بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ
قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ العَالِمُ الصَّدْرُ الكَامِلُ الوَرِعُ المُتْقِنُ المُحَقِّقُ، مُوَفَّقُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّطِيفِ بنُ يُوسُفَ بنِ مُحَمَّدٍ البَغْدَادِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالَى بِمَنِّهِ وكَرَمِه آمِينَ:
شَرْحُ قَصِيدَةِ كَعْبِ بنِ زُهَيْرٍ
رُوِّيتُها عَن شَيْخِنَا الحَسَنِ بنِ عَلِيِّ بنِ عَبْدِ الحَقِّ، رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي القَاسِمِ هِبَةِ اللَّهِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُمَرَ القَزَّازِ الحَرِيرِيِّ، بحَقِّ رِوَايَتِه عَن أَبِي الحَسَنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ المَعْرُوفِ بزَوْجِ الحُرَّةِ، عن أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بنِ إِبْرَاهِيمَ بنِ شَاذَانَ، عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَرَفَةَ النَّحْوِيِّ نَفْطَوَيْهِ، عَنْ أَبِي العَبَّاسِ ثَعْلَبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سَلاَّمٍ،عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ،عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ، عَنْ كَعْبٍ.
وأيضاً رُوِّيتُها عَنْ مُحَمَّدِ بنِ خمارتكينِ عَتِيقِ أَبِي زَكَرِيَّا التِّبْرِيزِيِّ، عن مَوْلاهُ إِجَازَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعاً، عن الحَسَنِ ابنِ عَلِيٍّ [الجَوْهَرِيِّ، عَنْ ابنِ حَيْوَبَه] عَنْ مُحَمَّدِ بنِ القَاسِمِ الأَنْبَارِيِّ؛ سَمَاعاً إِمْلاءً سَنَةَ سَبْعٍ وعِشْرِينَ وثَلاثِمِائَةٍ، عَنْ [أبيه] عن عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بنِ المُنْذِرِ، عَنِ الحَجَّاجِ بنِ ذِي الرَّقِيبَةِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
ورُوِّيتُهَا أَيْضاً عَلَى شَيْخِنَا كَمَالِ الدِّينِ الأَنْبَارِيِّ، بحَقِّ رِوَايَتِه عَنْ أَبِي المُظَفَّرِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عَلِيٍّ الهَمَذَانِيِّ، عَنْ أَبِي القَاسِمِ الحَرِيرِيِّ. وعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ مَوْهُوبِ بنِ أَحْمَدَ الجَوَالِيقِيِّ، عن أَبِي زَكَرِيَّا التِّبْرِيزِيِّ الخَطِيبِ.
وهَذَا حِينَ أَفْتَتِحُ فأَقُولُ: إِنَّ صِدْقَ الرَّغْبَةِ، ولُطْفَ الطَّلِبَةِ، واسْتِحْقَاقَ المَوْهِبَةِ، والتَّعَرُّضَ لتُحْفَةٍ، ليَحُلُّ عِقَالَ الكَسَلِ، ويَشْحَذُ كِمَامَ الأَرْجَاءِ، ويُرْهِفُ صَارِمَ العَزْمِ، ويَكْسِرُ جَيْشَ التَّوَانِي، ويُسَدِّدُ لِسَانَ البَيَانِ، ويُنِيرُ قِسْطاً مِن الوَقْتِ المَعْرُوفِ فيما يُسِرُّهُ العَبْدُ عِنْدَ رَبِّه، ويَخْتَلِجُ بَعْضَ وظَائِفِه، ويَنْتَهِزُ فُرْصَةَ غَفْلَتِه، وإِنَّ ابنَ السَّادَةِ الأَمَاثِلِ، والذَّواتِ الأَفَاضِلِ، تَعَرَّضَ أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِ شَرْحَ قَصِيدَةِ كَعْبِ بنِ زُهَيْرٍ، فتَوَجَّسْتُ هَاجِسَهُ، وظَنَنْتُ لحَاجَتِه، وأَوْجَبَتِ المُلاطَفَةُ إِجَابَتَهُ، فَأَعْطَيْتُه مِن زَمَانِي جُزْءاً, ومِن إِمْلائِي نَصِيباً.
فَاعْلَمْ أَنَّ القَصِيدَةَ للشَّاعِرِ بمَنْزِلَةِ الرِّسَالَةِ للمُتَرَسِّلِ، والخُطْبَةِ للخَطِيبِ، في كَوْنِهَا تَلْتَئِمُ مِن أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ: افْتِتَاحٍ, وتَوْطِئَةٍ, والغَرَضِ المَقْصُودِ, وخَاتِمَةٍ.
وأَمَّا الغَرَضُ خَاصَّةً فَقَدْ يَتَّفِقُ فِيهَا جَمِيعاً. فأَمَّا الافْتِتَاحُ فِي الخُطَبِ فمَسْنُونٌ، وهو مَعْنًى وَاحِدٌ فَقَطْ.
وأَمَّا فِي الرَّسَائِلِ فمَوْضُوعٌ، وهو أَيْضاً واحدٌ في الغَالبِ, وأَمَّا في القَصِيدَةِ فالعَادَةُ جَارِيَةٌ عِنْدَ العَرَبِ أَنْ يَكُونَ نَسِيباً في امْرَأةٍ، ولا يَكُونَ مُذَكَّراً إِلاَّ علَى جِهَةِ الكِنَايَةِ، وإِنَّمَا المُتَأَخِّرُونَ خَاصَّةً هم الذِينَ يَتَغَزَّلُونَ فِي المُذَكَّرِ، ثُمَّ بَعْدَ الافْتِتَاحِ تُذْكَرُ التَّوْطِئَةُ، وبَعْدَهُمَا المَقْصُودُ، ويَقْطَعُ علَى الخَاتِمَةِ.
والأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الأَجْزَاءُ الأَرْبَعَةُ مُتَسَلْسِلَةً, يَقْتَضِي بَعْضُها بَعْضاً، ويَأْخُذُ بَعْضُ الأَبْيَاتِ برِقَابِ بَعْضٍ، فتَعْتَنِقُ بُيُوتُها، وتَتَواصَلُ مَعَانِيهَا. فإنِ افْتَتَحَ الشَّاعِرُ بذِكْرِ المَقْصُودِ سُمِّيَ اقْتِضَاباً، فإِنْ أُسْقِطَتِ التَّوْطِئَةُ وَحْدَها سُمِّيَ وَثْباً، وإِنْ أُسْقِطَتِ الخَاتِمَةُ سُمِّيَ حَذْفاً وبَتْراً.
والخُطْبَةُ التي لا افْتِتَاحَ لَهَا تُسَمَّى البَتْرَاءُ. وقَدْ تُبْسَطُ هذه الأَجْزَاءُ الأَرْبَعَةُ، وقَدْ تُقْبَضُ ويُوجَزُ القَوْلُ فِيهَا، وقَدْ يُبْسَطُ بَعْضُها ويُقْبَضُ بَعْضٌ، وأَقَلُّ مَا يُقْتَصَرُ عَلَيْهِ مِنْهَا الغَرَضُ، وعَلَى الحَقِيقَةِ لا يَكُونُ ذَلِكَ خُطْبَةً ولا قَصِيدَةً، بَلْ جُزْءاً مِنْهَا، ولا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الغَرَضِ أَصْلاً؛ لأَنَّ ذَلِكَ هو المَقْصُودُ لعَيْنِه، وسَائِرُ الأَجْزَاءِ إِنَّمَا تُرَادُ لأَجْلِه.أَمَّا الافْتِتَاحُ في القَصِيدَةِ خَاصَّةً: فلتَطْيِيبِ نُفُوسِ السَّامِعِينَ، وشَرْكِ قُلُوبِهِم، وعَقْلِهِ مُسْتَوْفِزَهُم، وتَعْدِيلِ أَخْلاقِهِم بسَمَاعِ مَا يُلْهِي، ويُلَيِّنُ، ويُحَرِّكُ، ويُطْرِبُ، ويَبْسُطُ القُوَّةَ الشَّهَوِيَّةَ، ويَكْسِرُ سَوْرَةَ الغَضَبِيَّةِ، فعِنْدَ ذَلِكَ يَفِلُّ العَقْلُ مِن أَسْرِ الشَّهْوَةِ والغَضَبِ، وتَجْتَلِي بَسُوسُه، وتَؤُوبُ إليه سَجَايَاهُ، وتَتَمَكَّنُ مِن إِنْفَاذِ أَوَامِرِه وبَسْطِ قُوَاهُ، فيَمِيلُ إِلَى العَفْوِ، ويَسْمَحُ بالصُّلْحِ، ويَكْرَهُ بالانْتِقَامِ، ويَهْتَزُّ لمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، ويَرْتَاحُ إِلَى كَرَمِ السَّجَايَا، وحَمِيدِ الشَّمَائِلِ.
فإِذَا خَبَتْ نَارُ الغَضَبِ، وانْقَمَعَ جَيْشُه، قَوِيَ الفِعْلُ عَلَى إِظْهَارِ مَحَاسِنِه، وبُروزِ وَشْيِهِ وفَضَائِلِه، ونَشْرِ بَهَائِهِ وبَهْجَتِه؛ لأَنَّهُ لَمَّا سُلِّطَ الخِنْزِيرُ عَلَى الأَسَدِ، اسْتَعْلَى عَنْهُما فَجَلا مُنْفَرِداً بسوسِ جمالِهِ وبَهَائِه، لا تَغُضُّ مِنْهُ نَقِيصَةُ أَحَدِهِمَا، وبُروزُ فِعْلِه مُحَصَّلاًً، لا يَهُمُّه شَيْنُهُمَا، ولا يَخْدَعُهُ مَيْنُهُمَا. فهَذِهِ هِيَ الحِكْمَةُ فِي افْتِتاحِ القَصِيدَةِ بالنَّسِيبِ.
وأمَّا الخَاتِمَةُ: فبمَنْـزِلَةِ التَّوْدِيعِ وتَوْكِيدِ مَا سَبَقَ, والتَّوْطِئَةُ تَتَنَزَّلُ مَنـْزِلَةَ البَرَاهِينِ في العُلومِ, وكَثِيراً ما يَشْكُلُ علَى النَّاسِ الفَرْقُ بَيْنَ النَّسِيبِ والغَزَلِ، وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَهُما وبَسَطْنَا القَوْلَ فِيهِ في كِتَابِنَا المَوْسومِ " بتَكْمِلَةِ الصِّنَاعَةِ في الشَّرْحِ " نَقْدُ الشِّعْرِ لقُدَامَةَ " لكنَّا نَعْرِضُ لَكَ بُذُوراً منه لتَفْتُرَ دَاعِيَةُ التَّطَلُّعِ، ويَغُضَّ مِن طُمُوحِ النَّفْسِ.
فالغَزَلُ: هو الأَفْعَالُ، والأَقْوالُ، والأَحْوَالُ الجَارِيَةُ بَيْنَ المُحِبِّ والمَحْبُوبِ. أَمَّا النَّسِيبُ: فهو ذِكْرُ الشَّاعِرِ خَلْقَ النِّسَاءِ وأَخْلاقَهُنَّ، وتَصْرِيفَ أَحْوالِ الهَوَى بالمَعْنَى.
والنَّسِيبُ مُرَكَّبٌ مِن ثَلاثِ مَعَانٍ. أَحَدُهَا: ذِكْرُ حَالِ المَرْأَةِ فِي نَفْسِهَا؛ مِن خَلْقٍ وخُلُقٍ, ومَلالٍ وإِلْفٍ، وقُرْبٍ وبُعْدٍ.
والثاني: حَالُ النَّاسِبِ بِهَا، مِن وَلَهِهِ وتَعَبُّدِه وتَتَيُّمِه. والثالثُ: الأحوالُ الدَّائِرَةُ بَيْنَهُما مِن هَجْرٍ ووَصْلٍ, وإِخْلاصٍ وصِدْقٍ, وقَطِيعَةٍ وتَطَلُّعٍ, وإِعْرَاضٍ وتَمَلُّقٍ, ووَفَاءٍ وإِخْلافٍ, وشَكْوَى واعْتِذَارٍ, وعَتْبٍ وإِعْتَابٍ, وإِنْكَارٍ واعْتِرَافٍ, وتَعْرِيضٍ وتَعَرُّضٍ, وتَصْرِيحٍ وتَجَمُّعٍ، ومَا اتَّصَلَ بذَلِكَ وانْجَرَّ مَعَه مِن مُحَادَثَاتٍ ومَرَاسِيلَ, وغَمْزٍ وإِيمَاضٍ وإِشَارَةٍ, وإِفْسَادِ الوُشَاةِ وتَكْدِيرِ الرُّقَبَاءِ, وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْرِي بَيْنَ ذَوِي العَلاقَاتِ.
فالنَّسِيبُ جُزْءُ قَصِيدَةٍ كَمَا قُلْنَا ولأَجْلِ غَيْرِه، ولذَلِكَ لا يَحْسُنُ الاقْتِصَارُ عَلَيْهِ في التَّقْصِيدِ، ولا أَنْ يُجْعَلَ أَكْثَرَ القَصِيدِ، بَلِ افْتِتَاحَهَا وأَقَلَّهَا، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الغَرَضِ بسُرْعَةٍ.
وأَمَّا التَّشْبِيبُ: فهو الإِشَادَةُ بذِكْرِ المَحْبُوبِ، والإِعْلانُ بصِفَاتِه، والتَّصْرِيحُ بمَحَاسِنِه. فالنَّسِيبُ ذِكْرُ الغَزَلِ، والتَّشْبِيبُ تَابِعٌ للنَّسِيبِ ولازِمٌ عَنْهُ. والغَزَلُ رُبَّمَا كَانَ مِن غَيْرِ شَاعِرٍ؛ لأَنَّهُ التَّصَابِي والاسْتِهْتَارُ بمَوَدَّاتِ النِّسَاءِ. يُقالُ: فُلانٌ غَزِلٌ: إِذَا كَانَ مُتَشَكِّلاً بالصُّورَةِ.
وقَدْ يُطْلَقُ الغَزَلُ عَلَى الاسْتِعْدَادِ بهذهِ الحَالِ، والتَّخَلُّقِ بهذهِ الخَلِيقَةِ. ويُطْلَقُ علَى الانْفِعَالِ عَنْ هَذِهِ الحَالِ، كَمَا يُقَالُ: الغَضْبَانُ, عَلَى المُسْتَعِدِّ للغَضَبِ، وعَلَى مَنِ انْفَعَلَ عَنْهُ، وخَرَجَ بِهِ إِلَى الفِعْلِ.
قَالَ أَصْحَابُ اللُّغَةِ: المُغَازَلَةُ مُحَادَثَةُ النِّسَاءِ ومُرَاوَدَتُهُنَّ. يُقَالُ: غَازَلَتْهُ وغَزِلَ لَهَا, مِثْلَ حَادَثَتْهُ وحَادَثَها. والاسْمُ الغَزَلُ. وتَغَزَّلَ فُلانٌ إِذَا تَعَاطَى الغَزَلَ، ويُقَالُ: غَزِلَ فُلانٌ يَغْزَلُ غَزَلاً إِذَا كَانَ صَاحِبَ غَزَلٍ. وكَثِيراً مَا يَأْتِي هذَا المِثَالُ فِي أَفْعَالِ الخَلائِقِ والجِبِلاَّتِ النَّفْسِيَّةِ.
والنَّسِيبُ فِيهِ الوَصْفُ والتَّشْبِيبُ والتَّشْبِيهُ والمَدْحُ والذَّمُّ والشَّكْوَى والعِتَابُ وحِكَايَةُ الحَالِ ونَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا يَتَّصِلُ بِهِ ويَنْسَحِبُ مَعَه، ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَدُلَّ الشَّاعِرُ عَلَى غَرَضِه بألفَاظٍ صَرِيحَةٍ مَشْهُورَةٍ إِلاَّ أَنْ يَخَافَ غَائِلَةً مِن التَّصْرِيحِ فيُعْرِضَ.
وأَمَّا النَّسِيبُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ الحُوشِيَّ والغَرِيبَ, والتَّعْرِيضَ والحَذْفَ, والإِضْمَارَ والأَمْثَالَ؛ والأَفْضَلُ أَنْ يَنْسِبَ مِن جِنْسِ الغَرَضِ، ويَخْتِمَ مِن جِنْسِ النَّسِيبِ، ليَتَعَطَّفَ آخِرُ القَصِيدَةِ عَلَى أَوَّلِهَا، وتَتَآخَى أجْزَاؤُهَا, وتَتَسَمَّطَ أَفْرَادُهَا، وتَصِيرَ لكَثْرَتِهَا وَحْدَةً بِهَا تُسَمَّى كَلِمَةً.
فَابْتَدَأَ كَعْبٌ نَسِيبَ قَصِيدَتِهِ بذِكْرِ البُعَادِ مِن سُعَادَ ووَجْدِه لذَلِكَ،ثُمَّ وصَفَها وَشَبَّبَ بِهَا جُمْلَةً، ووَصَفَ مَبْسَمَهَا, وهو أَشْهَى مَا فِي المَرْأَةِ, وأَحْلَى مَنْظراً وأَلَذُّ مَطْعَماً, ثُمَّ شَبَّهَ رِيقَهَا بِخَمْرٍِ مَمْزُوجَةٍ، وأَخَذَ يَصِفُ المَاءَ، وَعَادَ إِلَيْهَا فوَصَفَها بإِخْلافِ الوَعْدِ، والتَّلَوُّنِ في القَوْلِ والوُدِّ، وضَرَبَ لذَلِكَ مَثَلاً بعُرْقُوبٍ، وجَعَلَ يَزْجُرُ النَّفْسَ عن الرُّكُونِ إِلَى مَوْعِدِهَا، ويَضْرِبُ بإِخْلافِهَا مَثَلاً بالغَرَابِيلِ. وذَكَرَ مَثْوَاهَا، وأَنَّهُ إِنَّمَا يُوصِّلُه إِلَيْهَا نَاقَةٌ شَدِيدَةُ السَّيْرِ، وجَعَلَ يَصِفُ النَّاقَةَ وأَطَالَ أَكْثَرَ مِمَّا أَطَالَ في وَصْفِ سُعَادَ؛ إِجْلالاً لِمَجْلِسِ النُّبُوَّةِ, فَاخْتَصَرَ في وَصْفِ المَرْأَةِ، وأَطَالَ في وَصْفِ النَّاقَةِ؛ لأَنَّ هذا أَشْبَهُ بالجِدِّ، وأَبْعَدُ عَنْ الهَزْلِ، وأَدَلُّ علَى الحِذْقِ، وأَحْوَطُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَزِلَّ بِمَا يَخْرُجُ بِهِ عَنِ السُّنَّةِ، ويَدْخُلُ عَلَيْهِ بسَبَبِهِ اللائِمَةُ.
ثُمَّ أَخَذَ في تَوْطِئَةٍ شَرِيفَةٍ لَطِيفَةٍ, أَوَّلُها قَوْلُه: " تَسْعَى الوُشَاةُ بِجَنْبَيْهَا ". فذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ حُذِّرَ مِن القَتْلِ، وتَبَرَّأَ مِنْهُ كُلُّ صَدِيقٍ، وَلَمْ يَجِدْ مُلْتَجَأً ولا مُؤَازِراً، وأَنَّهُ قَدِ اسْتَسْلَمَ إِيمَاناً بالقَدَرِ، واعْتِرَافاً بأنَّ مَتَاعَ الدُّنْيا قَلِيلٌ، والمَوْتَ مَآلُ كُلِّ حَيٍّ، وإليه يَؤُولُ المَعْفُو عَنْهُ، والمُسْخَطُ عَلَيْهِ، والمُهَرَاقُ دَمُهُ، والمُعْتَبَطُ، والمُنْسَأُ، والمُؤَجَّلُ، والمُعْتَصِمُ بكُلِّ مَدْرَأٍ، والمُتَعَرِّضُ لكُلِّ حَتْفٍ, والنَّاسُ سَواءٌ فِي النَّقْلَةِ عَنِ الدُّنْيَا, ولكُلِّ حَيٍّ مُنْتَهى.
ثُمَّ خَرَجَ عَنِ الغَرَضِ بطَلَبِ العَفْوِ وذَلِكَ في قَوْلِه: والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَبْذُولُ ثُمَّ اسْتَرْفَقَهُ وسَأَلَهُ الرِّفْقَ بقَوْلِه: "مَهْلاً". وأَلْطَفَ في الخِطَابِ بقَوْلِه: " هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ ". ثُمَّ أَخَذَ يَعْتَذِرُ ليُمَحِّصَ ذُنُوبَه، ويَذْكُرُ شِدَّةَ خَوْفِه، وهَيْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأَنَّهُ لا يَحْصُلُ لَهُ أَمْنٌ إِلاَّ مِن جِهَتِه، وأَنَّ هَيْبَتَهُ أَشَدُّ مِن هَيْبَةِ الأَسَدِ، وجَعَلَ يَصِفُ الأَسَدَ, ثُمَّ خَرَجَ إِلَى ذِكْرِ مَحَاسِنِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ إِلَى مَدْحِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قُرَيشٍ، ووَصَفَ بسَالَتَهُم، فَلَمَّا اسْتَعْطَفَ النَّبِيَّ – عَلَيْهِ السَّلامُ – اسْتَعْطَفَ صَحَابَتَهُ، وخَتَمَ عَلَى ذَلِكَ.
وهَذِهِ القَصِيدَةُ مِن البَحْرِ المُلَقَّبِ بالبَسِيطِ، مِن العَرُوضِ الأُولَى مِنْهُ، مِن الضَّرْبِ الثَّانِي منها. فعَرُوضُهُ مَخْبُونَةٌ، وضَرْبُهَا مَقْطُوعٌ، والبَيْتُ الأَوَّلُ مُتَصَرِّعٌ. والتَّصْرِيعُ: تَغْيِيرُ العَرُوضِ للضَّرْبِ إِيذَاناً برَوِيِّ القَصِيدَةِ وضَرْبِهَا.
ورُبَّما صَرَّعَ الشَّاعِرُ في القَصِيدَةِ بَعْدَ البَيْتِ الأَوَّلِ بَيْتاً أو بَيْتَيْنِ، وذَلِكَ مُشْعِرٌ بغَزَارَةِ مَادَّتِه، وسَعَةِ بلاغَتِه.
وقَافِيَتُهَا مِن المُطْلَقِ المُجَرَّدِ المُتَوَاتِرِ, وهَذَا أَخَصُّ مَا يُفَارِقُ فِيهِ النَّظْمُ النَّثْرَ، ويُبَايِنُ بِهِ القُرْآنُ الشِّعْرَ، علَى مَا كَشَفْنَا فِي ذَلِكَ في كِتَابِنَا (تَكْمِلَةُ الصِّنَاعَةِ) مِمَّا لَمْ نَجِدْهُ لأَحَدٍ مِن المُتَقَدِّمِينَ.
وأَمَّا سَبَبُ قَوْلِ هَذِهِ القَصِيدَةِ – وَقَدْ رُوِّيناهُ مَرْفُوعاً عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ كَعْبٌ وبُجَيْرٌ ابْنَا زُهَيْرِ بنِ أَبِـي سـُلْمَى إلى أَبْرَقِ العزَّافِ.
فَقَال بُجَيْرٌ لكَعْبٍ: اثْبُتْ لِي فِي الغَنَمِ، حَتَّى آتِيَ هَذَا الرَّجُلَ – يَعْنِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ – فأَسْمَعَ كَلامَهُ، وأَعْرِفَ مَا عِنْدَهُ، فأَقَامَ كَعْبٌ، ومَضَى بُجَيْرٌ. فعَرَضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ – عليهِ السلامُ – الإِسْلامَ فأَسْلَمَ، واتَّصَلَ إِسْلامُهُ بأَخِيهِ كَعْبٍ، فَقَالَ:
أَلاَ بَـلِّغَـا عَنِّــي بُـجَيْـراً رِسَــالَةً = فَـهَلْ لَكَ فِـيمَا قُـلْتُ وَيْــحَكَ هَلْ لَكَا
سَـقَاكَ بِـهَا المَـأْمُـونُ كَأْسـاً رَوِيَّـةً = وأَنْـهَلَكَ المَـأْمُــونُ مِنـْـهَا وعَــلَّكَـا
وفَـارَقْتَ أَسْـبَابَ الهُـدَى واتَّبـَعْتَـهُ = عَـلَى أيِّ شَـيْءٍ وَيْبَ غَيْــرِكَ دَلَّــكَا
عَـلَى مَـذْهَبٍ لَمْ تـُلفِ أُمًّـا وَلا أَباً = عَلَيْـهِ ولَمْ تَـعْرِفْ عَلَــيْهِ أَخــاً لَـكَـا
فَاتَّصَلَ الشِّعْرُ برَسُولِ اللَّهِ عليهِ السلامُ – فأَهْدَرَ دَمَهُ، وقَالَ: ((مَن لَقِيَ مِنْكُمْ كَعْبَ بنَ زُهَيْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ)).
فكَتَبَ بُجَيْرٌ إِلَى كَعْبٍ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ, فَقَدْ أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ – عليهِ السَّلامُ – دَمَكَ، ومَا أَحْسَبُكَ نَاجِياً. ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – عليهِ السلامُ – ما جَاءَه أَحَدٌ قَطُّ يَشْهَدُ (أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ) إِلاَّ قَبِلَهُ، ولَمْ يُطَالِبْهُ بِمَا تَقَدَّمَ الإِسْلامَ, فأَسْلِمْ وأَقْبِلْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – عليهِ السلامُ -. فلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُه تَوَجَّهَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ –عليه السلامُ – قالَ كَعْبٌ: فأَنَخْتُ رَاحِلَتِي عَلَى بَابِ المَسْجِدِ، ودَخَلْتُ المَسْجِدَ، وعَرَفْتُ رَسُولَ اللَّهِ –عليهِ السلامُ- بالصِّفَةِ التي وُصِفَتْ لِي، وكَانَ مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ –عليهِ السلامُ – مِن أَصْحَابِه مِثْلَ المَائِدَةِ مِنَ القَوْمِ، يَتَحَلَّقُونَ حَوْلَهُ حَلْقَةً حَلْقَةً؛ فيُقْبِلُ علَى هَؤُلاءِ فيُحَدِّثُهُم, ثُمَّ عَلَى هَؤُلاءِ فَيُحَدِّثُهُم, فدَنَوْتُ مِن النَّبِيِّ – عَلَيْهِ السلامُ – فقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: ((مَنْ أَنْتَ؟)). قُلْتُ: كَعْبُ بنُ زُهَيْرٍ. قَالَ: ((الَّذِي يَقُولُ مَا يَقُولُ)). ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَاسْتَنْشَدَهُ الشِّعْرَ، فأَنْشَدَ أَبُو بَكْرٍ: " سَقَاكَ بِهَا المَأْمُونُ كَأْساً رَوِيَّةً ". فَقُلْتُ: لَمْ أَقُلْ هَكَذَا, وإِنَّمَا قُلْـتُ:
سَــقَـاكَ أَبُـو بـَكْرٍ بـكَأسٍ رَوِيـَّةٍ = وأَنْــهَلَكَ المَـأْمُــونُ مِنـْـهَا وعَلَّـكَـا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليهِ السلامُ: ((مَأْمُونٌ واللَّهِ)). فَأَنْشَدْتُهُ: " بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ ".
وفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ قَالَ: قَدِمَ كَعْبُ بنُ زُهَيْرٍ مُتَنَكِّراً، حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَوْعَدَهُ، فأَتَى أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ أَتَاهُ بِهِ، وهو مُلَثَّمٌ بعِمَامَتِه, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, رَجُلٌ يُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلامِ، فبَسَطَ يَدَهُ فحَسَرَ عَنْ وَجْهِهِ، وقَالَ: بأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ، أَنَا كَعْبُ بنُ زُهَيْرٍ، فتَجَهَّمَتِ الأَنْصَارُ وأَغْلَظَتْ لَهُ، لِمَا كَانَ مِن ذِكْرِه النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلانَتْ لَهُ قُرَيْشٌ وأَحَبَّتْ إِسْلامَهُ، فَأَمَّنَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ, فأَنْشَدَهُ مَدْحَتَهُ التي يَقُولُ فِيهَا:
" بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ "
فَلَمَّا وَصَلَ في مَدْحِ قُرَيْشٍ إِلَى قَوْلِه:
لا يَـقَـعُ الطَّـعْنُ إِلاَّ فِـي نـُـحُورِهِـمُ = وَمَا لَـهُمْ عَـنْ حِيـَاضِ المَـوْتِ تَـهْـلِـيلُ
نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى مَن عِنْدَهُ مِن قُرَيْشٍ، كأَنَّهُ يُومِئُ إليهم أَنِ اسْمَعُوا، حَتَّى قَالَ:
يَـمْشُـونَ مَشْـيَ الجِـمَـالِ الـزُّهْـرِ = يَعْصِمُهُمْ ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التـَّنَـابِيــلُ
يُعَرِّضُ بالأَنْصَارِ لغِلْظَتِهِمُ التي كَانَتْ عليهِ، فأَنْكَرَتْ قريشٌ مَا قَالَ، وقَالُوا: لَمْ تَمْدَحْنَا إِذْ هَجَوْتَهُم، وَلَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ حَتَّى قَالَ:
مَنْ سَـرَّهَ كَـرَمُ الحَيـاةِ فَلا يـَـزَلْ = في مِقْــنَـبٍ مِن صَــالِـحِ الأَنْــصَارِ
البـَاذِلِـينَ نُفُـوسَهُمْ ودِمَــاءَهُـمْ = يـَـوْمَ الفِيـــاحِ وسَــطْـوَةِ الجَبـَّـارِ
يَـتَطَـهَّـرُونَ كأَنَّـهُ نُسُكٌ لـَـهُمْ = بـدِمَـاءِ مَن عَلِـقُوا مِن الكُفَّــــارِ
فَكَسَاهُ النَّبِيُّ – عَلَيْهِ السَّلامُ – بُرْدَةً، اشْتَرَاهَا مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيانَ مِن آلِ كَعْبِ بنِ زُهَيْرٍ –بَعْدَهُ- بمَالٍ كَثِيرٍ، وهي البُرْدَةُ التي يَلْبَسُها الخُلَفاءُ فِي العِيدَيْنِ، زَعَمَ ذَلِكَ أَبَانٌ.