سورة المائدة
من الاية 1 الى الاية 26
ومن سورة المائدة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قوله جلّ وعزّ: (يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلّا ما يتلى عليكم غير محلّي الصّيد وأنتم حرم إنّ اللّه يحكم ما يريد (1)
خاطب اللّه جلّ وعزّ جميع المؤمنين بالوفاء بالعقود التي عقدها اللّه عليهم، والعقود التي يعقدها بعضهم على بعض على ما يوجبه الدين، فقال: (يا أيّها الّذين آمنوا) أي يا أيها الذين صدقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أوفوا بالعقود، والعقود العهود، يقال: وفيت بالعهد وأوفيت.
والعقود واحدها عقد، وهي - أوكد العهود يقال: عهدت إلى فلان في كذا وكذا، تأويله ألزمته ذلك.
فإنما قلت عاقدته أو عقدت عليه، فتأويله أنك ألزمته ذلك باستيثاق.
وقال بعضهم أوفوا بالعقود أي كان عقد بعضكم على بعض في الجاهلية، نحو الموالاة، ونحو قوله: (والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) والمواريث تنسخ العقود في باب المواريث.
يقال عقدت الحبل والعهد فهو معقود.
قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم... شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا
[معاني القرآن: 2/139]
تأويله أنهم يوفون عهودهم بالوفاء بها، ويقال أعقدت العسل ونحوه فهو معقد وعقيد، وروى بعضهم: عقدت العسل والكلام أعقدت.
قال الشاعر:
وكأنّ ربّا أو كحيلا معقدا حشّ القيان به جوانب قمقم
وقوله جلّ وعزّ: (أحلّت لكم بهيمة الأنعام).
قال بعضهم: بهيمة الأنعام: الظباء والبقر الوحشية والحمر الوحشية.
والأنعام في اللغة تشتمل على الإبل والبقر والغنم.
فالتأويل - واللّه أعلم - أحلت لكم بهيمة الأنعام، أي أحلت لكم الإبل والبقر والغنم والوحش. والدليل على أن الأنعام مشتملة على ما وصفنا قوله عز وجلّ: (ومن الأنعام حمولة وفرشا) فالحمولة الإبل التي تحمّل والفرش صغار الإبل، قال (ثمانية أزواج من الضّأن اثنين ومن المعز اثنين)
ثم قال: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) وهذا مردود على قوله: (وهو
[معاني القرآن: 2/140]
الّذي أنشأ جنّات معروشات)، وأنشأ (ومن الأنعام حمولة وفرشا).
ثم ذكر ثمانية أزواج بدلا من قوله: (ومن الأنعام حمولة وفرشا).
والسورة تدعى سورة الأنعام، فبهيمة الأنعام هذه، وإنما قيل لها بهيمة الأنعام لأن كل حي لا يميز فهو بهيمة، وإنما قيل له بهيمة لأنه أبهم عن أي يميز، فأعلم اللّه عز وجلّ أن الذي أحل لنا مما أبهم هذه الأشياء.
وقوله: (إلّا ما يتلى عليكم).
موضع ما نصب بـ (إلّا)، وتأويله أحلّت لكم بهيمة الأنعام (إلا ما يتلى عليكم) من الميتة والدم والموقوذة والمتردية والنطيحة (غير محلّي الصّيد) أي أحلّت لكم هذه لا محلين الصيد (وأنتم حرم).
وقال أبو الحسن الأخفش: انتصب (غير محلّي الصّيد) على قوله: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)، كأنّه قيل: أوفوا بالعقود غير محلى الصيد.
وقال بعضهم يجوز أن تكون " ما " في موضع رفع على أنه يذهب إلى أنه يجوز جاء إخوتك إلّا زيد، وهذا عند البصريين باطل لأن المعنى عند هذا القائل: جاء إخوتك وزيد. كأنّه يعطف بها كما يعطف بلا، ويجوز عند البصريين جاء الرجال إلا زيد على معنى جاء الرجال غير زيد، على أن تكون صفة للنكرة أو ما قارب النكرة من الأجناس.
وقوله: (وأنتم حرم).
أي محرمون. وأحد الخرم حرام، - يقال رجل حرام وقوم حرم.
قال الشاعر:
[معاني القرآن: 2/141]
فقلت لها فيئي إليك فإنّني... حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي ملبّ.
وقوله: (إنّ اللّه يحكم ما يريد).
أي الخلق له عزّ وجلّ، يحل منه ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد.
وقوله عزّ وجلّ: (يا أيّها الّذين آمنوا لا تحلّوا شعائر اللّه ولا الشّهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمّين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربّهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنّكم شنئان قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتّقوا اللّه إنّ اللّه شديد العقاب (2)
الشعائر واحدتها شعيرة، ومعناه ما أشعر أي أعلم ليهدى إلى بيت اللّه الحرام.
وقال قوم شعائر الله يعنى به جميع متعبدات اللّه التي أشعرها اللّه.
أي جعلها أعلاما لنا.
(ولا الهدي)
الهدي واحدته هدية مثل جدية وجدي يعني حدبة السّرج.
و (القلائد) كانوا يقلدون بلحاء الشجر ويعتصمون بذلك وهذا كله كان للمشركين، وكان قد أمر المسلمون بأن لا يحلوا هذه الأشياء التي يتقرب بها المشركون إلى الله وكذلك (ولا آمّين البيت الحرام) وهذا كله منسوخ.
وكذلك (ولا الشهر الحرام) وهو المحرم لأن القتال كان مرفوعا فيه، فنسخ جميع ذلك قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد).
[معاني القرآن: 2/142]
وقوله: (وإذا حللتم فاصطادوا).
هذا اللفظ أمر ومعناه الإباحة، لأن اللّه عزّ وجل حرم الصيد على المحرم، وأباحه له إذا حلّ من إحرامه، ليس أنه واجب عليه إذا حلّ أن يصطاد، ومثله قوله: (فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه) تأويله أنه أبيح لكم بعد الفراغ من الصلاة، ومثل ذلك في الكلام: لا تدخلن هذه الدار حتى تودي ثمنها، فإذا أديت فادخلها، تأويله فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها.
وقوله: (ولا يجرمنّكم شنئان قوم).
أي لا يحملنكم بغض قوم، يقال شنئته شنآنا معناه أبغضته إبغاضا.
والشنآن مصدر مثل غلى غليانا، ونزا نزوانا، فالمعنى لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا.
وموضع " أن " نصب، أي تعتدوا لأن صدوكم عن المسجد الحرام فموضع أن الأولى نصب مفعول له، وموضع أن الثانية نصب مفعول به.
المعنى لا يكسبنكم بغض قوم أي بغضكم قوما الاعتداء بصدهم إيّاكم عن المسجد الحرام يقال فلان جريمة أهله أي هو كاسبهم.
وقيل في التفسير لا يحملنكم بغض قوم، والمعنى واحد.
وقال الأخفش لا يحقّنّ لكم بغض قوم.
وهذه ألفاظ مختلفة والمعنى واحد.
وقوله عزّ وجلّ: (وتعاونوا على البرّ والتّقوى).
[معاني القرآن: 2/143]
وهذا كله منسوخ إلا التعاون من المسلمين على البر.
وقوله عزّ وجلّ: (حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلّا ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطرّ في مخمصة غير متجانف لإثم فإنّ اللّه غفور رحيم (3)
(حرّمت عليكم الميتة).
أصله الميتة بالتشديد، إلا أنه مخفف، ولو قرئت الميتة لجاز يقال ميّت، وميت، والمعنى واحد. وقال بعضهم الميّت يقال لما لم يمت.
والميت لما قد مات، وهذا خطأ إنما ميّت يصلح لما قد مات، ولما سيموت.
قال اللّه عزّ وجلّ: (إنّك ميّت وإنّهم ميّتون).
وقال الشاعر في تصديق أن الميت والميّت بمعنى واحد: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميّت الأحياء فجعل الميت مخففا من الميت.
وقوله: (والدّم).
قيل إنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ويشوونها ويأكلونها، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أن الدم المسفوح، أي المصبوب حرام، فأمّا المتلطخ بالدم
فهو كاللحم في الحل.
وقوله: (وما أهلّ لغير اللّه به).
موضعه رفع، والمعنى: وحرم عليكم ما أهل لغير اللّه به، ومعنى (أهلّ لغير اللّه به) ذكر عليه اسم غير اللّه، وقد فسرنا أن الإهلال رفع الصوت
[معاني القرآن: 2/144]
بالشيء فما يتقرّب به من الذبح لغير اللّه، أو ذكر غير اسمه فحرام.
(ولحم الخنزير) حرام، حرم الله أكله، وملكه، والخنزير يشمل على الذكر والأنثى.
وقوله (والمنخنقة).
وهي التي تنخنق بربقتها أي بالحبل الذي تشدّ به، وبأي جهة اختنقت فهي حرام.
وقوله: (والموقوذة).
وهي التي تقتل ضربا، يقال وقذتها أوقذها وقذا وأوقذتها أوقذها إيقاذا.
إذا أثخنتها ضربا.
وقوله عزّ وجلّ: (والنطيحة).
وهي التي تنطح أو تنطح فتموت.
وقوله: (وما أكل السّبع).
موضع " ما " أيضا رفع عطف على ما قبلها.
وقوله: (إلّا ما ذكّيتم).
أي إلا ما أدركتم ذكاته من هذه التي وصفنا، وموضع " ما " نصب أي حرمت عليكم هذه الأشياء إلّا الشيء الذي أدرك ذبحه منها، وكل ذبح ذكاة، ومعنى التذكية أن يدركها وفيها بقية تشخب معها الأوداج، وتضطرب اضطراب المذبوح الذي أدركت ذكاته.
وأهل العلم يقولون إن أخرج السّبع الحشوة، أو قطع الجوف قطعا خرج معه الحشوة فلا ذكاة لذلك، وتأويله إنّه يصير في حالة ما لا يؤثر في حياته الذبح، وأصل الذكاء في اللغة كلها تمام الشيء،
[معاني القرآن: 2/145]
فمن ذلك الذّكاء في السن والفهم، وهو تمام السن، قال الخليل: الذكاء في السّن أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمائم استكمال القوة.
قال زهير:
يفضّله إذا اجتهدوا عليه... تمام السّنّ منه والذّكاء
وقيل جري المذكيات غلاب. أي جري المسانّ التي قد تأسّنت.
وتأويل تمام السّن النهاية في الشباب فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال لها الذكاء والذكاء في الفهم أن يكون فهما تامّا سريع القبول، وذكيت النار إنما هو من هذا. تأويله أتممت إشعالها.
(إلا ما ذكيتم) ما أذكيتم ذبحة على التمام.
وقوله: (وما ذبح على النّصب).
والنصب الحجارة التي كانوا يعبدونها، وهي الأوثان واحدها نصاب.
وجائز أن يكون واحدا، وجمعه أنصاب.
وقوله: (وأن تستقسموا بالأزلام).
موضع " أن " رفع، والمعنى وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام.
وواحد الأزلام زلم، وزلم، وهي سهام كانت في الجاهلية مكتوب على بعضها " أمرني ربّي " وعلى بعضها: " نهاني ربّي - فإذا أراد الرّجل سفرا أو أمرا يهتم به
[معاني القرآن: 2/146]
اهتماما شديدا ضرب تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه " أمرني ربّي مضى لحاجته، وإن خرج الذي عليه " نهاني ربي " لم يمض في أمره، فأعلم اللّه عزّ وجل أن ذلك حرام، ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، وأخرج من أجل طلوع نجم كذا، لأن الله جلّ وعزّ قال: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " خمس لا يعلمهن إلا اللّه، وذكر الآية التي في آخر سورة لقمان.
(إنّ اللّه عنده علم السّاعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأيّ أرض تموت).
وهذا هو دخول في علم اللّه الذي هو غيب، وهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله جل وعز أنها حرام.
والاستقسام بالأزلام فسق. والفسق اسم لكل ما أعلم الله أنه مخرج عن الحلال إلى الحرام، فقد ذم الله به جميع الخارجين من متعبّداته وأصله عند أهل اللغة قد فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها.
ولو كان بعض هذه المرفوعات نصبا على المعنى لجاز في غير القرآن.
لو قلت حرمت على الناس الميتة والدم ولحم الخنزير، وتحمله على معنى وحرم الله الدم ولحم الخنزير لجاز ذلك، فأمّا القرآن فخطأ فيه أن نقرأ بما لم يقرأ به من هو قدوة في القراءة، لأن القراءة سنة لا تتجاوز.
وقوله: (اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم).
"اليوم " منصوب على الظرف، وليس يراد به - واللّه أعلم - يوما بعينه.
[معاني القرآن: 2/147]
معناه الآن يئس الذين كفروا من دينكم، وهذا كما تقول أنا اليوم قد كبرت.
وهذا الشأن لا يصلح في اليوم. تريد أنا الآن، وفي هذا الزمان ومعناه: أن قد حوّل الله الخوف الذي كاد يلحقكم منهم اليوم ويئسوا من بطلان الإسلام وجاءكم ما كنتم توعدون من قوله: (ليظهره على الدّين كلّه).
والدّين اسم لجميع ما تعبّد اللّه خلقه، وأمرهم بالإقامة عليه، والذي به يجزون، والذي أمرهم أن يكون عادتهم.
وقد بينّا ذلك في قوله: (مالك يوم الدين).
وقوله: (فلا تخشوهم واخشون).
أي فليكن خوفكم لله وحده، فقد أمنتم أن يظهر دين على الإسلام وكذلك - واللّه أعلم -.
قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم).
أي الآن أكملت لكم الدين بأن كفيتكم خوف عدوكم وأظهرتكم عليهم، كما تقول: الآن كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، بأن كفينا من كنا نخافه.
وقد قيل أيضا: (اليوم أكملت لكم دينكم) أي أكملت لكم فرض ما تحتاجون إليه في دينكم. وذلك جائز حسن، فأما أن يكون دين الله في وقت من الأوقات غير كامل فلا.
وقوله عزّ وجلّ: (فمن اضطرّ في مخمصة).
أي فمن دعته الضرورة في مجاعة، لأن المخمصة شدة ضمور البطن.
(غير متجانف لإثم).
[معاني القرآن: 2/148]
أي غير مائل إلى إثم.
(فإن اللّه غفور رحيم).
أي فإن الله أباحه ذلك رحمة منه وتسهيلا على خلقه، وكذلك فمن اضطر غير باغ ولا عاد، أي غير آكل لها على جهة الاستحلال ولا عاد: أي مجاوز لقدر الحاجة، وغير آكل لها على جهة التلذذ فإن اللّه غفور رحيم.
وقوله: (يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه فكلوا ممّا أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه واتّقوا اللّه إنّ اللّه سريع الحساب (4)
(يسألونك ماذا أحلّ لهم)
موضع " ما " رفع، إن شئت جعلتها وحدها اسما، ويكون خبرها قوله: (ذا). ويكون أحل من صلة ما، والتأويل: يسألونك أي شيء أحل لهم.
وجائز أن تكون " ما "، و " ذا "، اسما واحدا، وهي أيضا رفع بالابتداء والتأويل على هذا: يسألونك أي شيء أحل لهم، وأحل لهم خبر الابتداء.
(قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح).
فالطيبات كل شيء لم يأت تحريمه في كتاب ولا سنة، والكلام يدل على أنهم سألوا عن الصيد فيما سألوا عنه، ولكن حذف ذكر صيد " ما علمتم).. لأن في الكلام دليلا عليه، كما قال: (واسأل القرية).
المعنى واسأل أهل القرية.
" وقوله: (مكلّبين).
أي في هذه الحال يقال رجل مكلّب، وكلّاب، أي صاحب صيد بالكلاب، وفي هذا دليل أن لحم صيد الكلب الذي لم يعلّم حرام إذا لم تدرك ذكاته، فإذا أرسل المرسل كلب الصيد فصاد فقتل صيده، وقد ذكر الصائد اسم اللّه على الصيد فهو حلال بلا اختلاف بين الناس في ذلك.
[معاني القرآن: 2/149]
وقوله عزّ وجلّ: (فكلوا ممّا أمسكن عليكم).
فاختلف الفقهاء فيه إذا أكل من الصيد، فقال بعضهم يؤكل (منه) وإن أكل منه. وكل ذلك في اللغة غير ممتنع لأنه قد يمسك الصيد إذا قتله ولم يأكل منه، وقد يمسك وقد أكل منه.
ومعنى: (تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه).
أي تؤدبونهنّ أن يمسكن الصيد عليكم، فإن غاب الصيد فمات فإنه غير ممسك. وفي الحديث: " كل ما أصميت ودع ما أنميت).
ومعنى كل ما أصميت أي إن صدت صيدا بكلب أو غيره فمات وأنت تراه مات بصيدك فهو ما أصميت، وأصل الصميان في اللغة السرعة والخفة.
فالمعنى: كل ما أصميت أي ما قتلته بصيدك وأنت تراه أسرع في الموت، فرأيته وعلمت - لا محالة - إنّه مات بصيدك، ومعنى ما أنميت، أي ما غاب عنك فمات ولم تره، فلست تدري أمات بصيدك أم عرض له عارض آخر فقتله، يقال نمت الرّمية إذا مضت والسهم فيها، وأنميت الرمية إذا رميتها فمضت والسهم فيها.
قال امرؤ القيس:
فهو لا تنمي رميّته... ما له لا عدّ من نفره
وقال الحرث بن وعلة الشيباني:
قالت سليمى قد غنيت فتى... فالآن لا تصمي ولا تنمي
[معاني القرآن: 2/150]
وقوله جلّ وعز: (اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5)
(وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم)
أي ذبائح أهل الكتاب حل لكم، وقد أجمع المسلمون أن ذبائح أهل الكتاب حلال للمسلمين، واختلفوا فيما سواها من الأطعمة، والذبائح هي من الأطعمة، فالظاهر - واللّه أعلم - أن جميع طعامهم حلال كالذبائح.
(وطعامكم حلّ لهم).
تأويله حل لكم أن تطعموهم، لأن الحلال والحرام والفرائض بعد عقد التوحيد، إنما يعقد على أهل الشريعة والملة، فأما الكفار فالواجب فيهم القتل إلّا من أدّى الجزية من أهل الكتاب.
وقوله: (والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم)
أي وأحلّ لكم المحصنات وهن العفائف وقيل الحرائر، والكتاب يدل على أن الأمة إذا كانت غير مؤمنة لم يجز التزويج بها، لقوله: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات واللّه أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهنّ بإذن أهلهنّ وآتوهنّ أجورهنّ بالمعروف محصنات غير مسافحات).
فإذا آتيتموهنّ أي إذا أعطيتموهن الأجر على جهة التزويج لا على جهة السّفاح وهو الزنا.
وقوله: (ولا متّخذي أخدان).
[معاني القرآن: 2/151]
وهن الصديقات والأصدقاء، فحرم الله عز وجل الجماع على جهة السفاح، أو على جهة اتخاذ الصديقة، وأحلّة على جهة الإحصان، وهو التزويج، على ما عليه جماعة العلماء.
وقوله: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله)
أي من بدل شيئا مما أحل الله فجعله حراما، أو أحل شيئا مما حرم الله فهو كافر بإجماع، وقد حبط عمله أي حبط جميع ما تقرب به إلى اللّه جل ثناؤه، ومن غير ذلك.
وقوله: (يا أيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطّهّروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النّساء فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدا طيّبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهّركم وليتمّ نعمته عليكم لعلّكم تشكرون (6)
المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وإنما جاز ذلك لأن في الكلام والاستعمال دليلا على معنى الإرادة، ومثل ذلك قول الله عزّ وجلّ (فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم (98).
المعنى إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم.
وقوله: (وأرجلكم إلى الكعبين).
القراءة بالنصب، وقد قرئت بالخفض، وكلا الوجهين جائز في العربية فمن قرأ بالنصب فالمعنى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برؤوسكم على التقديم والتأخير والواو جائز فيها ذلك كما قال جلّ وعزّ: (يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع
[معاني القرآن: 2/152]
الرّاكعين (43).
والمعنى واركعي واسجدي لأن الركوع قبل السجود، ومن قرأ: وأرجلكم - بالجر عطف على الرؤوس.
وقال بعضهم نزل جبريل بالمسح، والسنة في الغسل.
وقال بعض أهل اللغة هو جر على الجوار، فأما الخفض على الجوار فلا يكون في كلمات اللّه، ولكن المسح على هذا التحديد في القرآن كالغسل لأن قوله: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق)، فذكر الحدّ في الغسل لليد إلى المرافق، ولليد من أطراف الأصابع إلى الكتف، ففرض علينا أن نغسل بعض اليد من أطراف الأصابع إلى المرفق، فالمرفق منقطع مما لا يغسل ودخل فيما يغسل.
وقد قال بعض أهل اللغة معناه مع المرافق، واليد المرفق داخل فيها، فلو كان اغسلوا أيديكم مع المرفق، لم تكن في المرافق فائدة وكانت اليد كلها يجب أن تغسل، ولكنه لما قيل إلى المرافق اقتطعت في الغسل من حد المرفق، والمرفق في اللغة ما جاوز الإبرة وهو المكان الذي يرتفق به، أي يتكأ عليه على المرفقة وغيرها.
فالمرافق حد ما ينتهي إليه في الغسل منها، وليس يحتاج إلى تأويل (مع).
ولما حدّ في الرّجل إلى الكعبين، والرّجل من أصل الفخذ إلى القدم علم أن الغسل من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان هما العظمان الناتئان في آخر الساق مع القدم، وكل مفصل من العظام فهو كعب، إلا أن
[معاني القرآن: 2/153]
هذين الكعبين ظاهران عن يمنة فوق القدم ويسرته، فلذلك لم يحتج إلى أن يقال الكعبان اللذان صفتهما كذا وكذا.
فالدّليل على أن الغسل هو الواجب في الرجل، والدليل على أن المسح على الرجل لا يجوز هو تحديد إلى الكعبين كما جاء في تحديد اليد إلى المرافق، ولم يجئ في شيء في المسح تحديد، قال فامسحوا برؤوسكم بغير تحديد في القرآن وكذلك قوله:
(فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدا طيّبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)
ويجوز وأرجلكم بالجر على معنى واغسلوا، لأن قوله إلى الكعبين قد دل على ذلك كما وصفنا، وينسق بالغسل على المسح كما قال الشاعر:
يا ليت بعلك قد غدا... متقلدا سيفا ورمحا
المعنى متقلدا سيفا وحاملا رمحا.
وكذلك قال الآخر:
علفتها تبنا وماء باردا
المعنى وسقيتها ماء باردا.
وقوله: (وإن كنتم جنبا فاطّهّروا).
يقال للواحد رجل جنب، ورجلان جنب، وقوم جنب وامرأة جنب، كما يقال رجل رضى وقوم رضى وإنما هو على تأويل ذووا أجنب، لأنه مصدر.
والمصدر يقوم مقام ما أضيف إليه، ومن العرب من يثنّي ويجمع ويجعل
[معاني القرآن: 2/154]
المصدر بمنزلة اسم الفاعل، وإذا جمع جنب، قلت في الرّجال جنبون، وفي النساء جنبات، وللاثنين جنبان.
وقوله: (فاطّهّروا).
معناه فتطهروا، إلا أن التاء تدغم في الطاء لأنهما من مكان واحد.
وهما مع الدال من طرف اللسان، وأصول الثنايا العليا، فإذا أدغمت التاء في الطاء. سقط أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل، فابتدأت فقلت اطهروا.
وبين عزّ وجلّ ما طهارة الجنب في سورة النساء بالغسل فقال:
(ولا جنبا إلّا عابري سبيل حتّى تغتسلوا).
والغائط - كناية عن مكان الحدث، والغيطان ما انخفض من الأرض.
وقوله: عزّ وجلّ: (فتيمّموا صعيدا طيّبا).
أي اقصدوا، وقد بيّنّا الصعيد في سورة النساء.
وقوله عزّ وجلّ: (ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج).
أي من ضيق.
(ولكن يريد ليطهّركم).
واللام دخلت لتبيّن الإرادة.
المعنى إرادته ليطهركم.
قال الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنّما... تمثل لي ليلى بكل سبيل
وقوله عزّ وجلّ: (يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين للّه شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنئان قوم على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتّقوى واتّقوا اللّه إنّ اللّه خبير بما تعملون (8)
(قوّامين للّه شهداء بالقسط)
أي بالعدل.
[معاني القرآن: 2/155]
(شهداء).
أي مبينين عن دين الله لأن الشاهد يبيّن ما شهد عليه.
وقوله: (ولا يجرمنّكم شنئان قوم على ألّا تعدلوا).
فشنآن قوم معناه بغض قوم.
أي: لا يحملنكم بغضكم المشركين على ترك العدل.
ومن قال شنآن قوم، فمعناه بغض قوم، ويقال: أجرمني كذا وكذا، وجرمني، وجرمني، وأجرمت بمعنى واحد.
وقد قيل لا يجرمنّكم: لا يدخلنّكم في الجرم كما تقول آثمته أي أدخلته في الإثم.
وقوله عزّ وجلّ: (وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (9)
هذا تمام الكلام، يقال وعدت الرجل تريد وعدته خيرا، وأوعدت الرجل تريد أوعدته شرا، وإذا ذكرت الموعود قلت فيهما جميعا واعدته. وإذا لم تذكر الموعود قلت في الخير وعدته وفي الشر أوعدته.
فقال عزّ وجلّ: (وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات)، فدل على الخير، ثم بين ذلك الخير فقال: (لهم مغفرة) أي تغطية على ذنوبهم.
(وأجر عظيم) جزاء على إيمانهم.
وقوله: (يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمت اللّه عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم واتّقوا اللّه وعلى اللّه فليتوكّل المؤمنون (11)
يروى في التفسير أن بني قريظة وبني النضير كانوا عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترك القتال وعلى أن يعينهم في دياتهم ويعينوه في ديات المسلمين، فأصيب رجلان من المسلمين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم في دياتهما، فوعدوه
[معاني القرآن: 2/156]
لوقت يصير إليهم فيه، فصار النبي هو وأبو بكر وعمر وعليّ، فلما صاروا إليهم هموا بالغدر وأن يقتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، فأوحى الله إليه وأعلمه ما عزموا عليه، فخرجوا من المكان الذي كانوا فيه، فأعلمهم اليهود أن قدورهم تغلي، فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - أنّه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه.
وهذه من الآيات التي تدل على نبوته.
وقيل إن هذا مردود على قوله: (اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم)
أي قد أعطيتم الظفر عليهم، فقال:
(يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمت اللّه عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم).
وكلا الوجهين - واللّه أعلم - جائز، لأن الله جل ثناؤه قد أظهر الإسلام على سائر الأديان.
وقوله: (ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال اللّه إنّي معكم لئن أقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم اللّه قرضا حسنا لأكفّرنّ عنكم سيّئاتكم ولأدخلنّكم جنّات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السّبيل (12)
أي أخذ الله منهم الميثاق على توحيده والإيمان برسله.
(وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا).
النقيب في اللغة كالأمير، والكفيل، ونحن نبين حقيقته واشتقاقه إن شاء اللّه.
يقال: نقب الرجل على القوم ينقب إذا صار نقيبا عليهم، وما كان الرجل نقيبا، ولقد نقب، وصناعته النقابة وكذلك عرف عليهم إذا صار عريفا،
[معاني القرآن: 2/157]
ولقد عرف، ويقال لأول ما يبدو من الجرب النّقبة، ويجمع: النّقب.
قال الشاعر:
متبذّلا تبدو محاسنه... يضع الهناء مواضع النّقب
والنّقبة وجمعها نقب سراويل تلبسه المرأة بلا رجلين، ويقال فلانة حسنة النّقبة والنّقاب، ويقال في فلان مناقب جميلة، وهو حسن النقيبة، أي حسن الخليقة، ويقال كلب نقيب، وهو أن تنقب حنجرة الكلب لئلا يرتفع صوته في نباحه، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف بسماع نباح الكلاب.
وهذا الباب كله يجمعه التأثير الذي له عمق ودخول، فمن ذلك نقبت الحائط، أي بلغت في الثقب آخره، ومن ذلك النقبة من الجرب لأنه داء شديد الدخول، والدليل على ذلك أن البعير يطلى بالهناء فيوجد طعم القطران
[معاني القرآن: 2/158]
في لحمه، والنّقبة هذه السراويل التي لا رجلين لها، قد بولغ في فتحها ونقبها، ونقاب المرأة وهو ما ظهر من تلثّمها من العينين والمحاجر، والنّقب والنّقب الطريق في الجبل، وإنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إلى معرفة أمورهم.
وقوله عزّ وجلّ: (وعزّرتموهم).
قال أبو عبيدة: (عزّرتموهم) عظمتموهم. قال غيره: عزرتموهم:
نصرتموهم. وهذا هو الحق - واللّه أعلم - وذلك أن العزر في اللغة الرّدّ.
وتأويل عزّرت فلانا - أي أدّبته - فعلت به ما يردعه عن القبيح كما أن نكّلت به، فعلت به ما يجب أن ينكل معه عن المعاودة، فتأويل (عزّرتموهم) نصرتوهم بأن تردوا عنهم أعداءهم.
وقال الله عزّ وجلّ (وتعزّروه وتوقّروه)
فلو كان التعزير هو التوقير لكان الأجود في اللغة الاستعانة والنصرة إذا وجبت، فالتعظيم داخل فيها، لأن نصرة الأنبياء هي المدافعة عنهم والذبّ عن دمهم وتعظيمهم وتوقيرهم.
وقوله عزّ وجلّ: (فقد ضلّ سواء السّبيل).
أي فقد ضل قصد السبيل.
وقوله عزّ وجلّ: (فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّا ممّا ذكّروا به ولا تزال تطّلع على خائنة منهم إلّا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إنّ اللّه يحبّ المحسنين (13)
(فبما نقضهم)
" ما " لغو، المعنى: فبنقضهم ميثاقهم، ومعنى " ما " الملغاة في العمل توكيد القصة.
(لعنّاهم) أي باعدناهم من الرّحمة، وجعلنا قلوبهم قاسية أي يابسة،
[معاني القرآن: 2/159]
يقال للرجل الرحيم: لين القلب، وللرجل غير الرحيم: قاسي القلب ويابس القلب، والقاسي في اللغة، والقاسح - بالحاء -: الشديد الصلابة.
وقوله: (يحرفون الكلم عن مواضعه).
الكلم جمع كلمة، وتأويل يحرفون؛ يغيرونه على غير ما أنزل.
وقوله عزّ وجلّ: (ونسوا حظّا ممّا ذكّروا به).
معنى نسوا: تركوا نصيبا مما ذكروا به.
وقوله: (ولا تزال تطّلع على خائنة منهم).
خائنة في معنى خيانة، المعنى: لا تزال تطلع على خيانة منهم، وفاعلة في أسماء المصادر كثيرة، نحو عافاه اللّه عافية، وقوله: (فأهلكوا بالطّاغية)، وقد يقال رجل خائنة.
قال الشاعر:
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن...للغدر خائنة مغلّ الإصبع
قال خائنة على المبالغة لأنه يخاطب رجلا، يقول: لا تحملن فتغلل
[معاني القرآن: 2/160]
إصبعك في المتاع فتدخلها للخيانة، (ومغل يدك من خائنة) ويجوز أن يكون - واللّه أعلم - على خائنة أن على فرقة خائنة.
وقوله: (إلا قليلا منهم).
منصوب بالاستثناء.
وقوله: (ومن الّذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّا ممّا ذكّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبّئهم اللّه بما كانوا يصنعون (14)
(فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)
يعنى به النصارى، ويعني قوله: أغرينا ألصقنا بهم ذلك، يقال: غريت بالرجل غرى - مقصور - إذا لصقت به، وهذا قول الأصمعي
وقال غير الأصمعي: غريت به غراء، وهو الغراء الذي يغرّى إنما تلصق به الأشياء، وتأويل (أغرينا بينهم العداوة والبغضاء) أنّهم صاروا فرقا يكفّر بعضهم بعضا، منهم النسطورية، واليعقوبية والملكانيّة، وهم الروم، فكل فرقة منهم تعادي الأخرى.
وقوله جلّ وعزّ: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرا ممّا كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين (15)
(قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين).
النور هو: محمد - صلى الله عليه وسلم - والهدى أو النور هو الذي يبين الأشياء، ويرى الأبصار حقيقتها، فمثل ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في القلوب في بيانه وكشفه الظلمات كمثل النور.
(يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام ويخرجهم من الظّلمات إلى النّور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام ويخرجهم من الظّلمات إلى النّور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)
(يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه).
ورضوانه - بالكسر والضم.
(سبل السّلام).
جميع سبيل، والسبل: الطرق، فجائز أن يكون - واللّه أعلم – طرق السلام أي طرق السلامة التي من ملكها سلم في دينه، وجائز أن يكون - واللّه أعلم - سبل السلام، طرق اللّه، والسلام اسم من أسماء اللّه.
[معاني القرآن: 2/161]
وقوله: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترة من الرّسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير واللّه على كلّ شيء قدير (19)
(على فترة من الرّسل).
أي: على انقطاع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بعد انقطاع الرسل لأن الرسل كانت إلى وقت رفع عيسى تترى، أي متواترة، يجيء بعضها في إثر بعض.
وقوله جلّ وعزّ: (أن تقولوا ما جاءنا من بشير).
قال بعضهم معناه أن لا تقولوا ما جاءنا من بشير، أي بعث اللّه النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا تقولوا ما جاءنا من بشير.
ومثله قوله عزّ وجلّ: (يبين اللّه لكم أن تضلوا) معناه أن لا تضلوا.
وقال بعضهم: أن تقولوا: معناه كراهة أن تقولوا.
وحذفت كراهة، كما قال جلّ وعزّ: (واسأل القرية).
معناه: سل أهل القرية.
وقد استقصينا شرح هذا في آخر سورة النساء.
وقوله عزّ وجلّ: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين (20)
(وجعلكم ملوكا).
مثل جعلكم تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب.
وقال بعضهم: جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم فيها إلّا بإذن.
والمعنى راجع إلى ملك الأمر.
وقوله: (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين).
وهو أن اللّه - جلّ وعزّ - أنزل عليهم المنّ والسّلوى، وظلّل عليهم الغمام.
وقوله: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة الّتي كتب اللّه لكم ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (21)
المقدسة: المطهّرة، وقيل في التفسير إنها دمشق، وفلسطين، وبعض
[معاني القرآن: 2/162]
الأردن وبيت المقدس، وإنما سمّي بالمقدس لأن المقدس: المكان الذي يتطهر فيه. فتأويله البيت الذي يطهر الإنسان من العيوب، ومن هذا قيل: القدس، أي الذي يتطهر منه، كما قيل: مطهرة لما يتوضأ منه، إنما هي مفعلة من الطهر.
وقوله عزّ وجلّ: (قالوا يا موسى إنّ فيها قوما جبّارين وإنّا لن ندخلها حتّى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون (22)
تأويل الجبار من الآدميين: العاتي الذي يجبر النّاس على ما يريد، واللّه - عزّ وجلّ - الجبار العزيز، وهو الممتنع من أن يزلّ، واللّه عزّ وجلّ يأمر بما أراد، لا رادّ لأمره، ولا معقب لحكمه.
وإنّما وصفوهم بالقدرة والتكبّر، والمنعة.
و(قوما) منصوب بـ أن، و (جبارين) من صفتهم، والخبر قوله: (فيها).
وقوله (قال رجلان من الّذين يخافون أنعم اللّه عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون وعلى اللّه فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين (23)
أي أنعم اللّه عليهما بالإيمان.
(ادخلوا عليهم الباب).
فكأنّهما علما أن ذلك الباب إذا دخل منه وقع الغلب.
وقوله: (قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون (24)
أي لسنا نقبل مشورة في دخولها، ولا أمرا، وفيها هؤلاء الجبارون، فأعلم اللّه جلّ ثناؤه أن أهل الكتاب هؤلاء غير قابلين من الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الخلاف شأنهم.
وفي هذا الإعلام دليل على تصحيح نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أعلمهم ما لا
[معاني القرآن: 2/163]
يعلم إلا من قراءة كتاب أو إخبار، أو وحي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منشؤه معروف بالخلوّ من ذكر أقاصيص بني إسرائيل، وبحيث لا يقرأ كتبهم، فلم يبق في علم ذلك إلا الوحي.
وقوله: (فاذهب أنت وربّك فقاتلا).
كلام العرب: اذهب أنت وزيد، والنحويون يستقبحون اذهب وزيد.
لأنه لا يعطف بالاسم الظاهر على المضمر، والمضمر في النية لا علامة له، فكان الاسم يصير معطوفا على ما هو متصل بالفعل غير مفارق له.
فأمّا قوله: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) فمن رفع فإنما يجوز ذلك لأن المفعول يقوي الكلام، وكذلك ضربت زيدا وعمرو. كما يقوي الكلام دخول لا، قال الله جل ثناؤه: (لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا).
وقوله: (قال ربّ إنّي لا أملك إلّا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (25)
(أخي) في موضع رفع، وجائز أن يكون في موضع نصب.
المعنى: قال ربي إني لا أملك إلا نفسي، وأخي أيضا لا يملك إلا نفسه، ورفعه من جهتين إحداهما: أن يكون نسقا على موضع إني.
المعنى أنا لا أملك إلا نفسي وأخي كذلك.
ومثله قوله: (أنّ اللّه بريء من المشركين ورسوله) وجائز أن يكون عطفا على " ما " في قوله أملك فالمعنى أنا لا
[معاني القرآن: 2/164]
أملك أنا وأخي إلا أنفسنا، وجائز أن يكون أخي في موضع نصب من جهتين إحداهما: أن يكون نسقا على الياء في إني.
المعنى إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا، وإني لا أملك إلا نفسي.
وأن أخي لا يملك إلا نفسه، وجائز أن يكون معطوفا على نفسي، فيكون المعنى لا أملك إلا نفسي، ولا أملك إلا أخي، لأن أخاه إذا كان مطيعا له فهو ملك طاعته.
وقوله: (إذ جعل فيكم أنبياء).
لا يصرف (أنبياء) لأنه مبني على ألف التأنيث، وهو غير مصروف في المعرفة والنكرة لأن فيه علامة التأنيث، وهي مع أنّها علامة التأنيث مبنية مع الاسم على غير خروج التأنيث عن التذكير نحو قائم، وقائمة.
وقوله: (قال فإنّها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين (26)
يعني أن الأرض المقدسة محرّم عليهم دخولها أيهم ممنوعون من ذلك، قال بعض النحويين: أربعين سنة يجوز أن تكون منصوبة بقوله (محرّمة).
ويجوز أن يكون منصوبا بقوله (يتيهون)، أما نصبه ب (محرّمة) فخطأ، لأن التفسير جاء بأنها محرمة عليهم أبدا.
فنصب أربعين سنة بقولهم (يتيهون).
وقيل عذبهم اللّه بأن مكثوا في التيه أربعين سنة سيارة لا يقرهم قرار إلى أن مات البالغون الذين عصوا اللّه ونشأ الصغار وولد من لم يدخل في جملتهم في المعصية، وقيل إن موسى وهارون كانا معهم في التيه.
قال بعضهم لم يكن موسى وهارون في التيه لأن التيه عذاب، والأنبياء لا يعذبون.
وجائز أن يكون
[معاني القرآن: 2/165]
كانا في التيه وأن الله جل اسمه سهّل عليهما ذلك كما سهّل على إبراهيم النار فجعلها عليه بردا وسلاما وشأنها الإحراق.
وقوله: (فلا تأس على القوم الفاسقين).
جائز أن يكون هذا خطابا لموسى، وجائز أن يكون خطابا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل.