وقالَ: (حَسَنٌ غَرِيبٌ، لا نَعْرِفُهُ إلا مِنْ هذا الوجهِ انْتَهَى) وَإِسْنَادُهُ لا بَأْسَ بهِ،وَسَعِيدُ بنُ عُبَيْدٍ هوَ الْهُنَائِيُّ.
قالَ أبو حاتمٍ: شَيْخٌ.
وذَكَرَهُ ابنُ حِبَّانَ في (الثِّقَاتِ).
ومَنْ زَعَمَ أنَّهُ غيرُ الهُنَائِيِّ فقدْ وَهِمَ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: (تَفَرَّدَ بهِ كَثِيرُ بنُ فَائِدٍ عنْ سعيدٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ سَلْمُ بنُ قُتَيْبَةَ عنْ سعيدِ بنِ عُبَيْدٍ، فَوَقَفَهُ على أَنَسٍ).
قُلْتُ: قدْ رُوِيَ عنهُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَتَابَعَهُ على رَفْعِهِ أيضًا أبو سعيدٍ مَوْلَى بني هَاشِمٍ، فَرَوَاهُ عنْ سعيدِ بنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا أيضًا.
وقدْ رُوِيَ أيضًا منْ حديثِ ثابتٍ عنْ أنسٍ مَرْفُوعًا، ولكنْ قالَ أبو حاتمٍ: هوَ مُنْكَرٌ.
وَقَدْ رُوِيَ أيضًا منْ حديثِ أبي ذَرٍّ، خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ منْ روايَةِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عنْ مَعْدِ يكَرِبَ، عنْ أبي ذَرٍّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ، فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.
وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ شَهْرٍ، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ غَنْمٍ، عنْ أبي ذرٍّ.
وقيلَ: عنْ شَهْرٍ، عنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عنْ أبي الدَّرْدَاءِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يَصِحُّ هذا القولُ.
ورُوِيَ منْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ منْ روايَةِ قَيْسِ بنِ الربيعِ، عنْ حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، عنْ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ورُوِيَ بَعْضُهُ منْ وُجُوهٍ أُخَرَ.
فَخَرَّجَ مسلمٌ في (صحيحِهِ) منْ حديثِ المَعْرُورِ بنِ سُوَيْدٍ، عنْ أبي ذرٍّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).
وَخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ منْ روايَةِ أَخْشَنَ السَّدُوسِيِّ قالَ: دَخَلْتُ على أنسٍ فقالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلأََ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللَّهَ، لَغَفَرَ لَكُمْ)).
فقدْ تَضَمَّنَ حَدِيثُ أَنَسٍ المبدوءُ بِذِكْرِهِ أنَّ هذهِ الأسبابَ الثَّلاثَةَ يَحْصُلُ بها المَغْفِرَةُ: أحدُهَا: الدُّعَاءُ معَ الرَّجَاءِ؛ فإنَّ الدعاءَ مَأْمُورٌ بهِ، وَمَوْعُودٌ عليهِ بالإِجابةِ، كما قالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وفي (السُّنَنِ الأَرْبَعَةِ): عن النعمانِ بنِ بَشِيرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ))، ثمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ.
وفي حديثٍ آخَرَ خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا: ((مَنْ أُعْطِيَ الدُّعَاءَ أُعْطِيَ الإِجَابَةَ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} )).
وفي حديثٍ آخَرَ: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ الدُّعَاءِ وَيُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الإِجَابَةِ)).
لكنَّ الدعاءَ سَبَبٌ مُقْتَضٍ للإجابةِ معَ استكمالِ شَرَائِطِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ. وَقَدْ تَتَخَلَّفُ إِجَابَتُهُ لانْتِفَاءِ بعضِ شُرُوطِهِ، أوْ وُجُودِ بعضِ موانعِهِ.
وقدْ سَبَقَ ذِكْرُ بَعْضِ شرائطِهِ وموانعِهِ وَآدَابِهِ في شرحِ الحديثِ العاشرِ.
ومِنْ أَعْظَمِ شَرَائِطِهِ: حُضُورُ القلبِ، وَرَجَاءُ الإِجابةِ من اللَّهِ تَعَالَى.
كما خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ منْ حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ)).
وفي (الْمُسْنَدِ): عنْ عبدِ اللَّهِ بن عَمْرٍو، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دُعَاءً مِنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ)).
ولهذا نُهِيَ العبدُ أنْ يَقولَ في دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي إنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ؛ فإنَّ اللَّهَ لا مُكْرِهَ لَهُ.
ونُهِيَ أنْ يَسْتَعْجِلَ وَيَتْرُكَ الدُّعاءَ لاسْتِبْطَاءِ الإجابةِ ، وَجُعِلَ ذلكَ منْ موانعِ الإِجابةِ، حتَّى لا يَقْطَعَ العبدُ رَجَاءَهُ منْ إجابةِ دُعائِهِ ولوْ طالَت المُدَّةُ؛ فإنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ المُلِحِّينَ في الدعاءِ.
وجاءَ في الآثارِ: (إنَّ العبدَ إذا دَعَا رَبَّهُ وهوَ يُحِبُّهُ، قالَ: يَا جِبْرِيلُ، لا تَعْجَلْ بقضاءِ حاجةِ عَبْدِي؛ فإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ).
وقالَ تَعَالَى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
فَمَا دَامَ الْعَبْدُ يُلِحُّ في الدُّعاءِ، ويَطْمَعُ في الإِجابةِ منْ غيرِ قَطْعِ الرَّجاءِ، فهوَ قريبٌ من الإجابةِ. ومَنْ أَدْمَنَ قَرْعَ البابِ يُوشِكُ أنْ يُفْتَحَ لهُ.
وفي (صَحِيحِ الحَاكِمِ): عنْ أنسٍ مَرْفُوعًا: ((لا تَعْجِزُوا عَنِ الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ)).
ومِنْ أَهَمِّ ما يَسْأَلُ العبدُ رَبَّهُ: مَغْفِرَةُ ذُنُوبِهِ، أوْ ما يَسْتَلْزِمُ ذلكَ؛ كالنَّجَاةِ من النارِ، ودُخُولِ الجنَّةِ، وقدْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ))، يَعْنِي: حَوْلَ سُؤَالِ الجنَّةِ والنَّجَاةِ من النارِ.
قالَ أبو مسلمٍ الخَوْلانِيُّ: (ما عَرَضَتْ لي دَعْوَةٌ فَذَكَرْتُ النَّارَ إلا صَرَفْتُهَا إلى الاستعاذةِ منها).
ومن رحمةِ اللَّهِ تَعَالَى بعَبْدِهِ أنَّ العبدَ يَدْعُوهُ بِحَاجَةٍ من الدُّنْيا، فَيَصْرِفُهَا عَنْهُ، وَيُعَوِّضُهُ خيرًا منها، إمَّا أنْ يَصْرِفَ عنهُ بذلكَ سُوءًا، أوْ أنْ يَدَّخِرَهَا لهُ في الآخرةِ، أوْ يَغْفِرَ لهُ بها ذَنْبًا.
كما في (المُسْنَدِ) و(التِّرْمِذِيِّ) منْ حديثِ جابرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ، أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ)).
وفي (المُسْنَدِ) و(صحيحِ الحاكمِ): عنْ أبي سعيدٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ أَوْ قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا))، قالُوا: إذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: ((اللَّهُ أَكْثَرُ)).
وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وعندَهُ: ((أَوْ يَغْفِرَ لَهُ بِهَا ذَنْبًا قَدْ سَلَفَ))بَدَلَ قولِهِ: ((أَوْ يَكْشِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا)).
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ منْ حديثِ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا نحوَ حديثِ أبي سعيدٍ أيضًا.
وبكُلِّ حالٍ، فالإلحاحُ بالدُّعَاءِ بالمغفرةِ معَ رَجَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُوجِبٌ للمغفرةِ.
واللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ)).
وفي روايَةٍ:((فَلا تَظُنُّوا بِاللَّهِ إِلا خَيْرًا)).
وَيُرْوَى منْ حديثِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عمرَ مَرْفُوعًا: ((يَأْتِي اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَرِّبُهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي حِجَابِهِ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَيَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ (صَحِيفَتَكَ). فَيُعَرِّفُهُ ذَنْبًا ذَنْبًا: أَتَعْرِفُ، أَتَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، نَعَمْ. ثُمَّ يَلْتَفِتُ الْعَبْدُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لا بَأْسَ عَلَيْكَ يَا عَبْدِي، أَنْتَ فِي سِتْرِي مِنْ جَمِيعِ خَلْقِي، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ يَطَّلِعُ عَلَى ذُنُوبِكَ غَيْرِي، اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ مَا أَتَيْتَنِي بِهِ، قالَ: مَا هُوَ يَا رَبِّ؟ قَالَ: كُنْتَ لا تَرْجُو الْعَفْوَ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِي)).
فَمِنْ أَعْظَمِ أسبابِ المغفرةِ أنَّ العبدَ إذا أَذْنَبَ ذَنْبًا لمْ يَرْجُ مَغْفِرَتَهُ منْ غيرِ رَبِّهِ، وَيَعْلَمُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ الذنوبَ ويَأَخْذُ بها غَيْرُهُ.
وقدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذلكَ في شرحِ حديثِ أبي ذرٍّ: ((يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي))الحديثَ.
(2)وقولُهُ: ((إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِي))، يَعْنِي: عَلَى كَثْرَةِ ذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ، وَلا يَتَعَاظَمُنِي ذلكَ، وَلا أَسْتَكْثِرُهُ.
وفي (الصحيحِ): عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعْظِمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ)).
فَذُنُوبُ العبادِ وإنْ عَظُمَتْ فإنَّ عَفْوَ اللَّهِ وَمَغْفِرَتَهُ أَعْظَمُ منها وأَعْظَمُ، فهيَ صغيرةٌ في جَنْبِ عَفْوِ اللَّهِ ومغفرتِهِ.
وفي (صحيحِ الحاكمِ): عنْ جابرٍ، أنَّ رجلاً جاءَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: (وَاذُنُوبَاهُ! وَاذُنُوبَاهُ! مَرَّتَيْنِ أوْ ثلاثًا، فقالَ لهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلِ: اللَّهُمَّ مَغْفِرَتُكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبِي، وَرَحْمَتُكَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ عَمَلِي)). فَقَالَهَا. ثمَّ قَالَ لهُ: ((عُدْ))، فَعَادَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: ((عُدْ))، فَعَادَ. فقالَ لهُ: ((قُمْ؛ فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ))).
وفي هذا يقولُ بعضُهُم:
يَاكبِيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ ال لَّهِ ** مـنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرُ
أَعْظَمُ الأَشْيَاءِ فِي جَنْ بِ ** عَفْوِاللَّهِ يَصْغُرُ
وقالَ آخَرُ:
يارَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِيَ كَثْرَةً ** فَلَقَدْ عَلِمْتُ بأنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
إنْ كَانَ لا يَرْجُوكَ إلاَّ مُحْسِنٌ ** فمَن الَّذِي يَرْجُو وَيَدْعُو المُجْرِمُ
مَالي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلاَّ الرَّجَا ** وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثمَّ أَنِّي مُسْلِمُ
السببُ الثاني للمغفرةِ:
الاستغفارُ ولوْ عَظُمَت الذنوبُ، وبَلَغَت الكَثْرَةُ عَنانَ السماءِ، وهوَ السحابُ، وقيلَ: ما انْتَهى إليه البصرُ منها.
وفي الروايَةِ الأُخْرَى: ((لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى بَلَغَتْ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللَّهَ، لَغَفَرَ لَكُمْ)).
والاستغفارُ: طلبُ المغفرةِ، والمَغْفِرَةُ: هيَ وِقَايَةُ شَرِّ الذنوبِ معَ سَتْرِهَا.
وقدْ كَثُرَ في القرآنِ ذِكْرُ الاستغفارِ، فَتَارَةً يُؤْمَرُ بهِ، كقولِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199].
وقولِهِ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هُود:3].
وَتَارَةً يَمْدَحُ أَهْلَهُ، كَقَوْلِهِ: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمرانَ:17].
وقولِهِ: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذَّارِيَات:18].
وقولِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} [آل عمرانَ:135].
وَتَارَةً يَذْكُرُ أنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِمَن اسْتَغْفَرَهُ، كقولِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفورًا رَحِيمًا} [النساء:110].
وَكَثِيرًا ما يُقْرَنُ الاستغفارُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ، فيكونُ الاستغفارُ حِينَئِذٍ عبارةً عنْ طلبِ المغفرةِ باللِّسَانِ، والتوبةُ عبارةً عن الإِقلاعِ عن الذنوبِ بالقلوبِ والجوارحِ.
وتارَةً يُفْرَدُ الاستغفارُ، ويُرَتَّبُ عليهِ المغفرةُ، كَمَا ذُكِرَ في هذا الحديثِ وما أَشْبَهَهُ.
فقدْ قِيلَ: إنَّهُ أُرِيدَ بهِ الاستغفارُ المُقْتَرِنُ بالتَّوْبَةِ.
وقيلَ: إنَّ نُصُوصَ الاستغفارِ المُفْرَدَةَ كُلَّهَا مُطْلَقَةٌ تُقَيَّدُ بما يُذْكَرُ في آيَةِ (آلِ عِمْرَانَ) منْ عَدَمِ الإصرارِ؛ فإنَّ اللَّهَ وَعَدَ فيها المغفرةَ لِمَن اسْتَغْفَرَهُ منْ ذُنُوبِهِ ولمْ يُصِرَّ على فِعْلِهِ، فَتُحْمَلُ النُّصوصُ المُطْلَقَةُ في الاستغفارِ كُلُّهَا على هذا المُقَيَّدِ.
وَمُجَرَّدُ قولِ القائلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، طَلَبٌ منهُ للمغفرةِ وَدُعَاءٌ بها، فيكونُ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائرِ الدُّعَاءِ، فإنْ شاءَ اللَّهُ أَجَابَهُ وَغَفَرَ لِصَاحِبِهِ، لا سِيَّمَا إذا خَرَجَ عنْ قَلْبٍ مُنْكَسِرٍ بالذَّنْبِ، أوْ صَادَفَ ساعةً منْ ساعاتِ الإجابةِ؛ كالأسحارِ وأَدْبَارِ الصلواتِ.
ويُرْوَى عنْ لُقْمَانَ عليهِ السلامُ أنَّهُ قالَ لابنِهِ: يا بُنَيَّ، عَوِّدْ لِسَانَكَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؛ فإنَّ لِلَّهِ سَاعَاتٍ لا يَرُدُّ فيها سائلاً.
وقالَ الحسنُ: (أَكْثِرُوا من الاستغفارِ في بُيُوتِكُمْ، وعلى مَوَائِدِكُم، وفي طُرُقِكُم، وفي أَسْوَاقِكُم، وفي مَجَالِسِكُم أَيْنَمَا كُنْتُمْ؛ فَإِنَّكُمْ مَا تَدْرُونَ مَتَى تَنْزِلُ المَغْفِرَةُ).
وَخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنْيا في كتابِ (حُسْنِ الظَّنِّ) منْ حديثِ أبي هُريرةَ مَرْفُوعًا: ((بَيْنَما رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ إِذْ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَى النُّجُومِ فَقَالَ: إِنِّي لأََعْلَمُ أَنَّ لَكِ رَبًّا خَالِقًا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. فَغُفِرَ لَهُ)).
وعنْ مُوَرِّقٍ قالَ: (كانَ رَجُلٌ يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ، فَخَرَجَ إلى البَرِّيَّةِ، فَجَمَعَ تُرَابًا فَاضْطَجَعَ عليهِ مُسْتَلْقِيًا، فقالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، فَقَالَ: إنَّ هذا لَيَعْرِفُ أنَّ لهُ رَبًّا يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ، فَغَفَرَ لهُ).
وعنْ مُغِيثِ بنِ سُمَيٍّ قالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ خَبِيثٌ، فَتَذَكَّرَ يَوْمًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ غُفْرَانَكَ، اللَّهُمَّ غُفْرَانَكَ، اللَّهُمَّ غُفْرَانَكَ، ثمَّ ماتَ، فَغُفِرَ له)ُ.
وَيَشْهَدُ لهذا ما في (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الأَوَّلِ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ)).
وفى روايَةٍ لمسلمٍ، أنَّهُ قالَ في الثالثةِ: ((قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ)).
والمَعْنَى: مَا دَامَ على هذهِ الحالِ كُلَّمَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ.
والظاهرُ أنَّ مُرَادَهُ الاستغفارُ المَقْرُونُ بعَدَمِ الإِصرارِ؛ ولهذا في حديثِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً))، خَرَّجَهُ أبو داودَ والتِّرْمِذِيُّ.
وأمَّا استغفارُ اللسانِ معَ إصرارِ القلبِ على الذَّنْبِ فهوَ دُعاءٌ مُجَرَّدٌ، إنْ شاءَ اللَّهُ أَجَابَهُ، وإنْ شَاءَ رَدَّهُ.
وقدْ يَكُونُ الإصرارُ مَانِعًا من الإجابةِ.
وفي (المُسْنَدِ) منْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو مَرْفُوعًا: ((وَيْلٌ لِلَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)).
وَخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنْيَا منْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: ((التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ، وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبٍ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ)).
وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ، وَلَعَلَّهُ مَوْقُوفٌ.
قالَ الضَّحَّاكُ: (ثلاثةٌ لا يُسْتَجَابُ لهم، فذَكَرَ منهم: رَجُلٌ مُقِيمٌ على امرأةِ زِنَى، كُلَّمَا قَضَى شَهْوَتَهُ قالَ: ربِّ اغْفِرْ لِي ما أَصَبْتُ منْ فُلانَةٍ، فَيَقُولُ الرَّبُّ: تَحَوَّلْ عَنْهَا وَأَغْفِرَ لكَ، فَأَمَّا مَا دُمْتَ مُقِيمًا علَيْهَا فَإِنِّي لا أَغْفِرُ لكَ، وَرَجُلٌ عندَهُ مَالُ قَوْمٍ، يَرَى أَهْلَهُ فيقولُ: ربِّ اغْفِرْ لِي ما آكُلُ منْ مالِ فُلانٍ، فيقولُ تَعَالَى: رُدَّ إِلَيْهِمْ مَالَهُم وَأَغْفِرَ لكَ، وأمَّا ما لمْ تَرُدَّ إليهِم فلا أَغْفِرُ لكَ).
وقولُ القائلِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، مَعْنَاهُ: أَطْلُبُ مَغْفِرَتَهُ، فهوَ كقولِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي.
فالاستغفارُ التَّامُّ المُوجِبُ للمغفرةِ: هوَ ما قَارَنَ عَدَمَ الإصرارِ، كَمَا مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَهُ وَوَعَدَهُم المَغْفِرَةَ.
قالَ بعضُ العارفِينَ: مَنْ لمْ يَكُنْ ثَمَرَةُ اسْتِغْفَارِهِ تَصْحِيحَ تَوْبَتِهِ، فهوَ كاذبٌ في استغفارِهِ. وكانَ بَعْضُهم يقولُ: اسْتِغْفَارُنَا هذا يَحْتَاجُ إلى استغفارٍ كثيرٍ.
وفي ذلكَ يقولُ بَعْضُهُم:
أَسْتَغْفِرُاللَّهَ مِنْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ** لَفْظةٍبَدَرَتْ خَالَفْتُ مَعْنَاهَا
وَكَيْفَ أَرْجُو إِجَابَاتِ الدُّعَاءِ وقدْ ** سَدَدْتُ بالذَّنْبِ عندَ اللَّهِ مَجْرَاهَا
فأفضلُ الاستغفارِ ما اقْتَرَنَ بهِ تَرْكُ الإِصرارِ، وهوَ حينئذٍ تَوْبَةٌ نَصُوحٌ.
وإنْ قالَ بلسانِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وهوَ غيرُ مُقْلِعٍ بِقَلْبِهِ، فهوَ داعٍ للَّهِ بالمغفرةِ، كما يقولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وهوَ حَسَنٌ، وقدْ يُرْجَى لهُ الإِجابةُ.
وأمَّا مَنْ قالَ: تَوْبَةُ الكَذَّابِينَ، فَمُرَادُهُ أنَّهُ ليسَ بِتَوْبَةٍ كما يَعْتَقِدُهُ بَعْضُ الناسِ، وهذا حقٌّ؛ فإنَّ التَّوبةَ لا تكونُ مَعَ الإِصرارِ.
وإنْ قالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إليهِ، فَلَهُ حَالَتَانِ:
إحدَاهُمَا: أنْ يَكُونَ مُصِرًّا بقَلْبِهِ على المعصيَةِ، فهذا كاذبٌ في قولِهِ: وَأَتُوبُ إليهِ؛ لأنَّهُ غيرُ تَائِبٍ، فلا يَجُوزُ لهُ أنْ يُخْبِرَ عنْ نفسِهِ بأنَّهُ تَائِبٌ وهوَ غيرُ تائبٍ.
والثانيَةُ: أنْ يكونَ مُقْلِعًا عن المعصيَةِ بِقَلْبِهِ، فَاخْتَلَفَ الناسُ في جوازِ قولِهِ: وَأَتُوبُ إليهِ، فَكَرِهَهُ طائفةٌ من السَّلفِ، وهوَ قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ حَكَاهُ عنهم الطَّحَاوِيُّ.
وقالَ الربيعُ بنُ خُثَيْمٍ: يكونُ قولُهُ: وَأَتُوبُ إليهِ، كِذْبَةً وَذَنْبًا، ولكنْ لِيَقُل: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيَّ، أوْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ فَتُبْ عَلَيَّ.
وهذا قدْ يُحْمَلُ على مَنْ لمْ يُقْلِعْ بِقَلْبِهِ وهوَ بِحَالِهِ أَشْبَهُ.
وكانَ مُحَمَّدُ بنُ سُوقَةَ يَقُولُ في اسْتِغْفَارِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ العظيمَ، الذي لا إلهَ إلا هوَ، الحيَّ القيُّومَ، وَأَسْأَلُهُ تَوْبَةً نَصُوحًا.
ورُوِيَ عنْ حُذَيْفَةَ أنَّهُ قالَ: (بِحَسْبِ المَرْءِ من الكذبِ أنْ يَقُولَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثمَّ يَعُودُ).
وَسَمِعَ مُطَرِّفٌ رَجُلاً يقولُ: (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إليهِ، فَتَغَيَّظَ عليهِ وقالَ: لَعَلَّكَ لا تَفْعَلُ).
وهذا ظَاهِرُهُ يَدُلُّ على أنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ أنْ يَقُولَ: وَأَتُوبُ إليهِ؛ لأنَّ التوبةَ النَّصُوحَ أنْ لا يَعُودَ إلى الذَّنْبِ أَبَدًا، فَمَتَى عَادَ إليهِ كانَ كَاذِبًا في قولِهِ: أَتُوبُ إليهِ.
وكذلكَ سُئِلَ مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ عمَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ أنْ لا يَعُودَ إلى معصيَةٍ أبدًا، فقالَ: مَنْ أَعْظَمُ منهُ إِثْمًا؟ يَتَأَلَّى عَلَى اللَّهِ أنْ لا يَنْفُذَ فيهِ قضاؤُهُ.
وَرَجَّحَ قولَهُ في هذا أبو الفرجِ بنُ الجَوْزِيِّ، وَرُوِيَ عنْ سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ نحوُ ذلكَ.
وجمهورُ العلماءِ على جوازِ أنْ يَقُولَ التائبُ: أَتُوبُ إلى اللَّهِ، وأنْ يُعَاهِدَ العبدُ رَبَّهُ على أنْ لا يعودَ إلى المعصيَةِ؛ فإنَّ العَزْمَ على ذلكَ واجبٌ عليهِ، فهوَ مُخْبِرٌ بما عَزَمَ عليهِ في الحالِ؛ ولهذا قالَ: ((مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً))، وقالَ في المُعَاوِدِ للذَّنْبِ: ((قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ)).
وفي حديثِ كَفَّارَةِ المَجْلِسِ: ((أَسْتَغْفِرُكَ اللَّهُمَّ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ)).
وَقَطَعَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارِقًا، ثمَّ قالَ لهُ:
((اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ))، فقالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فقالَ: ((اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ))، خَرَّجَهُ أبو داودَ.
وَاسْتَحَبَّ جماعةٌ من السلفِ الزيادةَ على قولِهِ: (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ).
فَرُوِيَ عنْ عُمَرَ أنَّهُ سَمِعَ رجلاً يقولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إليهِ، فقالَ لهُ: (يَا حُمَيْقُ، قُلْ: تَوْبَةَ مَنْ لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا، ولا مَوْتًا ولا حياةً ولا نُشُورًا).
وَسُئِلَ الأَوْزَاعِيُّ عن الاستغفارِ: أَيَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إليهِ؟ فقالَ: (إنَّ هذا لَحَسَنٌ، ولكنْ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي؛ حتَّى يُتِمَّ الاستغفارَ).
وأفضلُ أنواعِ الاستغفارِ:
أنْ يَبْدَأَ العَبْدُ بالثَّنَاءِ على رَبِّهِ، ثُمَّ يُثَنِّيَ بالاعترافِ بِذَنْبِهِ، ثمَّ يَسْأَلَ اللَّهَ المغفرةَ، كما في حديثِ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ))، خَرَّجَهُ البخاريُّ.
وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، أنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بهِ في صَلاتِي، قالَ: ((قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)).
ومن أنواعِ الاستغفارِ، أنْ يَقُولَ العَبْدُ: ((أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيَّ القَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ)).
وقدْ رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ مَنْ قَالَهُ غُفِرَ لهُ وإنْ كانَ فَرَّ من الزَّحْفِ، خَرَّجَهُ أبو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ.
وفي كتابِ (اليومِ واللَّيْلةِ) للنَّسَائِيِّ: عنْ خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ قَالَ: (قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَسْتَغْفِرُ؟) قالَ: ((قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، وَارْحَمْنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)).
وفيهِ: عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي (السُّنَنِ الأَرْبَعَةِ): عن ابنِ عُمَرَ قالَ: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ يَقُولُ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ).
وفي (صحيحِ البخاريِّ): عنْ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((وَاللَّهِ، إِنِّي لأََسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً)).
وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عن الأَغَرِّ المُزَنِيِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لأََسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)).
وفي (المُسْنَدِ): عنْ حُذيفةَ قالَ: (قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي ذَرِبُ اللِّسَانِ، وإنَّ عَامَّةَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِي) فقالَ: ((أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاسْتِغْفارِ؟ إِنِّي لأََسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ)).
وفِي (سُنَنِ أبي داودَ): عن ابنِ عَبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)).
قالَ أبو هُريرةَ: (إنِّي لأََسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إليهِ كُلَّ يومٍ ألْفَ مَرَّةٍ، وذلكَ على قَدْرِ دِيَتِي).
وقالَتْ عائشةُ: (طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ في صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كثيرًا).
قالَ أبو المِنْهَالِ: (ما جَاوَرَ عَبْدٌ في قَبْرِهِ مِنْ جَارٍ أَحَبَّ إليهِ من اسْتِغْفَارٍ كثيرٍ).
وبالجُمْلَةِ، فَدَوَاءُ الذنوبِ الاستغفارُ.
وَرُوِّينَا منْ حديثِ أبي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، وَإِنَّ دَوَاءَ الذُّنُوبِ الاسْتِغْفَارُ)).
قالَ قتادةُ: (إنَّ هذا القرآنَ يَدُلُّكُمْ على دَائِكُمْ وَدَوَائِكُمْ، فَأَمَّا دَاؤُكُم: فالذُّنوبُ، وأمَّا دَوَاؤُكُم: فالاستغفارُ).
قالَ بَعْضُهم: إنَّمَا مُعَوَّلُ المُذْنِبِينَ البُكَاءُ والاستغفارُ، فَمَنْ أَهَمَّتْهُ ذُنُوبُهُ أَكْثَرَ لها من الاستغفارِ.
قالَ رِيَاحٌ القَيْسِيُّ: (لي نَيِّفٌ وَأَرْبَعُونَ ذَنْبًا، قَد اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لكُلِّ ذَنْبٍ مِائَةَ أَلْفِ مَرَّةٍ).
وَحَاسَبَ بَعْضُهُم نَفْسَهُ منْ وَقْتِ بُلُوغِهِ، فَإِذَا زَلاتُهُ لا تُجَاوِزُ سِتًّا وَثَلاثِينَ زَلَّةً، فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِكُلِّ زَلَّةٍ مِائَةَ أَلْفِ مَرَّةٍ، وصلَّى لكُلِّ زَلَّةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، خَتَمَ في كُلِّ ركعةٍ منها خَتْمَةً، قالَ: ومعَ ذلكَ فَإِنِّي غَيْرُ آمِنٍ سَطْوَةَ رَبِّي أنْ يَأْخُذَنِي بِهَا، وَأَنَا على خَطَرٍ منْ قَبُولِ التوبةِ.
وَمَنْ زَادَ اهْتِمَامُهُ بِذُنُوبِهِ فَرُبَّمَا تَعَلَّقَ بأَذْيَالِ مَنْ قَلَّتْ ذُنُوبُهُ، فالْتَمَسَ منهُ الاستغفارَ.
وكانَ عُمَرُ يَطْلُبُ من الصِّبْيَانِ الاستغفارَ ويقولُ: إنَّكُم لمْ تُذْنِبُوا.
وكانَ أبو هُرَيْرَةَ يقولُ لغِلْمَانِ الكُتَّابِ: قُولُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَِبِي هُرَيْرَةَ، فَيُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِم.
قالَ بَكْرٌ المُزَنِيُّ: (لوْ كانَ رَجُلٌ يَطُوفُ على الأبوابِ كما يطوفُ المِسْكِينُ يقولُ: اسْتَغْفِرُوا لِي، لكانَ نَوْلُهُ أنْ يُفْعَلَ).
ومَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَسَيِّئَاتُهُ حتَّى فَاتَت العدَّ والإحصاءَ، فلْيَسْتَغْفِر اللَّهَ مِمَّا عَلِمَ اللَّهُ؛ فإنَّ اللَّهَ قدْ عَلِمَ كلَّ شَيْءٍ وأحصَاهُ، كما قالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المُجَادَلَة:6].
وفي حديثِ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ؛ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ)).
وفي هذا يَقُولُ بَعْضُهُم:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا يَعْلَمُ اللَّهُ ** إنَّ الشَّقِيَّ لمَنْ لَا يَرْحَمُ اللَّهُ
مَاأَحْلَمَ اللَّهَ عَمَّنْ لَا يُرَاقِبُهُ ** كَل مُسِيءٌ وَلَكِنْ يَحْلُمُ اللَّهُ
فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِمَّا كَانَ مِنْ زَلَلٍ ** طُوبَى لِمَنْ كَفَّ عَمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ
طُوبَى لِمَنْ حَسُنَتْ فِيهِ سَرِيرَتُهُ ** طُوبَى لِمَنْ يَنْتَهِي عَمَّا نَهَى اللَّهُ
السببُ الثالثُ منْ أسبابِ المغفرةِ:
التَّوْحِيدُ، وهوَ السببُ الأعظمُ، فَمَنْ فَقَدَهُ فقَدَ المَغْفِرَةَ، ومَنْ جَاءَ بهِ فَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ أسبابِ المغفرةِ، قالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:48].
فمَنْ جَاءَ معَ التوحيدِ بقُرَابِ الأرضِ -وهوَ مِلْؤُهَا أوْ ما يُقَارِبُ مِلأَهَا- خَطَايَا، لَقِيَهُ اللَّهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً.
لَكِنَّ هذا معَ مَشِيئَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فإنْ شَاءَ غَفَرَ لهُ، وإنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِذُنُوبِهِ، ثُمَّ كانَ عَاقِبَتُهُ أنْ لا يُخَلَّدَ في النارِ، بلْ يَخْرُجُ منها ثمَّ يَدْخُلُ الجنَّةَ.
قالَ بعضُهُم: (المُوَحِّدُ لا يُلْقَى في النارِ كَمَا يُلْقَى الكُفَّارُ، ولا يَلْقَى فيها ما يَلْقَى الكُفَّارُ، ولا يَبْقَى فيها كما يَبْقَى الكُفَّارُ، فإنْ كَمُلَ تَوْحِيدُ العبدِ وإخلاصُهُ للَّهِ فيهِ، وقامَ بِشُرُوطِهِ كُلِّها بقلبِهِ ولسانِهِ وجوارحِهِ، أوْ بِقَلْبِهِ ولسانِهِ عندَ الموتِ، أَوْجَبَ ذلكَ مَغْفِرَةَ ما سَلَفَ من الذنوبِ كُلِّها، وَمَنَعَهُ منْ دُخُولِ النَّارِ بالكُلِّيَّةِ).
فمَنْ تَحَقَّقَ بكلمةِ التوحيدِ قَلبُهُ، أَخْرَجَتْ منهُ كلَّ ما سِوَى اللَّهِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَإِجْلالاً وَمَهَابَةً وَخَشْيَةً وَرَجَاءً وَتَوَكُّلاً، وحينئذٍ تُحْرَقُ ذُنُوبُهُ وخطاياهُ كُلُّها، وَلَوْ كانتْ مِثلَ زَبَدِ البَحْرِ، وَرُبَّمَا قَلَبَتْهَا حَسَنَاتٍ، كما سَبَقَ ذِكْرُهُ في تبديلِ السَّيِّئَاتِ حسناتٍ.
فإنَّ هذا التوحيدَ هوَ الإِكْسِيرُ الأعظمُ، فَلَوْ وُضِعَ ذَرَّةٌ منهُ على جبالِ الذنوبِ والخطايَا لَقَلَبَهَا حسناتٍ، كما في (المُسْنَدِ) وغيرِهِ: عنْ أُمِّ هَانِئٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ لا تَتْرُكُ ذَنْبًا، وَلا يَسْبِقُهَا عَمَلٌ)).
وفِي (المُسْنَدِ): عنْ شدَّادِ بنِ أَوْسٍ، وَعُبَادَةَ بنِ الصامتِ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لأصحابِهِ: ((ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ وَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ)).
فَرَفَعْنَا أَيْدِيَنَا سَاعَةً، ثمَّ وَضَعَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، ثُمَّ قالَ:
((الْحَمْدُ لِلَّهِ، اللَّهُمَّ بَعَثْتَنِي بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَأَمَرْتَنِي بِهَا، وَوَعَدْتَنِي الْجَنَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ))، ثمَّ قالَ: ((أَبْشِرُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ)).
قالَ الشِّبْلِيُّ: (مَنْ رَكَنَ إلى الدُّنْيا أَحْرَقَتْهُ بِنَارِهَا، فصارَ رَمَادًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ).
ومَنْ رَكَنَ إلى الآخِرَةِ أَحْرَقَتْهُ بِنُورِهَا، فَصَارَ ذَهَبًا أَحْمَرَ يُنْتَفَعُ بهِ.
ومَنْ رَكَنَ إلى اللَّهِ أَحْرَقَهُ نُورُ التوحيدِ، فصارَ جَوْهَرًا لا قِيمَةَ لهُ.
إذا عَلِقَتْ نَارُ المَحَبَّةِ بالقلبِ أَحْرَقَتْ منهُ كُلَّ ما سِوَى الربِّ عزَّ وجلَّ، فَطَهُرَ القلبُ حِينَئِذٍ من الأَغْيَارِ، وَصَلُحَ عَرْشًا للتَّوْحيدِ: ((مَا وَسِعَنِي سَمَائِي وَلا أَرْضِي، وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ)).
غَصَّني الشَّوْقُ إِلَيْهِمْ بِرِيقِي ** فَوَا حَرِيقِي في الْهَوَى وَاحَرِيقِي
قَدْ رَمَانِي الْحُبُّ فِي لُجِّ بَحْرٍ ** فَخُذُوا بِاللَّهِ كَفَّ الْغَرِيقِ
حَلَّ عِنْدِي حُبُّكُمْ فِي شَغَافِي ** حَلَّ مِنِّي كُلَّ عَقْدٍ وَثِيقِ
فهذا آخِرُ ما ذَكَرَهُ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ من الأحاديثِ في هذا الكتابِ.
وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ نَذْكُرُ تَتِمَّةَ الخمسينَ حَدِيثًا من الأحاديثِ الجامعةِ لأنواعِ العُلُومِ والحِكَمِ والآدابِ المَوْعُودِ بها في أوَّلِ الكتابِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ للصَّوَابِ.