القارئ: والإيمان هو الإقرار باللسان , ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه.
الشيخ: قال: "ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه" يريد بذلك أن أهل السنة والجماعة خالفوا الخوارج والمعتزلة الذين يوجبون للعبد النار، والخوارج الذين يكفرون بالذنوب , فقال: إن العبد لا يخرج من الإيمان بعد أن دخل فيه وصار مؤمناً إلا بجحود ما أدخله فيه؛ وهذا لأجل أن أعظم المسائل التي يتضح فيها الخروج من الإيمان هو الجحد , وإلا فهذا الحصر غير مراد للمؤلف ,كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فإذن هذه الجملة فيها بيان مخالفة المكفرين بالذنوب من الخوارج وأشباههم , أو الذين يحكمون على مرتكب الكبيرة بأنه خالدٌ مخلد في النار من الخوارج والمعتزلة ومن شابههم. إذا تبين هذا فهذه الجملة المهمة فيها مسائل:
المسألة الأولى:
دليل هذه الجملة , دليلها الإجماع , إجماع أهل السنة والجماعة على أن من دخل في الإيمان بيقين فإنه لا يخرج منه إلا بأمر متيقن مماثل لما يعني في اليقين لما به دخل في الإيمان , وهذا الإجماع له أدلته من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية:
هذا الحصر في كلام المؤلف ليس مراداً في أنه يقول: لا يخرج أحدٌ من الإيمان إلا بالجحد , فينفي التكفير أو الحكم بالردة بالاستحلال أو بالإعراض أو بالشك أو بغير ذلك مما يحكم على من أتى به من قيام الشروط وانتفاء الموانع بالردة , ودليل عدم إرادته للحصر أنه ذكر في المسألة السالفة التي مضت , أن المؤلف تبعاً لأهل السنة لا يكفر بذنب "لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله" فقال في المسألة التي مرت علينا قريبا: "ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله" واستحلال الذنب غير الجحد , هذا صورة والجحد صورة , فدل على أن الطحاوي لا يريد بالجحد الحصر , ففيه رد على من حصر الردة أو الكفر بالتكذيب أو بالجحد.
المسألة الثالثة:
(الجحد) من الكلمات التي استعملت في القرآن , أو التي جاءت في القرآن ولها دلالتها في لغة العرب، فدلالة الجحد في اللغة , الجحد هو الرد والإنكار , جحد الشيء يعني رده , أو أنكره , هذا من جهة اللغة، فيجتمع في اللغة مع التكذيب بالشيء ظاهراً , أو مع التكذيب به باطناً، وأما في القرآن فإن الله جل وعلا ذكر الجحد في عدة آيات , وبين أن الجحد يجتمع مع التكذيب، أن الجحد قد يجتمع مع التكذيب , وقد لا يجتمع مع التكذيب , قال جل وعلا في سورة الأنعام في وصف المشركين: ] فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ [ الآية , فدل على أنهم لم يكذبوا وجحدوا , ولهذا حقيقة الجحد عند أهل السنة والجماعة مرتبطة بالقول لأجل هذه الآية قال: ] فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ [ , يعني باطناً ] وَلَـكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [ يعني: ظاهراً , وهذا مرتبط بالقول؛ لأنهم ردوا على النبي صلى الله عليه وسلم , والخوارج ذهبوا إلى أن الجحد يكونُ بالقول وبالفعل معاً , فعندهم أن الجحد يكون بالقول , كقول أهل السنة , ويكون أيضاً بالفعل , فيدل الفعل على جحده.
وهذا خلاف ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من أن الجحد ليس مورده الفعل؛ لأن الفعل محتمل يدخله التأويل ويدخله الخطأ ويدخله أشياء كثيرة , وأما القول فإنه يقين وواضح؛ لأنه دخل في الإيمان بالقول , بقول: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله , فلا يخرج منه إلا بجحود ما أدخله فيه , والجحد، وما أدخله فيه كان قولاً أعلنه وجحد ما أدخله فيه هو رده وتكذيب أو إنكاره لما دخل فيه , وهذه الكلمة؛ كلمة الجحد من الكلمات التي يحصل فيها خلط وخلل , والواجب الرجوع في فهمها إلى دلالة الكتاب والسنة , وإلى ما أجمع عليه سلف الأمة.
المسألة الرابعة والأخيرة:
أهل السنة والجماعة –رحمهم الله تعالى- في تأصيل قولهم في الإيمان , الذي سيأتي في المسألة التي بعدها , خالفوا الخوارج والمرجئة , وفي إخراجهم الواحد من أهل القبلة من الإيمان أيضاً خالفوا الخوارج والمرجئة , لهذا ثم ارتباط ما بين الدخول والخروج من جهة اليقين , ولهذا المؤلف الطحاوي ذكر لك تنبيه على هذا بقوله: "ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخل فيه" ولم يقل إلا بالجحد أو إلا بالجحود فيكون مطلقاً، بل قال: "إلا بجحود ما أدخل فيه"؛ وذلك لأنه إذا ثبت الأمر بيقين لم يزل بالشك , بل لا بد في زواله من يقين يماثل الأول، وهو المكفرات وما يحكم على الواحد من أهل القبلة فيه بالردة , فاختلف فيه الفقهاء والعلماء , لكن يجمع ذلك أنه لا يخص يعني عند أهل السنة , لا يخص بالجحد، ولهذا نقول: الذين قيدوا التكفير وإخراج العبد من الإيمان بالجحد فقط , هؤلاء يعني دون الاستحلال ودون الشك ودون الإعراض … إلخ، هؤلاء ذهبوا إلى أنه لا يكفر إلا المعاند المكذب ظاهراً , كحال الكفار والمشركين , وهذا ليس بصحيح؛ لأن الله جل وعلا بين أن كفر من كفر من العرب بعضهم من جهة الإعراض , وبعضهم من جهة الشك , وبعضهم من جهة الجحد ظاهراً والاستيقان باطناً وهو العناد.
ولهذا نقول: إن المرجئة هم الذي قالوا: لا يخرج المرء من الدين إلا بالتكذيب فقط، لابد من التكذيب , والتكذيب قد يكون مع الجحد , وقد يكون الجحد بلا تكذيب كما نصت عليه الآية ] فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [.
إذا تبين هذا , فأصل قول المرجئة في الإيمان كما سيأتي أن الإيمان أصله الاعتقاد , فلذلك جعلوا المُخْرج منه التكذيب , ومن أضاف الاعتقاد والقول جعل المُخْرج التكذيب والجحد , مثل كلام الطحاوي هنا؛ لأنه يأتي أن الإيمان عنده هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان , فيجعل التكذيب مخرجاً , ويجعل الجحد مخرجاً لعلاقة التكذيب بالاعتقاد وعلاقة الجحد بالإقرار باللسان، وأما أهل السنة الذين خالفوا المرجئة في هذه المسألة العظيمة فقالوا: إن الركن الثالث من أركان مسمى الإيمان وهو العمل أيضاً يدخل في هذا , وهو أنه يخرج من الإيمان بعملٍ يعمله يكون من جهة اليقين مخرجاً للمرء مما أدخله فيه من الإيمان , وهذا سيأتي مزيد تفصيل له.
إذاً فأهل السنة عندهم المخرجات من الإيمان منها التكذيب , وهو أعظمها , ثم الجحد , ثم الإعراض وهو الذي جاء في قوله جل وعلا: ] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [] وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ [] بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ [ , ومنه الشك , الريب , يرتاب , ما عنده يقين , المؤمن هو من لا يرتاب، أما إذا ارتاب لا يدري أمحمد صلى الله عليه وسلم رسول , أم لا؟ فإن هذا صفة المنافق وهو المُعذب في قبره بقوله حيث يقول: هاه هاه , لا أدري , سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. وهذه جمل يأتي لها مزيد بيان. نعم.