وإذا عَرَفْتَ أنَّ التجويدَ ما ذكرَه أربابُ التوفيقِ والتأييدِ (فَرَقِّقَنْ) بالنونِ المُؤَكِّدَةِ المُخَفَّفَةِ (مُسْتَفِلًا مِن أحرفِ) بالنَّقْلِ والحذفِ، ويجوزُ مِن غيرِ نقلٍ أيضًا، و (مِن) بيانيَّةٌ للذاتِ الموصوفةِ بنعتِ الاستفالةِ، وهي ما عدا الحروفَ السبعةَ المُسْتَعْلِيَةَ المُجْتَمِعَةَ فى "خُصَّ ضَغْطٍ قِظْ"، فلا يجوزُ تفخيمُ شيءٍ مِن الحروفِ المُسْتَفِلَةِ إلا اللامِ مِن اسمِ اللهِ الواقعةِ بعدَ الفتحةِ أو الضمَّةِ، وإلا الراءِ على تفصيلٍ سيأتي بيانُه في أثناءِ هذه المقدِّمَةِ، وأمَّا الحروفُ المُسْتَعْلِيَةُ فَمُفَخَّمَةٌ كُلُّها من غيرِ استثناءِ شيءٍ منها.
(تفخيمُ الألفِ وترقيقُها) (وَحَاذِرَنْ) بالنونِ المُخَفَّفَةِ المُؤَكِّدَةِ، وفي بعضِ النسخِ المُصَحِّحَةِ، وهو الملائمُ للمُطَابَقَةِ بينَ المُتَعَاطِفَيْنِ على أنَّهُ لا يحتاجُ إلى تقديرِ عاملٍ معَ إفادةِ المبالغةِ مِن صيغةِ الأمرِ على بِنَاءِ المُفَاعَلَةِ التي هي موضوعةٌ للمبالغةِ، فالمعنى احْذَرْ احْذَرْ البتَّةَ (تَفْخِيمَ لفظِ الألفِ) وفي نسخةٍ بالتنوينِ في (حَاذِرًا) فالتقديرُ كنْ حَاذِرًا مِن تَفْخِيمِها، خصوصًا الألفَ مِن بينِ الحروفِ المُسْتَفِلَةِ، إلا أنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بما إذا كانتْ بعدَ حرفٍ مُسْتَعْلٍ؛ لأنَّها إذا كانتْ بعدَ حرفٍ مُسْتَعْلٍ فإنَّها تكونُ تابعةً له في التفخيمِ، بِناءً على القاعدةِ المُقَرَّرَةِ مِن أنَّ الألفَ لازمةٌ للحرفِ الذي قبلَها، بدليلِ وجودِها بوجودِه وعدمِها بعدمِه، ولذلكَ لا يكونُ قبلَ الألفِ إلا مفتوحٌ فحيثُ كانت الألفُ معَ حرفٍ مُسْتَعْلٍ أو شِبْهِهِ ممَّا يَسْتَحِقُّ التفخيمَ اسْتَعْلَت الألفُ للزومِها له. فَفُخِّمَتْ، وحيثُ كانتْ معَ حرفٍ مُسْتَفِلٍ اسْتَفْلَتْ الألفُ للزومِها له فَرُقِّقَتْ، والمرادُ بشبهِ الحرفِ المُسْتَعْلِي الراءُ المفتوحةُ؛ لأنَّها تخرجُ مِن طَرَفِ اللسانِ وما يليه مِن الحنكِ الأعلى، والحنكُ الأعلى مَحَلُّ حروفِ الاستعلاءِ، وبهذا المبنى تحقَّقَ الشبهُ بينَ الراءِ وحروفِ الاستعلاءِ في المعنى، كذا قرَّرَه ابنُ المصنِّفِ وغيرُه، ثمَّ قالَ: ولا اعتبارَ بقولِ مَن قالَ: ينبغي المحافظةُ على ترقيقِ الألفِ، خصوصًا إذا جاءتْ بعدَ حروفِ الاستعلاءِ؛ فإنَّ الذي ذَكَرْنَاهُ هو الحقُّ وقولُ الناظمِ رحمَهُ اللهُ محمولٌ على ما ذكَرْنَاه، وبه نأخذُ، يعني: ولو كانَ لفظُه مطلقًا لكنَّهُ ينبغي أنْ يُعْتَبَرَ مُقَيَّدًا جمعًا بينَ قولِه وقولِ غيرِه مِن المحقِّقِين، وقد قالَ المصنِّفُ في (نشرِه): إنَّ الألفَ إذا وقعتْ بعدَ حرفِ التفخيمِ تُفَخَّمُ إتْبَاعًا لما قبلَها، نحوَ (طالَ، وقالَ، والعصا،) لأنَّ الألفَ لا حيِّزَ لها حتى تُوصَفَ بالترقيقِ والتفخيمِ فتكونَ تابعةً لما اتَّصَلَتْ به. ا هـ.
وبه يُعْلَمُ ضعفُ ما مشَى عليه المصنِّفُ في (التمهيدِ) , وجَزَمَ به شيخُه ابنُ الجنديِّ حيثُ قالَ: إنَّ تفخيمَها بعدَ حروفِ الاستعلاءِ خطأٌ. ا هـ.
فلا ينبغي حملُ كَلاَمِه هذا على إطلاقِه كما جوَّزَه بعضُ الشرَّاحِ؛ فإنَّ المصنِّفَ صنَّفَ (التمهيدَ) أولًا في سنِّ البلوغِ، والعُمْدَةُ على تصنيفِه (النشرَ) فإنَّه وقعَ آخِرًا، وهو الحقُّ كما جَزَمَ به القَسْطَلاَنِيُّ، وقالَ الشارحُ الروميُّ: لمَّا اشْتُهِرَ عندَ بعضِ الأعجامِ لاسيَّما الأروامُ تفخيمُ الألفِ حيثُ يُصيِّرُونَها كالواوِ أُمِرَ بالتَّحَرُّزِ عن مثلِ هذا التفخيمِ لا عن تفخيمِه مُطْلَقًا؛ لما سبقَ مِن أنَّ الألفَ بعدَ الحرفِ المُسْتَعْلِي تُفَخَّمُ اتفاقًا، ثمَّ قالَ: وإنَّما حَمَلْنَا كَلاَمَه على ذلكَ بِناءً على أنَّ تقديرَ كَلاَمِه أنْ يقالَ: يجبُ ترقيقُ الألفِ إذا كانَ بعدَ حرفٍ مُسْتَفلٍ، كما فعلَه ولدُ المصنِّفِ في شرحِه، ممَّا لاتُساعِدُه العبارةُ، فَحَمْلُ كَلاَمِه على هذا التقييدِ لا يخلُو عن التعقيدِ،قلتُ: وكذا حَمْلُ التفخيمِ الذي ضدُّه الترقيقُ المَعْروفَيْنِ عندَ أهلِ التحقيقِ على التفخيمِ العرفيِّ اللُّغويِّ عندَ العامَّةِ بعيدٌ عنِ اصطلاحِ الخاصَّةِ، وأَمَّا الإطلاقُ والتقييدُ فقدْ وقعَ في كَلاَمِ الفُصحاءِ والبُلغاءِ ممَّا لا يُنْكِرُه أحدٌ مِن العقلاءِ. ثمَّ قالَ: وأمَّا السكوتُ عن التحرُّزِ عن تفخيمِه إذا كانَ بعدَ حرفٍ مستعلٍ فذلكَ أمرٌ ظاهرٌ لا يحتاجُ إلى التصريحِ بذكرِه، إذ يَعْرِفُ كُلُّ مَن له أدنى درايةٍ أنَّ الحرفَ إذا فُخِّمَ تُفَخَّمُ حركتُه وإذا رُقِّقَتْ رُقِّقَتْ، فكذا ما يكونُ تابعًا لحركتِها، أعنى الألفَ، وهذا مِن الظهورِ بحيثُ لا يساعدُ اللسانَ خلافُه، فلا حاجةَ إلى التعرُّضِ لأمثالِه. قلتُ: أمَّا قولُه إنَّهُ أمرٌ ظاهرٌ. فليسَ يقولُ به إلا مُكَابِرٌ، وعلى تقديرِ ظهورِه عندَ الخاصَّةِ لابدَّ مِن تقريرِه وتحريرِه في مقامِ تعليمِ العامَّةِ، فالقولُ قولُ ابنِ المصنِّفِ عندَ المُنْصِفِ، دونَ المُتَعَسِّفِ، وقد أبعدَ الشارحُ حيثُ قالَ: الظاهرُ أنَّ مرادَه بالألفِ الهمزةُ مطلقًا مُصَدَّرَةً كانتْ أو مُتَوَسِّطَةً أو متأخِّرةً؛ إذ الألفُ القائمةُ لازمةٌ لفتحةِ ما قبلَها فَتَلْزَمُ صِفَتَه أيضًا مِن ترقيقٍ وتفخيمٍ لها ا.هـ.
ووجهُ البعدُ لا يَخْفَى إذ الهمزةُ حيِّزُها مُحَقَّقٌ، وهي حَلْقيَّةٌ والألفُ جوفيَّةٌ هوائيَّةٌ، فلا يصحُّ إطلاقُ أحدِهما على الآخرِ، إلا على طريقةٍ مجازيَّةٍ دونَ إرادةٍ حقيقيَّةٍ، معَ أنَّهُ لا فائدةَ حينئذٍٍ لذكرِها معَ دخولِها في عمومِ ما قبلَها، وإنَّما حَذَّرَ من تفخيمِ الألفِ لانفتاحِ الفمِ عندَ التلفُّظِ بها، وذلكَ يؤدِّي إلى تَسْمِينِ الحرفِ وتفخيمِه وقالَ الشارحُ المصريُّ: وما عَلَّلَ به شيخُ الإسلامِ يعني زكريَّا تبعًا لابنِ المصنِّفِ بقولِه: وذلكَ لأنَّها لازمةٌ إلخ فيه بحثٌ، فإنَّنا لا نُسَلِّمُ أنَّ الألفَ لازمةٌ بِفَتْحَةِ ما قبلَها، بلْ هي لازمةٌ للألفِ؛ لأنَّها تُوجدُ لوجودِ الألفِ، وتُعْدَمُ الألفُ لِعَدَمِها، ولا عكسَ، بدليلِ قولِهم: ضَرَبَ ضَرْبًا، فظهرَ أنَّ فتحةَ ما قبلَ الألفِ في (ضربًا) وهي الباءُ لا تُعْدَمُ بعدمِ الألفِ، ولا توجدُ الألفُ بوجودِها، وإلا لم يقولُوا: ضَرَبَ مِن غيرِ ألفٍ. ا هـ.
ولا يخفى أنَّ قولَه هذا مبنيٌّ على تحريفِ المَبْنَى وتصحيفِ المعنى؛ إذ المرادُ بقولِهم: إنَّ الألفَ لازمةٌ للحرفِ الذي قبلَها، بدليلِ وجودِها بوجودِهِ أو عدمِها بعدمِه؛ لأنَّ الألفَ بذاتِها لا يُمْكِنُ تحقُّقُ وجودِها إلا بوجودِ حرفٍ قبلَها؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ ألفٌ مِن غيرِ تَقَدُّمِ حرفٍ عليها، غايتُه أنَّ حركةَ ذلكَ الحرفِ الذي قبلَها لا يكونُ إلا فتحةً دونَ أخويها فتَسْقُطُ علَّتُه التي ذكرَها مِن أصلِها، وأمَّا قولُ الجُعْبُرِيِّ: إيَّاكَ وتفخيمَ الألفِ المصاحبةِ للاَّمِ، كالصلاةِ والطلاقِ، وطالَ، فإنَّهُ لحنٌ. فمحمولٌ على قراءةِ غيرِ وَرْشٍ؛ إذ اللامُ مرقَّقَةٌ في هذه الأمثلةِ عندَ الجمهورِ، ولا وجهَ لتفخيمِ الألفِ حينئذٍ بعدَ ترقيقِ اللامِ التي هي مِن حروفِ الاستفالةِ، فصحَّت القاعدةُ السابقةُ أنَّ الألفَ تَتْبَعُ ما قبلَها في تفخيمِها وترقيقِها، وأمَّا إدخالُ (طالَ) فَوَهْمٌ منه؛ لأنَّه ليسَ مِن الأمثلةِ التي فيها الألفُ مصاحبةٌ للاَّمِ، بل هي مصاحبةٌ للطَّاءِ، وهي من حروفِ الاستعلاءِ فَتُفَخَّمُ تبعًا للطاءِ البتَّةَ، وإنَّما الكَلاَمُ في لامِه على قاعدةِ وَرْشٍ مِن أنَّ الطاءَ إذا تقدَّمَت على اللامِ واتَّصَلت بها سواءٌ فُتِحَتْ أو سُكِّنَتْ تُفَخَّمُ، وأمَّا إذا فُصِلَ بينهُمَا بالألفِ كطالَ ويُصَالِحا فهلْ تُفَخَّمُ الألفُ أو تُرَقَّقُ؟ فوجهانِ، والمُفَخَّمُ مُفَضَّلٌ عندَ الأعيانِ، وأمَّا قولُ المصريِّ: وكذلكَ لايجوزُ تفخيمُ الألفِ الواقعةِ بعدَ الراءِ وإنْ كانت الراءُ عندَ الناظمِ شِبْهَ المُسْتَعْلِي لتصريحِه في (تمهيدِه) بالتحذيرِ مِن ذلك فمدفوعٌ بما سبقَ، مِن أنَّ المُعْتَبَرَ ما اختارَه في (النشرِ)، فَتَدَبَّرْ، وأمَّا قولُه: وفيه تصريحٌ أيضًا بأنَّهُ لابدَّ من ترقيقِها إذا كانتْ بعدَ اللامِ المُفَخَّمَةِ، نحوُ: (إنَّ اللهَ) و(الصلاةَ) و (الطلاقَ) في مَذْهَبِ وَرْشٍ، قالَ: وبعضُ الناسِ يُتْبِعونَ الألفَ اللاّمَ، يعني: فَيُفَخِّمُونَها، وليسَ بجيِّدٍ، فهو الصوابُ المُطَابِقُ لما قدَّمْنَاهُ في هذا البابِ، وأمَّا قولُه: "ما ذَكَرُه الشيخُ زكريَّا تبعًا لابنِ المصنِّفِ مَن قولِه: لأنَّها تخرجُ من طَرَفِ اللسانِ الخ لا يَصْلُحُ تعليلًا؛ لما فُهِمَ مِن كونِ الراءِ شِبْهًا للمُسْتَعْلِي؛ لأنَّه يستلزمُ أنْ تكونَ النونُ واللامُ شبيهتينِ له، لوجودِ العلَّةِ المذكورةِ ولم يقلْ به أحدٌ، لا هوَ ولا غيرُه، فمردودٌ لأنَّ العَلَّةَ لا تستلزمُ أنْ تكونَ مُطَّرِدَةً، معَ أنَّ القومَ اعْتَبَرُوا تفخيمَ الراءِ في حالةٍ واحدةٍ، وهي الواقعةُ قبلَ الألفِ، معَ إجماعِهم على أنَّ النونَ واللامَ إذا وَقَعَتَا قبلَ الألفِ لا تُفَخَّمَانِ.
والحاصلُ أنَّ الصحيحَ بل الصوابُ هو الذي مشَى عليه الناظمُ في (النشرِ) حيث قالَ: وأمَّا الألفُ فالصحيحُ أنَّهَا لاتُوصَفُ بترقيقٍ ولا تَفْخِيمٍ، بل بحسبِ ما تقدَّمَهَا، فإنَّها تَتْبَعُه ترقيقًا وتفخيمًا، وما وقعَ في كَلاَمِ بعضِ أئمَّتِنَا مِن إطلاقِ ترقيقِها فإنَّما يريدونَ التحذيرَ ممَّا يفعلُه بعضُ العَجَمِ مِن المبالغةِ في لفظِها إلى أنْ يُصَيِّرُوها كالواوِ.
وأمَّا نصُّ بعضِ المُتَأَخِّرينَ على ترقيقِها بعدَ الحروفِ المُفَخَّمَةِ فهو شيءٌ وَهِمَ فيه ولم يَسْبِقْه إليه أحدٌ، وقدْ ردَّ عليه الأئمَّةُ المحقِّقُونَ مِن مُعَاصِريِه، وأمَّا قولُ المِصْرِيِّ: النونُ في قولِه (فَرَقِّقَا) و (حَاذِرْ) نونُ التأكيدِ الخفيفةُ، ورسمُ الألفِ وفاقًا لرسمِ قولِه تعالى: {وَلِيَكُونًا}بيوسفَ و{لنَسْفَعًا}باقرأْ، فمدفوعٌ، إذ خطَّانِ لا يقاسانِ: رسمُ المصحفِ، والعروضُ، وأمَّا قولُه: يحتملُ أنْ يكونَ (حاذِرًا) اسمَ فاعلٍ مِن حَاذَرْتُ الشيءَ بمعنى تَحَذَّرْتُ فخطأٌ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ مِن (حَاذَرَ) إنَّما يكونُ مُحَاذِرًا لا حَاذِرًا، وإنَّما يصحُّ كونُه اسمَ فاعلٍ مِن حَذِرَ الثلاثيِّ المجرَّدِ.