فصلٌ: وأصلُ([1]) "غَيْر" أنْ يُوصَفَ بها إمَّا نَكِرَةٌ نحوُ:
{صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}([2])،أو معرفةٌ كالنَّكِرَةِ نحوُ: {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}([3]) فإنَّ موصُوفَها (الَّذِينَ) وهم جِنْسٌ لا قَوْمٌ بأعْيانِهم.
وقد تخرُجُ عن الصفةِ وتُضَمَّنُ معنَى: "إِلاَّ" فيُسْتثْنَى بها اسمٌ مجرورٌ بإضافتِها إليه, وتُعرَبُ هي بما يَسْتَحِقُّه المُسْتَثْنَى بإلاّض في ذلك الكلامِ, فيَجِبُ نَصْبُها([4]) في نحوِ: "قَامُوا غَيْرَ زَيْدٍ", و: "مَا نَفَعَ هذا المالُ غَيْرَ الضَّرَرِ" عندَ الجميعِ, وفي نحوِ: "مَا فيها أحدٌ غيرَ حِمَارٍ" عندَ الحِجازيِّينَ وعندَ الأكثرِ في نحوِ: "مَا فِيهَا غَيْرَ زَيْدٍ أحَدٌ" ويَتَرجَّحُ([5]) عندَ قومٍ في نحوِ هذا المثالِ وعندَ تَميمٍ في نحوِ: "ما فِيهَا أحَدٌ غيرَ حمارٍ" ويَضْعُفُ([6]) في نحوِ: "ما قَامُوا غيرَ زيدٍ" ويَمتنِعُ في نحوِ: "ما قامَ غيرُ زيدٍ".
فصلٌ: والمُسْتثْنَى([7]) بـ "سِوَى" كالمستثنَى بـ "غَيْر" في وجوبِ الخَفْضِ, ثم قالَ الزجَّاجُ وابنُ مالكٍ:"سِوَى" كـ"غَيْر" معنًى وإعراباً. ويُؤَيِّدُهما حكايةُ الفرَّاءِ: "أتَانِي سِوَاكَ". وقالَ سِيبَوَيهِ والجمهورُ: هي ظرفٌ؛ بدليلِ وصْلِ الموصولِ بها كـ "جاءَ الَّذِي سِواكَ". قالوا: ولا تخرُجُ عن النصْبِ على الظرفيَّةِ إلاَّ في الشِّعرِ؛ كقولِه:
265- ولَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوا = نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا([8]) وقالَّ الرُّمَّانِيُّ والعُكْبَرِيُّ: تُسْتعَمَلُ ظرفاً غالباً, وكغيرٍ قليلاً, وإلى هذا أذْهَبُ.
فصلٌ: والمُستثنَى بـ "ليسَ" و"لا يَكُونُ" واجِبُ النصْبِ؛ لأنَّه خَبَرُهما, وفي الحديثِ: ((مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ)). وتقولُ: "أَتَوْنِي لا يَكُونُ زَيْداً".
واسمُهما([9]) ضميرٌ مستترٌ عائدٌ على اسمِ الفاعلِ المفهومِ من الفعلِ السابقِ أو البعضِ المدلولِ عليهِ بكُلِّه السابقِ, فتقديرُ "قَامُوا ليسَ زيداً": ليسَ القَائِمُ أو لَيْسَ بعضُهم, وعلى الثاني فهو نظيرُ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً}([10]) بعدَ تَقدُّمِ ذكْرِ الأولادِ([11]).
وجُمْلَتَا الاستثناءِ في موضعِ نصبٍ على الحالِ, أو مُسْتأنَفَتانِ, فلا موضِعَ لهما([12]).
فصلٌ: وفي المُستثنَى بـ "خَلاَ" و"عَدَا" وجهانِ:
أحَدُهما: الجَرُّ على أنَّهما حَرْفَا جرٍّ, وهو قليلٌ, ولم يَحْفَظْه سِيبوَيْهِ في "عَدَا" ومن شواهدِه قولُه:
266- أبَحْنَا حَيَّهُمْ قَتْلاً وأسْراً = عَدَا الشَّمْطَاءِ والطِّفْلِ الصَّغِيرِ([13]) وموضِعُهما نصبٌ, فقيلَ: هو نَصْبٌ عن تمامِ الكلامِ. وقيلَ: لأنَّهما مُتعلِّقانِ بالفعلِ المذكورِ([14]).
والثاني: النصبُ على أنهما فعلانِ جامدانِ؛ لوقوعِهما موقِعَ([15]) "إلاَّ", وفاعلُهما ضميرٌ مستترٌ وفي مُفَسِّرِه وفي مَوْضِعِ الجملةِ البحثُ السابقُ.
وتدخُلُ عليهما "ما" المصدريَّةُ, فيَتعيَّنُ النصْبُ؛ لتعَيُّنِ الفعليَّةِ حينَئذٍ كقولِه:
267- أَلاَّ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ([16]) وقولِه:
268- تُمَلُّ النَّدَامَى مَا عَدَانِي فَإِنَّنِي([17]) ولهذا دخلتْ نونُ الوقايةِ, وموضِعُ الموصولِ وصلتُه نصْبٌ: إمَّا على الظرفيَّةِ على حذْفِ مضافٍ, أو على الحاليَّةِ على التأويلِ باسمِ الفاعلِ([18]) فمعنَى: "قَامُوا ما عَدَا زَيْداً": قاموا وقْتَ مُجاوَزَتِهم زيداً, أو مُجاوِزينَ زَيْداً, وقدْ يُجَرَّانِ على تقديرِ "ما" زائدةٍ([19]).
فصلٌ: والمُستثنَى بـ "حاشا" عندَ سيبويهِ مجرورٌ لا غيرُ, وسَمِعَ غيرُه النصْبَ([20]) كقولِه: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ولِمَنْ يَسْمَعُ, حَاشَا الشَّيْطَانَ وأبَا الأصْبَغِ".
والكلامُ في موضِعِها جَارَّةٌ وناصبةٌ وفي فاعلِها؛ كالكلامِ في أُخْتَيْها.
ولا يَجوزُ دُخولُ "ما"([21]) عليها؛ خلافاً لبعضِهم, ولا دخولُ"إلاَّ"؛ خلافاً للكِسائيِّ.
([1]) فإنْ قُلْتَ: فكيفَ تقَعُ (غَيْرُ) نَعْتاً، وهي اسمٌ جَامِدٌ، وقدْ قُلْتُم: إنَّ النعْتَ لا يكونُ إلاَّ مُشْتَقًّا أو مُؤَوَّلاً بالمُشْتَقِّ؟
فالجوابُ: أنَّ (غَيْرَ) – وإنْ كَانَتِ اسماً جَامِداً– مُؤَوَّلَةٌ بالمُشْتَقِّ؛ لأنَّها في مَعْنَى اسمِ الفاعلِ، فإنَّ قَوْلَكَ: (زَيْدٌ غَيْرُ عَمْرٍو) معناهُ كمعنى قولِكَ: "زَيْدٌ مُغايِرٌ لعَمْرِو". فصَحَّ الوصْفُ بها لذلك السببِ.
فإنْ قُلْتَ: فهل تَتعَرَّفْ ُ(غَيْرُ) بإضافتِها إلى المعرفةِ، أم لا تَتعرَّفُ وإِنْ أُضِيفَتْ إلى المعرفةِ؟
فالجوابُ على ذلك أنَّ للنحاةِ في هذا الموضوعِ خِلافاً، وحاصِلُ هذا الخلافِ أنَّ لهم ثلاثةَ آراءٍ:
الرَّأْيُ الأوَّلُ: أنَّها لا تَتعَرَّفُ أصلاً؛ لأنَّها مُتوَغِّلَةٌ في الإبهامِ، والرأْيُ الثاني: أنَّها تَتعَرَّفُ بالإضافةِ إلى المعرفةِ، مُطْلقاً، والرَأْيُ الثالِثُ: التفصيلُ بينَ أنْ تقَعَ بينَ اسميْنِ مُتضادَّيْنِ ولا وَاسِطَةَ بينَهما، فيكونَ أوَّلُ الاسميْنِ مَوْصوفاً بها, وتَكونَ هِي مُضافةً إلى ثانيهما، نحوَ قولِكَ: "الحَرَكَةُ غَيْرُ السُّكُونِ". وأنْ تقَعَ بينَ اسميْنِ غيرِ مُتضادَّيْنِ نحوَ قولِكَ: "الذهَبُ غَيْرُ الحَجَرِ". أو تقَعَ بينَ اسميْنِ متضادَّيْنِ, ولكنَّ ثَمَّةَ وَاسِطَةً بينَهما نحوُ قولِكَ: "الأبيضُ غيرُ الأسْوَدِ". فالأبيضُ والأسودُ مُتضادَّانِ ولكنَّ ثَمَّةَ لَوْناً غَيْرَ الأسودِ وغيرَ الأبيضِ؛ كالأحمرِ والأزرقِ مَثَلاً، فإذا وقَعَتْ بينَ اسميْنِ مُتضادَّيْنِ ولا واسطةَ بينَهما تَعَرَّفَتْ بالإضافةِ إلى المعرفةِ، ولك أنْ تَحْمِلَ آيةَ الفاتحةِ على هذا، وعلى ذلكَ يَكونُ: {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} نَعْتاً للذينَ في قولِه تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. وتكونُ المعرفةُ قد وُصِفَتْ بالمعرفةِ, فإنْ جَرَيْتَ على القولِ بأنَّ (غَيْر) لا تَتَعَرَّفُ أصْلاً, لَزِمَكَ أنْ تجعَلَ {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بَدَلاً من قولِه: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. والنكرةُ تُبْدَلُ من المعرفةِ بدونِ تَنْكيرٍ، وأمَّا الآيةُ الأولى التي تَلاها المُؤلِّفُ– وهي قولُه سبحانَه: {صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}. فإن جَرَيْتَ على القولِ الأولِ؛ فإنَّ {غَيْرَ الَّذِي} يكونُ نَعْتاً كما قالَ المُؤلِّفُ، وإنْ جَرَيْتَ على القولِ الثاني القائلِ بتَعَرُّفِها مُطْلقاً,أو على القولِ الثالثِ, واعتبَرْتَ الذي كانوا يَعْمَلُونَه ضِدَّ ما قبلَه وهو {صَالِحاً}, وأنَهَّ ليسَ ثَمَّةَ نوعٌ ثالثٌ, كانَ {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} بَدَلاً، لا نَعْتاً، فإنْ جَرَيْتَ على القولِ الثالثِ وزَعَمْتَ أنَّ ثَمَّةَ وَاسِطَةً كانَ {غَيْرَ الَّذِي} نَعْتاً.
ومن تقريرِ الكلامِ على الوَجْهِ الذي قُلْنَاهُ تُدْرِكُ أنَّ المُؤلِّفَ جَرَى في كلامِه على أنَّ (غَيْرَ) لا تَتَعَرَّفُ بالإضافةِ مُطْلقاً. أو زَعَمَ أنَّ ثَمَّةَ وَاسِطَةً.
([2]) سورة فاطرٍ، الآية: 37.
([3]) سورة الفاتحةِ، الآية:7.
([4]) حاصلُ ما أشارَ إليهِ المُؤلِّفُ أنَّه يَجِبُ نَصْبُ (غَيْر) في أربعِ مَسَائِلَ، وهي:
المسألةُ الأُولَى: أنْ يكُونَ الكلامُ تَامًّا مُوجَباً، نحوَ: "قَامَ القَوْمُ غَيْرَ زَيْدٍ". فهذا كلامٌ تَامٌّ قَدْ تَقدَّمَ فيهِ ذِكْرُ المُستثنَى منه، وهو مُوجَبٌ؛ لأنَّه ليسَ فيه نَفْيٌ, ولا شِبْهُ نَفْيٍ.
المسألةُ الثانيةُ: أنْ يكُونَ الاستثناءُ مُنقطعاً، ولا يُمكِنُ تسليطُ العاملِ على المُستثنَى نحوَ قولِكَ: "مَا نَفَعَ هَذَا المَالُ غَيْرَ الضَّرَرِ"؛ فإنَّ هذا استثناءٌ مُنقطِعٌ؛ لأنَّ المُستثنَى وهو الضَّرَرُ ليسَ من جنسِ المُستثنَى منه, وهو المالُ، ولا يُمْكِنُ تسليطُ العاملِ, وهو "نفَعَ" على المُستثنَى؛ إذ لا يُقالُ: "نَفَعَ الضَّرَرُ".
وهاتانِ المسألتانِ مِمَّا أجمَعَ عليهما أهلُ الحِجازِ وبَنُو تَمِيمٍ.
المسألةُ الثالثةُ: أنْ يكُونَ الاستثناءُ مُنقطِعاً، ويُمْكِنُ تسليطُ العاملِ على المُستثنَى، نحوَ قولِكَ: "مَا فِي الدَّارِ أحَدٌ غَيْرَ حِمَارٍ". فإنَّ هذا الاستثناءَ منقطِعٌ؛ لأنَّ المُستثنَى ليسَ من جنسِ المُستثنَى منه، ويمكنُ تسليطُ العاملِ على المُستثنَى، ووُجوبُ النصْبِ في هذهِ المسألةِ لُغةُ الحِجازيِّينَ، وبنو تميمٍ يُجِيزُونَ فيها الإتباعَ.
المسألةُ الرابعةُ: أنْ يَتقدَّمَ المُستثنَى على المُستثنَى منه، نحوُ قولِكَ: "مَا فِي الدارِ غَيْرَ زَيْدٍ أحَدٌ" ووجوبُ النصْبِ في هذه المسألةِ عندَ الأكثرِينَ, كما قالَ المُؤلِّفُ.
([5]) حاصلُ ما ذكَرَه المُؤلِّفُ أنَّه يَترَجَّحُ نصْبُ (غَيْر) في مسألتيْنِ:
المسألةُ الأُولَى: أنْ يَتقَدَّمَ المُستثنَى على المُستثنَى منه، نحوُ قولِكَ: "ما في الدارِ غيرَ زَيدٍ أحَدٌ". وتَرَجُّحُ النصبِ في هذهِ المسألةِ هو ما رآهُ الكُوفِيُّونَ والبَغْدادِيُّونَ، وقد رأَى أكثرُ النحاةِ أنَّ النصْبَ واجبٌ، كما قالَ في المسألةِ الرابعةِ من مسائلِ الوجوبِ.
المسألةُ الثانيةُ: أنْ يكُونَ الاستثناءُ مُنقطعاً ويمكنُ تسليطُ العاملِ على المُستثنَى، نحوَ قولِكَ: "مَا فِي الدَّارِ أحدٌ غَيْرَ حِمارٍ". وتَرجُّحُ النصْبِ في هذه المسألةِ هو لُغةُ تَميمٍ، فأمَّا الحِجَازِيُّونَ فيَجِبُ في لُغَتِهم النصِبُ, كما تَقَدَّمَ.
([6]) حاصلُ ما ذكَرَه المُؤلِّفُ أنَّه يَضْعُفُ نَصْبُ (غَيْر) في مسألةٍ واحدةٍ، وهي أنْ يكُونَ الكلامُ تَامًّا غيرَ مُوجَبٍ نحوَ قولِكَ: "ما حَضَرَ القومُ غَيْرُ زَيْدٍ". فهذا كلامٌ تَامٌّ؛لذكرِ المُستثنَى منه، وهو مَنْفِيٌّ، والاستثناءُ مُتَّصِلٌ؛ لأنَّ المُستثنَى من جِنْسِ المُستثنَى منه، فالراجِحُ فيه الإتباعُ، والنصْبُ على الاستثناءِ ضَعِيفٌ.
([7]) أشارَ المُؤلِّفُ في هذا الفصلِ إلى أنَّ للنحاةِ في (سِوَى) ثلاثةَ آرَاءٍ:
الرأْيُ الأولُ– وهو رَأْيُ الخليلِ بنِ أحمدَ وسِيبَوَيْهِ وجَمْهَرَةِ البصْرِيِّينَ – وحاصلُه أنَّ (سِوَى) ظرفُ مَكانٍ، وأنَّها لا تخرُجُ عن الظرفيَّةِ، فإنْ جاءَ من كلامِ العربِ شَيْءٌ استُعْمِلَتْ فيهِ اسماً غَيْرَ ظَرْفٍ فهو مُؤَوَّلٌ أو ضرورةٌ من ضروراتِ الشِّعرِ، قالَ سِيبَوَيْهِ: (ومِمَّا يَنتصِبُ أيضاً: هذا سِوَاءَكَ، وهذا رجُلٌ سِواءَكَ، فهذا بمنزلِةِ مَكانَكَ، إذا جَعَلْتَه بمعنَى بَدَلَكَ، ولا يكونُ اسماً إِلاَّ في الشعرِ، قالَ بعضُ العربِ لَمَّا اضْطُرَّ في الشعرِ، جعَلَه بمنزلةِ غَيْر، وهو رجُلٌ من الأنصارِ:
ولا يَنْطِقُ الفَحْشَاءَ مَن كَانَ مِنْهُمُ إِذَا جَلَسُوا مِنَّا وَلاَ مِن سِوَائِنَا
وقالَ الأعلمُ في شرحِ هذا الشاهدِ: (أَرَادَ غَيْرَنا، فوَضْعُ"سِوَاء" مَوْضِعَ"غَيْر" ضرورةٌ، وكانَ يَنْبَغِي ألاَّ يُدْخِلَ "مِن" عليها؛ لأنَّها لا تُسْتعمَلُ في الكلامِ إِلاَّ ظرفاً، ولكنَّه جعَلَه بمنزلةِ"غَيْر" في دخولِ"مِن" عليها؛ لأنَّ معناها كمعناها). اهـ.
الرأْيُ الثاني – وهو رَأْيُ الرمانيِّ وأبي البَقَاءِ العُكْبَرِيِّ – وحاصِلُه أنَّ (سِوَى) تُستعمَلُ ظرفاً منصوباً على الظرفيَّةِ، وتُستعمَلُ اسْماً غيرَ ظَرْفٍ، إِلاَّ أنَّ استعمالَها ظرفاً أكثرُ من استعمالِها غيرَ ظَرْفٍ. وقد ارتَضَى المُؤلِّفُ هذا الرأْيَ؛ ولذلك تَرَاهُ يَقولُ: (وإِلَى مَذْهَبِهِمَا اذْهَبِ).
الرأْيُ الثالثِ– وهو رأْيُ جمهورِ الكُوفِيِّينَ، وتَبِعَهم ابنُ مالكٍ– وحاصلُه أنَّ (سِوَى) تُستعمَلُ ظرفاً، وتُستعمَلُ اسماً غيرَ ظَرْفٍ، وأنَّ الاستعماليْنِ سَوَاءٌ، ليسَ أحَدُهما أكثرَ من الثاني، وليسَ أحدُهما ضرورةً ولا خَاصًّا بالشعرِ، واستَدَلَّ هؤلاءِ بثلاثةِ أدِلَّةٍ:
الأولُ: أنَّ أهلَ اللغةِ قد أجْمَعوا على أنَّ قولَ القائلِ: "قَاموا سِواكَ". وقولَه: "قَاموا غَيْرَكَ" بمعنًى واحدٍ.
الثاني: أنَّه لم يَقُلْ وَاحِدٌ من أهلِ اللُّغَةِ أنَّ سِوَى عبارةٌ عن مكانٍ أو زمانٍ، حتى تَكُونَ ظرفاً، وإنَّما تَأَوَّلَها البصْرِيُّونَ بمعنَى بَدَلَكَ، ثم جَعَلوا "بَدَلَكَ" بمعنَى "مَكانَكَ", فحَكَموا بمُقْتَضَى هذا التأويلِ عليها بأنَّها ظرفٌ.
الثالِثُ: أنَّ الواقعَ في كلامِ العربِ نَثْراً ونَظْماً في عددٍ عديدٍ من الشواهدِ يخالِفُ ملازمتَها للنصبِ على الظرفيَّةِ، فقدْ جاءَتْ مجرورةً بحرفِ الجرِّ، ومَجْرورةً بالإضافةِ, وقد وقَعَتْ مرفوعةً بالابتداءِ، ومرفوعةًعلى الفاعليَّةِ، وجاءَتْ معمولةً لنواسخِ الابتداءِ، ووقعَتْ في غيرِ ذلك من مواقعِ الإعرابِ.
فمِن وُقوعِها مجرورةً بحرفِ الجرِّ قولُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَا أَنْتُمْ فِي سِوَاكُمْ مِنَ الأُمَمِ إِلاَّ كَالشَّعَرَةِ البَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ)). وقولُه صلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه: ((دَعَوْتُ رَبِّي أَلاَّ يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِى عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهَا)). ومن ذلك قولُ المَرَّارِ العُقَيليِّ:
وَلاَ يَنْطِقُ الفَحْشَاءَ مَن كَانَ مِنْهُمُ = إِذَا جَلَسُوا مِنَّا وَلاَ مِنْ سِوَائِنَا
ومن ذلك قولُ الأعْشَى:
تَجَانَفُ عن جَوِّ اليَمامةِ نَاقَتِي = ومَا قَصَدَتْ مِن أهْلِهَا لسِوَائِكَا
ومِن وُقوعِها مَجْرورةً بالإضافةِ قولُ الشاعرِ:
فَإِنَّنِي وَالَّذِي يَحُجُّ لَهُ الـ = ـنَّاسُ بِجَدْوَى سِوَاكَ لَمْ أَثِقِ
ومن وُقوعِها مرفوعةً بالابتداءِ قولُ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مَسْلَمَةَ – وهو من شُعراءِ الحماسةِ:
وإِذَا تُبَاعُ كَرِيمَةٌ أَوْ تُشْتَرَى = فسِوَاكَ بَائِعُها وأنتَ المُشْتَرِي
ومن وُقوعِها مرفوعةً على الفاعليَّةِ قولُ الفِنْدِ الزِّمَّانِيِّ – وهو من شعراءِ الحماسةِ أيضاً:
ولَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا = نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا
ومن وُقوعِها مَعمولةً لنواسخِ الابتداءِ قولُ الشاعرِ:
لَدَيْكَ كَفِيلٌ بالمُنَى لمُؤَمَّلٍ = وإِنَّ سِوَاكَ مَنْ يُؤَمِّلُهُ يَشْقَى
وقولُ أبي دَهْبَلٍ الجُمَحِيِّ:
أَأَتْرُكُ لَيْلَى لَيْسَ بَيْنِي وبينَها = سِوَى ليلةٍ؟ إِنِّي إذاً لصَبُورُ
وسنذكُرُ لك شاهداً وقَعَتْ فيه مَفْعولاً معَ شَرْحِ الشاهدِ 266.
ويقولُ ابنُ مَالِكٍ في كتابِه (الكافيةِ الشافيةِ) الذي لَخَّصَه في الألفيَّةِ:
سِوَى كغَيْرٍ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرْ = وَعَدُّهُ مِنَ الظُّرُوفِ مُشْتَهِرْ
ومَانِعٌ تَصْرِيفَهُ مَنْ عَدَّهُ = ظَرْفاً وذَا القولُ الدليلُ رَدَّهُ
فإنَّ إسْناداً إِلَيْهَا كَثُرَا = وجَرُّها نَثْراً ونَظْماً شُهِرَا
وقالَ في شرحِ هذهِ الأبياتِ: (سِوَى المشارُ إليهِ اسمٌ يُسْتَثْنَى به، ويُجَرُّ ما يُسْتثنَى بهِ للإضافةِ إليه، ويُعْرَبُ= هو تقديراً بما يُعْرَبُ بهِ"غَيْرُ" لَفْظاً، خِلافاً لأكثرِ البصْرِيِّينَ في ادِّعاءِ لُزومِها النصْبَ على الظرفيَّةِ وعَدَمِ التصَرُّفِ، وإنَّما اختَرْتُ خلافَ ما ذَهَبوا إليهِ؛ لأمريْنِ: أحَدُهما: إجماعُ أهلِ اللغةِ على أنَّ معنَى قولِ القائلِ: قَامُوا سِوَاكَ, وقَامُوا غَيْرَكَ. واحدٌ، وأنَّه لا أحَدٌ منهم يقولُ: إنَّ سِوَى عبارةٌ عن مكانٍ أو زمانٍ، وما لا يدُلُّ على مكانٍ أو زَمانٍ فبمَعْزِلٍ عن الظرفيَّةِ.
والثاني: أنَّ مَن حكَمَ بظرفيَّتِها حكَمَ بلزومِ ذلك، وأنَّها لا تَتصرَّفُ، والواقِعُ في كلامِ العربِ نَثْراً ونَظْماً خِلافُ ذلك؛ فإنَّها قد أُضيفَتْ إليها، وابْتُدِئَ بها، وعَمِلَ فيها نواسِخُ الابتداءِ وغيرُها من العواملِ اللفظيَّةِ). اهـ، المقصودُ منه.
وبعدُ، فإنَّ كَثْرَةَ هذهِ الشواهدِ، وتأثُّرَ (سِوَى) فيها وفي كثيرٍ من أمثالِها بالعواملِ المختلفةِ لا يَبْقَى معَه مَحلٌّ لادِّعاءِ عَدَمِ تَصرُّفِها ولُزومِها للظرفيَّةِ، ومن أجْلِ هذا كانَ ما ذهَبَ إليه الكُوفِيُّونَ وارتضاهُ ابنُ مالكٍ في هذهِ المسألةِ هو القولُ الخليقُ بأنْ نَأْخُذَ به، وإنْ خالَفَ ما ذهَبَ إليه الخليلُ بنُأحمدَ وشَيخُ نحاةِ أهلِ البَصْرةِ سِيبَوَيْهِ، فإِنَّا نَتحدَّثُ عن لغةِ العربِ التي نَطَقَتْ بها ألسنتُهم في مُختلِفِ عصورِهم، فلا تَغْفُلْ عن ذلك، واللهُ يَتولاَّكَ بتأيِيدِه.
([8]) 265-هذا الشاهدُ مِن كلامِ الفِنْدِ الزِّمَّانِيِّ – بكسرِ الزايِ وتَشديدِالميمِ مَفْتوحةً– واسمُه شَهْلُ بنُ شَيْبَانَ, وشَهْلٌ وشَيْبَانُ كِلاهما بالشِّينِ المُعْجمةِ، وهو من شعراءِ الحماسةِ.
اللغةُ: (العُدْوانِ) بضَمِّ العينِ وسكونِ الدالِ– الظُّلْمُ، تقولُ: عَدَا يَعْدُو، واعْتَدَى يَعْتَدِي: إذا جاوزَ الحَدَّ فجارَ وظَلَمَ, (دِنَّاهُمْ) جَازَيْناهم وفَعَلْنا بهم مثلَ ما فعَلُوا بنا، وقالوا: كما تَدِينُ تُدانُ. وهم يُرِيدونَ: كما تَفْعَلُ يُفْعَلُ بك، وكما تَفْعَلُ تُجازَى به.
الإعرابُ: (لَمْ) حرفُ نفيٍ وجزمٍ وقلبٍ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (يَبْقَ) فعلٌ مضارعٌ مَجْزومٌ بلَمْ, وعلامةُ جَزْمِه حَذْفُ الألفِ, والفتحةُ قَبْلَها دَلِيلٌ عليها, (سِوَى) فاعِلُ يَبْقَ مَرْفوعٌ بضمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على الألفِ منَعَ من ظُهورِها التعَذُّرُ، وسِوَى مُضافٌ, و(العُدْوانِ) مضافٌ إليه مَجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ, (دِنَّاهُمْ) دَانَ: فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ على فَتْحٍ مُقَدَّرٍ على آخرِه لا مَحلَّ له من الإعرابِ، ونا: فاعلُه وهو ضميرُ المُتكَلِّمِ ومعَه غيرُه, مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ رفعٍ، وضميرُ الغائِبِينَ العائِدُ على بَنِي ذهلٍ المَذْكورِينَ في بيتٍ سَابِقٍ على بيتِ الشاهدِ مَفعولٌ بهِ لدانَ, مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ نَصْبٍ, (كما) الكافُ حرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وما: حرفٌ مَصْدَرِيٌّ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (دَانُوا) دانَ: فعلٌ ماضٍ، وواوُ الجماعةِ فَاعِلُه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ رفعٍ، و"ما" المصدريَّةُ معَ مَدْخولِها في تأويلِ مَصدرٍ مَجرورٍ مُتعلِّقٍ بمحذوفٍ لمصدرٍ يَقَعُ مفعولاً مُطْلقاً, عاملُه قولُهم: دِنَّاهُم، وتقديرُ الكلامِ: دِنَّاهم دَيْناً مُماثِلاً لدَيْنِهم إِيَّانَا، وجملةُ (دِنَّاهم) لا مَحلَّ لها من الإعرابِ, جَوابُ (لَمَّا) المذكورةِ في بيتٍ قبلَ بيتِ الشاهدِ.
وإليكَ بيتيْنِ من أولِ القطعةِ التي منها بيتُ الشاهدِ, على ما رواه أبو تَمَّامٍ في الحَماسةِ:
صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ = وقُلْنَا القَوْمُ إِخْوَانُ
فَلَمَّا صَرَّحَ الشَّرُّ = وأمْسَى وَهْوَ عُرْيَانُ
الشاهدُ فيه قولُه: (ولَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوانِ) حيثُ أوقَعَ (سِوَى) فاعلاً لقولِه: (يَبْقَ). وهذا عندَ جمهورِ البصْرِيِّينَ ضرورةٌ لا تقَعُ إلاَّ في الشعرِ، وهو عندَ جمهورِ الكُوفِيِّينَ جائِزٌ في سَعَةِ الكلامِ غيرُمُختصٍّ بالشِّعْرِ، ومَذهَبُ الكُوفِيِّينَ في هذهِ المسألةِ أرْجَحُ؛ لورودِها كما قالوا في كثيرٍ من الشواهدِ نَثْرا ونَظْماً، وقد ذَكَرْنا منها جملةً صَالِحةً في البَحْثِ الذي ذَكَرْنا فيهِ أقوالَ النحاةِ فيها، وسنذْكُرُ لك شاهداً منها في شرحِ الشاهدِ 266 الآتي.
([9]) ذكَرَ المُؤلِّفُ في مَرْجِعِ الضميرِ المستتِرِ وجوباً في ليسَ ولا يكونُ قوليْنِ للنحاةِ، ولم يُبَيِّنْ قَائِلُ كُلُّ وَاحِدٍ منهما، وترَكَ قولاً ثَالِثاً، ونحنُ نذكُرُ لك الأقوالَ مَنْسوبةً إلى قائِلِيها، وما يَرِدُ على كلِّ قولٍ منها: فنَقولُ:
القولُ الأولُ: أنَّ هذا الضميرَ عائدٌ على اسمِ فاعلِ الفعلِ العاملِ في المُستثنَى منه، وهذا قولُ سِيبَوَيْهِ، وبيانُ ذلك أنَّكَ حينَ تَقولُ: "جاءَ القومُ ليسَ زَيْداً". يَكونُ تقديرُ الكلامِ: جاءَ القَوْمُ لَيْسَ هُوَ – أي: الجَائِي – زيداً. واعتُرِضَ على هذا القولِ باعتراضاتٍ، أوضَحُها أنَّه قدْ لا يكونُ في الكلامِ السابقِ على المُستثنَى فعلٌ, كما لو قُلْتَ: "القومُ إخوتُكَ ليسَ زَيْداً". فمِن أينَ لنا أنْ نَشْتَقَّ اسمَ الفاعلِ الذي عَوْدُ الضميرِ عليه؟ وأجابَ بعضُ مَن يَنْتَصِرُ لسِيبَوَيْهِ بأنَّا نَتصيَّدُ من معنَى الكلامِ السابقِ فِعْلاً, ونجعَلُ اسمَ فاعلِ هذا الفعلِ المُتصيَّدِ مَرْجِعَ الضميرِ، ففي المثالِ المذكورِ نُقَدِّرُ أنَّ الكلامَ: القَوْمُ يَتَّصِفونَ بأخوتِكَ ليسَ زَيٍداً، ونُقَدِّرُ مَرجِعَ الضميرِ: ليسَ هو, (أي: المُتَّصِفُ بهذهِ الأخوةِ) زَيْداً.
والقولُ الثاني: أنَّ هذا الضميرَ عائدٌ على البعضِ المدلولِ عليه بكُلِّه السابقِ، وهذا رأْيُ جَمهرةِ البصْرِيِّينَ، فتقديرُ"جاءَ القومُ ليسَ زَيْداً": ليسَ هو-"أي: بَعْضُ القومِ- زَيْداً, ومعنَى هذا أنَّكَ نَفَيْتَ أنْ يكُونَ بعضُ القومِ زَيْداً، أي: أنَّ بعضَ القومِ مَن عَدَا زَيْداً، فتكونَ قد أطْلَقْتَ لفظَ البعضِ على الجميعِ إِلاَّ واحداً، وليسَ من المعهودِ إطلاقُ لفظِ البعضِ على الكلِّ إِلاَّ وَاحِداً.
القولُ الثالِثُ: أنَّ الضميرَ يَعودُ إلى مصدرِ الفعلِ السابقِ، بعدَ أنْ تُقَدِّرَ المُستثنَى كانَ مضافاً لمصدرٍ مثلِه، وهذا رَأْيُ الكُوفِيِّينَ، فيكونَ تَقْدِيرُ قولِكَ: "جاءَ القومُ ليسَ زَيْداً": ليسَ المَجِيءُ مَجِيءَ زَيْدٍ، واعتُرِضَ على هذا القولِ باعتراضيْنِ: أوَّلُهما: أنَّه قد لا يكونُ في الكلامِ السابقِ فِعْلٌ، وقد عَرَفْتَ جوابَه في الكلامِ على قولِ سِيبَوَيْهِ، وثانيهما: أنَّ في هذا التقديرِ مُضافاً مَحْذوفاً لم يُلْفَظْ به في كلامٍ قَطُّ.
([10]) سورة النساءِ، الآية:11.
([11]) صَدْرُ هذه الآيةِ الكريمةِ قولُه تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ}. وهذا اللفظُ الكريمُ شَامِلٌ للذكورِ والإناثِ من الأولادِ، أمَّا أوَّلاً؛ فلأنَّ لفظَ الوَلَدِ يَشمَلُ الذكرَ والأنثى لغةً، وأمَّا ثانياً؛ فلأنَّه سبحانَه يَقولُ بعدَ ذلك: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}. فيكونُ قولُه جَلَّ ذِكْرُه: {أَوْلادِكُمْ} معناه الذكورُ والإناثُ، وقولُه سبحانَه بعدَ ذلكَ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} تعودُ النونُ مِن {كُنَّ} على بعضِ مَن تَقدَّمَ ذِكْرُه في صدرِ الآيةِ، وكأنَّه قِيلَ: فإنْ كُنَّ- أي: الإناثُ مِن أولادِكُمْ- نِسَاءً، فهذا وَجْهث تشبيهِ القولِ بأنَّ مَرْجِعَ الضميرِ المُستتِرِ في "ليسَ" و"لا يكونُ" هو البعضُ المفهومُ من الكلِّ السابقِ بهذهِ الآيةِ.
فإنْ قالَ قَائِلٌ: فإِنِّي لا أجِدُ فائدةً في قولِ القائلِ: فإِنْ كُنَّ الإناثُ نِسَاءً؛ لأنَّه لا يَكونُ النِّساءُ إلاَّ إناثاً.
فالجوابُ على هذا بأنَّ الفائدةَ لم تَتِمَّ عندَ قولِه: {نِسَاءً}. وإنَّما تَمَّتْ بما ذُكِرَ بعدَه من الظرفِ, وهو قولُه جَلَّ ذِكْرُه: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}. وإنَّما ذُكِرَ قولُه: {نِسَاءً} تَوْطِئَةً وتمهيداً لذكْرِ هذا الوصفِ، وليسَ في ذلك شيءٌ غريبٌ، فإنَّ التمهيدَ والتوطِئَةَ المُشارَ إليها تَجْرِي كثيراً في بابِ الخَبَرِ وفي بابِ النعتِ وفي بابِ الحالِ.
ومن جريانِ التَّوْطِئَةِ في بابِ الخَبَرِ – سِوَى هذهِ الآيةِ– قولُه تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}. ومِن مَجيئِها في بابِ الحالِ قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. وقولُه جَلَّتْ كَلِمَتُه: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا}. وقولُه سبحانَه: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ}. والنحاةُ يُسَمُّونَ هذهِ الحالَ (الحالَ المُوَطِّئَةَ).
([12]) على أنَّ جملةَ الاستثناءِ حالَيكونُ تَقْدِيرُ الكلامِ: جَاؤُوا مُجاوِزِينَ زَيْداً، وقد اعتَرَضوا على اعتبارِ جملةِ:"لَيْسَ زَيْداً", وجملةِ:"لا يَكُونُ زَيْداً" حَالاً من المُستثنَى منه بأنَّه ليسَ بينَ هاتيْنِ الجملتيْنِ والمُستثنَى منه رَابِطٌ مِمَّا يَرْبِطُ جملةَ الحالِ بصَاحِبِها, وهو الضميرُ، أو الواوُ، أو هما مَعاً؛ لأنَّ الضميرَ المُستتِرَ في كلٍّ مِن "لَيْسَ" و"لا يكونُ" لا يعودُ على المُستثنَى منه، بل مَرْجِعُه إمَّا البعضُ, وإِمَّا اسمُ الفاعلِ, وإمَّا المصدرُ, كما عَلِمْتَ، فكيفَ صَحَّ جَعْلُ هذهِ الجملةِ حَالاً من غيرِ رَابِطٍ؟ كما اعتُرِضَ على هذا القولِ بأنَّ المُستثنَى منه قدْ يَكُونُ نَكِرَةً كما لو قُلْتَ:"لَقِيتُ رِجَالاً لَيْسَ زَيْداً". فكيفَ تكونُ حالاً من النكرةِ من غيرِ مُسَوِّغٍ؟ كما اعتُرِضَ على هذا القولِ بأنَّ"ليسَ" فعلٌ ماضٍ عندَ البصْرِيِّينَ، وهم يَشترِطونَ في الجملةِ الفعليَّةِ التي فعلُها ماضٍ إذا وقعَتْ حالاً, أنْ تكُونَ مُقترِنةً بـ"قدْ" لَفْظاً أو تُقَدَّرُ قبلَها "قدْ"، ولم يَجِدِ العلماءُ مَفَرًّا من أنْ يُسَلِّموا أنَّ هذه الاعتراضاتِ واردةٌ على القولِ بأنَّ الجملةَ حالٌ، ثم يَقولونَ: إنَّ هذهِالجملةَ بخصوصِها مُستثناةٌ من هذه الأحكامِ.
([13]) 266-هذا بيتٌ من الوافرِ، ولم يَتَيَسَّرْ لِيَ الوقوفُ على نسبةِ هذا الشاهدِ لقائلٍ مُعيَّنٍ، وقد أنْشَدوا قبلَ هذا البيتِ قولَه:
تَرَكْنَا فِي الحَضِيضِ بَنَاتِ عُوجٍ = عَوَاكِفَ قَدْ خَضَعْنَ إِلَى النُّسُورِ
ومنه يَتبيَّنُ لك أنَّ قَوَافِيَ الأبياتِ مجرورةٌ.
اللغةُ: "الحَضِيضِ" القَرارُ من الأرضِ عندَ منقطعِ الجَبَلِ، والحضيضُ أيضاً: الأرضُ، وفي الحديثِ أنَّه أُهْدِيَ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ هَديَّةٌ فلم يَجِدْ شيئاً يَضَعَها عليهِ فقالَ: ((ضَعْهُ بِالْحَضِيضِ، فإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ)). يريدُ ضَعْهُ على الأرضِ, "بَنَاتِ عُوجٍ" يُرِيدُ أفراساً كريماتِ الأصولِ غيرَ مُهَجَّناتٍ، وعُوجٍ: جَمْعُ أعْوَجَ، وأعَوْجُ: أصلُه صِفَةٌ من العِوَجِ، وقدْ سُمِّي بها فَرَسٌ لم يكُنْ في خيلِ العربِ فَحَلٌ أشهَرُ منه ولا أكثرُ نَسْلاً، قالَ الأصْمَعِيُّ: كانَ لبَنِي آكلِ المُرَارِ ثم صَارَ لبَنِي هلالِ بنِ عَامِرٍ. وقالَ أبو عُبَيْدَةَ: كانَ لبني كِندةَ فأخذَتْه بنو سُلَيْمٍ في بعضِ أيَّامِهم, فصارَ إلى بني هِلالٍ. والقولانِ متقاربانِ؛ فإنَّ بَنِي آكلِ المُرَارِ من كِنْدةَ، وسُمِّيَ أعْوَجَ؛ لِمَا قالَ ابنُ سِيدَهْ: أعْوَجُ فَرَسٌ سَابِقٌ رُكِبَ صَغِيراً فاعوَجَّتْ قَوائِمُه، والخيلُ الأعوجِيَّةُ منسوبةٌ إليه، ويقالُ: خَيْلٌ أَعْوجِيَّةٌ، وخيلٌ أعْوجِيَّاتٌ، وبناتُ أعْوَجَ."خَضَعْنَ" ذَلِلْنَ وخَشَعْنَ, (النُّسُورِ) جمعُ نَسْرٍ, (أبَحْنَا) يُرِيدُ أهْلَكْنَا واستأصَلْنا (حَيَّهُم) الحَيُّ: القبيلةُ, (أسْراً) هو أنْ يأخُذَ الرجلُ الرجلَ في الحربِ، والرجلُ أَسِيرٌ وجَمْعُه أَسْرَى وأُسَارَى, (الشَّمْطاء)ِ المرأةُ التي خَالَطَ البَياضُ سَوادَ شَعَرِها، والرجُلُ أشْمَطُ, (والطفلِ) هو الصبيُّ الذي لا يَزالُ في حدودِ الرَّضاعِ، ثم هو فَطِيمٌ.
الإعرابُ: (أبَحْنَا) أباحَ: فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ على فتحٍ مُقدَّرٍ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، ونا: فَاعِلُه، وهو ضميرٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ رفعٍ, (حَيَّهُمْ) حَيَّ: مفعولٌ به لأباحَ منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وهو مضافٌ, وضميرُ الغائِبِينَ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ جَرٍّ, (قَتْلاً) تَمْيِيزٌ منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, (وأسْراً) الواوُ حرفُ عطفٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، أسْراً: مَعْطوفٌ على قولِه: قَتْلاً. منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, (عدا) حرفُ جَرٍّ دالٌّ على الاستثناءِ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (الشَّمْطاءِ) مجرورٌ بَعَدَا، وعلامةُ جَرِّه الكسرةُ الظاهرةُ, (والطفلِ) الواوُ حرفُ عطفٍ، الطفلِ: معطوفٌ على الشمطاءِ والمعطوفُ على المجرورِ مجرورٌ وعلامةُ جَرِّه الكسرةُ الظَّاهِرَةُ, (الصَّغِيرِ) صِفَةٌ للطفلِ وصِفَةُ المجرورِ مجرورةٌ, وعلامةُ الجَرِّ الكسرةُ الظاهرةُ.
الشاهدُ فيه قولُه: (عَدَا الشَّمْطَاءِ). حيثُ جَرَّ الاسمَ الواقِعَ بعدَ (عَدَا) على أنَّه حرفُ جَرٍّ.
وشاهدُ وُرُودِ (خَلاَ) حَرْفَ جَرٍّ قولُ الآخرِ: (ولَمْ أقِفْ على اسمِه):
خَلاَ اللهِ لاَ أَرْجُو سِوَاكَ، وإِنَّمَا = أعُدُّ عِيَالِي شُعْبَةً مِن عِيَالِكَا
وفي هذا البيتِ ثلاثةُ أدلَّةٍ في بابِ الاستثناءِ:
الأولُ: الجَرُّ بـ "خَلاَ"، وقدْ نقَلَ قومٌ أنَّ سِيبَوَيْهِ لم يَحْفَظِ الجرَّ بـ "خَلاَ"، وهو نقْلٌ غيرُ صحيحٍ، فقدْ ذكَرَ سِيبَوَيْهِ الجرَّ بـ "خَلاَ" في كتابِه؛ حيثُ يَقولُ (1/377): (وأمَّا حَاشَا فليسَ باسْمٍ، ولكنَّه حرفُ جَرٍّ, يَجُرُّ ما بعدَه كما تَجُرُّ حتى مَا بعدَها، وفيهِ معنَى الاستثناءِ، وبعضُ العَرَبِ يقولُ: ما أتَانِي القَوْمُ خَلاَ عَبْدِ اللهِ."بالجَرِّ" فجَعَلوا خَلاَ بمنزلةِ حَاشَا، فإذا قُلْتَ: ما خَلاَ. فليسَ فيه إِلاَّ النصْبُ؛ لأنَّ ما اسْمٌ، ولا تَكُونُ صِلَتُها إلاَّ الفعلَ هنا، وهي التي في قولِكَ: تَفْعَلُ مَا فَعَلْتَ. ألاَ تَرَى أنَّكَ لو قُلْتَ: أَتَوْنِي مَا حَاشَا زَيْداً. لم يكُنْ كلاماً) اهـ. بحروفِه.
والثاني: مَجِيءُ"سِوَى" مفعولاً به، فيدُلُّ على أنَّ سِوَى تخرُجُ عن الظرفيَّةِ، وهو الشاهدُ الذي نَبَّهْنَاكَ إليهِ سَابِقاً (ص246).
والثالثُ: وُقوعُ الاستثناءِ في أوَّلِ الكلامِ، وتأخُّرُ أركانِ الجملةِ التي يُسْتثنَى من شيءٍ فيها، ألا تَرَى أنَّه قَدَّمَ (خَلا اللهِ) وهو الاستثناءُ– على (لا أَرْجُو سِوَاكَ) وهو أصْلُ الكلامِ الذي يُسْتثنَى منه، وهذا غيرُ تَقديمِ المُستثنَى على المُستثنَى منه وحدَه، وقد ذَكَرْنا لك في صُوَرِ تقديمِ المُستثنَى (ص234) أنَّ هذهِ الصورةَ قد اختَلَفَ الكُوفِيُّونَ والبصْرِيُّونَ في جوازِها، فذهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنَّه يَجوزُ تقديمُ حرفِ الاستثناءِ أولَ الكلامِ نحوَ قولِكَ: "إِلاَّ طَعَامَكَ ما أكَلَ زَيْدٌ". ونحوَ: "إِلاَّ زَيْداً مَا حَضَرَ القومُ", ونحوَ: "إِلاَّ زَيْداً أكْرَمْتُ القومَ", وأنَّهم استَدَلُّوا على ذلكَ بالسماعِ كما في هذا البيتِ الشاهدِ، وبالقياسِ على تقديمِ المُستثنَى على المُستثنَى منه في نحوِ:"مَا لِي إِلاَّ مَذْهَبَ الحَقِّ مَذْهَبُ", ونحوِ: "أكْرَمْتُ إِلاَّ زيداً القومَ", وذهَبَ البصْرِيُّونَ إلى أنَّه لا يجوزُ أنْ يقَعَ الاستثناءُ في أولِ الكلامِ بحيثُ يَتقدَّمُ على المُستثنَى منه وعلى العاملِ فيه جميعاً، واستَدَلُّوا على ذلك بضُروبٍ من القياسِ والتعليلِ، وزَعَموا أنَّ ما تَمسَّكَ به الكُوفِيُّونَ من الشواهدِ مُؤَوَّلٌ أو شاذٌّ يُحْفَظُ ولا يُقاسُ عليه، ثم ارجِعْ إلى هذا البحثِ فيما سلَفَ أولَ هذا البابِ (ص234 وما بعدَها).
([14]) حاصِلُ هذا الكلامِ أنَّ النحاةَ اتَّفَقوا على أنَّ مَحلَّ"عدَا" ومجرورِها نصبٌ, ومَحَلَّ "خَلاَ" ومَجْرورِها نصبٌ أيضاً، واخْتَلَفوا في عاملِ النصبِ فيهما، فقالَ قومٌ: العاملُ في مَحَلِّهما النصْبُ, هو الجملةُ التي تَسْبِقُهما، حقيقةً أو تقديراً، سواءٌ أكانَتِ الجُملةُ فِعليَّةً نحوَ قولِكَ: "حضَرَ القَوْمُ عَدَا زَيْدٍ، وخلا زيدٍ". أم كانتِ الجملةُ اسميَّةً نحوَ قولِكَ: "القَوْمُ إخوتُكَ عَدَا زَيْدٍ، وخلا زيدٍ".
فإنْ قُلْتَ: فكيفَ تَكونُ الجملةُ عَامِلَةً؟.
فالجوابُ عن ذلك أنْ نَقولَ لكَ: لقد سَمِعْتَ في أولِ بابِ الاستثناءِ أنَّ من النحاةِ مَن قالَ: إنَّ ناصِبَ المُستثنَى بعدَ إِلاَّ هو تمامُ الكلامِ، وستسمَعُ مثلَ ذلك في بابِ التمييزِ عندَ القولِ على ناصبِ تمييزِ النسبةِ: إنَّه انتصَبَ عن تمامِ الكلامِ، فمعنَى قولِهم: (مَنْصوبٌ عَن تَمامِ الكلامِ) أنَّ الناصِبَ له هو الجملةُ المُتقدِّمَةُ عليه.
والقولُ الثاني: أنَّ الناصِبَ له هو الفِعْلُ المُتقَدِّمُ في نحوِ قولِكَ: "حضَرَ القومُ عَدَا زَيْدٍ، وخَلاَ زَيْدٍ" فيَكونُ الجارُّ والمجرورُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بذلك الفعلِ المُتقدِّمِ، أي: أنَّهما في موضِعِ المفعولِ به؛ كما تَقولُ ذلك في قولِِكَ: "مَرَرْتُ بزَيْدٍ" لَمَّا كانَ الفعلُ لا يَتعدَّى إلى المفعولِ بهِ بنفسِه عَدَّيْتَه بحرفِ الجَرِّ.
وقد اختارَ ابنُ هشامٍ في كتابِه (مُغْنِي اللبيبِ) القولَ الأولَ من هذيْنِ القوليْنِ، وعَلَّلَ اختيارَه بأمريْنِ: أَوَّلُهما أنَّه مُطَّرِدٌ، بخِلافِ القولِ الثاني؛ فإنَّه ليسَ مُطَّرِداً؛ لجوازِ ألاَّ يَكونَ في الكلامِ السابِقِ فعلٌ أَصْلاً، نحوَ قولِكَ: "هؤلاءِ القومُ كِرَامٌ عَدَا زَيْدٍ، وخَلا زَيْدٍ".
وثانيهما: أنَّ حَرْفَ الجرِّ الذي يُوصِلُ معنَى الفعلِ إلى الاسمِ هو الذي يَنْتصِبُ بالفعلِ السابقِ عليه، أمَّا حَرْفُ الجرِّ الذي لا يُوصِلُ معنى الفعلِ السابقِ عن الاسمِ، فلا يَنبغِي أنْ يكُونَ الجارُّ والمجرورُ مَنْصوباً بذلك الفعلِ.
وقدْ بَيَّنَّا لكَ فيما سَبَقَ ضَعْفَ هذيْنِ الوجهيْنِ من وجْهِ الاعتراضِ، فلا يَنْبَغِي أنْ تَأْخُذَ بما يَسْتتبِعانِه.
([15]) أمَّا أنَّهما فعلانِ فلتَقَدُّمِ "ما" المَصْدريَّةِ عليهما، وهي لا تُوصَلُ إلاَّ بالأفعالِ، وأمَّا أنَّهما جامدانِ؛ فلأنَّهما موضوعانِ في موضعِ الحرفِ الذي هو إِلاَّ، والفعلُ إذا وقَعَ موقِعَ الحرفِ يَصِيرُ جَامِداً, كما أنَّ الاسمَ إذا وقَعَ موقِعَ الحرفِ يُبْنَى، وأمَّا أنَّهما يَنْصِبانِ ما بعدَهما على أنَّه مفعولٌ بهِ, فذلك ظاهرٌ بالنظرِ إلى عَدَا؛ لأنه مُتَعَدٍّ قبلَ الاستثناءِ؛ إذْ تقولُ: (عَدَا فلانٌ طَوْرَه). وأما بالنظَرِ إلى خَلاَ؛ فلأنَّه عندَ الاستثناءِ ضَمَّنُوه معنَى جَاوَزَ فصَارَ مُتعَدِّياً بعدَ أنْ كانَ قَاصِراً، فاعْرِفْ ذلك.
([16]) 267-هذا الشاهدُ من كلامِ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ العامريِّ، وهذا الذي ذَكَرَه المُؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*وكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ*
اللغةُ: (مَا خَلاَ اللهَ) أي: ما عَداهُ ومَا جَاوَزَه سبحانَه (بَاطِلٌ) لا أصْلَ له ولا حقيقةَ,"نعيمٍ" ما يَتَلَذَّذُ به الإنسانُ ويَجِدُ فيه نِعْمةً ورَاحةَ بالٍ، وسُمِّي بذلك؛ لأنَّ الأصلَ في هذهِ المادَّةِ النُّعومةُ، كما سَمَّوا شَظَفَ العيشِ وصُعوبتَه من ضِدِّ هذهِ المَادَّةِ فقالوا: هذا عَيْشٌ خَشِنٌ، وفلانٌ يَعِيشُ عِيشَةً خَشِنَةً. وما أشْبَه ذلكَ,"زَائِلُ" أرادَ أنَّه فانٍ لا خُلودَ له, ولا دَوامَ.
المعنَى: يقولُ: إنَّا إذَا اسْتَثْنَيْنَا اللهَ تعالى لم نَجِدْ لشيءٍ في هذهِ الحياةِ الدُّنْيَا حقيقةً ثابتةً، ولم نَجِدْ نَعِيماً مِمَّا يَتَنَعَّمُ به الناسُ في دُنياهم بَاقِياً لأصحابِه، وليسَ يُرِيدُ أنَّ الحياةَ وما فيها أوهامٌ وخَيالاتٌ، ولكنَّه يُرِيدُ أنَّ حَقائِقَها ليسَتْ مُستقرِّةً ولا دَائمَةً، وإنَّما هي مُتغيِّرَةٌ وصائِرَةٌ إلى الفناءِ، وقدْ قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن هذا البيتِ: "هو أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَها شَاعِرٌ".
الإعرابُ: (أَلاَ) حَرْفٌ يُسْتَفْتَحُ به الكلامُ ويُسْتَرْعَى بهِ انتباهُ المخاطَبِ، مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ,"كلُّ" مبتدأٌ مرفوعٌ بالابتداءِ, وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، وكلُّ مُضافٌ, و"شيءٍ" مضافٌ إليه مجرورٌ وعلامةُ جرِّه الكسرةُ الظاهرةُ,"ما" حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ, "خَلاَ" فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ على فتحٍ مُقدَّرٍ على الألفِ مَنَعَ من ظُهورِه التعَذُّرُ، وفاعلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه وُجوباً تقديرُه: هو, يعودُ إلى البعضِ المفهومِ من الكلِّ السابقِ,"اللهَ" منصوبٌ على التعظيمِ وعلامةُ نَصْبِه الفتحةُ الظاهرةُ,"بَاطِلُ" خَبَرُ المبتدأِ الذي هو "كُلُّ" مرفوعٌ بالمبتدأِ, وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ,"وكُلُّ" مبتدأٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وهو مضافٌ, و"نَعِيمٍ" مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ,"لا" نافيةٌ للجنسِ حَرْفٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ,"مَحَالَةَ" اسمُ لا النافيةِ للجِنْسِ، مَبنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، وخَبَرُ لا مَحْذوفٌ، وتقديرُ الكلامِ: لا مَحالَةَ موجودةٌ، والجملةُ مِن لا النافيةِ للجنسِ واسمِها وخَبَرِها لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ, مُعترِضَةٌ بينَ المبتدأِ وخَبَرِه, "زَائِلُ" هو خَبَرُ المبتدأِ الذي هو قولُه: "كُلُّ نَعِيمٍ". مرفوعٌ, وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ.
الشاهدُ فيه قولُه: (مَا خَلاَ اللهَ) حيثُ وَرَدَ فيهِ استعمالُ (خَلاَ) مسبوقةً بما المصدريَّةِ، وانتَصَبَ الاسمُ الكريمُ بعدَها، وأنتَ إنْ قَدَّرْتَ (ما) مَصْدَرِيَّةً لم يَكُنْ لك بُدٌّ من جَعْلِ (خَلاَ) فِعْلاً فتَنْصِبُ به ما بعدَه؛ لأنَّ حَرْفَ المصدرِ لا يدخُلُ على الحروفِ، فإنْ ذَهَبْتَ إلى اعتبارِ (ما) زَائِدَةً, جَازَ لك اعتبارُ (خَلاَ) حَرْفاً جَارًّا، من قِبَلِ أنَّ (ما) الزائدةَ لا تَخْتَصُّ بنوعٍ من الكلماتِ دونَ آخرَ، وسيذكُرُ المُؤلِّفُ هذا، فتَفَطَّنْ لذلك.
([17]) 268-لم أقِفْ لهذا الشاهدِ على نسبةٍ إلى قائلٍ مُعيَّنٍ، وهذا الذي ذكَرَه المُؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*بكُلِّ الَّذِي يَهْوَى نَدِيمِيَ مُولَعُ*
اللغةُ: (تُمَلُّ) مضارعٌ مَبنِيٌّ للمجهولِ من المَلَلِ والسَّأَمِ، تقولُ: مَلِلْتُ الشيءَ ومَلِلْتُ منه، أمَلُّه وأمَلُّ منه – على مثالِ فَرِحْتُ أفْرَحُ – مَلَلاً، ومَلَّةً، ومَلالَةً، تُرِيدُ أنَّكَ مَجَجْتَهُ وسَئِمْتَه وأحْبَبْتَ تركَه والانصرافَ عنه، وتقولُ: هذا رجُلٌ مَل – بفَتْحٍ فسُكونٍ– وذو مَلَّةٍ، وملولٌ، وتقولُ: أمَلَّ فُلانٌ فُلاناً، وأمَلَّ عليه، تُرِيدُ أنَّه أسْأَمَه, (النَّدَامَى) (جَمْعُ نَدْمَانَ، مثلُ سَكْرَانَ وسُكَارَى، والنَّدْمانُ– ومثلُه النَّدِيمُ– الذي يُجالِسُكَ على الشرابِ,"مُولَعُ" هو الوصْفُ من قولِكَ: "أُولِعَ فلانٌ بكذا". إذا أُغْرِيَ به وأحَبَّه، وهو من الأفعالِ الملازمةِ للبناءِ لِمَا لم يُسَمَّ فاعلُه، والوَصْفُ منه على زِنَةِ اسمِ المفعولِ؛ كالمجنونِ من جَنَّ، والمَعْنِيِّ مِن عُنِيَ.
الإعرابُ: (تُمَلُّ) فعلٌ مضارعٌ مَبنِيٌّ للمجهولِ مرفوعٌ؛ لتجَرُّدِه من الناصبِ والجازمِ وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ, (النَّدَامَى) نائبُ فَاعِلِ تُمَلُّ، مرفوعٌ بضمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على الألفِ, منَعَ من ظهورِها التعَذُّرُ, (ما) حرفٌ مَصْدَرِيٌّ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (عَدَانِي) عدا: فعلٌ ماضٍ دالٌّ على الاستثناءِ، مَبنِيٌّ على فَتْحٍ مُقدَّرٍ على الألفِ, منَعَ من ظهورِه التعَذُّرُ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، والنونُ للوقايةِ وياءُ المُتكلِّمِ مفعولٌ بهِ مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، وفاعلُ عَدَا ضميرٌ مُستتِرٌ فيه وُجوباً تقديرُه: هو, يَعودُ على البعضِ المفهومِ من الكلِّ السابقِ، وما المصدريَّةُ معَ ما دخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مَصْدَرٍ مجرورٍ بإضافةِ اسمِ زمانٍ محذوفٍ إليه، وتقديرُ الكلامِ: تُمَلُّ النَّدَامَى وَقْتَ مُجاوَزَتِهم إيَّايَ, (فَإِنَّنِي) الفاءُ حرفٌ دالٌّ على التعليلِ، مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، إنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصبٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، والنونُ للوِقَايَةِ، وياءُ المُتكلِّمِ اسمُ إنَّ مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ نَصْبٍ, (بكُلِّ) الباءُ حرفُ جرٍّ مَبنِيٌّ على الكسرِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، كلِّ: مَجْرورٌ بالباءِ وعلامةُ جَرِّه الكسرةُ الظاهرةُ، والجارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بقولِه: مُولَعُ. الآتي في آخرِ البيتِ، و"كلِّ" مضافٌ, و "الذي" اسمٌ موصولٌ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ جرٍّ, "يَهْوَى" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ؛ لتجَرُّدِه من الناصبِ والجازمِ وعلامةُ رفعِه ضمةٌ مقدَّرةٌ على الألفِ, منَعَ من ظهورِها التعَذُّرُ, "نَدِيمِيَ" نَدِيمُ: فَاعِلُ يَهْوَى، مرفوعٌ بضمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على ما قبلَ ياءِ المُتكلِّمِ, منَعَ من ظُهورِها اشتغالُ المَحَلِّ بحركةِ المناسبةِ، و"نَدِيمُ" مُضافٌ, وياءُ المُتكلِّمِ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ جَرٍّ، وجملةُ الفعلِ وفاعلِه لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ صِلَةُ الموصولِ، والعائِدُ من جملةِ الصلةِ إلى الموصولِ ضَمِيرُ غَيْبةٍ مَنْصوبُ المَحلِّ بيَهْوَى، وهو محذوفٌ، وتقديرُ الكلامِ: بكلِّ الذي يَهْوَاهُ نَدِيمِيَ,"مُولَعُ" خبرُ إنَّ المُؤكِّدَةِ، وهو مرفوعٌ بإنَّ, وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ.
الشاهدُ فيه قولُه: (مَا عَدَانِي) حيثُ استعمَلَ (عَدَا) مسبوقةً بما المصدريَّةِ، فوجَبَ أنْ تَتمحَّضَ للفعليَّةِ؛ لِمَا ذَكَرْناه في شرحِ الشاهدِ السابقِ، ومِمَّا يُؤَكِّدُ لك أنَّ الشاعرَ نفسَه عامَلَها معاملةَ الأفعالِ، ولم يُعامِلْها معاملةَ الحروفِ، أنَّه ألْحَقَ بها نونَ الوقايةِ حينَ أرادَ أنْ يَصِلَ بها ياءَ المتكلِّمِ، وقدْ عَلِمْتَ أنَّ نونَ الوقايةِ إنَّما تَلْزَمُ معَ الأفعالِ دونَ الحروفِ.
([18]) في موضِعِ (ما عَدَا زَيْداً) و(ما خَلاَ زَيْداً) من الإعرابِ ثلاثةُ وُجوهٍ ذكَرَ المُؤلِّفُ اثنيْنِ منها:
أمَّا الأولُ: فحاصلُه أنَّ (ما) المصدريَّةَ ومدخولَها في تأويلِ مَصْدَرٍ منصوبٍ على الظرفيَّةِ الزمانيَّةِ، وأصلُه مضافٌ إليهِ للفظِ (وَقْتٍ) فحُذِفَ المضافُ وأُقِيمَ المضافُ إليه مُقامَه، فتقديرُ (قَامَ القَوْمُ مَا عَدَا زَيْداً): قامَ القومُ وَقْتَ مُجاوَزَتِهم زَيْداً.
والثاني: أنَّ (ما) وما دخلَتْ عليه في تأويلِ مَصْدرٍ يُرادُ به اسمُ الفاعلِ، وهو حالٌ من المُستثنَى منه، فتقديرُ قَوْلِ: (قامَ القومُ ما عدا زَيْداً): قامَ القومُ مُجاوَزَتِهم زيداً، أي: مُجاوِزِينَ زَيْداً، كما قَدَّرْتَ المصدرَ الصريحَ حينَ وقَعَ حَالاً باسمِ الفاعلِ نحوَ قولِكَ: "جاءَ زَيْدٌ رَكْضاً". أي: رَاكِضاً، وهذا تقديرُ أبي سعيدٍ السِّيرافِيِّ.
والثالِثُ: أنَّ (ما عَدَا زَيْداً) منصوبٌ على الاستثناءِ، مثلَ انتصابِ"غَيْرٍ" في قولِكَ: "قَامَ القَوْمُ غَيْرَ زَيْدٍ" وهذا تقديرُ ابنِ خَروفٍ.
قالَ المُحَقِّقونَ: والذي يَنْبَغِي اختيارُه هو الرأْيُ الأولُ؛ وذلك لأنَّ (ما عَدَا) في تأويلِ المصدرِ عندَ الجميعِ، والمصدرُ يَنوبُ مَنابَ ظرفِ الزمانِ بكثرةٍ؛ كقولِكَ: "أَزُورُكَ طُلُوعَ الشمسِ", و"أَجِيئُكَ قُدُومَ الحَاجِّ". فأما مَجِيءُ الحالِ مَصْدراً فيحتاجُ ألبتَّةَ إلى التأويلِ، على أنَّ بعضَ النحاةِ ذكَرَ أنَّ مجيءَ المصدرِ حالاً إنَّما يكونُ في المصدرِ الصريحِ، فأمَّا المصدرُ المُؤوَّلُ فليسَ له ذلك الحُكْمُ. وأمَّا النصْبُ على الاستثناءِ ففيه من التكلُّفِ ما لا يُجْرِئُ على ارتكابِه.
([19]) هذا ما ذهَبَ إليهِ الجَرْمِيُّ والربعيُّ والكِسائيُّ والفارسيُّ وابنُ جِنِّي، ولم يَرْتَضِ ذلك ابنُ هِشامٍ في (مُغْنِي اللبيبِ), وعَلَّلَ ذلك بأنَّ القولَ بزيادةِ (ما) إمَّا أنْ يكُونَوا قدْ قَالوه بالقياسِ، وإمَّا أنْ يكُونَوا قدْ قالوه مُستندِينَ إلى السماعِ، فإنْ كانوا قدْ قالوه قياساً, فذلك القياسُ خَطَأٌ؛ لأنَّ (ما) تُزادُ معَ حرفِ الجرِّ بوُقوعِها بعدَالحرفِ كما زِيدَتْ معَ"عن" في قولِه تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ} وكما زِيدَتْ معَ الباءِ في قولِه سبحانَه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ}. فأمَّا زيادةُ (ما) قبلَ الحرفِ مثلَ ما هنا فلَيْسَ له نَظِيرٌ، وإنْ كانوا قد قالوه سماعاً فهو من الشُّذوذِ بحيثُ لا يُقاسُ عليه.
([20]) الذينَ رَوَوُا النصْبَ بعدَ (حاشا) هم أبو زيدٍ والفرَّاءُ والأخفشُ والشَّيبانيُّ وابنُ خروفٍ، وأجازَه الجَرْميُّ والمازنيُّ والمُبرِّدُ والزجَّاجُ وابنُ مالكٍ.
([21]) قدْ دخَلَتْ عليها (ما) في قولِ الأخْطَلِ التَّغْلِبِيِّ:
رَأَيْتُ النَّاسَ مَا حَاشَا قُرَيْشاً = فَإِنَّا نَحْنُ أفْضَلُهُمْ فَعَالاً