بَابُ دُخْولِ مَكَّةَ والبيتِ
الْحَدِيثُ السابعَ عشرَ بعد الْمِائَتَيْنِ
- عن أنسِ بنِ مالكٍ رضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جاءَهُ رَجُلٌ فقالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: “ اقْتُلُوهُ “.(15)
الْحَدِيثُ الثامنَ عشَرَ بعدَ الْمِائَتَيْنِ
- عن عبدِ اللَّهِ بنِ عُمرَ رضِيَ اللَّهُ عنهما، أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءَ، مِن الثَّنِيَّةِ العُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ الثَّنيَّةِ السُّفْلَى. (16)
الْحَدِيثُ التاسعَ عشرَ بعدَ الْمِائَتَيْنِ
عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رضِيَ اللَّهُ عنهما قالَ: دَخَلَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البَيْتَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلاَلٌ، وَعُثمانُ بنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ البَابَ، فَلَمَّا فَتَحُوا البَابَ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلِقيتُ بِلاَلًا، فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمانِيَّيْنِ.(17)
بَابُ الطَّوافِ وأدَبِهِ
الْحَدِيثُ العشرونَ بعدَ الْمِائَتَيْنِ
عن عمرَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ، أَنَّهُ جاءَ إلَى الحَجَرِ الأسْوَدِ وقَبَّلَهُ، وقالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ.(18)
الْحَدِيثُ الحادِي والعشرونَ بعدَ الْمِائَتَيْنِ
- عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللَّهُ عنهما قالَ: قَدِمَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مكَّةَ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فأَمَرَهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْواطَ كلَّهَا، إِلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.(19)
الْحَدِيثُ الثانِي والعِشْرُونَ بعدَ الْمِائَتَيْنِ
عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا استَلَمَ الرُّكنَ الْأَسْوَدَ أوَّلَ مَا يَطُوفُ، يَخُبُّ ثَلاَثَةَ أشْوَاطٍ.(20)
الْحَدِيثُ الثالثُ والعِشْرُونَ بعدَ الْمِائَتَيْنِ
- عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللَّهُ عنهما قالَ: طَافَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ.
المِحْجَنُ: عصًا محنيَّةُ الرأسِ.(21)
الْحَدِيثُ الرابعُ والعِشْرُونَ بعدَ الْمِائَتَيْنِ
عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رضِيَ اللَّهُ عنهما قالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ اليمانِيَّيْنِ.(22)
_____________________
( 15 ) الغريبُ:
المِغْفَرُ: بوزنِ مِنْبَر، زَرْدٌ يُنْسَجُ من حديدٍ علَى قدرِ الرأسِ، وِقايَةً لَهُ من وقْعِ السيفِ ( ابنُ خَطَلٍ ): بالخاءِ المُعجَمَةِ، والطاءِ المُهمَلةِ المفتوحتيْنِ، اختُلفَ في اسمِهِ. قيلَ: هلالٌ، وقيلَ غيرُ ذلك، وقاتِلُهُ أبو بَرْزةَ الأسلميُّ.
المعنَى الإجماليُّ:
كان بينَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وبين كفَّارِ قريشٍ حروبٌ كثيرةٌ ممَّا أوغرَ صدورَهم.
فلمَّا كانَ فتْحُ مكَّةَ، دخلَهَا صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في حالةِ حِيطةٍ وحَذَرٍ، فوضعَ علَى رأسِهِ المِغْفَرَ.
وكان صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قد حضَّ علَى أُناسٍ من المشركينَ أنْ يُقْتَلُوا، ولو وُجِدُوا في أستارِ الكعْبَةِ، وسمَّى منهم ( ابنَ خَطَلٍ ) الذي أسلمَ، ثم قتَلَ مُسْلِمًا, وارتدَّ عن الإسلامِ، وذهبَ إلَى الكفَّارِ، فجعَلَ جوارِيَه يُغَنِّينَ بهجاءِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ.
فلمَّا وضعت الحربُ أوزارَهَا ذلك اليومَ، وأمَّنَ أهلَ مكَّةَ، واستأمنَ منهم، ووضَعَ المِغْفَرَ، وجدَ بعضُ الصحابةِ ( ابنَ خَطَلٍ ) متعلِّقًا بأستارِ الكعبةِ، عائذًا بحُرمتِهَا من القتلِ؛ لِمَا يعلمُ من سُوءِ صنيعِهِ، وقُبْحِ سابقتِهِ، فتحَرَّجُوا من قتْلِهِ قبلَ مراجعةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ. فلما راجعُوهُ قال: اقتلُوهُ. فقُتِلَ بين الحِجْرِ والمقامِ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1- كوْنُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ دخلَ مكَّةَ غيرَ مُحرِمٍ، إذْ دخلَ وعلَى رأسِهِ المغفرُ، وعليهِ أيضًا عمامةٌ سوداءُ، كما في صحيحِ مسلمٍ، فيجوزُ دخولُهَا في مثلِ هذهِ الحالِ بلا إحرامٍ.
2- تقديمُ الجهادِ علَى النُّسُكِ؛ لأنَّ مصالحَ الأوَّلِ أعمُّ وأنفعُ.
3- كوْنُ مكَّةَ فُتِحتْ عَنوةً، كما هو مذهبُ الأئمَّةِ الثلاثةِ، لا صُلحًا, كما هو مذهبُ الشافعيِّ.
4- جوازُ فعلِ الأسبابِ المُباحةِ الواقيةِ، وأنَّ ذلك لا يُنافي التوكُّلَ علَى اللَّهِ تعالَى.
5- فيهِ جوازُ إقامةِ الحدودِ في الحرمِ, ولو بالقتْلِ؛ لأنَّ قتْلَ ابنِ خَطَلٍ، كانَ بعد انتهاءِ القتالِ الذي أُبيحَ في ساعةِ الدخولِ. واللَّهُ أعلمُ.
( 16 ) الغريبُ:
كَدَاء: بفتحِ الكافِ والمدِّ، اسمٌ للثنيَّةِ التي في أعلَى مكَّةَ، وهي ( رَيْعُ الحَجونِ ) وتقولُ العامَّةُ: ( الحجولُ ) وهو تحريفٌ.
الثنيَّةُ السفلَى: الثَّنِيَّةُ هي الطريقُ بين الجبليْنِ.
والمرادُ بهَا، الطريقُ الذي يخرجُ من المحلَّةِ المسمَّاةِ ( حارةَ البابِ ) وتُسمَّى الثنيَّةَ الآنَ ( رَيْعُ الرسَّامِ ). وتُسمَّى الثنيَّةُ السفلَى: كُدًى - بضمِّ الكافِ وقصْرِ الألفِ.
المعنَى الإجماليُّ:
حجَّ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حجَّةَ الوداعِ، فباتَ ليلةَ دخولِهِ بـ ( ذي طَوًى ) لأربعٍ خَلَوْنَ من ذي الحجَّةِ.
وفي الصباحِ دخلَ مكَّةَ من الثنيَّةِ العُليا، التي تأتي من بينِ مقابرِ مكَّةَ؛ لأنَّهُ أسهلُ لدخولِهِ، إذا أتَى من المدينةِ.
فلما فرغَ من مناسكِهِ خرجَ من مكَّةَ إلَى المدينةِ من أسفلِ مكَّةَ، وهي الطريقُ التي تأتِي علَى ( جَرْوَلٍ ).
ولعلَّ في مخالفةِ الطريقيْنِ تكثيرًا لمواضعِ العبادةِ، كما فعلَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في الذَّهابِ إلَى عرفةَ والإيابِ منهَا، ولصلاةِ العيدِ والنفْلِ، في غيرِ موضعِ الصلاةِ المكتوبةِ، لَتشْهَدَ الأرضُ علَى عمَلِهِ عَليهَا يومَ تُحَدِّثُ أخبارَهَا، أو لكوْنِ مَدْخَلِهِ ومَخْرَجِهِ مناسبيْنِ لمَن جاءَ من المدينةِ، وذهبَ إليهَا، واللَّهُ أعلمُ.
( 17 ) المعنَى الإجماليُّ:
لمَّا فتحَ اللَّهُ تباركَ وتعالَى مكَّةَ، وطهَّرَ بيتَهُ من الأصنامِ والتماثيلِ والصُّوَرِ، دخلَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ الكعبةَ المشرَّفةَ، ومعَهُ خادِمَاهُ: بلالٌ وأسامةُ، وحاجبُ البيتِ عثمانُ بنُ طلحةَ.
فأغلَقُوا عليهم البابَ؛ لئلاَّ يتزاحمَ الناسُ عند دخولِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فيهَا ليَرَوْا كيفَ يتعبَّدُ، فَيشْغَلوهُ عن مقصدِهِ في هذا الموطنِ، وهو مُناجاةُ ربِّهِ وشكرُهُ علَى نعمِهِ؛ فلمَّا مكثُوا فيهَا طويلاً، فتَحوا البابَ.
وكان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ حريصًا علَى تتبُّعِ آثارِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، والأمكنةِ التي يأتِيهَا ولو لغيرِ عبادةٍ، ولذا فإنَّهُ كانَ أوَّلَ داخلٍ لمَّا فُتِحَ البابُ.
فسألَ بلالاً: هل صلَّى فيهَا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؟ قال: نعمْ، بين العموديْنِ اليمانيَّيْنِ، وكانت الكعبةُ المشرَّفةُ – إذ ذاكَ – علَى ستَّةِ أعمدةٍ، فجعلَ ثلاثةً خلفَ ظهرِهِ، واثنيْنِ عن يمينِهِ، وواحدًا عن يسارِهِ، وجعلَ بينَهُ وبين الحائطِ ثلاثةَ أذرعٍ، فصلَّى ركعتيْنِ، ودعا في نواحيها الأربعِ.
ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1- استحبابُ دخولِ الكعبةِ المشرَّفةِ، والصلاةِ فيهَا، والدعاءِ في نواحِيهَا. وذكرَ ابنُ تيميَّةَ أنَّ دخولَهَا ليس فرضًا, ولا سُنَّةً، ولكنَّهُ حسنٌ.
2- أنَّ دخولَهَا ليسَ من مناسِكِ الحجِّ، وإنَّما هي فضيلةٌ في ذاتِها، ولهذا فإنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لم يَدْخُلْهَا في حجَّتِهِ، وإنَّما دخلَهَا في عامِ الفتحِ.
وهذا هو التحقيقُ، في أنَّهُ لم يدخلْهَا إلا مرَّةً واحدةً.
اختلافُ العُلماءِ:
الجمهورُ علَى جوازِ صلاةِ النافلةِ في الكعبةِ المشرَّفةِ وفوقَهَا، إلا ما حُكِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ، وإنَّما الخلافُ في جوازِ الفرضِ فيهَا. وفوقَ سطحِهَا، ومثلُهَا الحِجْرُ.
فذهبَ الإمامُ أحمدُ، ومالكٌ في المشهورِ عنهُ إلَى أنَّهَا لا تصحُّ، مستدلِّينَ بقولِهِ تعالَى: ( وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) والمُصلِّي فيهَا أو علَى سطحِهَا غيرُ مستقبلٍ لجهتِهَا. وأمَّا النافلةُ فمبنَاهَا علَى التخفيفِ. فتجوزُ فيهَا وعليهَا. وبما رُوِيَ عن ابنِ عمرَ: أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ نهَى أنْ يُصَلَّى في سبعٍ:
1- المَزْبَلةُ 2- والمَجْزَرةُ 3- والمَقْبَرةُ 4- وقارعةُ الطريقِ 5- والحمَّامُ 6- ومَعاطِنُ الإبلِ 7- وفوقَ ظهرِ بيتِ اللَّهِ. رواهُ الترمذيُّ.
وذهبَ الإمامانِ: أبو حنيفةَ والشافعيُّ، إلَى صحَّةِ الفريضةِ فيهَا وفوقَهَا، وكذلك في الحِجْرِ، ودليلُهم علَى ذلك صلاةُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فيهَا.
وما ثبتَ في حقِّ النفلِ، يثبُتُ في حقِّ الفرضِ بلا فرقٍ إلا بدليلٍ، ولا دليلَ.
ولو سُلِّمَ استدلالُنَا بالآيةِ، علَى عدمِ صحَّةِ الفرضِ، لكانَ دليلاً علَى عدمِ النافلةِ أيضًا. وأمَّا حديثُ ابنِ عمرَ، فلو صحَّ، لكانَ عامًّا للفريضةِ والنافلةِ، ولكن ضعَّفَهُ مُخْرِجُهُ، وهو الترمذيُّ. وقال البخاريُّ: فيهِ رجلٌ متروكٌ.
واستدلُّوا بحديثِ: " جُعِلتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا "، والكعبةُ المشرَّفةُ أوْلَى الأرضِ بذلك. واللَّهُ أعلمُ.
( 18 ) المعنَى الإجماليُّ:
الأمكنةُ والأزمنةُ وغيرُهَا من الأشياءِ، لا تكونُ مقدَّسةً مُعظَّمةً تعظيمَ عبادةِ اللَّهِ لذاتِهَا، وإنَّما يكونُ لهَا ذلك بشرعٍ.
ولهذا جاءَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللَّهُ عنهُ إلَى الحجَرِ الأسودِ وقبَّلَهُ بين الحجيجِ، الذين هم حديثُو عهدٍ بعبادةِ الأصنامِ وتعظيمِهَا, وبَيَّنَ أنَّهُ ما قَبَّلَ هذا الحجَرَ وعظَّمَهُ من تلقاءِ نفسِهِ، أو لأنَّ الحجَرَ يحصلُ منهُ نفعٌ أو مضرَّةٌ، وإنَّما هي عبادةٌ تلقَّاهَا من المُشرِّعِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقد رآهُ يُقَبِّلُهُ فَقَبَّلَهُ، تَأَسِّيًا واتِّبَاعًا، لا رأيًا وابتداعًا.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1- مشروعيَّةُ تقبيلِ الحجرِ الأسودِ للطائفينَ عندَما يُحاذونَهُ، إنْ أمكنَ بسهولةٍ.
2- أنَّ تقبيلَهُ ليسَ لنفعِهِ أو ضرِّهِ أو ضررِهِ، وإنَّما هو عبادةٌ لِلَّهِ تعالَى، تلقَّيْنَاهَا عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ.
3- أنَّ العباداتِ توقيفيَّةٌ، فلا يُشْرَعُ منهَا إلا ما شرَعَهُ اللَّهُ ورسولُهُ، ومعنَى هذا أنَّ العباداتِ لا تكونُ بالرأيِ والاستحسانِ، وإنَّما تُتلقَّى عن المشرِّعِ، وهذِهِ قاعدةٌ عظيمةٌ نافعةٌ، تُؤْخَذُ من كلامِ المُحدَّثِ المُلهَمِ، أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي اللَّهُ عنهُ وأرضاهُ.
4- تبيُّنُ ما يُوهِمُ العامَّةَ من مشاكلِ العِلْمِ حتَّى لا يَعْتَقِدوا غيرَ الصوابِ.
5- أنَّ فعلَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ من سُنَّتِهِ المتَّبعَةِ، فليس هناك خصوصيَّةٌ إلا بدليلٍ.
6- أنَّهُ إذا صحَّ عن الشارعِ عبادةٌ، عُمِلَ بهَا, ولو لم تُعْلَمْ حكمتُهَا، علَى أنَّ إذعانَ الناسِ وطاعتَهم في القيامِ بهَا من الحِكَمِ المقصودةِ.
7- قال شيخُ الإسلامِ: ويُستحبُّ للطائفِ أنْ يذكُرَ اللَّهَ تعالَى ويدْعُوَهُ بما يُشْرَعُ من الأدعيَةِ والأذكارِ، وإنْ قرأَ سرًّا فلا بأسَ. وليس للطوافِ ذكرٌ محدَّدٌ عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، لا بأمرِهِ ولا بقولِهِ، ولا بتعليمِهِ، بل يدعُو فيهِ بسائرِ الأدعيَةِ الشرعيَّةِ، وما يذكرُهُ كثيرٌ من الناسِ من دعاءٍ معيَّنٍ تحتَ الميزابِ, ونحوَ ذلك فلا أصلَ لهُ.
وكان صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يَخْتِمُ طوافَهُ بينَ الركنيْنِ بـ: ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِـرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ).
( 19 ) الغريبُ:
وَهَنَتْهُمْ: بتخفيفِ الهاءِ، أيْ: أَضْعَفَتْهم.
يَثْرِب: من أسماءِ المدينةِ النبويَّةِ في الجاهليَّةِ.
أنْ يَرْمُلُوا: بضمِّ الميمِ ( الرَّمَلُ ) هو الإسراعُ في المشيِ مع تقاربِ الخُطَا.
الأشْوَاطُ: بفتحِ الهمزةِ، جمعُ شَوطٍ بفتحِ الشينِ، وهو الجريَةُ الواحدةُ إلَى الغايةِ.
والمرادُ هنا، الطَّوْفةُ حولَ الكعبةِ.
الإبقاءُ عليهم: بكسرِ الهمزةِ والمدِّ، الرفقُ بهم، والشفقةُ عليهم.
المعنَى الإجماليُّ:
جاءَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ سَنَةَ ستٍّ من الهجرةِ إلَى مكَّةَ مُعْتَمِرًا، ومعهُ كثيرٌ من أصحابِهِ. فخرجَ لقتالِهِ وصدِّهِ عن البيتِ كفَّارُ قريشٍ، فحصلَ بينهم صُلحٌ، من مَوادِّهِ: أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وأصحابَهُ يَرْجِعونَ هذا العامَ، ويأتونَ في العامِ القابلِ مُعتمرِينَ، ويُقيمونَ في مكَّةَ ثلاثةَ أيَّامٍ:
فجاءُوا في السَّنَةِ السابعةِ [لعُمرةِ القضاءِ].
فقالَ المشركوْنَ، بعضُهم لبعضٍ ـ تَشَفِّيًا وشَماتةً ـ: إنَّهُ سيَقْدَمُ عليكم قومٌ، وقد وَهَنَتْهُم وأضعفتْهُم حُمَّى يثربَ.
فلمَّا بلغَ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالتُهم، أرادَ أنْ يَرُدَّ قولَهم ويَغِيظَهم.
فأمرَ أصحابَهُ أنْ يُسْرِعُوا إلا فيما بين الرُّكْنِ اليمانيِّ، والركنِ الذي فيهِ الحَجَرُ الأسودُ فيَمْشُوا، رفقًا بهم، وشفقةً عليهم، حين يكونونَ بين الركنيْنِ لا يراهم المشركونَ، الذين تسلَّقوا جبلَ [ قُعَيْقِعانَ ] لينظرُوا إلَى المسلمينَ, وهم يطوفونَ، فغاظَهم ذلك حتَّى قالُوا: إنْ هُم إلا كالغِزلانِ.
فكانَ هذا الرَّمَلُ سُنَّةً مُتَّبعةً في طوافِ القادمِ إلَى مكَّةَ، تذكُّرًا لواقعِ سلفِنا الماضينَ، وتأسِّيًا بهم في مواقفِهم الحميدِةِ، ومصابرتِهِم الشديدةِ، وما قامُوا فيهِ من جليلِ الأعمالِ، لنُصرةِ الدِّينِ، وإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ. رزَقَنا اللَّهُ اتَّباعَهم، واقتفاءَ أثَرِهم.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1- أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وأصحابَهُ، رمَلُوا في الأشواطِ الثلاثةِ الأُوَلِ ما عدَا ما بينَ الركنيْنِ، فقد رخَّصَ لهم في تركِهِ, إبقاءً عليهم، وذلك في عُمرةِ القضاءِ.
ويأتي استحبابُهُ في كلِّ الثلاثةِ، وتحقيقُ البحثِ في الحديثِ الذي بعدَ هذا إنْ شاءَ اللَّهُ تعالَى.
2- استحبابُ الرَّمَلِ في كلِّ طوافٍ وقعَ بعدَ قدومٍ، سواءٌ أكانَ لنُسكٍ أم لا، ففي صحيحِ مسلمٍ: ( كَانَ ذلك إذا طافَ الطوافَ الأوَّلَ ).
3- إظهارُ القوَّةِ والجَلَدِ أمامَ أعداءِ الدِّينِ، إغاظةً لهم، وتوهينًا لعزمِهم، وفَتًّا في أعضادِهم.
4- أنَّ من الحكمةِ في الرَّمَلِ الآنَ تذكُّرَ حالِ سلفِنا الصالحِ في كثيرٍ من مناسكِ الحجِّ، كالسعيِ، وَرَمْيِ الجمارِ، والهَدْيِ، وغيرِهَا.
5- الرَّمَلُ مختصٌّ بالرجالِ دونَ النساءِ؛ لأنَّهُ مطلوبٌ منهنَّ التستُّرُ.
6- لو فاتَ الرَّمَلَ في الثلاثةِ الأُوَلِ، فإنَّهُ لا يقضِيهِ؛ لأنَّ المطلوبَ في الأربعةِ الباقيةِ المشيُ، فلا يُخْلِفُ هيئتَهُنَّ، فتكونَ سُنَّةً فاتَ محلُّهَا.
( 20 ) الغريبُ:
يَخُبُّ - الخَبَبُ: نوعُ مِن الْعَدْوِ، وقِيلَ: هو الرَّمَلُ، وعلَى هذا فهُما مترادفانِ.
المعنَى الإجماليُّ:
كانَ ابنُ عمرَ رضي اللَّهُ عنهما من الحريصينَ علَى تتبُّعِ أفعالِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ومعرفتِهَا، والبحثِ عنهَا، ولذا فإنَّهُ يَصِفُ طوافَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ الذي يكونُ بعدَ قدومِهِ بأنَّهُ يَرْمُلُ في الأشواطِ الثلاثةِ كلِّهَا بعد أنْ يَسْتَلِمَ الحَجَرَ الأسودَ، الذي هو مُبْتَدَأُ كلِّ طوافٍ، تذكُّرًا لحالِهم السابقةِ، يومَ كانوا يفعلونَهُ إغاظةً للمشركينَ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1- استحبابُ الخَبَبِ، وهو الرَّمَلُ، في الأشواطِ الثلاثةِ الأُوَلِ كلِّهَا، في طوافِ القدومِ.
2- المشيُ في الأربعةِ الباقيةِ منهَا، ولو فاتَهُ بعضُ الرملِ أو كلُّهُ في الثلاثةِ الأُوَلِ؛ لأنَّهَا سُنَّةٌ فاتَ محلُّهَا. فالأربعةُ الأخيرةُ لا رَمَلَ فيهَا.
3- الخببُ في الأشواطِ الثلاثةِ الأُوَلِ كلِّهَا، هو فعلُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بعد عُمرةِ القضاءِ، فيكونُ ناسخًا للمشيِ بين الركنيْنِ في عُمرةِ القضاءِ؛ لأنَّهُ متأخِّرٌ، ولأنَّ الضعفَ المانعَ من الرَّمَلِ فيهَا قد زالَ.
4- رَمَلَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بعدَ زوالِ سببِهِ، لتذكُّرِ تلك الحالِ التي كانوا عليهَا. فنحنُ نرمُلُ إحياءً لتلك الذكرَى.
5- استلامُ الحَجَرِ الأسودِ في ابتداءِ كلِّ طوافٍ، وعند محاذاتِهِ في كلِّ طوفةٍ لمَن سهُلَ عليهِ ذلك، وتقدَّمَ مشروعيَّةُ تقبيلِهِ.
( 21 ) الغريبُ:
المِحْجَنُ: بكسرِ الميمِ وسكونِ الحاءِ المُهمَلةِ، وفتحِ الجيمِ، عصًا محنيَّةُ الرأسِ.
المعنَى الإجماليُّ:
طافَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في حجةِ الوداعِ، وقد تكاثرَ عليهِ الناسُ. منهم: مَن يريدُ النظرَ إلَى صفةِ طوافِهِ. ومنهم: مَن يريدُ النظرَ إلَى شخصِهِ الكريمِ، فازْدحمُوا عليهِ. ومِن كمالِ رأفتِهِ بأُمَّتِهِ ومُساواتِهِ بينهم: أنْ ركِبَ علَى بعيرٍ, فأخَذَ يطوفُ عليهِ ليتساوَى الناسُ في رؤيتِهِ، وكان معَهُ عصًا محنيَّةُ الرأسِ، فكانَ يَسْتَلِمُ بهَا الركنَ, ويُقبِّلُ الحَجَرَ, كما جاءَ في روايةِ مسلمٍ لهذا الحديثِ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1- جوازُ الطوافِ راكبًا مع العُذْرِ؛ لأنَّ المشيَ أفضلُ، وإنَّما ركِبَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ للمصلحةِ. قال ابنُ دقيقِ العيدِ: وهو أنَّ الشيءَ قد يكونُ راجحًا بالنظرِ إلَى محلِّهِ، فإذا عارضَهُ أمْرٌ آخرُ أرجحُ منهُ قُدِّمَ علَى الأوَّلِ، من غيرِ أنْ تزولَ فضيلةُ الأوَّلِ، فإذا زالَ المعارِضُ الراجحُ عادَ الحكمُ الأوَّلُ.
2- استحبابُ استلامِ الركنِ باليدِ، إنْ أمكنَ، وإلا فبعصًا ونحوِهَا، بشرطِ ألاَّ يُؤذِيَ بِهِ الناسَ.
3- جاءَ في مسلمٍ زيادةُ: " وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ "، وأخرجَ مسلمٌ عن ابنِ عمرَ مرفوعًا: " أنَّهُ اسْتَلَمَ الحَجَرَ بيدِهِ, ثم قبَّلَهَا "، قال في فتْحِ البارِي: وبهذا قال الجمهورُ، إنَّ السُّنَّةَ أنْ يستلمَ الركنَ بيدِهِ ويقبِّلَهُ، وإذا لم يستطعْ أنْ يستلِمَهُ بيدِهِ استلمَهُ بشيءٍ وقبَّلَ ذلك الشيءَ.
4- إظهارُ العَالِمِ أفعالَهُ مع أقوالِهِ؛ لتَحْصُلَ بِهِ القدوةُ الكاملةُ، والتعليمُ النافعُ.
5- قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: واسْتُدِلَّ في الحديثِ علَى طهارةِ بوْلِ ما يُؤكلُ لحمُهُ، من حيثُ إنَّهُ لا يُؤْمَنُ بولُ البعيرِ في أثناءِ الطوافِ في المسجدِ.
ولو كانَ نجِسًا، لم يُعَرِّضِ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ المسجدَ للنجاسةِ، وقد مُنِعَ - لتعظيمِ المساجدِ - ما هو أخفُّ من هذا، والأصلُ الطهارةُ إلا بدليلٍ، والدليلُ هنا أيَّدَ الأصلَ.
6- قال شيخُ الإسلامِ: والإكثارُ من الطوافِ بالبيتِ من الأعمالِ الصالحةِ، فهو أفضلُ من أنْ يخرجَ الرجلُ من الحَرَمِ ويأتِيَ بعُمرةٍ مكيَّةٍ، فإنَّ هذا لم يكنْ من أعمالِ السابقينَ الأوَّلِينَ من المهاجرينَ والأنصارِ، ولا رَغِبَ فيهِ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ.
( 22 ) الغريبُ:
الْيَمَانِيَّيْنِ: نسبةً إلَى اليمنِ تغليبًا، كالقمريْنِ، للشمسِ والقمرِ، والعُمَريْنِ، لأبي بكرٍ وعمرَ، والأبويْنِ للأبِ والأُمِّ.
والمرادُ بهما: الركنُ اليمانيُّ، والركنُ الشرقيُّ، الذي فيهِ الحَجَرُ الأسودُ.
المعنَى الإجماليُّ:
للبيتِ أربعةُ أركانٍ، فللركنِ الشرقيِّ منهَا فضيلتانِ:
1- كونُهُ علَى قواعدِ إبراهيمَ عليهِ السلامُ.
2- وكوْنُ الحَجَرِ الأسودِ فيهِ.
والركنُ اليمانيُّ لهُ فضيلةٌ واحدةٌ، وهو: كونُهُ علَى قواعدِ إبراهيمَ.
وليس للشاميِّ والعراقيِّ شيءٌ من هذا؛ فإنَّ تأسيسَهُما داخلٌ علَى أساسِ إبراهيمَ، حيثُ أُخْرِجَ الحَجَرُ من الكعبةِ من جهتِهِمَا.
ولهذا فإنَّهُ يُشرعُ استلامُ الحَجَرِ الأسودِ وتقبيلُهُ، ويُشْرَعُ استلامُ الركنِ اليمانيِّ بلا تقبيلٍ. ولا يُشْرَعُ في حقِّ الركنيْنِ الباقييْنِ استلامٌ ولا تقبيلٌ. والشرعُ مبناهُ علَى الاتِّباعِ، لا علَى الإحداثِ والابتداعِ. ولِلَّهِ في شرعِهِ حِكَمٌ وأسرارٌ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1- استحبابُ استلامِ الركنيْنِ اليمانيَّيْنِ.
والمستحبُّ في حقِّ الطائفِ استلامُ وتقبيلُ الحَجَرِ الأسودِ، إنْ أمكنَ بلا مشقَّةٍ، فإنْ لم يُمْكِنْ، استلَمَهُ فقطْ بيدِهِ، وقَبَّلَ يدَهُ، وإنْ لم يُمْكِنِ استلَمَهُ بعصًا ونحوِهَا، وقَبَّلَ ما استلَمَهُ بِهِ، فإنْ آذَى وشقَّ علَى نفسِهِ أو غيرِهِ، أشارَ إليهِ, ولم يُقَبِّلْ يدَهُ.
والركنُ اليمانيُّ إنْ تمكَّنَ من استلامِهِ استلَمَهُ، وإنْ لم يتمكَّنْ لم يُشِرْ إليهِ؛لأنَّهُ لم يَرِدْ، والشرعُ في العباداتِ نقْلٌ وسماعٌ.
قال شيخُ الإسلامِ: وأمَّا الركنُ اليمانيُّ فلا يُقَبَّلُ علَى الصحيحِ. وأمَّا سائرُ جوانبِ البيتِ والركنانِ الشاميَّانِ، ومقامُ إبراهيمَ، فلا يُقبَّلُ، ولا يُتَمَسَّحُ بِهِ، باتِّفاقِ المسلمينَ المُتَّبعِينَ للسُّنَّةِ المتواتِرةِ عن النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، واتَّفقُوا علَى أنَّهُ لا تُقَبَّلُ الحُجْرةُ النبويَّةُ، ولا يُتمسَّحُ بهَا؛ لئلاَّ يُضاهِيَ بيتُ المخلوقِ بيتَ الخالِقِ. فإذا كانَ هذا في قبرِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقبرُ غيرْهِ أوْلَى أنْ لا يُقَبَّلَ ولا يُسْتَلَمَ، وأمَّا الطوافُ بشيءٍ من ذلك فهو من أعظمِ البِدَعِ المُحرَّمَةِ.
2- عدمُ مشروعيَّةِ استلامِ غيرِ الركنيْنِ اليمانيَّيْنِ من أركانِ الكعبةِ، ولا غيرِهَا من المقدَّسَاتِ، كمقامِ إبراهيمَ، وجبلِ الرَّحمةِ في ( عَرَفَةَ ) والمشعرِ الحرامِ في ( مُزدلِفَةَ )، وروضةِ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ الشريفةِ، وصخرةِ بيتِ المقدسِ، وغيرِهَا.
فإنَّ الشرْعَ يُؤخذُ من الشارعِ بلا زيادةٍ ولا غُلُوٍّ، ولا نُقصانٍ، ولا جفاءٍ.
ومَن شرَّعَ عبادةً لم يُشَرِّعْهَا اللَّهُ ورسولُهُ، فقد كذَّبَ اللَّهَ سبحانَهُ في قولِهِ: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )، واستدركَ علَى رسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ الذي يقولُ: " تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا ".
وإنَّنَا لَنرَى مَن يُخِلُّ بصلاةِ الفَرْضِ، فيُسَلِّمُ مع الإمامِ أو قبلَهُ؛ لِيكونَ الأوَّلَ في تقبيلِ الحجَرِ الأسودِ. وكلُّ هذا من آثارِ الجهلِ، وقلَّةِ الناصحينَ والمُرْشِدينَ.
فلقد انْصَرَفْنَا إلَى حُبِّ الدنيا، الذي هو رأسُ كلِّ خَطيئةٍ، وترَكْنَا أوامرَ اللَّهِ تعالَى وراءَ ظهورِنا. فإنَّا لِلَّهِ، وإنَّا إليهِ راجعونَ.