلك برعاية منه وحسن نظر وتعليم من الله له هذه الصنعة التي امتن الله بها على العباد، وصار نوح له الفضل والابتداء بهذه الصناعة التي حصل بها من المنافع الدينية والدنيوية في جميع الأوقات ما لا يعد ولا يحصى، وأخبره الله بتحتم إغراقهم، وأنه لا يخاطب ربه فيهم فإنهم ظالمون، وجعل يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، فقال لهم: إن تسخروا منا اليوم فإنا نسخر منكم إذا وقع الهلاك بكم، وأوحى الله إليه أنه إذا جاء ذلك الوقت وفار التنور، أي: جعلت الأرض كلها تتفجر عيونا من كل جانب حتى المواضع البعيدة عن النار عادة، وأمره أن يحمل من البهائم من كل زوجين اثنين ذكر وأنثى ليبقى نسلها؛ لأنه يتعذر حملها كلها، والحكمة تقتضي إبقاء هذه الحيوانات التي خلقها الله مسخرة لمصالح البشر، ويحمل معه جميع من آمن من رجال ونساء، والحال أنه ما آمن معه إلا قليل، وأمره أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول بالهلاك، فلما أركب جميع من أمر بهم قال لهم: سموا الله كلما جرت وكلما رست؛ لأن الأسباب مهما عظمت فهي من لطف الله، ولا تمام لها إلا بالله.
فحينئذ فجر الله الأرض عيونا، وأمر السماء أن تصب الماء المنهمر الكثير، فالتقت مياه السماء بمياه الأرض، وساحت على الأماكن المنخفضة، ثم ارتفعت شيئا فشيئا على كل المرتفعات حتى خفيت قمم الجبال الشاهقة، والسفينة تجري بهم في موج كالجبال تضرب يمينا وشمالا، وفي تلك الحال المزعجة رأى نوح ابنه الكافر الذي كان على دين قومه وقد اعتزل أباه حتى في هذه الحال، فرآه مثل سائر قومه قد فر هاربا من المياه الجارفة، فناداه نوح مترققا فقال: {يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42]
فتمادى به الغرور في تلك الحال التي تنقشع فيها الغياهب إلا عن القلوب المحجوبة؛ فقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43]
لم يخطر ببالهم أن المياه سترتفع فوق رؤوس الجبال، فقال له نوح: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]
فلا يعصم جبل ولا حصن ولا غير ذلك إلا من رحم الله، ورحمته في تلك الحال متعينة في ركوب السفينة مع نوح.
{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} [هود: 43]
فكان ذلك الابن من المغرقين.
فأغرق الله جميع الكافرين، ونَجَّى نوحا ومن معه أجمعين، وكان في ذلك آية على أن ما جاء به نوح من التوحيد والرسالة والبعث والدين حق، وأن من خالفه فإنه مبطل، ودليل على الجزاء في الدنيا لأهل الإيمان بالنجاة والكرامة، ولأهل الكفر بالهلاك والإهانة.
فلما حصل هذا المقصود العظيم أمر الله السماء أن تقلع عن الماء، والأرض أن تبلع ما فيها، وغيض الماء أي: نقص شيئا فشيئا، واستوت السفينة بعد غيض الماء على الجودي، وهو جبل شامخ معروف في نواحي الموصل.
وهذا دليل على أن جميع الجبال قد غمرتها المياه وجاوزها الطوفان، وحزن نوح على ابنه فقال مناديا ربه مترققا متضرعا يا رب:
{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]
أن أحمل معي أهلي وأنت أرحم الراحمين، فقال له ربه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]
أي: الموعود بنجاتهم، لأن الله قيد ذلك بقوله: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40]
{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]
أي: هذا الدعاء لابنك الذي على دين قومه بالنجاة.
{فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]
وهذا عتاب منه لنوح وتعليم له وموعظة عن مثل هذا الدعاء الذي إنما حمله عليه الشفقة الأبوية، وإنما الواجب في الدعاء أن يكون الحامل له العلم والإخلاص في طلب رضى الله تعالى، فقال نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ - قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 47 - 48]
فهبط وبارك الله في ذريته، وجعل ذريته هم الباقين؛ فكان أولاده يا فث ملأ المشرق من الذرية، وحام ملأ المغرب من النسل، وسام ملأ ما بين ذلك، ومكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومكث بعد هلاكهم ما شاء الله، وكان من أولي العزم من المرسلين، ومن الخمسة الذين تدور عليهم الشفاعة يوم القيامة، وهو أول الرسل إلى الناس، وهو الأب الثاني للبشر، صلى الله عليه وسلم تسليما.
* يستفاد من هذه القصة أمور:
منها: أن جميع الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم متفقون على الدعوة إلى التوحيد الخالص، والنهي عن الشرك، فنوح وغيره أول ما يقولون لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] ويكررون هذا الأصل بطرق كثيرة.
ومنها: آداب الدعوة وتمامها، فإن نوحا دعا قومه ليلا ونهارا، وسرا وجهارا. . بكل وقت وبكل حالة يظن فيها نجاح الدعوة، وأنه رغبهم بالثواب العاجل بالسلامة من العقاب، وبالتمتيع بالأموال والبنين، وإدرار الأرزاق إذا آمنوا وبالثواب الآجل؛ وحذرهم من ضد ذلك، وصبر على هذا صبرا عظيما كغيره من الرسل، وخاطبهم بالكلام الرقيق والشفقة، وبكل لفظ جاذب للقلوب محصل للمطلوب، وأقام الآيات، وبيَّن البراهين.
ومنها: أن الشُّبَه التي قدح فيها أعداء الرسل برسالتهم من الأدلة على إبطال قول المكذبين، فإن الأقوال التي قالوها، ولم يكن عندهم غيرها، ليس لها حظ من العلم والحقيقة عند كل عاقل، فقول قوم نوح: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] تأمل جملها تجدها تمويهات دالة على أنهم مبطلون مكابرون للحقيقة، فقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] فهل في كون الحق جاء على يد بشر شيء من الشبهة تدل على أنه ليس بحق؟ ومضمون هذا الكلام أن كل قول قاله البشر من أي مصدر يكون باطلا، وهذا قدح منهم في جميع العلوم البشرية المستفادة من البشر، ومعلوم أن هذا يبطل العلوم كلها، فهل عند البشر علوم إلا مستفيدها بعضهم من بعض وهي متفاوتة؟ فأعظمها وأصدقها وأنفعها ما تلقاه الناس عن الرسل الذين علومهم عن وحي إلهي.
وكذلك قولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] أي: نحن وأنتم بشر، وقد أجابت الرسل كلهم عن هذه المقالة فقالوا:
{إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]
فمنَّ الله على الرسل، وخصَّهم بالوحي والرسالة، مع أن إنكارهم عليهم من هذه الجهة من أكبر الجهل وأعظم القدح في نعمة الله، فإن رحمة الله وحكمته اقتضت أن يكون الرسل من البشر؛ ليتمكن العباد من الأخذ عنهم، وتتيسر عليهم هذه النعمة، ويسهِّل الله لهم طرقها، فهؤلاء المكذِّبون كفروا بأصل النعمة، وبالطريق المستقيم النافع الذي جاءتهم به.
وكذلك قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] من المعلوم لكل أحد عاقل أن الحق يعرف أنه حق بنفسه لا بمن تبعه، وأن هذا القول الذي قالوه صدر عن كبر وتيه، والكبر أكبر مانع للعبد من معرفة الحق ومن اتباعه.
وأيضا قولهم: {أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] إن أرادوا الفقر فالفقر ليس من العيوب، وإن أرادوا أراذلنا في الأخلاق فهذا كذب معلوم بالبديهة، وإنما الأراذل الذين قالوا هذه المقالة، فهل الإيمان بالله ورسله، وطاعة الله ورسله، والانقياد للحق، والسلامة من كل خصلة ذميمة، هل هذا الوصف رذيلة وأهله أراذل؟ أم الرذيلة بضده. . . من ترك أفرض الفروض توحيد الله وشكره وحده وامتلاء القلب من التكبر على الحق وعلى الخلق؟ هذا والله أرذل الرذائل، ولكن القوم مباهتون فما نقموا من هؤلاء الأخيار إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.
وقولهم: {بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] أي: مبادرة منهم إلى الإيمان بك يا نوح، لم يشاوروا ولم يتأنوا ويترووا لو فرض أن هذا حقيقة فهذا من أدلة الحق، فإن الحق عليه من البراهين والنور والجلالة والبهاء والصدق والطمأنينة ما لا يحتاج إلى مشاورة أحد باتباعه، وإنما التي تحتاج إلى مشاورة هي الأمور الخفية، التي لا تعلم حقيقتها ولا منفعتها، أما الإيمان الذي هو أجلى من الشمس في نورها، وأحلى من كل شيء، فما يتأخر عنه إلا كل متكبر جبار أمثال هؤلاء الطغاة البغاة.
وقولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] هل في هذا الكلام شيء من الإنصاف بوجه، لأنهم يخبرون عن أنفسهم، وكلامهم يحتمل أنه الذي في قلوبهم، ويحتمل أنهم يقولون ما لا يعتقدون، وعلى كلا الأمرين فالحق يجب قبوله، سواء أقاله الفاضل أو المفضول، الحق أعلى من كل شيء.
وكذلك قولهم: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] معلوم أن الظن أكذب الحديث، ثم لو قالوا: بل نعلمكم كاذبين، فهذه كل مبطل يقدر أن يقولها، ولكن بأي شيء استدللتم أنهم كاذبون؟ فهذه أدلتهم وبراهينهم أبطلت نفسها بنفسها كما ترى، فكيف وقد قابلها الرسل بالأدلة والبراهين المتنوعة التي لا تبقى ريبا لأحد في بطلانها.
ومنها: أن من فضائل الأنبياء وأدلة رسالتهم إخلاصهم التام لله تعالى في عبوديتهم لله القاصرة، وفي عبوديتهم المتعدية لنفع الخلق كالدعوة والتعليم وتوابع ذلك، ولذلك يبدون ذلك ويعيدونه على أسماع قومهم كل منهم يقول: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29]
ولهذا كان من أجَلِّ الفضائل لأتْباع الرسل أن يكونوا مقتدين بالرسل في هذه الفضيلة، والله تعالى يجعل لهم من فضله من رفعة الدنيا والآخرة أعظم مما يتنافس فيه طلاب الدنيا.
ومنها: أن القدح في نيات المؤمنين وفيما منَّ الله عليهم به من الفضائل والتألي على الله أنه لا يؤتيهم من فضله من مواريث أعداء الرسل، فلهذا قال نوح لقومه حين تألوا على الله، وتوسلوا في ذم المؤمنين به بذلك، فقال: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} [هود: 31]
ومنها: أنه ينبغي الاستعانة بالله، وأن يذكر اسمه عند الركوب والنزول، وفي جميع التقلبات والحركات، وحمد الله والإكثار من ذكره عند النعم لا سيما النجاة من الكربات والمشقات، كما قال تعالى:
{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]
وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 28]
وأنه ينبغي أيضا الدعاء بالبركة في نزول المنازل العارضة كالمنازل في إقامات السفر وغيره، والمنازل المستقرة كالمساكن والدور؛ لقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29]
وفي ذلك كله من استصحاب ذكر الله، ومن القوة على الحركات والسكنات، ومن قوة الثقة بالله، ومن نزول بركة الله التي خير ما صحبت العبد في أحواله كلها ما لا غنى للعبد عنه طرفة عين.
ومنها: أن تقوى الله والقيام بواجبات الإيمان من جملة الأسباب التي تُنال بها الدنيا وكثرة الأولاد والرزق وقوة الأبدان - وإن كان لذلك أيضا أسباب أُخر -، وهي السبب الوحيد الذي ليس هناك سبب سواه في نيل خير الآخرة، والسلامة من عقابها.
ومنها: أن النجاة من العقوبات العامة الدنيوية هي للمؤمنين، وهم الرسل وأتباعهم، وأما العقوبات الدنيوية العامة فإنها تختص بالمجرمين، ويتبعهم توابعهم من ذرية وحيوان، وإن لم يكن لها ذنوب؛ لأن الوقائع التي أوقع الله بأصناف المكذِّبين شملت الأطفال والبهائم، وأما ما يذكر في بعض الإسرائيليات أن قوم نوح أو غيرهم لما أراد الله إهلاكهم أعقم الأرحام حتى لا يتبعهم في العقوبة أطفالهم فهذا ليس له أصل، وهو مناف للأمر المعلوم، وذلك مصداق لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]). [تيسير اللطيف المنان: 1/181-190]

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 10:12 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي قصة هود عليه الصلاة والسلام

قصة هود عليه الصلاة والسلام


قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (قصة هود عليه الصلاة والسلام
بعث الله هودا عليه الصلاة والسلام إلى قومه عادا الأولى المقيمين بالأحقاف - من رمال حضرموت - لما كثر شرهم، وتجبروا على عباد الله وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]
مع شركهم بالله وتكذيبهم لرسل الله، فأرسله الله إليهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وينهاهم عن الشرك والتجبر على العباد، ويدعوهم بكل وسيلة، ويذكرهم ما أنعم الله عليهم به من خير الدنيا والبسطة في الرزق والقوة، فردوا دعوته وتكبروا عن إجابته وقالوا:
{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154]
وهم كاذبون في هذا الزعم، فإنه ما من نبي إلا أعطاه الله من الآيات ما على مثله يؤمن البشر، ولو لم يكن من آيات الرسل إلا أن نفس الدين الذي جاءوا به أكبر دليل أنه من عند الله لإحكامه وانتظامه للمصالح في كل زمان بحسبه وصدق أخباره، وأمره بكل خير ونهيه عن كل شر، وأن كل رسول يصدق من قبله ويشهد له، ويصدقه من بعده ويشهد له.
ومن آيات هود الخاصة أنه متفرد وحده في دعوته وتسفيه أحلامهم وتضليلهم والقدح في آلهتهم، وهم أهل البطش والقوة والجبروت، وقد خوَّفوه بآلهتهم إن لم ينته أن تمسه بجنون أو سوء فتحدَّاهم علنا، وقال لهم جهارا:
{إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ - مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ - إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56]
فلم يصلوا إليه بسوء.
فأي آية أعظم من هذا التحدي لهؤلاء الحريصين على إبطال دعوته بكل طريق؟ فلما انتهى طغيانهم تولَّى عنهم وحذَّرهم نزول العذاب، فجاءهم العذاب معترضا في الأفق، وكان الوقت وقت شدة عظيمة وحاجة شديدة إلى المطر، فلما استبشروا وقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]
قال الله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 24]
بقولكم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 24 - 25]
تمر عليه: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]
{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25]
فبعدما كانت الدنيا لهم ضاحكة، والعز بليغ، ومطالب الحياة متوفرة، وقد خضع لهم من حولهم من الأقطار والقبائل، إذ أرسل الله إليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات؛ لنذيقهم عذاب الخزي في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60]
ونجى الله هودا ومن معه من المؤمنين، إن في ذلك لآية على كمال قدرة الله وإكرامه الرسل وأتباعهم، ونصرهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وآية على إبطال الشرك، وأن عواقبه شر العواقب وأشنعها، وآية على البعث والنشور.
* فوائد من هذه القصة:
فيها ما تقدم في قصة نوح من الفوائد المشتركة بين الرسل، ومنها أن الله بحكمته يقص علينا نبأ الأمم المجاورين لنا في جزيرة العرب وما حولها؛ لأن القرآن يذكر أعلى الطرق في التذكير، والله تعالى صرف فيه التذكيرات تصريفا نافعا، ولا ريب أن الأقطار النائية عنا في مشارق الأرض ومغاربها قد بعث الله إليهم رسلا، ولهم معهم نظير ما للمذكورين من إجابة وردٍّ وإكرام وعقوبة، وما من أمة إلا بعث الله فيهم رسولا، ولكن نفعنا بتذكيرنا بما حولنا، وما نتناقله جيلا بعد جيل، بل نشاهد آثارهم، ونمر بديارهم كل وقت، ونفهم لغاتهم، وطبائعهم أقرب إلى طبائعنا، لا ريب أن نفع هذا عظيم، وأنه أولى من تذكيرنا بأمم لم نسمع لهم بذكر ولا خبر، ولا نعرف لغاتهم، ولا تتصل إلينا أخبارهم بما يطابق ما يخبرنا الله به؛ فيؤخذ من هذا أن تذكير الناس بما هو أقرب إلى عقولهم، وأنسب لأحوالهم، وأدخل في مداركهم، وأنفع لهم من غيره أولى من التذكيرات بطرق أخرى وإن كانت حقا، لكن الحق يتفاوت، والمذكِّر والمعلِّم إذا سلك هذا الطريق واجتهد في إيصال العلم والخبر إلى الناس بالوسائل التي يفهمونها، ولا ينفرون منها، أو تكون أقرب لإقامة الحجة عليهم نفع وانتفع، وأشار الباري إلى هذا في آخر قصة عاد، فقال:
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} [الأحقاف: 27]
أي: نوعناها بكل فن ونوع {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27]
أي: ليكون أقرب لحصول الفائدة.
ومنها: أن اتخاذ المباني الفخمة للفخر والخيلاء والزينة وقهر العباد بالجبروت من الأمور المذمومة الموروثة عن الأمم الطاغية، كما قال الله في قصة عاد وإنكار هود عليهم، قال:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ - وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129]
وبالجملة فالبنايات للقصور والحصون والدور وغيرها من الأبنية:
إما أن تتخذ مساكن للحاجة إليها، والحاجات تتنوع وتختلف، فهذا النوع من الأمور المباحة، وقد يتوسل به بالنية الصالحة إلى الخير.
وإما أن تكون البنايات حصونا واقية لشرور الأعداء، وثغورا تحفظ بها البلاد ونحوها مما ينفع المسلمين، ويقيهم الشر، فهذا النوع يدخل في الجهاد في سبيل الله، وهو داخل في الأمر باتخاذ الحذر من الأعداء.
وإما أن يكون للفخر والخيلاء والبطش بعباد الله وتبذير الأموال التي يتعين صرفها في طرق نافعة، فهذا النوع هو المذموم الذي أنكره الله على عاد وغيرهم.
ومنها: أن العقول والأذهان والذكاء وما يتبع ذلك من القوة المادية، وما ترتب عليها من النتائج والآثار وإن عظمت وبلغت مبلغا هائلا، فإنها لا تنفع صاحبها إلا إذا قارنها الإيمان بالله ورسله.
وأما الجاحد لآيات الله المكذب لرسل الله، فإنه وإن استُدرج في الحياة وأُمهل فإن عاقبته وخيمة، وسمعه وبصره وعقله لا يغني عنه شيئا إذا جاء أمر الله، كما قال الله عن عاد:
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26]
وفي الآية الأخرى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]). [تيسير اللطيف المنان: 1/190-194]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 10:13 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي قصة صالح عليه الصلاة والسلام

قصة صالح عليه الصلاة والسلام


قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (قصة صالح عليه الصلاة والسلام
كانت ثمود - وهي عاد الثانية - يسكنون في الحجر وما حولها، وكانوا أهل مواش كثيرة وأهل حرث وزروع، وتواصلت عليهم النعم فكانوا يتخذون من السهول قصورا مزخرفة، ومن الجبال بيوتا منحوتة متقنة، فبطروا النعم وكفروها، وعبدوا غير الله، فأرسل الله إليهم أخاهم صالحا من قبيلتهم، يعرفون نسبه وحسبه، وفضله وكماله، وصدقه وأمانته، فدعاهم إلى الله والى إخلاص الدين له، وترك ما كانوا يعبدون من دونه، وذكرهم بنعم الله وبأيامه بالأمم المجاورة لهم، فلم يتبعه إلا القليل.
وحين ذكرهم وأقام الأدلة والبراهين على وجوب توحيد الله اشمأزوا ونفروا واستكبروا وقالوا:
{يا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: 62]
أي: قد كنا قد تخايلنا فيك أن تفضلنا جميعا لكمالك وكمال أخلاقك، وآدابك الطيبة.
وهذا اعتراف منهم له بهذه الأمور قبل أن يقول ما قال، فما نزله عن هذه المرتبة عندهم إلا أنه دعاهم إلى عبادة الخالق من عبادة العبيد، وإلى السعادة الأبدية، وما ذنبه إلا أنه خالف آباءهم الضالين، وهم كانوا أضل منهم، ثم أقام لهم بينة عظيمة وبرهانا ونعمة على جميع القبيلة بأسرها، وقال: هذه ناقة الله - التي لا يشبهها شيء من النوق في ذاتها وشرفها ومنافعها لكم - آية على صدقي وعلى سعة رحمة ربكم، فذروها تأكل في أرض الله، على الله رزقها، ولكم نفعها، ترد الماء يوما فترد القبيلة بأسرها على ضرعها، كل يصدر عن ضرعها قد ملأ آنيته، ثم تردون أنتم في اليوم الثاني، فمكثت على هذا ما شاء الله.
وكان في مدينتهم تسعة رهط من شياطينهم قد قاوموا ما جاء به صالح أشد المقاومة، يصدون عن سبيل الله، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون، وكان صالح قد حذرهم من عقر الناقة لما رأى من كبرهم وردهم الحق، فأول ما فعل أولئك الملأ الأشرار أن عقدوا مجلسا عاما ليتفقوا على عقر الناقة، فاتفقوا، فانتدب لذلك أشقى القبيلة، ولهذا قال الله تعالى:
{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12]
أي: بعد اتفاقهم وندبهم إياه بعثوه لذلك، فانبعث واستعد وتكفل لهم بعقرها، وهم جميعهم راضون بل آمرون، فعقرها فكان هذا العقر مؤذنا بهلاك القبيلة بأسرها.
فلما شعر صالح بالأمر، ورأى منظرا فظيعا علم أن العذاب قد تحتم لا محالة؛ لأن الجريمة قد تفاقمت، ولم يبق حالة يرجى فيها لهم تقويم، فقال لهم صالح: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب، ونبه بهذا الكلام دانيهم وقاصيهم، ففي أثناء هذه المدة اتفق هؤلاء الرهط التسعة على أمر أغلظ من عقر الناقة، على قتل نبيهم صالح، وتعاهدوا وتعاقدوا وحلفوا الأيمان المغلظة، وكتموا أمرهم خشية من منع أهل بيته، لأنه في بيت عز وشرف، وقالوا: لنبيتنه وأهله، ثم إذا ظن بنا أننا قتلناه حلفنا لأوليائه أننا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون، فدبروا هذا المكر العظيم، ولكنهم يمكرون ويمكر الله لنبيه صالح، فحين كمنوا في أصل جبل لينظروا الفرصة في صالح بدأ الله بعقوبتهم، فكانوا سلفا مقدَّما لقومهم إلى نار جهنم، فأرسل الله صخرة من أعلى الجبل فشدختهم وقتلوا أشنع قتلة، ثم لما تمت ثلاثة هذه الأيام جاءتهم صيحة من فوقهم، ورجفة من أسفل منهم، فأصبحوا خامدين، ونجى الله صالحا ومن معه من المؤمنين، وتولى عنهم وقال: {يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79]
* فوائد تتعلق بهذه القصة:
منها: أن جميع الأنبياء دعوتهم واحدة، وأن من كذَّب واحدا منهم فقد كذَّب الجميع، لأنه يكذِّب الحق الذي جاء به كل واحد منهم، ولهذا يقول في كل قصة: كذبت قوم نوح المرسلين، كذبت عاد المرسلين، كذبت هود المرسلين.
ومنها: أن عقوبات الله للأمم الطاغية عند تناهي طغيانها وتفاقم جرائمها، فكُفرهم وتكذيبهم موجب للهلاك، ولكن تحتم الإهلاك عند تناهي إجرامهم؛ لأن الله تعالى بالمرصاد فيمهل ثم يمهل حتى إذا أخذهم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
ومنها: أن العقائد الباطلة الراسخة المأخوذة عمن يحسن بهم الظن من آباء أو غيرهم من أكبر الموانع لقبول الحق، والحال أنها ليست في العير ولا في النفير، ولا لها مقام في الحجج الصحيحة الدالَّة على الحقائق، فلهذا أكبر ما رد به قوم صالح لدعوته أن قالوا: أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا، وقالت جميع الأمم المكذبة رادِّين لدعوة الرسل:
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]
وهذا سبيل لا يزال معمورا بالسالكين من أهل الباطل، نهجته الشياطين ليصدوا به العباد عن سبيل الله، ومن المعلوم أن طريق الرسل هي طريق الهدى والحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال). [تيسير اللطيف المنان: 1/195-198]

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 10:17 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي قصة إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم

قصة إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم


قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (قصة إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم
قد ذكر الله في كتابه سيرة وأخبارا كثيرة من سيرة إبراهيم، فيها لنا الأسوة بالأنبياء عموما، وبه على وجه الخصوص؛ فإن الله أمر نبينا وأمرنا باتباع ملته، وهي ما كان عليه من عقائد وأخلاق وأعمال قاصرة ومتعدية، فقد آتاه الله رشده وعلَّمه الحكمة منذ كان صغيرا، وأراه ملكوت السماوات والأرض، ولهذا كان أعظم الناس يقينا وعلما وقوة في دين الله ورحمته بالعباد، وكان قد بعثه الله إلى قوم مشركين يعبدون الشمس والقمر والنجوم، وهم فلاسفة الصابئة الذين هم من أخبث الطوائف وأعظمهم ضررا على الخلق، فدعاهم بطرق شتى، فأول ذلك دعاهم بطريقة لا يمكن لصاحب عقل أن ينفر منها، ولما كانوا يعبدون السبع السيارات التي منها الشمس والقمر، وقد بنوا لها البيوت، وسموها الهياكل، قال لهم ناظرا ومناظرا: هلم يا قوم ننظر هل يستحق منها شيء الإلهية والربوبية؟
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]
* والمناظرة تخالف غيرها في أمور كثيرة:
منها: أن المناظر يقول الشيء الذي لا يعتقده ليبني عليه حجته، وليقيم الحجة على خصمه، كما قال في تكسيره الأصنام لما قالوا له:
{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62]
فأشار إلى الصنم الذي لم يكسره فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]
ومعلوم أن غرضه إلزامهم بالحجة، وقد حصلت.
فهنا يسهل علينا فهم معنى قوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] أي: إن كان يستحق الإلهية بعد النظر في حالته ووصفه فهو ربي، مع أنه يعلم العلم اليقيني أنه لا يستحق من الربوبية والإلهية مثقال ذرة، ولكن أراد أن يلزمهم بالحجة: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76]
أي: غاب {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]
فإن من كان له حال وجود وعدم، أو حال حضور وغيبة، قد علم كل عاقل أنه ليس بكامل، فلا يكون إلها، ثم انتقل إلى القمر، فلما رآه بازغا: {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]
يريهم صلوات الله وسلامه عليه، وقد صور نفسه بصورة الموافق لهم، لكن على وجه التقليد، بل يقصد إقامة البرهان على إلهية النجوم والقمر، فالآن وقد أفلت، وتبين بالبرهان العقلي مع السمعي بطلان إلهيتها، فأنا إلى الآن لم يستقر لي قرار على رب وإله عظيم، فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا أكبر من النجوم ومن القمر، فإن جرى عليها ما جرى عليهما كانت مثلهما، فلما أفلت وقد تقرر عند الجميع فيما سبق أن عبادة من يأفل من أبطل الباطل، فحينئذ ألزمهم بهذا الإلزام ووجه عليهم الحجة فقال: {يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ - إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 78 - 79] أي: ظاهري وباطني {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]
هذا برهان عقلي واضح أن الخالق للعالم العلوي والسفلي هو الذي يتعين أن يُقصد بالتوحيد والإخلاص، وأن هذه الأفلاك والكواكب وغيرها مخلوقات مدبرات، ليس لها من الأوصاف ما تستحق العبادة لأجلها؛ فجعلوا يخوفونه آلهتهم أن تمسه بسوء، وهذا دليل على أن المشركين عندهم من الخيالات الفاسدة والآراء الرديئة ما يعتقدون أن آلهتهم تنفع من عَبَدَها وتَضُر من تركها أو قدح فيها، فقال لهم مبينا لهم أنه ليس عليه شيء من الخوف، وإنما الخوف الحقيقي عليكم فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81]
أجاب الله هذا الاستفهام جوابا يعم هذه القصة وغيرها في كل وقت فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] أي: بشرك {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]
فرفع الله خليله إبراهيم بالعلم وإقامة الحجة، وعجزوا عن نصر باطلهم؛ ولكنهم صمموا على الإقامة على ما هم عليه، ولم ينفع فيهم الوعظ والتذكير وإقامة الحجج، فلم يزل يدعوهم إلى الله، وينهاهم عما كانوا يعبدون نهيا عامًّا وخاصًّا، وأخص من دعاه أبوه آزر؛ فإنه دعاه بعدة طرق نافعة، ولكن:
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ - وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]
فمن جملة مقالاته لأبيه إذ قال لأبيه:
{يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا - يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 42 - 43]
انظر إلى حسن هذا الخطاب الجاذب للقلوب: لم يقل لأبيه: إنك جاهل؛ لئلا ينفر من الكلام الخشن، بل قال له هذا القول: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا - يا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا - يا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 43 - 45]
فانتقل بدعوته من أسلوب لآخر لعله ينجع فيه أو يفيد، ولكنه مع ذلك قال له أبوه:
{أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]
هذا وإبراهيم لم يغضب ولم يقابل أباه ببعض ما قال، بل قابل هذه الإساءة الكبرى بالإحسان فقال:
{سَلَامٌ عَلَيْكَ} [مريم: 47]
أي: لا أتكلم معك إلا بكلام طيب لا غلظة فيه ولا خشونة، ومع ذلك فلست بآيس من هدايتك: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]
أي: برا رحيما قد عودني لطفه وأجراني على عوائده الجميلة، ولم يزل لدعائي مجيبا.
فلم يزل إبراهيم مع قومه في دعوة وجدال، وقد أفحمهم وكسر جميع حججهم وشُبههم، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقاومهم بأعظم الحجج، وأن يصمد لبطشهم وجبروتهم وقدرتهم وقوتهم، غير هائب ولا وجل، فلما خرجوا ذات يوم لعيد من أعيادهم وخرج معهم، فنظر نظرة في النجوم فقال: إني سقيم؛ لأنه خشي إن تَخَلَّف لغير هذه الوسيلة لم يدرك مطلوبه؛ لأنه تظاهر بعداوتها والنهي الأكيد عنها وجهاد أهلها، فلما برزوا جميعا إلى الصحراء كرَّ راجعا إلى بيت أصنامهم، فجعلها جذاذا كلها إلا صنما كبيرا أبقى عليه ليلزمهم بالحجة، فلما رجعوا من عيدهم بادروا إلى أصنامهم صبابة ومحبة، فرأوا فيها أفظع منظر رآه أهلها فقالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ - قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 59 - 60]
أي: يعيبها ويذكرها بأوصاف النقص والسوء: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]
فلما تحققوا أنه الذي كسرها:
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61]
أي: بحضرة الخلق العظيم، ووبخوه أشد التوبيخ ثم نكلوا به، وهذا الذي أراد إبراهيم؛ ليظهر الحق بمرأى الخلق ومسمعهم، فلما جمع الناس وحضروا، وحضَّروا إبراهيم قالوا:
{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ - قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62 - 63]
مشيرا إلى الصنم الذي سلم من تكسيره، وهم في هذه بين أمرين: إما أن يعترفوا بالحق، وأن هذا لا يدخل عقل أحد أن جمادا معروفا أنه مصنوع من مواد معروفة لا يمكن أن يفعل هذا الفعل، وإما أن يقولوا: نعم هو الذي فعلها وأنت سالم ناج من تبعتها، وقد علم أنهم لا يقولون الاحتمال الأخير، قال: فاسألوهم إن كانوا ينطقون، وهذا تعليق بالأمر الذي يعترفون أنه محال، فحينئذ ظهر الحق وبان، واعترفوا هم بالحق فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على رؤوسهم، أي: ما كان اعترافهم ببطلان إلهيتها إلا وقتا قصيرا ظهرت الحجة مباشرة التي لا يمكن مكابرتها، ولكن ما أسرع ما عادت عليهم عقائدهم الباطلة التي رسخت في قلوبهم، وصارت صفات ملازمة، إن وجد ما ينافيها فإنه عارض يعرض ثم يزول:
{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65]
فحينئذ وبخهم بعد إقامة الحجة التي اعترف بها الخصوم على رؤوس الأشهاد، فقال لهم:
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ - أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67]
فلو كان لكم عقول صحيحة لم تقيموا على عبادة ما لا ينفع ولا يضر ولا يدفع عن نفسه من يريده بسوء، فلما أعيتهم المقاومة بالبراهين والحجج عدلوا إلى استعمال قوتهم وبطشهم وجبروتهم في عقوبة إبراهيم فقالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، فأوقدوا نارا عظيمة جدا فألقوه بها، فقال وهو في تلك الحال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله للنار:
{يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]
فلم تضره بشيء، وأرادوا به كيدا لينصروا آلهتهم، ويقيموا لها في قلوبهم وقلوب أتباعهم الخضوع والتعظيم، فكان مكرهم وبالا عليهم، وكان انتصارهم لآلهتهم نصرا عظيما عند الحاضرين والغائبين والموجودين والحادثين عليهم، وانتصر الخليل على الخواص والعوام والرؤساء والمرؤوسين حتى إن ملكهم حاجَّ إبراهيم في رَبِّه بغيا وطغيانا، {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] فقال إبراهيم:
{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]
فألزمه الخليل بطرد دليله بالتصرف المطلق، فقال:
{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]
فصل ثم خرج من بين أظهرهم مهاجرا وزوجته وابن أخيه لوط إلى الديار الشامية، وفي أثناء مدة إقامته بالشام ذهب إلى مصر بزوجته سارة، وكانت أحسن امرأة على الإطلاق، فلما رآها ملك مصر وكان جبارا عنيدا لم يملك نفسه حتى أرادها على نفسها، فدعت الله عليه، فكاد أن يموت، ثم أطلق، ثم عاد ثانية، وكلما أرادها دعت عليه فصرع، ثم دعت له فأطلق، فكفاهما الله شره، ووهب لها هاجر جارية قبطية، وكانت سارة عاقرا منذ كانت شابة، فوهبت هذه الجارية لإبراهيم ليتسررها لعل الله يرزقه منها ولدا، فأتت هاجر بإسماعيل على كبر إبراهيم ففرح به فرحا شديدا، ولكن سارة رضي الله عنها أدركتها الغيرة فحلفت أن لا يساكنها بها، وذلك لما يريده الله، وهذا من جملة الأسباب لذهابه بها إلى موضع البيت الحرام، وإلا فهو متقرر عنده ذلك عليه السلام.
فذهب بها وبابنها إسماعيل إلى مكة، وهي في ذلك الوقت ليس فيها سكن ولا مسكن ولا ماء ولا زرع ولا غيره، وزودهما بسقاء فيه ماء وجراب فيه تمر، ووضعهما عند دوحة قريبة من محل بئر زمزم ثم قفى عنهما، فلما كان في الثنية بحيث يشرف عليهما دعا الله تعالى فقال:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] إلى آخر الدعاء.
ثم استسلمت لأمر الله، وجعلت تأكل من ذلك التمر، وتشرب من ذلك الماء حتى نفدا، فعطشت ثم عطش ولدها، فجعل يتلوى من العطش، ثم ذهبت في تلك الحال لعلها ترى أحدا أو تجد مغيثا، فصعدت أدنى جبل منها وهو الصفا، وتطلعت فلم تر أحدا، ثم ذهبت إلى المروة فصعدت عليه فتطلعت، فلم تر أحدا، ثم جعلت تتردد في ذلك الموضع وهي مكروبة مضطرة مستغيثة بالله لها ولابنها، وهي تمشي وتلتفت إليه خشية السباع عليه، فإذا هبطت الوادي سعت حتى تصعد من جانبه الآخر؛ لئلا يخفى على بصرها ابنها.
والفرج مع الكرب، والعسر يتبعه اليسر، فلما تمت سبع مرات تسمعت حس الملك، فبحث في الموضع الذي فيه زمزم فنبع الماء، فاشتد فرح أم إسماعيل به، فشربت منه وأرضعت ولدها، وحمدت الله على هذه النعمة الكبرى، وحوطت على الماء لئلا يسيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أم إسماعيل: لو تركت ماء زمزم - أي لم تحوطه - لكانت زمزم عينا معينا» ثم عثر بها قبيلة من قبائل العرب يقال لهم جرهم، فعزلوا عندها وتمت عليها النعمة.
وشب إسماعيل شابا حسنا، وأعجب القبيلة بأخلاقه وعلو همته وكماله، فلما بلغ تزوج منهم امرأة، ففي أثناء هذه المدة ماتت أمه رضي الله عنها، وجاء إبراهيم بغيبة إسماعيل يتصيد، فدخل على امرأته فسألها عن زوجها وعن عيشهم، فأخبرته أن زوجها قد ذهب يتصيد، وأن عيشهم عيش الشدة، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، ورجع من فوره لحكمة أرادها الله، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا، فسأل امرأته فأخبرته أنه جاءهم شيخ بهذا الوصف، وأنه سأل عنك فأخبرته، وسألنا عن عيشنا فأخبرته أننا في شدة، وأنه يقرأ عليك السلام، ويقول لك: غير عتبة بابك، فقال: ذاك أبي، وأنت العتبة، الحقي بأهلك، ثم تزوج إسماعيل غيرها.
ثم جاء إبراهيم مرة أخرى وإسماعيل أيضا في الصيد، فدخل على امرأته فسألها عن إسماعيل فأخبرته، وسألها عن عيشهم فأخبرته أنهم في نعمة وخير، وكانت امرأة طيبة شاكرة لله وشاكرة لزوجها، ثم قال لها: إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يثبت عتبة بابه، ثم رجع أيضا من فوره قبل مواجهة إسماعيل لحكمة أرادها الله تعالى، فلما رجع إسماعيل من صيده قال: هل جاءكم من أحد؟ فقالت: جاءنا شيخ بهذا الوصف، فقال: هل قال لكم من شيء؟ فقالت: سألنا عنك فأخبرته، وسألنا عن عيشنا فأخبرته أنا في نعمة، وأثنيت على الله، فقال: فما قال؟ قالت: هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، فقال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.
ثم عاد إبراهيم المرة الثالثة فوجد إسماعيل يبري نبلا عند زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد الشفيق والولد الشفيق، فقال: يا إسماعيل إن الله أمرني أن أبني هنا بيتا يكون معبدا للخلق إلى يوم القيامة، قال: سأعينك على ذلك، فجعلا يرفعان القواعد من البيت، إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ - رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127 - 129]
فلما تَمَّ بنيانه، وتَمَّ للخليل هذا الأثر الجليل أمره الله أن يدعو الناس ويؤذن فيهم بحج هذا البيت، فجعل يدعو الناس وهم يفدون إلى هذا البيت من كل فَجٍّ عميق؛ ليشهدوا منافع دنياهم وأخراهم، ويسعدوا ويزول عنهم شقاؤهم، وفي هذه الأثناء حين تمكن حب إسماعيل من قلبه، وأراد الله أن يمتحن إبراهيم لتقديم محبة ربه وخلته التي لا تقبل المشاركة والمزاحمة، فأمره في المنام أن يذبح إسماعيل، ورؤيا الأنبياء وحي من الله، فقال لإسماعيل:
{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ - فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 102 - 103]
أي: خضعا لأمر الله، وانقادا لأمره، ووطنا أنفسهما على هذا الأمر المزعج الذي لا تكاد النفوس تصبر على عشر معشاره.
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] نزل الفرج من الرحمن الرحيم.
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يا إِبْرَاهِيمُ - قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105]
فحصل توطين النفس على هذه المحنة والبلوى الشاقة المزعجة، وحصلت المقدمات والجزم المصمم، وتم لهما الأجر والثواب، وحصل لهما الشرف والقرب والزلفى من الله، وما ذلك من ألطاف الرب بعزيز، قال تعالى:
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ - وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 105 - 107]
وأي ذِبْحٍ أعظم من كونه حصل به مقصود هذه العبادة التي لا يشبهها عبادة، وصار سُنَّة في عقبه إلى يوم القيامة يتقرب به إلى الله، ويدرك به ثوابه ورضاه:
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ - سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 108 - 109]
فصل ثم إن الله أتم النعمة على إبراهيم، ورحم زوجته سارة على الكبر والعقم واليأس بالبشارة بالابن الجليل وهو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فحين أرسل الله لوطا إلى قومه، وتمرَّدوا عليه وحتَّم الله عقوبتهم، وكان لوط تلميذا لإبراهيم، ولإبراهيم عليه حقوق كثيرة، فمرت الملائكة الذين أرسلوا لإهلاك قوم لوط بإبراهيم بصورة آدميين، فلما دخلوا عليه وسلموا ردَّ عليهم السلام، بادرهم بالضيافة، وكان الله قد أعطاه الرزق الواسع والكرم العظيم، وكان بيته مأوى للأضياف، فبالحال راغ إلى أهله بسرعة وخفية منهم، فجاء بعجل سمين محنوذ مشوي على الرضف فقربه إليهم، فقال: {أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 27]
{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70] إذ ظن أنهم لصوص:
{قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70]
وكانت سارة قائمة في خدمتهم، وبشره بغلام عليم، فصرخت سارة وصكت وجهها متعجبة ومستبشرة ومترددة ومتحيرة وقالت:
{أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72]
وقبل ذلك كنت عقيما، وهذا بعلي شيخا، إن هذا لشيء عجيب، قالوا: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73] فبشراهما بإسحاق وأنه يعيش ويولد له يعقوب ويدركانه، ولهذا حمد الله إبراهيم على تمام نعمته وقال:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]
فصل فيما في قصة إبراهيم الخليل من الفوائد ليعلم أن جميع ما قصه الله علينا من سيرة إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم فإننا مأمورون به أمرا خاصا، قال تعالى:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أي: الزموها.
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} [الممتحنة: 4] الآية [الممتحنة: 4] .
فما هو عليه في التوحيد والأصول والعقائد والأخلاق وجميع ما قص علينا من نبئه، فإن اتباعنا إياه من ديننا؛ ولهذا لما كان هذا أمرا عاما لأحواله كلها استثنى الله حالة من أحواله فقال:
{إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4]
أي: فلا تقتدوا به في هذه الحال بالاستغفار للمشركين، فإن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
ومنها: أن الله اتخذه خليلا، والخلة أعلى درجات المحبة، وهذه المرتبة لم تحصل لأحد من الخلق إلا للخليلين إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
ومنها: ما أكرمه الله به من الكرامات المتنوعة، جعل في ذريته النبوة والكتاب، وأخرج من صلبه أمتين هما أفضل الأمم: العرب وبنو إسرائيل، واختاره الله لبناء بيته الذي هو أشرف بيت، وأول بيت وضع للناس، ووهب له الأولاد بعد الكبر واليأس، ملأ بذكره ما بين الخافقين، وامتلأت قلوب الخلق من محبته وألسنتهم من الثناء عليه.
ومنها: أن الله رفعه بالعلم واليقين وقوة الحجج، قال جل ذكره:
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83]
ومن شوقه إلى الوصول إلى غاية العلم ونهايته أن سأل ربه:
{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]
ومنها: أن من عزم على فعل الطاعات وبذل مقدوره في أسبابها، ثم حصل مانع يمنع من إكمالها، أن أجره قد وجب على الله، كما قال الله ذلك في المهاجر الذي يموت قبل أن يصل إلى مهاجره، وكما ذكره الله في قصة الذبح، وأن الله أتَمَّ الأجر لإبراهيم وإسماعيل حين أسلما لله وأذعنا لأمره، ثم رفع عنهما المشقة، وأوجب لهما الأجر الدنيوي والأخروي.
ومنها: ما في قصصه من آداب المناظرة: طرقها ومسالكها النافعة، وكيفية إلزام الخصم بالطرق الواضحة التي يعترف بها أهل العقول، وإلجاؤه الخصم الألد إلى الاعتراف ببطلان مذهبه، وإقامة الحجة على المعاندين وإرشاد المسترشدين.
ومنها: أن من نعمة الله على العبد هبة الأولاد الصالحين، وأن عليه في ذلك أن يحمد الله، ويدعو الله لذريته كما فعل الخليل صلى الله عليه وسلم في قوله:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39] إلى آخر الدعاء.
وقال جلَّ ذكره في الثناء عموما على من يدعو الله بصلاح ذريته:
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]
فإن العبد إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
ومنها: أن المشاعر ومواضع الأنساك من جملة الحكم فيها، أن فيها تذكيرات بمقامات الخليل وأهل بيته في عبادات ربهم، وإيمان بالله ورسله، وحث على الاقتداء بهم في كل أحوالهم الدينية وكل أحوال الرسل دينية، لقوله تعالى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]
ومنها: الأمر بتطهير المسجد الحرام من الأنجاس، ومن جميع المعاصي القولية والفعلية؛ تعظيما لله وإعانة وتنشيطا للمتعبدين فيه، ومثله بقية المساجد لقوله عز وجل:
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]
وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]
ومنها: أن أفضل الوصايا على الإطلاق ما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب، وهو الوصية بملازمة القيام بالدين وتقوى الله والاجتماع على ذلك، وهي وصيته تعالى للأولين والآخرين، إذ بها السعادة الأبدية والسلامة من شرور الدنيا والآخرة.
ومنها: أن العامل - كما عليه أن يتقن عمله ويجتهد في إيقاعه على أكمل الوجوه - فعليه مع ذلك أن يكون بين الخوف والرجاء، وأن يتضرع إلى ربه في قبوله وتكميل نقصه، والعفو عما وقع فيه من خلل أو نقص، كما كان إبراهيم وإسماعيل يرفعان القواعد من البيت، وهما بهذا الوصف الكامل.
ومنها: أن الجمع بين الدعاء لله بمصالح الدنيا والدين من سبيل أنبياء الله، وكذلك السعي في تحصيلهما الدين هو الأصل والمقصود الذي خلق له الخلق والدنيا وسيلة ومعونة عليه لدعاء الخليل لأهل البيت الحرام بالأمرين، وتعليله الدعاء بالأمور الدنيوية أنه وسيلة إلى الشكر فقال:
{وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]
ومنها: ما اشتملت عليه قصة إبراهيم من مشروعية الضيافة وآدابها، فإن الله أخبر عن ضيفه أنهم مكرمون، يعني: أنهم كرماء على الله، وأيضا إبراهيم أكرمهم بضيافته قولا وفعلا، فإكرام الضيف من الإيمان، وأنه خدمهم بنفسه وبادر بضيافتهم قبل كل شيء، وأتى بأطيب ماله: عجل حنيذ سمين، وقرَّبه إليهم ولم يحوجهم إلى الذهاب إلى عمل آخر، وعرض عليهم الأكل بلفظ رقيق فقال: ألا تأكلون؟
ومنها: مشروعية السلام، وأن المبتدئ فيه هو الداخل وهو الماشي، وأنه يجب رده، ومشروعية الوقوف على اسم من يتصل بك من صاحب ومعامل وضيف لقوله:
{قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25]
أي لا أعرفكم فأحب أن تعرفوني بأنفسكم، وهذا ألطف من قوله أنكرتكم ونحوه.
ومنها: الترغيب في أن يكون أهل الإنسان ومن يتولى شؤون بيته حازمين مستعدين لكل ما يراد منهم من الشؤون والقيام بمهمات البيت، فإن إبراهيم في الحال بادر إلى أهله فوجد طعام ضيوفه حاضرا لا يحوج إلا إلى تقديمه.
ومنها: أن إتيان الولد والبشارة به من سارة، وهي عجوز عقيم، يعد معجزة لإبراهيم وكرامة لسارة، ففيه معجزة نبي وكرامة ولي، ونظيره بشارة الملائكة لمريم بعيسى، وبشارتهم بيحيى لزكريا وزوجته، وكون زكريا جعل الله آية وجود المبشر به أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام، وهو سويٌّ لا آفة فيه إلا بالرمز والإشارة، وكل هذا وما أشبهه من آيات الله، وأعجب من هذا إيجاده آدم من تراب، فسبحان من هو على كل شيء قدير.
ومنها: ثناء الله على إبراهيم أنه أتى ربه بقلب سليم، وقد قال:
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]
والجامع لمعناه أنه سليم من الشرور كلها ومن أسبابها، ملآن من الخير والبر والكرم، سليم من الشبهات القادحة في العلم واليقين، ومن الشهوات الحائلة بين العبد وبين كماله، سليم من الكبر ومن الرياء والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وسليم من الغل والحقد، ملآن بالتوحيد والإيمان والتواضع للحق وللخلق، والنصيحة للمسلمين والرغبة في عبودية الله، وفي نفع عباد الله.
ومنها: ما ذكره في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس:
{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]
{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109]
يتبعها بقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105]
فوعد الباري أن كل محسن في عبادته محسن إلى عباده أن الله يجزيه الثناء الحسن والدعاء من العالمين بحسب إحسانه، وهذا ثواب عاجل وآجل، وهو من البشرى في الحياة الدنيا، ومن علامات السعادة). [تيسير اللطيف المنان: 1/198-214]

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 10:18 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي قصة لوط عليه السلام

قصة لوط عليه السلام


قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (قصة لوط عليه السلام
وقصة لوط عليه السلام تبع لقصة إبراهيم، لأنه تلميذه وقد تعلم من إبراهيم، وكان له بمنزلة الابن، فنبأه الله بحياة الخليل، وأرسله إلى قرى سدوم من غور فلسطين، وكانوا مع شركهم بالله يلوطون بالذكور، ولم يسبقهم أحد إلى هذه الفاحشة الشنعاء، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، وحذرهم من هذه الفاحشة، فلم يزدادوا إلا عتوا وتماديا فيما هم فيه، ولما أراد الله هلاكهم أرسل الملائكة لذلك، فمروا بطريقهم على إبراهيم وأخبروه بذلك، فجعل إبراهيم يجادل في إهلاكهم - وكان رحيما حليما - وقال:
{إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32]
فقيل: {يا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76]
ولما ذهب الملائكة إلى لوط بصورة أضياف آدميين شباب ساء لوطا ذلك وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]
لعلمه بما عليه قومه من هذه الجراءة الشنيعة، ووقع ما خاف منه، فجاءه قومه يهرعون إليه يريدون فعل الفاحشة بأضياف لوط، فقال: {يا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]
لعلمه أنه لا حق لهم فيهن، كما عرض سليمان للمرأتين حين اختصمتا في الولد فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، ومن المعلوم أنه لا يقع ذلك، وهذا مثله، ولهذا قال قومه:
{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79]
وأيضا يريد بعض العذر من أضيافه، وعلى هذا التأويل لا حاجة إلى العدول إلى قول بعض المفسرين {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} [هود: 78] يعني: زوجاتهم، يعني: لأن النبي أب لأمته، فإن هذا يمنعه أمران:
أحدهما: قوله: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} [هود: 78] يشير إليهن إشارة الحاضر.
ثانيا: هذا الإطلاق على زوجاتهم لا نظير له، وأيضا النبي إنما هو بمنزلة الأب للمؤمنين به، لا للكفار، والمحذور الذي توهموه يزول بما ذكرنا، وأنه يعلم أنه لا حق لهم فيهن، وإنما يريد مدافعتهم بكل طريق، فاشتد الأمر بلوط وقال:
{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]
أي: لدافعتكم، فلما رآهم جازمين على مرادهم الخبيث قال لقومه: فَاتَّقُوا {اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78]
فاستلجوا في طغيانهم وسكرهم، فحينئذ أخبرته ملائكة الرحمن بأمرهم، وأنهم أرسلوا لإهلاكهم، فصدم جبريل أو غيره من الملائكة الذين يعالجون الباب ليدخلوا على لوط فطمس بهذه الصدمة أعينهم، فكان هذا عذابا معجلا وأنموذجا لمن باشروا مراودة لوط على أضيافه، وأمروا لوطا أن يسري بأول الليل بأهله ويلح في السير حتى يخلف ديارهم، وينجو من معرة العذاب، فخرج بهم فما أصبح الصباح حتى خلفوا ديارهم، وقلب الله عليهم ديارهم، فجعل أعلاها أسفلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين الذين يعملون عملهم ببعيد.
وفي هذه القصة أكبر دليل على أن فاحشة اللواط من أشنع القبائح، وأنها توجب العقاب الشديد، وأن من ابتلي بهذه الفاحشة فمع ذهاب دينه قد انقلب عليه الحسن بالقبيح، فاستحسن ما كان قبيحا، ونفر من الطيب، وذلك دليل على انحراف الأخلاق.
وفيها وفي قصة إبراهيم، جواز التعريض، أما قصة إبراهيم ففي قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ - فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88 - 89]
وأما لوط ففي قوله: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] والتعريض يكون في الأقوال، ويكون في الأفعال، وهو أن يقصد المتكلم أو العامل لعمل أمرا من الأمور التي لا بأس بها، ويوهم السامع والرائي أمرا آخر؛ ليستجلب منفعة، أو يدفع مضرة.
ومنها: أن من علامة الرجل الرشيد أنه هو المسدد في أقواله وأفعاله، ومن ذلك أنه ينصر المظلومين، ويفرج الكرب عن المكروبين، ويأمر بالخير، وينهى عن الشر، هذا هو الرشيد حقيقة، فلهذا قال لوط: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] ؟ أي: فيأمر بمعروف، وينهى عن منكر، ويدفع أهل الشر والبغي.
ومنها: الحث على السعي في الأعوان على أمور الخير ودفع الشر، ولو كان المعاون على ذلك من أهل الشر، فإن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم عند الله، ولهذا قال لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] وأكثر الأنبياء يبعثهم الله في أشراف قومهم، ويحصل بذلك من تأييد الحق وقمع الباطل، والتمكن من الدعوة ما لا يحصل لو لم يكن كذلك، واعتبر هذا بحال شعيب وقول قومه له: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] وكذلك نبينا محمد بعث في أشرف بيت في قريش وأعزه، وقد رماه قومه بالعداوة البليغة، وعقدوا المجالس المتعددة في إبطال قوله ودينه، بل وفي كيفية الفتك به، ومن الأسباب التي أوقفتهم عند حدهم خوفهم من قبيلته، وانظر إلى حالته في تضييقهم عليه بالشعب، وانحياز قبيلته معهم - مسلمهم وكافرهم - ولم يخطر ببالهم أنهم يصلون إلى الفتك بشخصه الكريم حتى مكروا ذلك المكر العظيم، إذ اتفق رأيهم على أن ينتدب لقتله من كل قبيلة رجل ليتفرق دمه في القبائل، فيعجز قومه عن الأخذ بثأره، ولكنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين). [تيسير اللطيف المنان: 1/215-218]

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 10:22 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي قصة شعيب عليه السلام

قصة شعيب عليه السلام


قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (قصة شعيب عليه السلام
نبأه الله وأرسله إلى أهل مدين، وكانوا مع شركهم يبخسون المكاييل والموازين، ويغشون في المعاملات، وينقصون الناس أشياءهم، فدعاهم إلى توحيد الله، ونهاهم عن الشرك به، وأمرهم بالعدل في المعاملات، وزجرهم عن البخس في المعاملات، وذكرهم الخير الذي أدره الله عليهم، والأرزاق المتنوعة، وأنهم ليسوا بحاجة إلى ظلم الناس في أموالهم، وخَوَّفهم العذاب المحيط في الدنيا قبل الآخرة، فأجابوه ساخرين وردوا عليه متهكمين فقالوا:
{يا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]
أي: فنحن جازمون على عبادة ما كان آباؤنا يعبدون، وجازمون على أننا نفعل في أموالنا ما نريد من أي معاملة تكون، فلا ندخل تحت أوامر الله وأوامر رسله؛ فقال لهم:
{يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: 88]
أي: أغناني الله.
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]
أي: ما نهيتكم عن المعاملات الخبيثة وظلم الناس فيها، إلا وأنا أول تارك لها، مع أن الله أعطاني ووسَّع عليَّ وأنا محتاج إلى المعاملة، ولكني متقيد بطاعة ربي، إن أريد في فعلي وأمري لكم إلا الإصلاح، أي: أن تصلح أحوالكم الدينية والدنيوية ما استطعت:
{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]
ثم خوفهم أخذات الأمم التي حولهم في الزمان والمكان فقال:
{لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89]
ثم عرض عليهم التوبة، ورغبهم فيها فقال: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]
فلم يفد فيهم، فقالوا: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]
وهذا لعنادهم وبغضهم البليغ للحق {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ - قَالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 91 - 92]
[ثم لما رأى عتوهم قال:]
{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ - وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود: 93 - 94]
{وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]
فأرسل الله عليهم حرا أخذ بأنفاسهم حتى كادوا يختنقون من شدته، ثم في أثناء ذلك أرسل سحابة باردة فأظلتهم، فتنادوا إلى ظلها غير الظليل، فلما اجتمعوا فيها التهبت عليهم نارا، فأحرقتهم وأصبحوا خامدين معذبين مذمومين ملعونين في جميع الأوقات.
* وفي قصة شعيب فوائد متعددة:
منها: أن بخس المكاييل والموازين خصوصا، وبخس الناس أشياءهم عموما من أعظم الجرائم الموجبة لعقوبات الدنيا والآخرة.
ومنها: أن المعصية الواقعة لمن عدم منه الداعي والحاجة إليها أعظم، ولهذا كان الزنا من الشيخ أقبح من الشباب، والكبر من الفقير أقبح من الغني، والسرقة ممن ليس بمحتاج أعظم من وقوعها من المحتاج؛ لهذا قال شعيب لقومه:
{إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84]
أي: بنعم كثيرة، فأي أمر أحوجكم إلى الهلع إلى ما بأيدي الناس بطرق محرمة.
ومنها: قوله:
{بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود: 86]
فيه الحث على الرضا بما أعطى الله، والاكتفاء بحلاله عن حرامه، وقصر النظر على الموجود عندك من غير تطلع إلى ما عند الناس.
ومنها: فيه دلالة على أن الصلاة سبب لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وللنصيحة لعباد الله، وقد علم ذلك الكفار بما قالوا لشعيب:
{أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] وقال تعالى:
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]
ومن هنا تعرف حكمة الله ورحمته في أنه فرض علينا الصلوات، تتكرر في اليوم والليلة لعظم وقعها، وشدة نفعها، وجميل آثارها، فللَّه على ذلك أتم الحمد.
ومنها: أن العبد في حركات بدنه وتصرفاته، وفي معاملاته المالية، داخل تحت حجر الشريعة، فما أبيح له منها فعله، وما منعه الشرع تعين عليه تركه، ومن يزعم أنه في ماله حر له أن يفعل ما يشاء من معاملات طيبة وخبيثة، فهو بمنزلة من يرى أن عمل بدنه كذلك، وأنه لا فرق عنده بين الكفر والإيمان، والصدق والكذب، وفعل الخير والشر، الكل مباح، ومن المعلوم أن هذا هو مذهب الإباحيين الذين هم شر الخليقة، ومذهب قوم شعيب يشبه هذا؛ لأنهم أنكروا على شعيب لما نهاهم عن المعاملات الظالمة، وأباح لهم سواها، فردوا عليه أنهم أحرار في أموالهم، لهم أن يفعلوا فيها ما يريدون، ونظير هذا قول من قال: إنما البيع مثل الربا، فمن سوَّى بين ما أباحه وبين ما حرمه الله فقد انحرف في فطرته وعقله بعدما انحرف في دينه.
ومنها: أن الناصح للخلق الذي يأمرهم وينهاهم من تمام قبول الناس له: أنه إذا أمرهم بشيء أن يكون أول الفاعلين له، وإذا نهاهم عن شيء كان أول التاركين؛ لقول شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]
ومنها: أن الأنبياء جميعهم بُعثوا بالإصلاح والصلاح، ونهوا عن الشرور والفساد، فكل صلاح وإصلاح ديني ودنيوي فهو من دين الأنبياء، وخصوصا إمامهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أبدا وأعاد في هذا الأصل، ووضع للخلق الأصول النافعة التي يجرون عليها في الأمور العادية والدنيوية، كما وضع لهم الأصول في الأمور الدينية، وأنه كما أن على العبد السعي والاجتهاد في فعل الصلاح والإصلاح، فعليه أن يستمد العون من ربه على ذلك، وأن يعلم أنه لا يقدر على ذلك، ولا على تكميله إلا بالله؛ لقول شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]
ومنها: أن الداعي إلى الله يحتاج إلى الحلم وحسن الخلق ومقابلة المسيئين بأقوالهم وأفعالهم بضد ذلك، وأن لا يُحبطه أذى الخلق ولا يصده عن شيء من دعوته، وهذا الخلق كماله للرسل صلوات الله عليهم وسلم، فانظر إلى شعيب عليه السلام، وحسن خلقه مع قومه، ودعوته لهم بكل طريق وهم يسمعونه الأقوال السيئة، ويقابلونه المقابلة الفعلية، وهو صلى الله عليه وسلم يحلم عليهم ويصفح، ويتكلم معهم كلام من لم يصدر منهم له وفي حقه إلا الإحسان، ويهون هذا الأمر أن هذا خُلُقٌ من ظفر به وحازه فقد فاز بالحظ العظيم، وأن لصاحبه عند الله المقامات العالية والنعيم المقيم، ويهونه أنه يعالج أمما قد طبعوا على أخلاق إزالتها وقلعها أصعب من قلع الجبال الرواسي، ومرنوا على عقائد ومذاهب بذلوا فيها الأموال والأرواح، وقدموها على جميع المهمات عندهم، أفتظن مع هذا أن أمثال هؤلاء يقتنعون بمجرد القول بأن هذه مذاهب باطلة وأقوال فاسدة، أم تحسبهم يغتفرون لمن نالها بسوء؟ . . كلا والله، إن هؤلاء يحتاجون إلى معالجات متنوعة بالطرق التي دعت إليها الرسل، يذكرون بنعم الله، وأن الذي تفرد بالنعم يتعين أن يفرد بالعبادة، ويذكر لهم من تفاصيل النعم ما لا يعد ولا يحصى، ويذكرون بما في مذاهبهم من الزيغ والفساد والاضطراب، والتناقض المزلزل للعقائد، الداعي إلى تركها، ويذكرون بما بين أيديهم وما خلفهم من أيام الله ووقائعه بالأمم المكذبة للرسل، المنكرة للتوحيد، ويذكرون بما في الإيمان بالله وتوحيده ودينه من المحاسن والمصالح والمنافع الدينية والدنيوية، الجاذبة للقلوب، المسهلة لكل مطلوب، ومع هذا كله فيحتاج الخلق إلى الإحسان إليهم، وبذل المعروف، وأقل ذلك الصبر على أذاهم، وتحمل ما يصدر منهم، ولين الكلام معهم، وسلوك كل سبيل حكمة معهم، والتنقل معهم في الأمور بالاكتفاء ببعض ما تسمح به أنفسهم ليستدرج بهم إلى تكميله، والبداءة بالأهم فالأهم، وأعظمهم قياما بهذه الأمور وغيرها سيدهم وخاتمهم وإمام الخلق على الإطلاق: محمد صلى الله عليه وسلم). [تيسير اللطيف المنان: 1/118-223]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأنبياء, قصص

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:06 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir