بَابُ الْغَسْلِ لِلْمُحْرِمِ
الْحَدِيثُ الخامسُ والثَّلاثُونَ بعدَ الْمِائَتَيْنِ
عن عبدِ اللَّهِ بنِ حُنينٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضِيَ اللَّهُ عنهما، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءِ، فقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ المُحْرِمُ رَأْسَهُ، وَقالَ الْمِسْوَرُ: لاَ يَغْسِلُ المُحْرِمُ رَأْسَهُ. قالَ: فأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبي أَيَّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضِيَ اللَّهُ عنهُ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ, وَهُوَ يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَنْ هذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلُكَ: كَيْفَ كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رَأسَهُ, وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أبو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطأْطَأَهُ، حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثمَّ قالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ المَاءَ: اصْبُبْ. فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فأقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثمَّ قالَ: هكَذَا رَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ.
وفي روايةٍ: فقالَ المسورُ لِابْنِ عبَّاسٍ: لاَ أُمَارِيكَ بَعْدَهَا أَبَدًا.
القَرْنانِ: العمُودانِ اللذانِ تُشَدُّ فيهما الخشبةُ التي تُعَلَّقُ عليهَا بَكَرةُ البئرِ.(34)
__________________
( 34 ) الغريبُ:
الأبْوَاءُ: بفتحِ الهمزةِ وسكُونِ الباءِ الموحَّدةِ ممدودًا، موضعٌ بين مكَّةَ والمدينةِ, يقعُ شرقيَّ قريَّةِ مستورةَ بنحوِ ثلاثةِ كيلومتراتٍ. وسيلُ الأبواءِ ومستورةُ واحدٌ. وما تزالُ الأبواءُ معروفةً بهذا الاسمِ حتَّى الآنَ.
القَرْنَانِ: بفتحِ القافِ تثنيَةُ قَرْنٍ، وهما الخشبتانِ القائمتانِ علَى رأسِ البئرِ، وتُمَدُّ بينهما خشبةٌ تُعلَّقُ عليهَا البَكَرةُ، أو يَجُرُّ عليهَا المُستقِي الحبلَ إذا لم يجدْ بكرةً، وتُسمَّى هاتانِ الخشبتانِ في نجدٍ الآنَ ( القَامَةَ ).
طَأْطَأَهُ: أيْ: طَامَنَهُ، يعني الثوبَ، ليرَى الرسولُ رأسَهُ من ورائِهِ.
أُمَارِيكَ: أُجَادِلُكَ.
المعنَى الإجماليُّ:
اختلفَ عبدُ اللَّهِ بنُ عبَّاسٍ والمِسْوَرُ بنُ مخرمةَ رضي اللَّهُ عنهم، في جوازِ غَسْلِ المُحرِمِ رأسَهُ. فذهبَ المسورُ إلَى المنعِ؛ خشيَةَ سقوطِ الشعرِ من أثرِ الغسلِ؛ ولأنَّ في الغسلِ ترفُّهًا، وينبغِي للمُحرِمِ أنْ يكونَ أشعثَ أغبرَ، وذهبَ ابنُ عبَّاسٍ إلَى الجوازِ، استصحابًا للأصلِ، وهو الإباحةُ، إلا بدليلٍ ( وهذا هو الفِقْهُ ). فأرسلا عبدَ اللَّهِ بنَ حُنَيْنٍ إلَى أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رضي اللَّهُ عنهُ، وهم في طريقِ مكَّةَ - ليسألَهُ فوجدَهُ عبدُ اللَّهِ بنُ حنينٍ - من تسهيلِ اللَّهِ وتبيينِهِ الأحكامَ لخلْقِهِ - يغتسلُ عندَ فمِ البئْرِ، ومستتِرًا بثوبٍ, وهو مُحرِمٌ. فسلَّمَ عليهِ, وأخبرَهُ أنَّهُ رسولُ ابنِ عبَّاسٍ لِيسألَهُ: كيفَ كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يَغْسِلُ رأسَهُ, وهو مُحرِمٌ؟. فمن حُسْنِ تعليمِ أبي أيُّوبَ رضي اللَّهُ عنهُ، واجتهادِهِ في تقريرِ العِلْمِ، أرْخَى الثوبَ وأبْرَزَ رأسَهُ، وأمَرَ إنسانًا عندَهُ أنْ يَصُبَّ الماءَ علَى رأسِهِ، فصبَّهُ عليهِ، ثم حرَّكَ رأسَهُ بيدَيْهِ، فأقبلَ بهما وأدْبَرَ.
وقالَ لعبدِ اللَّهِ بنِ حنينٍ: هكذا رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يغتسلُ.
فلمَّا جاءَ الرسولُ، وأخبَرَهما بتصويبِ ما رآهُ عبدُ اللَّهِ بنُ عبَّاسٍ ـ وكانَ رائدَهم الحقُّ، وبُغيتَهم الصوابُ ـ رجعَ المسورُ رضي اللَّهُ عنهُ، واعترفَ بالفضلِ لصاحبِهِ، فقال: لا أُمَارِيكَ أبدًا.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1- جوازُ غسلِ المُحرِمِ رأسَهُ، ويستوِي فيهِ أنْ يكونَ ترفُّهًا، أو تنظُّفًا، أو تبرُّدًا، أو عن جنابةٍ.
2- جوازُ إمرارِ اليدِ علَى شعْرِ الرأسِ بالغَسْلِ إذ لم يَنْتِفْ شَعْرًا، ويُسْقِطْهُ.
في الحديثِ دليلٌ علَى جوازِ المناظرةِ في مسائلِ الاجتهادِ، والاختلافِ فيهَا، والرجوعِ إلَى مَن يُظَنُّ عندَهُ العِلْمُ بهَا.
3- قَبُولُ خبرِ الواحدِ في المسائلِ الدِّينيَّةِ وأنَّ العملَ بِهِ سائغٌ شائعٌ عندَ الصحابةِ.
4- الرجوعُ إلَى النصوصِ الشرعيَّةِ عندَ الاختلافِ، وترْكُ الاجتهادِ والقياسِ عندَهَا.
5- جوازُ السلامِ علَى المتطهِّرِ في وضوءٍ أو غُسْلٍ، ومحادثتِهِ عندَ الحاجةِ.
6- استحبابُ التستُّرِ وقتَ الغسلِ، فإنْ خافَ مَن يَنْظُرُ إليهِ وجَبَ.
7- جوازُ الاستعانةِ في الطهارةِ بالغيرِ.
8- سؤالُ ابنِ عبَّاسٍ أبَا أيُّوبَ يفيدُ أنَّ عندَهُ عِلْمًا نقليًّا عن غسلِ المُحرِمِ، وأنَّ أبا أيُّوبَ يَعْرِفُ ذلك، فقد سألَهُ عن كيفيَّةِ الغَسْلِ، لا عن أصْلِهِ.
9- قال شيخُ الإسلامِ: ويُستحبُّ الغُسْلُ للإحرامِ، ولو كانت ( المُحرِمَةُ ) نُفَسَاءَ أو حائضًا, وإن احتاجَ ( المُحرِمُ ) إلَى التنظيفِ، كتقليمِ الأظافرِ، ونتفِ الإبطِ، وحلْقِ العانةِ، ونحوِ ذلك، فعلَ ذلك.
وهذا ليسَ من خصائصِ الإحرامِ، ولكنَّهُ مشروعٌ بحسبِ الحاجةِ، وهكذا يُشْرَعُ للجمعةِ والعيدِ علَى هذا الوجْهِ.
قلتُ: والغسلُ الذي تجادلَ فيهِ ابنُ عبَّاسٍ والمِسْورُ ليسَ الغسلَ من أجلِ الإحرامِ، وإنَّما هو الغسلُ أثناءَ الإحرامِ، وهو الذي فعلَهُ أبو أيُّوبَ.