653- وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بالمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى البَيْتِ فَطَافَ بِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
654- وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أَنَّها لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ – أي: النُّزُولَ بالأَبْطَحِ - وتَقُولُ: إِنَّما نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّه كانَ مَنْزِلاً أَسْمَحُ لخُرُوجِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
مُفْرَداتُ الحديثِ:
-رَقْدَةً: بفتحِ الرَّاءِ المُهْمَلَةِ وسُكونِ القافِ المُثَنَّاةِ ثُمَّ دَالٍ فتَاءِ تَأْنِيثٍ، أي: نَامَ نَوْمَةً لَيْسَتْ بالطَّوِيلَةِ.
-المُحَصَّبِ: بالمُهْمَلَتَيْنِ، بزِنَةِ مُكَرَّمٍ، اسْمُ مَفْعولٍ، مَأْخُوذٌ مِنَ الحَصْبَاءِ، وهي صِغَارُ الحِجَارَةِ، وسُمِّيَ مُحَصَّباً؛ لاجتماعِ الحَصَى فيه؛ لأنَّ السَّيْلَ يَحْمِلُ إليه الحَصْبَاءَ، والمُرادُ به هنا وَادِي إِبْرَاهِيمَ، المُنْحَدِرُ من أَعْلَى مَكَّةَ، والخَارِجُ مِن أَسْفَلِها، لكنَّ حَدَّ المُحَصَّبِ هنا هو من المُنْحَنَى إلى مَقْبَرَةِ الحَجُونِ (المُعَلاَّ)، ويُسَمَّى الأبْطَحَ والبَطْحَاءَ، وقَدْ أَدْرَكْتُهُ قَبْلَ زَفْلَتَتِهِ، وأَرْضُه حَصْبَاءُ، أمَّا الآنَ فلا حَصْبَاءَ، ولا مُحَصَّبَ، ولا بَطْحَاءَ, فَقَدْ زُفْلِتَ الشَّارِعُ، وبُلِّطَ جَانِبَاهُ، وقَامَتِ العَمَائِرُ علَى جَنْبَيْهِ، وأصْبَحَ المُحَصَّبُ مِن أَهَمِّ أسْوَاقِ مَكَّةَ التِّجَارِيَّةِ.
وحِينَما بَدَأَتِ الزَّفْلَتَةُ في شَارِعِ المُحَصَّبِ كَتَبَ الأُسْتَاذُ الأَدِيبُ حُسَيْنُ سَرْحَانُ في جَرِيدَةِ البِلادِ السُّعودِيَّةِ كَلِمَةً بعُنوانِ: لا بَطْحَاءَ بَعْدَ اليَوْمِ، وأخَذَ يَحِنُّ عليها، ويَتَوَجَّدُ علَى بَقَائِهَا، ويَذْكُرُ أَيَّامَهَا، والسَّمَرَ فَوْقَ حَصْبَائِهَا النَّاعِمَةِ.
-الأَبْطَحُ: هو المُحَصَّبُ، كما تَقَدَّمَ.
خِلافُ العُلماءِ:
أجْمَعَ العُلماءُ على أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَما رَمَى الجِمَارَ بعدَ الزَّوَالِ مِن اليَوْمِ الثَّالِثِ لأيَّامِ التَّشْرِيقِ دَفَعَ مِن مِنًى، ونَزَلَ الأَبْطَحَ، وصَلَّى بهِ الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشَاءَ، ثُمَّ نَامَ نَوْمَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ ومَرَّ بالبَيْتِ، فطَافَ فيهِ طَوَافَ الوَدَاعِ، ثُمَّ سَافَرَ عَائِداً إلى المَدِينَةِ.
والخِلافُ بينَهم هَلْ نُزُولُه الأَبْطَحَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وَجْهِ القُرْبَةِ والعِبَادَةِ، فيُتَّبَعُ فيه، أمْ أنَّه فَعَلَهُ علَى أنَّه مَنْزِلٌ وَاقِعٌ في طَرِيقِهِ، فَارْتَاحَ فيه هذا الوَقْتَ، فيَكُونُ نُزُولُه غَيْرَ مُتَعَبَّدٍ بِهِ، ولَيْسَ فيهِ فَضِيلَةٌ؟
فذَهَبَ إلى القَوْلِ بفَضيلَتِه الجُمهورُ، قالَ في طَرْحِ التَّثْرِيبِ: هو قَوْلُ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ. وتَقَدَّمَ أنَّ في صحيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وابْنِهِ أنَّهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذلك. وحَكَى فِي شَرْحِ المُهَذَّبِ عن القَاضِي عِيَاضٍ أنَّه قالَ: النُّزُولُ بالمُحَصَّبِ مُسْتَحَبٌّ عندَ جَمِيعِ العُلماءِ، وأجْمَعُوا على أنَّه لَيْسَ بوَاجِبٍ، وأَجْمَعُوا على أنَّه مَن تَرَكَهُ لا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وذهَبَ بَعْضُ العُلماءِ إلى أنَّه لَيْسَ بسُنَّةٍ، قالَ في طَرْحِ التَّثْرِيبِ: وأنْكَرَ التَّحْصِيبَ جَمَاعَةٌ مِن السَّلَفِ، فرَوَى الشَّيْخَانِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: لَيْسَ التَّحْصِيبُ بشيءٍ، إِنَّما هو مَنْزِلٌ نَزَلُه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومنهم عَائِشَةُ كما في حديثِ البابِ، ومِن الذينَ لا يُحَصِّبُونَ إذا حَجُّوا طَاوُسٌ، وعَطَاءُ بنُ أَبِي رَبَاحٍ، ومُجَاهِدٌ، وعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ.
اسْتَدَلَّ الأَوَّلُونَ بِمَا جَاءَ في الصحيحَيْنِ عن أبي هُرَيْرَةَ, أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ مِن مِنًى: ((نَحْنُ نَازِلُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ)). وهذا المَكانُ هو الذي تَحَالَفَتْ فيهِ قُرَيْشٌ علَى مُقَاطَعَةِ بني هَاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ، حَتَّى يُسَلِّمُوا لهم رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَصَدَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إِظْهَارَ شَعَائِرِ الإسلامِ، حيثُ أُظْهِرَتْ شَعَائِرُ الكُفْرِ.
واسْتَدَلَّ الآخَرُونَ بِمَا جَاءَ فِي صَحيحِ مُسْلِمٍ, عن أبي رَافِعٍ قالَ: "لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ أَنْزِلَ بمَن مَعِي بالأَبْطَحِ، ولَكِنْ أَنَا ضَرَبْتُ قُبَّتَهُ، ثُمَّ جَاءَ فنَزَلَ".
قالَ ابْنُ القَيِّمِ: فأنْزَلَ اللهُ فيهِ تَصْدِيقاً لقولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَحْنُ نَازِلُونَ غَداً بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ)).
والقَصْدُ أنَّه لَيْسَ مِن وَاجِبَاتِ الحَجِّ، ولَيْسَ عَلَى تَارِكِهِ شَيْءٌ بإِجْمَاعِ العُلماءِ، وله الحَمْدُ والمِنَّةُ.