هذَا بَابُ التَّوكِيدِ
وهو ضَرْبَانِ: لَفْظِيٌّ وسيَأْتِي, ومعنَوِيٌّ ولَهُ سَبعَةُ أَلفَاظٍ([1]):
الأوَّلُ والثَّانِي: النَّفْسُ والعَيْنُ, ويُؤَكَّدُ بهِمَا لرَفْعِ المَجَازِ عن الذَّاتِ([2])، تقولُ: (جاءَ الخَلِيفَةُ) فيُحتَمَلُ أنَّ الجَائِيَ خَبَرُهُ أو ثَقَلُهُ, فإذا أَكَدَّت بالنَّفْسِ أو بالعَينِ أو بِهِما ارتَفَعَ ذلك الاحتِمَالُ.
ويَجِبُ اتِّصَالُهُمَا بضَمِيرٍ مُطَابِقٍ للمُؤَكَّدِ, وأن يَكُونَ لَفظُهُمَا طِبْقَهُ في الإفرَادِ والجَمْعِ, وأمَّا في التَّثْنِيَةِ فالأصَحُّ جَمعُهُمَا على أَفعُلٍ, ويَتَرَجَّحُ إفرَادُهُمَا على تَثنِيَتِهِمَا عندَ النَّاظِمِ, وغَيرُهُ بعَكسِ ذلكَ.
والألفَاظُ البَاقِيَةُ: كِلا وكِلتَا للمُثَنَّى, وكُلُّ وجَمِيعٌ وعَامَّةٌ لغَيرِهِ.
ويَجِبُ اتِّصَالُهُنَّ بضَمِيرِ المُؤَكَّدِ؛ فلَيسَ منهُ {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}([3])، خِلافاً لمَن وَهِمَ, ولا قِرَاءَةُ بَعضِهِم: (إِنَّا كُلاًّ فِيهَا)([4])، خِلافاً للفَرَّاءِ والزَّمَخْشَرِيِّ, بل (جَمِيعاً) حَالٌ, و(كُلاًّ) بَدَلٌ, ويَجُوزُ كَونُهُ حَالاً مِن ضَمِيرِ الظَّرْفِ.
ويُؤَكَّدُ بهِنَّ لرَفْعِ احتِمَالِ تَقدِيرِ بَعْضٍ مُضَافٍ إلى مَتبُوعِهِنَّ؛ فمِن ثَمَّ جَازَ (جَاءَنِي الزَّيْدَانِ كِلاهُمَا) و(المَرْأَتَانِ كِلتَاهُمَا) لجَوازِ أن يَكُونَ الأصلُ, جَاءَ أحدُ الزَّيْدَينِ أو إِحدَى المَرْأَتَينِ, كما قَالَ تعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ}([5]) بتَقدِيرِ يَخرُجُ مِن أَحَدِهِمَا, وامتَنَعَ علَى الأصَحِّ (اختَصَمَ الزَّيْدَانِ كِلاهُمَا) و(الهِندَانِ كِلتَاهُمَا) لامتِنَاعِ التَّقْدِيرِ المَذكُورِ, وجازَ (جَاءَ القَومُ كُلُّهُم) و(اشتَرَيْتُ العَبدَ كُلَّهُ) وامتنَعَ (جَاءَ زَيدٌ كُلُّهُ)([6]).
والتَّوكِيدُ بجَمِيعٍ غَرِيبٌ, ومنهُ قَولُ امرَأَةٍ:
401- فَِدَاكَ حَيُّ خَوْلانْ = جَمِيعُهُمْ وَهَمْدَانْ([7])
وكذلك التَّوكِيدُ بعَامَّةٍ, والتَّاءُ فيهَا بمَنزِلَتِهَا في النَّافِلَةِ؛ فتَصْلُحُ معَ المُؤَنَّثِ والمُذَكَّرِ([8])؛ فتَقُولُ: (اشتَرَيتُ العَبْدَ عَامَّتَهُ) كما قالَ اللَّهُ تعَالَى:
{وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}([9]).
فَصلٌ: ويَجُوزُ -إذَا أُرِيدَ تَقوِيَةُ التَّوكِيدِ- أَن تُتبِعَ كُلَّهُ بأَجمَعَ, وكُلَّهَا بجَمْعَاءَ, وكُلَّهُم بأَجمَعِينَ, وكُلَّهُنَّ بجُمَعٍ, قالَ اللَّهُ تعَالَى: {فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}([10]).
وقد يُؤَكَّدُ بهِنَّ وإِن لم يَتَقَدَّمْ كُلُّ, نَحوُ: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}([11]) {لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}([12])، ولا يَجُوزُ تَثنِيَةُ أَجمَعَ ولا جَمعَاءَ استِغنَاءً بكلا وكِلتَا, كما استَغْنَوْا بتَثنِيَةِ سِيٍّ عَن تَثنِيَةِ سَوَاءٍ, وأَجَازَ الكُوفِيُّونَ والأخْفَشُ ذلك؛ فتَقُولُ: (جَاءَنِي الزَّيْدَانِ أَجمَعَانِ) و(الهِنْدَانِ جَمْعَاوَانِ).
وإذا لَمْ يُفِدْ تَوكِيدُ النَّكِرَةِ لَم يَجُزْ باتِّفَاقٍ, وإن أَفَادَ جَازَ عندَ الكُوفِيِّينَ, وهو الصَّحِيحُ, وتَحصُلُ الفَائِدَةُ بأَن يَكُونَ المُؤَكَّدُ مَحدُوداً والتَّوكِيدُ مِن أَلفَاظِ الإحَاطَةِ, كـ (اعتَكَفْتُ أسْبُوعاً كُلَّهُ) وقَولِهِ:
402- يَا لَيْتَ عِدَّةَ حَوْلٍ كُلِّهِ رَجَبُ([13])
ومَن أَنشَدَ (شَهْرٍ) مَكَانَ حَوْلٍ فقد حَرَّفَهُ, ولا يَجُوزُ (صُمْتُ زَمَناً كُلَّهُ) ولا (شَهْراً نَفسَهُ).
فَصلٌ: وإذَا أُكِّدَ ضَمِيرٌ مَرفُوعٌ مُتَّصِلٌ بالنَّفْسِ أو بالعَيْنِ, وَجَبَ تَوكِيدُهُ أَوَّلاً بالضَّمِيرِ المُنفَصِلِ, نَحوُ: (قُومُوا أَنتُمْ أَنفُسُكُمْ) بخِلافِ (قَامَ الزَّيْدُونَ أَنفُسُهُمْ)([14]) فيَمتَنِعُ الضَّمِيرُ, وبخِلافِ (ضَرَبْتُهُم أَنفُسَهُمْ), و(مَرَرْتُ بِهِم أَنفُسِهِمْ)([15])، و(قَامُوا كُلُّهُم)([16])، فالضَّمِيرُ جَائِزٌ لا وَاجِبٌ.
وأمَّا التَّوكِيدُ اللَّفْظِيُّ فهو: اللَّفْظُ المُكَرَّرُ بهِ ما قَبلُهُ.
فإِن كَانَ جُملَةً فالأكثَرُ اقتِرَانُهَا بالعَاطِفِ([17])، نَحوُ: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}([18])، ونَحوُ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}([19]) وتَأتِي بدُونِهِ, نَحوُ قَولِهِ صَلَّى اللَّهُ علَيهِ وسَلَّمَ: ((وَاللَّهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ, ويَجِبُ التَّرْكُ عندَ إِيهَامِ التَّعَدُّدِ, نحوُ: (ضَرَبْتُ زَيداً ضَرَبْتُ زَيداً).
وإِن كَانَ اسماً ظَاهِراً أو ضَمِيراً مُنفَصِلاً مَنصُوباً فوَاضِحٌ, نَحوُ: ((فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ)) وقَولُهُ:
403- فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ المِرَاءَ فَإِنَّهُ([20]) وإِن كَانَ ضَمِيراً مُنفَصِلاً مَرفُوعاً, جازَ أن يُؤَكَّدَ بهِ كُلُّ ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ([21])، نَحوُ: (قُمْتَ أَنْتَ) و(أَكرَمْتُكَ أَنتَ) و(مَرَرتُ بكَ أَنْتَ).
وإِن كانَ ضَمِيراً مُتَّصِلاً وُصِلَ بمَا وُصِلَ به المُؤَكَّدُ, نحوُ: (عَجِبْتُ مِنْكَ مِنْكَ)([22]).
وإِن كانَ فِعلاً أو حَرفاً جَوَابِيًَّا فوَاضِحٌ, كقَولِكَ: (قَامَ قامَ زَيدٌ) وقَولِهِ:
404- لاَ لاَ أَبُوحُ بِحُبِّ بُثْنَةَ إِنَّهَا([23]) وإِن كَانَ غَيرَ جَوَابِيٍّ, وَجَبَ أَمرَانِ: أن يُفصَلَ بَينَهُمَا, وأَن يُعَادَ معَ التَّوكِيدِ مَا اتَّصَلَ بالمُؤَكَّدِ إن كانَ مُضمَراً, نَحوُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}([24]) وأن يُعَادَ هو أو ضَمِيرُهُ إن كانَ ظَاهِراً, نحوُ: (إِنَّ زَيداً إنَّ زَيداً فَاضِلٌ) أو (إنَّ زَيداً إنَّهُ فَاضِلٌ) وهو الأولَى([25])، وشَذَّ اتِّصَالُ الحَرْفَينِ, كقَولِهِ:
405- إِنَّ إِنَّ الكَرِيمَ يَحلُمُ مَا لَمْ([26]) وأَسهَلُ منهُ قَولُهُ:
406- حَتَّى تَرَاهَا وَكَأَنَّ وكَأَنّْ([27]) لأنَّ المُؤَكَّدَ حَرْفَانِ؛ فلَم يَتَّصِلْ لَفظٌ بمِثْلِهِ, وأَشَذُّ منهُ قَولُهُ:
407- وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أَبَداً دَوَاءُ([28]) لِكَونِ الحَرفِ علَى حَرفٍ وَاحِدٍ.
وأَسهَلُ مِنهُ قَولُهُ:
408- فَأَصْبَحَ لاَ يَسْأَلْنَهُ عَنْ بِمَا بِهِ([29]) لأنَّ المُؤَكَّدَ علَى حَرفَينِ ولاختِلافِ اللَّفْظَينِ.
([1]) لَمَّا كَانَت أَلْفَاظُ التَّوْكِيدِ المَعْنَوِيِّ مَحْصُورَةً لَمْ يَحْتَجِ النُّحَاةُ إلى تَعْرِيفِهِ، لَكِنْ يَرُدُّ علَى هذا الحَصْرِ أنَّهُ قَدْ يُقَالُ: (زَارَنِي القَوْمُ ثُلاثَتُهُم) أو يُقَالُ (أَمَّا القَوْمُ فقَدْ زَارُونِي ثُلاثَتُهُم) برَفْعِ ثُلاثَتُهُم في المِثَالَينِ على أنَّهُ تَوْكِيدٌ، ولَمْ يَذْكُرِ المُؤَلِّفُ ولا غَيْرُهُ مِنَ النُّحَاةِ – حينَ يَعِدُّونَ أَلْفَاظَ التَّوْكِيدِ المَعْنَوِيِّ – لَفْظَ (ثَلاثَةٌ) وأَخَوَاتِهِ، وعلَى هذَا يَكُونُ قَوْلُ المُؤَلِّفِ: (ولَهُ سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ) غَيْرُ سَدِيدٍ.
والجَوَابُ عَن هذَا أنَّهُم – حِينَ يَعِدُّونَ أَلْفَاظَ التَّوْكِيدِ المَعْنَوِيِّ – إنَّمَا يَذْكُرُونَ الأَلْفَاظَ التي اشتَهَرَ استِعْمَالُهَا في هذا المَعْنَى، فلا يُنَافِي أنَّ هُنَاكَ أَلْفَاظاً غَيْرَهَا تُسْتَعْمَلُ أَحْياناً في التَّوْكِيدِ المَعْنَوِيِّ، ولكنَّهَا لم تَشْتَهِرْ، ثُمَّ إِنَّ هذَينِ المِثَالَينِ اللذين ذَكَرْتُهُمَا لكَ يَجُوزُ في كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا نَصْبُ (ثُلاثَتُهُم) علَى أنَّهُ حَالٌ.
([2]) الذي يَدُلُّ عليهِ صَنِيعُ المُؤَلِّفِ أنَّهُ قدْ أرَادَ مِن قَوْلِهِ: (المَجَازِ عَنِ الذَّاتِ) استِعْمَالَ اللَّفْظِ المَوْضُوعِ للدِّلالَةِ على ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ في غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وذلك مِن جِهَتَينِ؛ الأولَى أنَّهُ جَعَلَ هذا غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّوْكِيدِ بالألفَاظِ البَاقِيَةِ مِن أنَّهُ لرَفْعِ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، والثَّانِي أنَّ تَقْدِيرَ المُضَافِ يَلْزَمُ مِنْهُ بَقَاءُ اللَّفْظِ الأوَّلِ على مَعْنَاهُ الأَصْلِيِّ، فلا يَكُونُ ثَمَّةَ تَجَوُّزٍ فيهِ، ولتَوْضِيحِ ذلك نُحِبُّ أن نُبَيِّنَ لكَ أنَّكَ لو قُلْتَ: (زَارَنِي الخَلِيفَةُ) وأنت تُرِيدُ أنَّ الخَلِيفَةَ نَفْسَهُ زَارَكَ؛ فالكَلامُ حَقِيقَةٌ واللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وإِن كُنْتَ إنَّمَا أَرَدْتَ بِلَفْظِ الخَلِيفَةِ رَسُولَهُ للمُلابَسَةِ بَيْنَهُمَا فقَد استَعْمَلْتَ لَفْظَ الخَلِيفَةِ في غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وإِن كُنْتَ قَصَدْتَ أنَّ الكَلامَ علَى حَذْفِ مُضَافٍ فلَفْظُ الخَلِيفَةِ بَاقٍ علَى مَعْنَاهُ الأَصْلِيِّ ولكنَّهُ ليسَ هُو الزَّائِرَ، بَل الزَّائِرُ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وكأنَّكَ قُلْتَ: (زَارَنِي رَسُولُ الخَلِيفَةِ).
([3]) سورة البقرة، الآية: 29.
([4]) سورة غافر، الآية: 48.
([5]) سورة الرحمن، الآية: 22.
([6]) إذَا عَطَفْتَ اسْماً علَى اسْمٍ، نَحْوُ قَوْلِكَ: (جَاءَ زَيْدٌ وخَالِدٌ) فهَلْ يَجُوزُ تَوْكِيدُ المَعْطُوفِ أو المَعْطُوفِ علَيْهِ؟ اختلَفَ النُّحَاةُ في ذلكَ، فذَهَبَ هِشَامٌ إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ لكَ أن تُؤَكِّدَ أَحَدَ الاسمَيْنِ، ولا كِلَيْهِمَا، فلا تَقُولُ: (جاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ وخَالِدٌ)، ولا تَقُولُ: (جاءَ زَيْدٌ وخَالِدٌ نَفْسُهُ)، ولا تَقُولُ: (جَاءَ زَيْدٌ وخَالِدٌ أَنْفُسُهُمَا – أو نَفْسَاهُمَا) وَوَجْهُ ما ذَهَبَ إليهِ هِشَامٌ ما زَعَمَهُ مِن أنَّكَ عَطَفْتَ الاسمَ الثَّانِيَ علَى الاسْمِ الأوَّلِ أَنْبَأْتَ مُخَاطِبَكَ بأنَّكَ رَوَّيْتَ في الأَمْرِ ولم تَغْلَطْ في ذِكْرِ أَحَدِهِمَا، وأنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنَاهُ الذي وُضِعَ لَهُ، فلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ [مَجَالٌ] لذِكْرِ التَّوْكِيدِ؛ لأنَّهُ إنَّمَا يُؤْتَى بهِ لدَفْعِ التَّجَوُّزِ أو ما عسَى أن يَكُونَ قد حدَثَ مِن الغَلَطِ أو السَّهْوِ، واختَارَ المُحَقِّقُ رَضِيُّ الدِّينِ أنَّ التَّوْكِيدَ جَائِزٌ معَ عَطْفِ أحَدِ الاسمَيْنِ على الآخَرِ، ووَجْهُ ما ذَهَبَ إليهِ الرَّضِيُّ أنَّهُ لا تَلازُمَ بينَ العَطْفِ والتَّرَوِّي في الكَلامِ، وأنَّ احتِمَالَ السَّهْوِ أو الغَلَطِ أو التَّجَوُّزِ بَاقٍ معَ العَطْفِ كما كانَ قَبْلَهُ، قالَ الرَّضِيُّ: (وقالَ هِشَامٌ: إذَا عَطَفْتَ علَى شَيْءٍ لمْ يَحْتَجْ إلَى تَأْكِيدٍ، ولعَلَّهُ نَظَر إلى أنَّ العَطْفَ علَيهِ دَالٌّ علَى أنَّكَ لَمْ تَغْلَطْ فيهِ، والأَوْلَى الجَوَازُ، نَحْوُ: ضُرِبَ زَيْدٌ زَيْدٌ وعَمْرٌو؛ لأنَّكَ رُبَّمَا تَجَوَّزْتَ في نِسْبَةِ الضَّرْبِ إلى زَيْدٍ، أو رُبَّمَا غَلَطْتَ في ذِكْرِ زَيْدٍ، وأَرَدْتَ ضَرْبَ بَكْرٍ، وعطَفْتَ بِنَاءً على أنَّ المَذْكُورَ بَكْرٌ) اهـ كَلامُهُ، ومعَ تَمْثِيلِهِ لهذه المَسْأَلَةِ بمِثَالٍ مِن التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ يَجِبُ ألا تَظُنَّ الحُكْمَ الذي يُقَرِّرُه فِيهَا خَاصًّا بالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وآيَةُ ذلكَ أنَّهُ لمَّا أرَادَ ذِكْرَ الخِلافِ في صَدْرِ كَلامِهِ قالَ: (إِذَا عَطَفْتَ علَى شَيْءٍ لَمْ يَحْتَجْ إلى تَأْكِيدٍ) ولم يُقَيِّدْهُ بلَفْظِيٍّ ولا مَعْنَوِيٍّ، ثُمَّ قالَ بعدَ ذلك: (والأَوْلَى الجَوَازُ)؛ أي: جَوَازُ مَا مَنَعَهُ القَائِلُ الأوَّلُ، وهو جَوَازُ التَّأْكِيدِ على عُمُومِهِ، فتَفَطَّنْ لذلك، واللَّهُ يُرْشِدُكَ.
([7]) 401-هذا بَيْتٌ مِن مَجْزُوءِ الرَّجَزِ، وهذا البَيْتُ لامْرَأَةٍ كَانَتْ تُرَقِّصُ بهِ وَلَدَهَا، وبَعْدَهُ قَوْلُهَا:
وَكُلُّ آلِ قَحْطَانْ = وَالأَكْرَمُونَ عَدْنَانْ
اللُّغَةُ: (فِدَاكَ) يَجُوزُ في هَذِهِ الكَلِمَةِ أن تُقْرَأَ بفَتْحِ الفَاءِ فتَكُونُ فِعْلاً مَاضِياً، كما تَقُولُ: فَدَى فُلانٌ فُلاناً يَفْدِيهِ – مِثْلَ رَمَى الشَّيْءَ يَرْمِيهِ – ويَجُوزُ أن تُقْرَأَ بكَسْرِ الفَاءِ كما تَقُولُ: فِدَى لَكَ نَفْسِي، وفِدَاكَ أَبِي وأُمِّي، وقد يُقَالُ: فِدَاءٌ لكَ نَفْسِي، بالمَدِّ، كما قالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:
مَهْلاً فِدَاءٌ لَكَ الأَقْوَامُ كُلُّهُمُ = وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدٍ
(خَوْلانْ) بفَتْحِ الخَاءِ المُعْجَمَةِ وسُكُونِ الوَاوِ – قَبِيلَةٌ مِن قَبَائِلِ اليَمَنِ. (هَمْدَانْ) بفَتْحٍ فسُكُونٍ أَيْضاً – قَبِيلَةٌ أُخْرَى مِن قَبَائِلِ اليَمَنِ، ومِنْهَا وَرَدَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَوْ كُنْتُ بَوَّاباً عَلَى بَابِ جَنَّةٍ = لَقُلْتُ لِهَمْدَانَ ادْخُلُوا بِسَلامِ
(قَحْطَانْ) بفَتْحٍ فسُكُونٍ – هو أَبُو العَرَبِ اليَمَانِيَّةِ. (عَدْنَانْ) بفَتْحٍ فسُكُونٍ – أَبُو عَرَبِ الحِجَازِ.
الإعرَابُ: (فِدَاكَ) إِنْ قَرَأْتَهُ بكَسْرِ الفَاءِ فهو مُبْتَدَأٌ مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الألِفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وهو مُضَافٌ وكَافُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ جَرٍّ، و(حَيُّ) خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وإِنْ قَرَأْتَ (فَدَاكَ) بفَتْحِ الفَاءِ فهو فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على فَتْحٍ مُقَدَّرٍ علَى الألِفِ، وكافُ المُخَاطَبِ مَفْعُولٌ بهِ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، و(حَيُّ) فَاعِلٌ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وعلى كُلِّ حَالٍ "حَيُّ" مُضَافٌ و(خَوْلانْ) مُضَافٌ إلَيهِ مَجْرُورٌ بالفَتْحَةِ نِيَابَةً عن الكَسْرَةِ؛ لأنَّهُ لا يَنْصَرِفُ للعَلَمِيَّةِ وزِيَادَةِ الألِفِ والنُّونِ، وسَكَّنَهُ لأَجْلِ الوَقْفِ. (جَمِيعُهُمْ) جَمِيعُ: تَوْكِيدٌ لحَيُّ خَوْلانْ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وجَمِيعُ مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِينَ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (وَهَمْدَانْ) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، وهَمْدَانْ: مَعْطُوفٌ علَى خَوْلانْ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهَا: (جَمِيعُهُم) حيثُ جَاءَ هذا اللَّفْظُ تَوْكِيداً للفَاعِلِ أو الخَبَرِ، والمَقْصُودُ بهِ رَفْعُ احتِمَالِ التَّجَوُّزِ بإِرَادَةِ البَعْضِ وإِطلاقِ اسْمِ الكُلِّ علَيهِ.
([8]) هَهُنَا شَيْئَانِ أُحِبُّ أن أُنَبِّهَكَ إلَيْهِمَا:
الأوَّلُ: أنَّ ابنَ مَالِكٍ يَقُولُ في الأَلْفِيَّةِ:
وَاسْتَعْمَلُوا أَيْضاً كَكُلٍّ فَاعِلَهْ = مِنْ عَمَّ فِي التَّوْكِيدِ، مِثْلِ النَّافِلَهْ
وقد ذَكَرَ ابْنُهُ في شَرْحِهِ علَى الأَلْفِيَّةِ أنَّ قَوْلَهُ: (مِثْلِ النَّافِلَهْ) مَعْنَاهُ أنَّ ذِكْرَ هذا اللَّفْظِ في هذَا البَابِ زَائِدٌ على ما ذَكَرَهُ النُّحَاةُ، فإنَّ أَكْثَرَهُم أَغْفَلَ ذِكْرَهُ، فكمَا أنَّ النَّافِلَةَ زِيَادَةٌ على ما فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى علَى عِبَادِهِ يَكُونُ ذِكْرُ لَفْظِ (عَامَّة) فِي أَلْفَاظِ التَّوْكِيدِ زِيَادَةٌ علَى مَا ذَكَرَ النُّحَاةُ مِن أَلْفَاظِهِ، وقَدْ ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ هنا أنَّ المُرَادَ بهذا التَّشْبِيهِ أنَّ التَّاءَ فِي (عَامَّةٍ) مِثْلَ التَّاءِ في لَفْظِ (نَافِلَةٍ) يُؤْتَى بِهَا معَ المُذَكَّرِ ومعَ المُؤَنَّثِ، وليسَ ذِكْرُهُ استِدْرَاكاً علَى النُّحَاةِ.
الأمْرُ الثَّانِي: أنَّ اعتِبَارَ لَفْظِ (عَامَّة) بمَعْنَى جَمِيعٍ ومَجِيئَهُ تَوْكِيداً هو مَذْهَبُ سِيْبَوَيْهِ إِمَامِ النُّحَاةِ، وذَهَبَ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ إلى أنَّ مَعْنَى (عَامَّتُهُم) في قَوْلِكَ (جَاءَ القَوْمُ عَامَّتُهُم) هو أَكْثَرُهُم، وليسَ مَعْنَاهُ جَمِيعُهُم، وعلى هذا يَكُونُ هذا اللَّفْظُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، ويَكُونُ ذِكْرُهُ في الكَلامِ لتَخْصِيصِ الجَائِينَ بكَوْنِهِم أَكْثَرَ القَوْمِ، بخِلافِهِ على مَذْهَبِ سِيْبَوَيْهِ فإنَّ ذِكْرَهُ عِنْدَهُ للتَّعْمِيمِ.
([9]) سورة الأنبياء، الآية: 72.
([10]) سورة الحجر، الآية: 30.
([11]) سورة ص، الآية: 83.
([12]) سورة الحجر، الآية: 43.
([13]) 402-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مُسْلِمِ بنِ جُنْدُبٍ الهُذَلِيِّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا عَجُزُ بَيْتٍ مِن البَسِيطِ، وصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
*لَكِنَّهُ شَاقَهُ أَنْ قِيلَ ذَا رَجَبٌ*
وهكَذا يَرْوِي النُّحَاةُ عَجُزَ البَيْتِ، والصَّوَابُ أنَّهُ بنَصْبِ (رَجَبَ)؛ لأنَّهُ مِن قَصِيدَةٍ مَنْصُوبَةِ الرَّوِيِّ، ومَطْلَعُهَا:
يَا لَلرِّجَالِ لِيَوْمِ الأَرْبِعَاءِ، أَمَا = يَنْفَكُّ يُحْدِثُ لِي بَعْدَ النُّهَى طَرَبَا
اللُّغَةُ: (شَاقَهُ) أَعْجَبَهُ، أو بَعَثَ الشَّوْقَ إلى نَفْسِهِ، ويَدُلُّ للمَعْنَى الأوَّلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ (وهو الشَّاهِدُ رَقْمُ 342 المَاضِي).
صَرِيعُ غَوَانٍ شَاقَهُنَّ وَشُقْنَهُ = لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ
(حَوْلٍ) بفَتْحِ الحَاءِ وسُكُونِ الوَاوِ – هو العَامُ، وأَنشَدَهُ ابنُ النَّاظِمِ تَبَعاً لوَالِدِه (يَا لَيْتَ عِدَّةَ شَهْرٍ) وقالَ الشَّيْخُ خَالِدٌ تَبَعاً للمُؤَلِّفِ هنا: هو تَحْرِيفٌ يُفْسِدُ المَعْنَى؛ لأنَّهُ لا يُتَصَوَّرُ أن يَتَمَنَّى أن يَكُونَ الشَّهْرَ كُلَّهُ رَجَباً، فإنَّ الشَّهْرَ الوَاحِدَ لا يَكُونُ بَعْضُهُ رَجَباً وبَعْضُهُ غَيْرَ رَجَبٍ حتَّى يَتَمَنَّى أن يَكُونَ كُلُّهُ رَجَباً، ولكنَّ الشَّاعِرَ يَتَمَنَّى أن تَكُونَ شُهُورُه كُلُّهَا رَجَباً.
ومِمَّا يُسْأَلُ هَهُنَا: هَلْ (رَجَبٌ) مُنْصَرِفٌ أو مَمْنُوعٌ مِن الصَّرْفِ؟ وقد ذَكَرَ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ في حَاشِيَتِهِ على (تَفْسِيرِ الكَشَّافِ) أنَّهُ إذا أُرِيدَ برَجَبٍ – ومِثْلُهُ صَفَرٍ – مُعَيَّنٌ فإنَّهُمَا مَمْنُوعَانِ مِنَ الصَّرْفِ، وإذا أُرِيدَ بهِمَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ فهُمَا مَصْرُوفَانِ.
ويُسْأَلُ – بعدَ ذَلِكَ – عَن عِلَّةِ مَنْعِهِمَا مِن الصَّرْفِ، والجَوَابُ عن ذلك أنَّ العُلَمَاءَ سَلَكُوا في بَيَانِ العِلَّةِ مَسْلَكَيْنِ، أَوَّلَهُمَا أنَّ عِلَّةَ مَنْعِهِمَا مِن الصَّرْفِ العَلَمِيَّةُ والعَدْلُ عَن الرَّجَبِ والصَّفَرِ المُقْتَرِنَيْنِ بأَل، كما أنَّ (سَحَرَ) المُرَادَ بهِ مُعَيَّنٌ مَمْنُوعٌ مِن الصَّرْفِ للعَدْلِ عَن السَّحَرِ، والمَسْلَكَ الثَّانِي أنَّ المَانِعَ مِن الصَّرْفِ لرَجَبٍ ولِصَفَرٍ هو العَلَمِيَّةُ والتَّأْنِيثُ المَعْنَوِيُّ لكَوْنِهِمَا عِبَارَةً عَن مُدَّةٍ مِن الزَّمَانِ مُعَيَّنَةً.
الإعرَابُ: (لَكِنَّهُ) لَكِنَّ: حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ ونَصْبٍ مَبْنِيٌّ علَى الفَتْحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرَابِ، والضَّمِيرُ اسمُهُ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (شَاقَهُ) شَاقَ: فِعْلٌ مَاضٍ، وضَمِيرُ الغَائِبِ مَفْعُولٌ بهِ. (أَنْ) حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ. (قِيلَ) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ. (ذَا) اسمُ إِشَارَةٍ مُبْتَدَأٌ. (رَجَبٌ) خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وجُمْلَةُ المُبْتَدَأِ وخَبَرِهِ في مَحَلِّ رَفْعٍ نَائِبُ فَاعِلٍ "قِيلَ"، و"أَن" المَصْدَرِيَّةِ معَ ما دَخَلَت علَيْهِ في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ فَاعِلُ شَاقَ، وجُمْلَةُ شَاقَ وفَاعِلِه في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ لَكِنَّ. (يا) حَرْفُ نِدَاءٍ والمُنَادَى مَحْذُوفٌ، أو حَرْفُ تَنْبِيهٍ. (لَيْتَ) حَرْفُ تَمَنٍّ ونَصْبٍ. (عِدَّةَ) اسْمُ لَيْتَ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وعِدَّةَ مُضَافٌ و(حَوْلٍ) مُضَافٌ إليهِ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ. (كُلِّهِ) كُلِّ: تَوْكِيدٌ لحَوْلٍ مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ، وكُلِّ مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدُ إلى الحَوْلِ مُضَافٌ إليهِ مَبْنِيٌّ على الكَسْرِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (رَجَبُ) خَبَرُ لَيْتَ، مَرْفُوعٌ وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ في آخِرِه، هكذا يَقُولُ النُّحَاةُ، والصَّوَابُ – كما قُلْنَا في مَطْلَعِ الكَلامِ على هذا الشَّاهِدِ – أنَّهُ بنَصْبِ (رَجَبَا) فإمَّا أن يَكُونَ الشَّاعِرُ قد جَرَى على اللُّغَةِ الضَّعِيفَةِ التي تَنْصِبُ بلَيْتَ وأَخَوَاتِهَا الجُزْأَيْنِ وإمَّا أن يَكُونَ (رَجَبَا) مَفْعُولاً بهِ لفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقَعُ جُمْلَتُهُ خَبَرَ لَيْتَ، والتَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَ عِدَّةَ حَوْلٍ كُلِّهِ تُشْبِهُ رَجَباً.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (حَوْلٍ كُلِّهِ) حيثُ أَكَّدَ النَّكِرَةَ التي هي قَوْلُه: (حَوْلٍ) لِمَا كَانَتِ النَّكِرَةُ مَحْدُودَةً؛ لأنَّ العَامَ مَعْلُومُ الأَوَّلِ والآخِرِ وكانَ لَفْظُ التَّوْكِيدِ مِن الألفَاظِ الدَّالَّةِ على الإحَاطَةِ وهو قَوْلُه: (كُلِّهِ)، وتَجْوِيزُ ذلك هو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، وهو المَرْضِيُّ عندَ ابنِ مَالِكٍ.
وَبَيَانُ ذلك أنَّ النَّكِرَةَ تَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْنِ:
الأوَّلُ: النَّكِرَةُ المَحْدُودَةُ – وهي التي تَدُلُّ على مُدَّةٍ مَعْلُومَةِ المِقْدَارِ – نَحْوُ أُسْبُوعٍ، ويَوْمٍ، ولَيْلَةٍ وشَهْرٍ، وحَوْلٍ. والثَّانِي: النَّكِرَةُ غَيْرُ المَحْدُودَةِ – وهي التي تَصْلُحُ للقَلِيلِ وللكَثِيرِ، نَحْوُ زَمَنٍ، ووَقْتٍ، وحِيْنٍ، ومُدَّةٍ، ومُهْلَةٍ، وسَاعَةٍ.
فأمَّا النَّكِرَةُ غَيْرُ المَحْدُودَةِ فلا خِلافَ في أنَّهُ لا يَجُوزُ تَوْكِيدُهَا؛ لأنَّ لا فَائِدَةَ فِي تَوْكِيدِهَا، ألا تَرَى أنَّكَ لو قُلْتَ: (قد انتَظَرْتُكَ وَقْتاً كُلَّهُ) لم يَكُنْ لذِكْرِ "كُلَّهُ" فَائِدَةٌ؛ لأنَّ الوَقْتَ يَجُوزُ أن يَكُونَ لَحْظَةً، ويَجُوزُ أن يَكُونَ زَمَناً مُتَطَاوِلاً.
وأمَّا النَّكِرَةُ المَحْدُودَةُ فقَد ذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنَّهُ يَجُوزُ تَوْكِيْدُهَا بلَفْظٍ مِن أَلْفَاظِ التَّوْكِيدِ الدَّالَّةِ على الإحَاطَةِ والشُّمُولِ ككُلٍّ وجَمِيعٍ أو جُمَعَ، وقد استَدَلُّوا على ذلك بدَلِيلَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: وُرُودُهُ عَن العَرَبِ المُحْتَجِّ بكَلامِهِم كالبَيْتِ المُسْتَشْهَدِ بهِ، وكقَوْلِ الرَّاجِزِ:
*قَدْ صِرْتُ البكْرَةَ يَوْماً أَجْمَعَا*
وكقَوْلِ الرَّاجِزِ الآخَرِ:
*تَحْمِلُنِي الذَّلْفَاءُ حَوْلاً أَكْتَعَا*
وثَانِيهُمَا: حُصُولُ الفَائِدَةِ، أفَلَسْتَ تَرَى أنَّ مَنْ قَالَ لكَ: (قَد انتَظَرْتُكَ يَوْماً) قَد يَعْنِي أنَّهُ انتَظَرَك زَمَناً مُعَيَّنَ الأوَّلِ والآخَرِ مِقْدَارُهُ يَوْمٌ، وقَد يَعْنِي أنَّ زَمَنَ انتِظَارِهِ يُقَارِبُ اليَوْمَ إمَّا نِصْفَهُ وإمَّا ثُلُثَيْهِ، وأنَّهُ تَجَوَّزَ في استِعْمَالِ لَفْظِ اليَوْمِ فاستَعْمَلَهُ في أَكْثَرِ مَا يَدُلُّ علَيْهِ مِن الزَّمَنِ أو في أَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ، فإذَا قالَ لكَ: (انتَظَرْتُكَ يَوْماً كُلَّهُ) فقَد أزَالَ بلَفْظِ (كُلَّهُ) الاحتِمَالَ، وألَسْتَ تَرَى أنَّ مَنْ قَالَ: (صُمْتُ شَهْراً) قد يُرِيدُ جَمِيعَ الشَّهْرِ، وقَد يُرِيدُ أَكْثَرَهُ وأنَّهُ جَعَلَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ شَهْراً؛ لأنَّ الأَكْثَرَ يُعْطَى حُكْمَ الجَمِيعِ؟ ففِي قَوْلِهِ هذا احتِمَالٌ لكُلِّ وَاحِدٍ مِن هذَينِ الوَجْهَينِ، فإذَا قالَ لكَ: (صُمْتُ شَهْراً كُلَّهَ) فقَدْ رَفَعَ بلَفْظِ (كُلَّهُ) احتِمَالَ أنَّهُ أَطْلَقَ اللَّفْظَ الدَّالَّ على الكُلِّ وأَرَادَ بهِ أَكْثَرَ هذَا الكُلِّ، وصارَ كَلامُهُ نَصًّا في مَقْصُودِهِ غَيْرَ مُحْتَمِلٍ إلاَّ وَجْهاً وَاحِداً، قالَ ابنُ مَالِكٍ في تَأْيِيدِ مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ في هذه المَسْأَلَةِ: (فلو لمْ يُنْقَلِ استِعْمَالُهُ عَن العَرَبِ لكانَ جَدِيراً بأَن يُسْتَعْمَلَ قِيَاساً، فكيفَ بهِ واستِعْمَالُهُ ثَابِتٌ – ثُمَّ ذَكَرَ ما أَثَرْنَاهُ لكَ آنِفاً مِن الشَّوَاهِدِ) اهـ كلامُهُ.
([14]) المُؤَكَّدُ في هذَا المِثَالِ اسْمٌ ظَاهِرٌ، وهو الزَّيْدُونَ، فلا يُؤَكَّدُ بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ قَبْلَ التَّأْكِيدِ بالنَّفْسِ أو بالعَيْنِ؛ لأنَّ الضَّمِيرَ لا يُؤَكِّدُ الاسمَ الظَّاهِرَ، لكَوْنِ الضَّمِيرِ أَعْرَفَ مِن الاسمِ الظَّاهِرِ.
([15]) المُؤَكَّدُ في هذينِ المِثَالَيْنِ ضَمِيرٌ غَيْرُ ضَمِيرِ الرَّفْعِ، فإنَّهُ في أوَّلِ المِثَالَيْنِ مَنْصُوبُ المَحَلِّ على المَفْعُولِيَّةِ، وفي المِثَالِ الثَّانِي مَجْرُورُ المَحَلِّ بالبَاءِ، ومِن أَجْلِ ذلك لا يَلْزَمُ تَوْكِيدُه بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ قَبْلَ تَوْكِيدِهِ بالنَّفْسِ أو بالعَيْنِ، لكنَّهُ معَ ذلك لا يَمْتَنِعُ تَوْكِيدُهُ، فيَجُوزُ أن نَقُولَ: (ضَرَبْتُهُم هُم أَنْفُسَهُم) وأن تَقُولَ: (مَرَرْتُ بهِم هم أَنْفُسِهِم) كما قُلْتَ: (ضَرَبْتُهُم أَنْفُسَهُم، ومَرَرْتُ بهِم أَنْفُسِهِم).
([16]) التَّوْكِيدُ في هذا المِثَالِ بلَفْظِ (كُلُّ) لا بِالنَّفْسِ أو العَيْنِ. فلا يَلْزَمُ تَوْكِيدُ الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ المُؤَكَّدِ بكُلِّ هذِه بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ، لكنَّهُ ليسَ يَمْتَنِعُ أَيْضاً، فيَجُوزُ أن تَقُول: (قَامُوا هُم كُلُّهُم) كما قُلْتَ: (قَامُوا كُلُّهُم).
([17]) نَصَّ أبُو حَيَّانَ في (الارْتِشَافِ) علَى أنَّ حَرْفَ العْطَفِ الذي يَعْطِفُ الجُمْلَةَ المُؤَكَّدَةَ على الجُمْلَةِ قَبْلَهَا هو (ثُمَّ) ولكنَّهُ لم يُصَرِّحْ بأنَّهُ لا يَجُوزُ العَطْفُ بغَيْرِ هذا الحَرْفِ، ولم يُمَثِّلِ ابنُ مَالِكٍ في (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) إلا بمَا كانَ العَاطِفُ في (ثُمَّ) لكنَّ المُحَقِّقَ الرَّضِيَّ صَرَّحَ بأنَّ الفَاءَ مِثْلُ ثُمَّ في هذا المَوْضِعِ.
([18]) سورة النبأ، الآيتان: 4و5.
([19]) سورة القيامة، الآيتان: 34و35، ومِن أَمْثِلَةِ ذلك أَيْضاً قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ*ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}.
([20]) 403-نُسِبَ هذا الشَّاهِدُ إلى الفَضْلِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ القُرَشِيِّ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا صَدْرُ بَيْتٍ مِن الطَّوِيلِ، وعَجُزُه قَوْلُهُ:
*إِلَى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وَلِلشَّرِّ جَالِبُ*
اللُّغَةُ: (المِرَاءَ) بكَسْرِ المِيمِ، بزِنَةِ الكِتَابِ – هو أن تَدْفَعَ الحَقَّ ولا تُذْعِنَ لهُ معَ أنَّهُ وَاضِحٌ جَلِيٌّ، وهو أَيْضاً الجِدَالُ، ومِن أَهْلِ اللُّغَةِ مَن يَزْعُمُ أنَّ المِرَاءَ لا يَكُونُ إلا اعتِرَاضاً، أمَّا الجِدَالُ فهو أَعَمُّ فقَدْ يَكُونُ ابتِدَاءً وقَدْ يَكُونُ اعتِرَاضاً (دَعَّاءٌ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِن قَوْلِهِم: (دَعَا فُلانٌ فُلاناً) إذَا طَلَبَ حُضُورَهُ. (جَالِبُ) مُسَبِّبٌ لَهُ.
المَعْنَى: يُحَذِّرُ الشَّاعِرُ مِن المُمَارَاةِ، ويُبَيِّنُ أنَّ المُمَارَاةَ تَكُونَ سَبباً لحُدُوثِ الشَّرِّ ووُقُوعِ النَّاسِ تَحْتَ غَوَائِلِه، وقَدْ أَظْهَرَ في مَقَامِ الإضْمَارِ في قَوْلِهِ: و(للشَّرِّ جَالِبُ) مُبَالَغَةً في التَّنْفِيرِ مِنْهُ بذِكْرِ اللَّفْظِ المَمْقُوتِ المُسْتَبْشَعِ.
الإعرَابُ: (إِيَّاكَ) إِيَّا: مَفْعُولٌ بهِ لفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ والكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ. (إِيَّاكَ) تَوْكِيدٌ للأوَّلِ. (المِرَاءَ) مَنْصُوبٌ على نَزْعِ الخَافِضِ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ على هذا: بَاعِدْ نَفْسَكَ بَاعِدْ نَفْسَكَ مِنَ المِرَاءِ، وهو مَنْصُوبٌ على أنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ للفِعْلِ العَامِلِ في (إِيَّاكَ) عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمُ ابنُ مَالِكٍ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ على هذَا: جَنِّبْ نَفْسَكَ المِرَاءَ، مَثَلاً. (فإنَّهُ) الفَاءُ حَرْفٌ دَالٌّ علَى التَّعْلِيلِ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرَابِ، إنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ، وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدُ إلى المِرَاءِ اسمُهُ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (إلَى الشَّرِّ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: دَعَّاءٌ الآتِي. (دَعَّاءٌ) خَبَرُ إِنَّ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ. (وَلِلشَّرِّ) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، وللشَّرِّ: جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بجَالِبٍ الآتِي. (جَالِبُ) مَعْطُوفٌ بالوَاوِ على "دَعَّاءٌ"، والمَعْطُوفُ على المَرْفُوعِ مَرْفُوعٌ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُه: (إِيَّاكَ إِيَّاكَ) فإِنَّ المُؤَلِّفَ تَبِعَ بَعْضَ النُّحَاةِ فذَكَرَ أنَّ هذه العِبَارَةَ مِن التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ الوَاقِعِ في الضَّمَائِرِ المُنْفَصِلَةِ حيثُ كَرَّرَ الشَّاعِرُ كَلِمَةَ:(إِيَّاكَ) وهي ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مُخْتَصٌّ بمَوْقِعِ النَّصْبِ، ولَكِنَّ العُلَيْمِيَّ تُورِكَ على هذَا الكَلامِ، وذَكَرَ أنَّ الضَّمِيرَ المَنْصُوبَ يَحْتَاجُ البَتَّةَ إلى عَامِلٍ يَنْصِبُهُ، وهذا لا بُدَّ لهُ مِن فَاعِلٍ، وكأنَّهُ يُرِيدُ أن يَجْعَلَهُ مِن تَوْكِيدِ الجُمْلَةِ بِجُمْلَةٍ، ولكنَّهُ غَيْرُ لازِمٍ؛ فإنَّكَ قَدْ تُؤَكِّدُ الجُمْلَةَ بأَكْمَلِهَا؛ فتَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ جَاءَ زَيْدٌ، وقَد تُؤَكِّدُ الفِعْلَ وَحْدَهُ فتَقُولُ: جاءَ جَاءَ زَيْدٌ، وقد تُؤَكِّدُ الفَاعِلَ وَحْدَهُ فتَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ زَيْدٌ، وإن كانَ معَ الجُمْلَةِ مَفْعُولٌ فقَدْ تُؤَكِّدُه وَحْدَهُ فتَقُولُ: ضَرَبَ عَلِيٌّ خَالِداً خَالِداً.
([21]) أمَّا فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، نَحْوُ (قُمْتَ أنتَ) فقَد أَكَّدَ الضَّمِيرُ المَرْفُوعُ ضَمِيراً آخَرَ مَرْفُوعاً، وغَايَةُ ما في البَابِ أنَّ الضَّمِيرَ الوَاقِعَ تَأْكِيداً مُنْفَصِلٌ؛ [إِذْ] لَيْسَ لهُ عَامِلٌ مَلْفُوظٌ بهِ حتَّى يُمْكِنَ أن يَجِيءَ مُتَّصِلاً، وأَمَّا فِي حَالَةِ النَّصْبِ، نَحْوُ (أَكْرَمْتُكَ أَنْتَ) فقَدْ وَقَعَ الضَّمِيرُ المُنْفَصِلُ الذي أَصْلُهُ أن يَكُونَ في مَحَلِّ رَفْعٍ تَوْكِيداً للضَّمِيرِ المُتَّصِلِ المَنْصُوبِ، ونَخْتَارُ أنَّهُ يَجُوزُ في هذهِ الحَالَةِ أن يُؤْتَى بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ المَنْصُوبِ فيُقَالُ: (أَكْرَمْتُكَ إيَّاكَ، ورَأَيْتُهُ إيَّاهُ) وهذا مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، واختَارَهُ ابنُ مَالِكٍ، فأمَّا البَصْرِيُّونَ فإنَّهُم أَوْجَبُوا حِينَ تُرِيدُ التَّوْكِيدَ أن تَجِيءَ بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ المَرْفُوعِ، وصَحَّحُوا نَحْوَ قَوْلِكَ (أَكْرَمْتُكَ إيَّاكَ وأَكْرَمْتُهُ إيَّاهُ) على أن يَكُونَ الضَّمِيرُ المُنْفَصِلُ بَدَلاً، لا تَوْكِيداً، فاعرِفْ ذلك.
([22]) لمْ يُمَثِّلِ المُؤَلِّفُ في هذا المَوْضِعُ إلا للضَّمِيرِ المَجْرُورِ نَحْوِ (عَجِبْتُ مِنْكَ مِنْكَ)؛ لأنَّ هذا النَّوْعَ هو الذي يَتَعَيَّنُ فيهِ أن يَكُونَ الضَّمِيرُ الثَّانِي تَوْكِيداً للضَّمِيرِ الأوَّلِ، فأمَّا المَرْفُوعُ نَحْوُ (أَحْسَنْتَ أَحْسَنْتَ) والمَنْصُوبُ نَحْوُ (أُكْرِمُكَ أُكْرِمُكَ) فإنَّ كُلاًّ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أن يَكُونَ مُرَادُ المُتَكَلِّمِ تَأْكِيدَ الضَّمِيرِ بالضَّمِيرِ.
وثَانِيهُمَا: أن يَكُونَ مَقْصِدُهُ تَأْكِيدَ الجُمْلَةِ بالجُمْلَةِ، فمِن أَجْلِ هذا الاحتِمَالِ تَرَكَ المُؤَلِّفُ التَّمْثِيلَ لهُمَا، حتَّى يَبْتَعِدَ عَن الإِجْمَالِ.
([23]) 404-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ جَمِيلِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَعْمَرٍ العُذْرِيِّ، وما ذَكَرَهُ ههنا صَدْرُ بَيْتٍ مِن الكَامِلِ، وعَجُزُه قَوْلُهُ:
*أَخَذَتْ عَلَيَّ مَوَاثِقاً وَعُهُودَا*
وقد وَرَدَ هذَا العَجُزُ في كَلامٍ لكُثَيِّرِ عَزَّةَ، وهاك البَيْتَ الذي وَرَدَ فيهِ:
لاَ تَغْدِرَنَّ بِوَصْلِ عَزَّةَ بَعْدَمَا = أَخَذَتْ عَلَيْكَ مَوَاثِقاً وَعُهُودَا
اللُّغَةُ: (أَبُوحُ) مُضَارِعُ (بَاحَ فُلانٌ بِسِرٍّ) إذا أَفْشَاهُ وتَكَلَّمَ بهِ وأَخْبَرَ عَنْهُ، أو صَنَعَ ما يَدُلُّ عليهِ. (بُثْنَةَ) بفَتْحِ البَاءِ وسُكُونِ الثَّاءِ المُثَلَّثَةِ – هي بُثَيْنَةُ مَحْبُوبَةُ جَمِيلِ بنِ مَعْمَرٍ العُذْرِيِّ، وقد تَصَرَّفَ في اسمِهَا تَمْلِيحاً. (مَوَاثِقاً) جَمْعُ مَوْثِقٍ – بفَتْحِ المِيمِ وسُكُونِ الوَاوِ وكَسْرِ الثَّاءِ المُثَلَّثَةِ – وهو العَهْدُ، وأرَادَ أنَّهُمَا تَوَاصَيَا علَى المُحَافَظَةِ على المَحَبَّةِ وكِتْمَانِ مَا بَيْنَهُمَا مِن عَلاقَةٍ. (عُهُودَا) جَمْعُ عَهْدٍ – بفَتْحِ العَيْنِ وسُكُونِ الهَاءِ – وهو بمَعْنَى المَوْثِقِ والمِيثَاقِ.
المَعْنَى: يَقُولُ: إنِّي لا أَسْتَبِيحُ لِنَفْسِي أَن أُذِيعَ حُبِّي بُثَيْنَةَ وأُعْلِنَ ما استَتَرَ عَن النَّاسِ مِن عَلاقَتِي بِهَا؛ لأنَّنِي مُرْتَبِطٌ معَهَا بمَوَاثِيقَ وعُهُودٍ علَى ألاَّ نُطْلِعَ أَحَداً علَى شَيْءٍ مِن سِرِّ أُلْفَتِنَا، وقد يُقَالُ: إنَّ هذا الكَلامَ نَفْسَهُ إِذَاعَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِن حُبٍّ وعُهُودِ مَوَدَّةٍ.
الإعرَابُ: (لا) حَرْفُ نَفْيٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرَابِ. (لا) تَوْكِيدٌ للا الأوَّلِ. (أَبُوحُ) فِعْلٌ مُضَارع مَرْفُوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنا. (بِحُبِّ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: أَبُوحُ، وحُبِّ مُضَافٌ و(بُثْنَةَ) مُضَافٌ إليهِ مَجْرُورٌ بالفَتْحَةِ نِيَابَةً عَن الكَسْرَةِ؛ لأنَّهُ لا يَنْصَرِفُ للعَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ. (إنَّهَا) إِنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ، وضَمِيرُ الغَائِبَةِ العَائِدُ إلى بُثْنَةَ اسمُهُ. (أَخَذَت) أَخَذَ: فِعْلٌ مَاضٍ، والتَّاءُ للتَّأْنِيثِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هي يَعُودُ إلى بُثْنَةَ. (علَيَّ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بأَخَذَ. (مَوَاثِقاً) مَفْعُولٌ بهِ لأخَذَ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وكانَ مِن حَقِّهِ أن يَمْنَعَهُ التَّنْوِينَ، لكنَّهُ لمَّا اضطُرَّ نَوَّنَهُ. (وَعُهُودَا) الواوُ عَاطِفَةٌ، عُهُودَا: مَعْطُوفٌ علَى قَوْلِهِ: (مَوَاثِقاً).
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (لاَ لاَ) فإنَّهُ تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ للحَرْفِ، ولمَّا كَانَت (لا) مِن حُرُوفِ الجَوَابِ لم يَحْتَجْ لأن يَفْصِلَ بينَ المُؤَكَّدِ بشَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ الفَصْلُ بهِ في تَوْكِيدِ الحُرُوفِ غَيْرِ الجَوَابِيَّةِ، وتَقُولُ: لا لا، ونَعَمْ نَعَمْ، ونَعَمْ جَيْرِ، فتُعِيدُ حَرْفَ الجَوَابِ بنَفْسِهِ أو بمُرَادِفِه، وقالَ المُضَرِّسُ بنِ رِبْعِيٍّ:
وَقُلْنَ عَلَى الفِرْدَوْسِ أَوَّلِ مَشْرَبٍ = أَجَلْ جَيْرِ إِنْ كَانَتْ أُبِيحَتْ دَعَاثِرُهْ
([24]) سورة المؤمنون، الآية: 35، فأنَّ المَفْتُوحَةُ الهَمْزَةُ في (أَنَّكُم) مُؤَكِّدَةٌ لأنَّ المَفْتُوحَةِ الهَمْزَةِ الأُولَى في {أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} وقَدْ فَصَلَ بينَ التَّأْكِيدِ والمُؤَكَّدِ بالظَّرْفِ وما يَلِيهِ، وقَدْ أُعِيدَ معَ (أنَّ) الثَّانِيَةِ الضَّمِيرُ المُتَّصِلُ – وهو الكافُ والمِيمُ – فتَحَقَّقَ الشَّرْطَانِ.
([25]) إِنَّمَا كانَ إِعَادَةُ ضَمِيرِ المُؤَكَّدِ أَوْلَى مِن إِعَادَةِ لَفْظِهِ لسَبَبَيْنِ: الأوَّلِ أنَّهُ يَلْزَمُ على إِعَادَةِ لَفْظِهِ نَحْوِ (إنَّ زَيْداً إنَّ زَيْداً قَائِمٌ) التَّكْرَارُ لَفْظاً، وليسَ مِمَّا يُسْتَحْسَنُ لغَيْرِ مُوجِبٍ، والثَّانِي أنَّ إِعَادَتَهُ بلَفْظِهِ رُبَّمَا أَوْهَمَت أنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الأوَّلِ وإنَّمَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا اشتِرَاكٌ، والذي استَعْمَلَهُ القُرْآنُ الكَرِيمُ هو إِعَادَةُ ضَمِيرِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فإِنَّ (فِي) الثَّانِيَةَ في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فِيهَا} تَوْكِيدٌ لفِي الأُولَى في قَوْلِهِ: {فِي رَحْمَةِ اللَّهِ} ولا يَجُوزُ لكَ أن تَظُنَّ مَجْمُوعَ الجَارِّ والمَجْرُورِ مُؤَكِّداً لمَجْمُوعِ الجَارِّ والمَجْرُورِ المُتَقَدِّمِ؛ لأنَّهُ يَلْزَمُ على ذلكَ أن يَكُونَ الجَارُّ تَأْكِيداً للجَارِّ، والمَجْرُورُ الذي هو الضَّمِيرُ تَأْكِيداً للمَجْرُورِ الذي هو الاسمُ الظَّاهِرُ، وذلك لا يَجُوزُ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أَقْوَى مِن الضَّمِيرِ، ولا يَكُونُ الأَضْعَفُ تَوْكِيداً للأقْوَى.
([26]) 405-لم أَقِفْ لهذا الشَّاهِدِ على نِسْبَةٍ إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههنا صَدْرُ بَيْتٍ مِن الخَفِيفِ، وعَجُزُه قَوْلُهُ:
*يَرَيَنْ مَنْ أَجَارَهُ قَدْ ضِيمَا*
اللُّغَةُ: (الكَرِيمَ) المُرَادُ بهِ ههنا الذي يَأْبَى الضَّيْمَ ولا يَرْضَى بمَا يَمَسُّ شَرَفَهُ أو يَنَالُ مِن كَرَامَتِه. (يَحْلُمُ) مُضَارِعٌ مِن الحِلْمِ، وهو هنا الأنَاةُ والتَّعَقُّلُ. (أَجَارَهُ) الذي جَعَلَهُ في جِوَارِهِ ونَصَبَ علَيهِ حِمَايَتَهُ. (ضِيمَا) مَاضٍ مَبْنِيٌّ لما لمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مِن الضَّيْمِ، وهو بَخْسُ الحَقِّ والتَّعَدِّي على صَاحِبِه، تقُولُ: ضَامَهُ يَضِيمُهُ ضَيْماً، إذا نَقَصَهُ حَقَّهُ.
المَعْنَى: يَقُولُ: إنَّ الرَّجُلَ الأبِيَّ الكَرِيمَ النَّفْسِ الطَّيِّبَ الخُلُقِ لا يَزَالُ يَسْتَعْمِلُ الأنَاةَ والتُّؤَدَةَ في أُمُورِهِ كُلِّهَا، حتَّى إذَا رأَى أنَّ الرَّجُلَ الذي دَخَلَ في جِوَارِهِ واستَظَلَّ بحِمَايَتِه قد بُخِسَ حَقًّا مِن حُقُوقِهِ خَلَعَ رِدَاءَ الرَّزَانَةِ ولَبِسَ ثَوْبَ البَطْشِ.
الإعرَابُ: (إنَّ) حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ. (إنَّ) تَوْكِيدٌ لإنَّ الأُولَى. (الكَرِيمَ) اسْمُ إنَّ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وأَصْلُهُ صِفَةٌ لمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، فلمَّا حُذِفَ المَوْصُوفُ أُقِيمَت الصِّفَةُ مَقَامَهُ؛ لأنَّهَا صَالِحَةٌ لأن تَلِيَ العَامِلَ. (يَحْلُمُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى الكَرِيمِ، والجُمْلَةُ مِن الفِعْلِ المُضَارِعِ وفَاعِلِه في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ إِنَّ. (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ حَرْفٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ. (لَمْ) حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ. (يَرَيَنْ) يَرَى: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لاتِّصَالِهِ بنُونِ التَّوْكِيدِ الخَفِيفَةِ في مَحَلِّ جَزْمٍ بلَمْ، ونُونُ التَّوْكِيدُ حَرْفٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ، ومَا المَصْدَرِيَّةُ معَ مَا دَخَلَت علَيهِ في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بإِضَافَةِ اسْمِ زَمَانٍ مَنْصُوبٍ بقَوْلِهِ: يَحْلُمُ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: يَحْلُمُ مُدَّةَ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ –إلخ. (مَنْ) اسمٌ مَوْصُولٌ مَفْعُولٌ بهِ ليَرَى مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (أَجَارَهُ) أَجَارَ: فِعْلٌ مَاضٍ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى الكَرِيمِ، والضَّمِيرُ البَارِزُ العَائِدُ إلى الاسمِ المَوْصُولِ مَفْعُولٌ بهِ لأجَارَ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ، والجُمْلَةُ مِن الفِعْلِ المَاضِي وفَاعِلِه ومَفْعُولِهِ لا مَحَلَّ لَهَا مِن الإعرَابِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ. (قَدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ. (ضِيمَا) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، ونَائِبُ فَاعِلِه ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى الاسمِ المَوْصُولِ، والألفُ للإطْلاقِ، والجُمْلَةُ مِن الفِعْلِ المَاضِي المَبْنِيِّ للمَجْهُولِ ونَائِبِ فَاعِلِه في مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ مِن الاسمِ المَوْصُولِ، هذا إِن اعتَبَرْتَ يَرَى بَصَرِيَّةً، فإِن اعْتَبَرْتَهَا عِلْمِيَّةً كانَ الاسْمُ المَوْصُولُ مَفْعُولاً أوَّلَ ليَرَى، وجُمْلَةُ (قَدْ ضِيمَ) في مَحَلِّ نَصْبٍ مَفْعُولاً ثَانِياً.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (إِنَّ إِنَّ) حيثُ أَكَّدَ الشَّاعِرُ (إنَّ) الأُولَى تَوْكِيداً لَفْظِيًّا بإِعَادَةِ لَفْظِهَا، مِن غَيْرِ أَن يَفْصِلَ بينَ المُؤَكَّدِ والمُؤَكِّدِ، معَ أنَّ (إِنَّ) لَيْسَت مِن حُرُوفِ الجَوَابِ، والتَّوْكِيدُ على هذَا الوَجْهِ شَاذٌّ.
وفي قَوْلِهِ (يَرَيَنْ) تَوْكِيدُ المُضَارِعِ المَنْفِيِّ بلَمْ كما في قَوْلِ الرَّاجِزِ يَصِفُ وَطْبَ لَبَنٍ، وهو الشَّاهِدُ رَقْمُ 474 الآتِي:
يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا = شَيْخاً عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا
([27]) 406-هذا بَيْتٌ مِن الرَّجَزِ المَشْطُورِ، وقَد نَسَبُوا هَذَا الشَّاهِدَ إلى الأَغْلَبِ العِجْلِيِّ، ومِنْهُم مَن يَنْسُبُه إلى خِطَامٍ المُجَاشِعِيِّ يَصِفُ إِبِلاً، وبَعْدَ هذَا البَيْتِ قَوْلُهُ:
*أَعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ*
اللُّغَةُ: (تَرَاهَا) الضَّمِيرُ البَارِزُ المُتَّصِلُ يَعُودُ إلى إِبِلٍ يَصِفُهَا الرَّاجِزُ. (أَعْنَاقَهَا) الأَعْنَاقُ: جَمْعُ عُنُقٍ – بضَمِّ أَوَّلِه وثَانِيهِ، وقَدْ يُسَكَّنُ ثَانِيهِ تَخْفِيفاً – الرَّقَبَةُ. (قَرَنْ) بفَتْحِ أَوَّلِهِ وثَانِيهِ بزِنَةِ جَبَلٍ – حَبْلٌ تُرْبَطُ بهِ الإِبِلُ ويُقْرَنُ بِوَاسِطَتِهِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ.
المَعْنَى: وَصَفَ الرَّاجِزُ إِبِلاً ارْتَحَلُوهَا واستَحَثُّوهَا للسَّيْرِ فأَسْرَعَت وجَدَّت في السَّيْرِ، وكانَ مِن أَثَرِ هذا الإسرَاعِ أن رَفَعَت أَعْنَاقَهَا، وَكَانَت كُلُّها في قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ فتَسَاوَت، وتَجَاوَزَت حتَّى لَيَخَالُهَا مَن يَنْظُرُ إلَيْهَا في هذهِ الحَالِ كأَنَّهَا رُبِطَت أَعْنَاقُهَا وشُدُّت بحَبْلٍ.
الإعرَابُ: (حتَّى) حَرْفُ غَايَةٍ وجَرٍّ. (تَرَاهَا) تَرَى: فِعْلٌ مُضَارِعٌ يُقْصَدُ بهِ هُنَا حِكَايَةُ الحَالِ مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ علَى الألِفِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنت, وضَمِيرُ الإبِلِ مَفْعُولٌ بهِ. (وَكَأَنَّ) الواوُ واوُ الحَالِ، كَأَنَّ: حَرْفُ تَشْبِيهٍ ونَصْبٍ. (وَكَأَنّْ) تَوْكِيدٌ للأوَّلِ. (أَعْنَاقَهَا) أَعْنَاقَ: اسمُ كَأَنَّ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، وأَعْنَاقَ مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبَةِ العَائِدُ إلى الإِبِلِ مُضَافٌ إليهِ. (مُشَدَّدَاتٌ) خَبَرُ كَأَنَّ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ. (بِقَرَنْ) الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مَبْنِيٌّ علَى الكَسْرِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ، قَرَنْ: مَجْرُورٌ بالبَاءِ وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسْرَةُ الظَّاهِرَةُ، وسُكِّنَ لأجْلِ الوَقْفِ، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: مُشَدَّدَاتٌ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (وَكَأَنَّ وَكَأَنّْ) حيثُ أَكَّدَ كأنَّ التي هيَ حَرْفُ تَشْبِيهٍ ونَصْبٍ تَوْكِيداً لَفْظِيًّا بإِعَادَةِ لَفْظِهَا، معَ عَدَمِ الفَصْلِ بينَ المُؤَكِّدِ والمُؤَكَّدِ بمَعْمُولِ أَوَّلِهِمَا، معَ أنَّ (كَأَنَّ) ليسَ مِن أَحْرُفِ الجَوَابِ، والتَّوْكِيدُ على هذا الوَجْهِ شَاذٌّ، ولو أنَّهُ جاءَ بهِ على مَا تَقْتَضِيهِ العَرَبِيَّةُ لقَالَ: (كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا وَكَأَنَّهَا) مَثَلاً، ومعَ أنَّ ما جَاءَ بهِ الرَّاجِزُ شَاذٌّ فإنَّهُ أَخَفُّ فِي الشُّذُوذِ مِن قَوْلِ الشَّاعِرِ في الشَّاهِدِ السَّابِقِ (إِنَّ إِنَّ الكَرِيمَ)؛ لأنَّ الرَّاجِزَ في هذا الشَّاهِدِ قَد فَصَلَ بَيْنَ الحَرْفَيْنِ بالوَاوِ، ولَمْ يَفْصِلْ هُنَاكَ بشَيْءٍ أَصْلاً.
([28]) 407-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامٍ لمُسْلِمِ بنِ مَعْبَدٍ الوَالِبِيِّ، وقالَ الشَّيْخُ خَالِدٌ: (لرَجُلٍ مِن بَنِي أَسَدٍ) ولم يُعَيِّنْهُ، ومُسْلِمٌ أَسَدِيُّ، والبَيْتُ مِن قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ ذكَرَها البَغْدَادِيُّ في شَرْحِ الشَّاهِدِ (134) مِن (الخِزَانَةِ)، وما أَنْشَدَهُ المُؤَلِّفُ ههنا هو عَجُزُ بَيْتٍ مِن الوَافِرِ، وصَدْرُه قَوْلُهُ:
*فَلاَ وَاللَّهِ لاَ يُلْفَى لِمَا بِي*
قالَ البَغْدَادِيُّ: قالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الأَسْوَدُ الأَعْرَابِيُّ فِي (ضَالَّةِ الأَدِيبِ): كَانَ السَّبَبُ في هذهِ القَصِيدَةِ أنَّ مُسْلِماً كانَ غَائِباً فكُتِبَت إِبِلُهُ لِلمُصَّدِّقِ – أي: لعَامِلِ الزَّكَاةِ – وكانَ رُقَيْعٌ، وهو عِمَارَةُ بنُ عُبَيْدٍ الوَالِبِيُّ، عَرِّيفاً؛ فظَنَّ مُسْلِمٌ أنَّ رُقَيْعاً أَغْرَاهُ، وكَانَ مُسْلِمٌ ابْنَ أُخْتِ رُقَيْعٍ وابنَ عَمِّهِ فقَالَ:
بَكَتْ إِبِلِي، وَحُقَّ لَهَا البُكَاءُ = وَفَرَّقَهَا المَظَالِمُ وَالعَدَاءُ
اللُّغَةُ: (يُلْفَى) مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ مَاضِيهِ المَبْنِيُّ للمَعْلُومِ (أَلْفَى) وَمَعْنَاهُ وَجَدَ. (لِمَا بِي) أَرَادَ للذِي بِي مِن المَوْجِدَةِ والحَنَقِ علَيْهِم. (لِلِمَا بِهِم) أرَادَ للَّذِي بِهِم مِن الحِقْدِ والضَّغِينَةِ وحَسِيكَةِ الصُّدُورِ. (دَوَاءُ) أَصْلُ الدَّوَاءِ مَا يُعَالَجُ بهِ، وأرَادَ بهِ هَهُنَا ما يُتَدَارَكُ بهِ تَفَاقُمُ الخَطْبِ ويُتَلافَى بهِ مَا بَيْنَهُم حتَّى تُمْكِنُ إِزَالَةُ الأَحْقَادِ والضَّغَائِنِ والتِّرَاتِ.
المَعْنَى: يُرِيدُ أنَّهُ لا يُمْكِنُ أن يَحْدُثَ بَيْنَهُ وبينَ هؤلاءِ القَوْمِ تَصَافٍ ومَوَدَّةٌ؛ لأنَّهُ لا عِلاجَ لِمَا امتَلأَت بهِ قُلُوبُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُم مِن الأحْقَادِ والضَّغَائِنِ.
الإعرَابُ: (فَلا) الفَاءُ حَرْفُ عَطْفٍ، ولا: حَرْفُ نَفْيٍ. (وَاللَّهِ) الوَاوُ حَرْفُ قَسَمٍ وجَرٍّ، واسْمُ الجَلالَةِ مَجْرُورٌ بهِ، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بفِعْلِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. (لا) نَافِيَةٌ (يُلْفَى) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ. (لِمَا بِي) اللاَّمُ حَرْفُ جَرٍّ، ومَا: اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ باللاَّمِ، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: يُلْفَى، وَبِي: جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ صِلَةُ المَوْصُولِ. (وَلا) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، لا: حَرْفٌ زَائِدٌ لتَأْكِيدِ النَّفْيِ. (لِلِمَا بِهِمْ) اللاَّمُ الأُولَى حَرْفُ جَرٍّ مَبْنِيٌّ على الكَسْرِ لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرَابِ، واللاَّمُ الثَّانِيَةُ تَوْكِيدٌ للاَّمِ الأُولَى، ومَا: اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ باللاَّمِ الأُولَى، وبِهِم: جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ صِلَةٌ، والجَارُّ والمَجْرُورُ الذي هو (لِلِمَا) مَعْطُوفٌ بالوَاوِ على الجَارِّ والمَجْرُورِ الأوَّلِ الذي هو (لِمَا بِي) وقَوْلُهُ: (أَبَداً) ظَرْفُ زَمَانٍ مَنْصُوبٌ بيُلْفَى. (دَوَاءُ) نَائِبُ فَاعِلِ يُلْفَى مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (لِلِمَا) فإِنَّ الشَّاعِرَ أكَّدَ في هذه الكَلِمَةِ اللاَّمَ الجَارَّةَ تَوْكِيداً لَفْظِيًّا بِإِعَادَتِهَا بلَفْظِهَا مِن غَيْرِ أن يَفْصِلَ بينَ المُؤَكِّدِ والمُؤَكَّدِ بفَاصِلٍ، معَ أنَّ اللاَّمَ لَيْسَت مِن أَحْرُفِ الجَوَابِ، والتَّوْكِيدُ على هذا النَّحْوِ شَاذٌّ، ولو أنَّهُ جاءَ بهِ علَى مَا تَقْتَضِيهِ العَرَبِيَّةُ لقَالَ: (لِمَا لِمَا بِهِمْ) وقَدْ ذَكَرَ المُؤَلِّفُ هذَا الشَّاهِدَ ليُقَرِّرَ أنَّ الشُّذُوذَ الذي فيهِ أَقْوَى وأَشَدُّ مِن الشُّذُوذِ الذي في قَوْلِ الشَّاعِرِ فِي الشَّاهِدِ رَقْمِ 405 (إِنَّ إِنَّ الكَرِيمَ) وقَدْ قَرَّرَ في الشَّاهِدِ السَّابِقِ رَقْمِ 406 أنَّ قَوْلَ الرَّاجِزِ: (وَكَأَنَّ وَكَأَنّْ) أَخَفُّ فِي الشُّذُوذِ مِمَّا فِي (إِنَّ إِنَّ) فيَكُونُ الشُّذُوذُ علَى ثَلاثِ مَرَاتِبٍ:
شُذُوذٌ خَفِيفٌ، وذلك في: (وكَأَنَّ وَكَأَنّْ) لوُجُودِ فَاصِلٍ مَا بَيْنَ الحَرْفَينِ – وهو الوَاوُ العَاطِفَةُ – وإِن لَمْ يَكُنِ الفَاصِلُ هو خُصُوصَ مَعْمُولِ الحَرْفِ الأوَّلِ.
وشُذُوذٌ شَدِيدٌ، وذلك في: (إِنَّ إِنَّ الكَرِيمَ) لعَدَمِ الفَاصِلِ بَتَّةً، ولِكَوْنِ الحَرْفِ علَى ثَلاثَةِ أَحْرُفٍ هِجَائِيَّةٍ فهو كالقائِمِ بنَفْسِهِ.
وشُذُوذٌ أَشَدُّ، كمَا في قَوْلِهِ: (لِلِمَا بِهِم) فإنَّهُ لا فَاصِلَ فيهِ بينَ الحَرْفَينِ، والحَرْفُ المُؤَكَّدُ مَوْضُوعٌ علَى حَرْفٍ هِجَائِيٍّ وَاحِدٍ، فهو كمَن لا يَقُومُ بنَفْسِهِ، وسَيَأْتِي في البَيْتِ الآتِي نَوْعٌ آخَرُ مِن الشُّذُوذِ، وهو مَا نُسَمِّيهِ أَخْذاً مِن عِبَارَةِ المُؤَلِّفِ (الشُّذُوذَ الأَخَفَّ) فتَصِيرُ الأَنْوَاعُ أَرْبَعَةً: شُذُوذٌ خَفِيفٌ، وشُذُوذٌ أَخَفُّ، وشُذُوذٌ شَدِيدٌ، وشُذُوذٌ أَشَدُّ؛ وابنُ مَالِكٍ يُقَرِّرُ في (التَّسْهِيلِ) – تَبَعاً لابنِ عُصْفُورٍ – أنَّ التَّوْكِيدَ على هذا الوَجْهِ ضَرُورَةٌ لا تَسُوغُ إلا للشَّاعِرِ حينَ يُلْجَأُ إليهِ إِلْجَاءً، والزَّمَخْشَرِيُّ يُقَرِّرُ في (المُفَصَّلِ) أنَّهُ جَائِزٌ لا ضَرُورَةَ فيهِ، حيثُ جَعَلَهُ مِثْلَ تَوْكِيدِ الفِعْلِ والاسْمِ والجُمْلَةِ مِن غَيْرِ تَفْرِقَةٍ في الحُكْمِ، فاعرِفْ ذَلك.
([29]) 408-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ الأَسْوَدِ بنِ يَعْفُرَ، ومَا أَنْشَدَهُ المُؤَلِّفُ ههُنَا هو صَدْرُ بَيْتٍ مِن الطَّوِيلِ، وعَجُزُه قَوْلُهُ:
*أَصَعَّدَ فِي عُلْوِ الهَوَى أَمْ تَصَوَّبَا*
اللُّغَةُ: (لاَ يَسْأَلْنَهُ عَنْ بِمَا بِهِ) أَرَادَ أنَّ الغَوَانِيَ لَمَّا رَأَيْنَ رَأْسَهُ قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ وأَنَّ مَتْنَهُ قَدْ ضَعُفَت لم يَعُدْنَ يَكْتَرِثْنَ بهِ فيَسْأَلْنَهُ عمَّا هو فيهِ مِن وَجَعٍ أو نَحْوِهِ. (أَصَعَّدَ) أرَادَ ارْتَفَعَ. (تَصَوَّبَا) أرَادَ استَفَلَ ونَزَلَ.
المَعْنَى: وَصَفَ الشَّاعِرُ نَفْسَهُ بَعْدَ أن هَدَّهُ الكِبَرُ، ونَالَتِ الشَّيْخُوخَةُ مِنْهُ مَنَالَهَا، ولم يَعُدْ حَالِياً بقُوَّةِ الشَّبَابِ ومَيْعَتِهِ، فذَكَرَ أنَّ الغَوَانِيَ لم يَبْقَ فِيهِنَّ مَيْلٌ لهُ، ولا صِرْنَ يَعْبَأْنَ بهِ أو يُبَالِينَهُ.
الإعرَابُ: (فَأَصْبَحَ) الفَاءُ عَاطِفَةٌ، أَصْبَحَ: فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ، واسمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يَعُودُ إلى المُحَدِّثِ عنهُ وهو إنَّمَا يَتَحَدَّثُ عَن نَفْسِهِ عَن طَرِيقِ الغَيْبَةِ. (لاَ) حَرْفُ نَفْيٍ مَبْنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرَابِ. (يَسْأَلْنَهُ) يَسْأَلْ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لاتِّصَالِهِ بنُونِ النِّسْوَةِ، ونُونُ النِّسْوَةِ فَاعِلُهُ، وضَمِيرُ الغَيْبَةِ مَفْعُولُهُ، وجُمْلَةُ المُضَارِعِ وفَاعِلِه ومَفْعُولِهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ خَبَرُ أَصْبَحَ. (عَنْ) حَرْفُ جَرٍّ. (بِمَا) البَاءُ حَرْفُ جَرٍّ بمَعْنَى عَن، فهو تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لعن، ومَا: اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ بعَن، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: يَسْأَلْ. (بِهِ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (عَنْ بِمَا) حيثُ أَكَّدَ (عَن) الجَارَّةَ تَوْكِيداً لَفْظِيًّا بإِعَادَتِهِ بلَفْظٍ مُرَادِفٍ له، وهو البَاءُ التي بمَعْنَى عن والمُتَّصِلَةِ في اللَّفْظِ بـ (ما) المَوْصُولَةِ، والتَّوْكِيدُ على هذا النَّحْوِ شَاذٌّ عِنْدَ المُؤَلِّفِ تَبَعاً للنَّاظِمِ وابْنِ عُصْفُورٍ على ما بَيَّنَّا في شَرْحِ الشَّاهِدِ السَّابِقِ؛ لأنَّهُ لم يَفْصِلْ بَيْنَ المُؤَكَّدِ والمُؤَكِّدِ، معَ أنَّ الحَرْفَ المُؤَكَّدِ ليسَ مِن أَحْرُفِ الجَوَابِ، ولو أنَّهُ أتَى بهِ علَى ما تَقْتَضِيهِ العَرَبِيَّةُ عِندَ مَن ذَكَرْنَا لقَالَ: (عَمَّا بِمَا) ومعَ أنَّ التَّوْكِيدَ علَى هذَا النَّحْوِ شَاذٌّ فهُوَ في هذا البَيْتِ الذي نَحْنُ بصَدَدِ شَرْحِهِ أَهْوَنُ مِن الشُّذُوذِ الذي في قَوْلِ الشَّاعِرِ في البَيْتِ السَّابِقِ. (لِلِمَا بِهِم) وَوَجْهُ كَوْنِ هذَا أَهْوَنَ في الشُّذُوذِ مِن ذاكَ مِن نَاحِيَتَيْنِ:
الأُوْلَى: أنَّ الحَرْفَ المُؤَكَّدَ فِي البَيْتِ السَّابِقِ مَوْضُوعٌ علَى حَرْفٍ هِجَائِيٍّ وَاحِدٍ وهو اللاَّمُ، وهو في هذا البَيْتِ مَوْضُوعٌ علَى حَرْفَيْنِ هِجَائِيَّيْنِ وهو (عَن).
النَّاحِيَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ المُؤَكَّدَ والمُؤَكِّدِ في البَيْتِ السَّابِقِ بلَفْظٍ وَاحِدٍ، وهُمَا في هذا البَيْتِ بلَفْظَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وإِن اتَّفَقَا فِي المَعْنَى.