(2) هَذَا الحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ دونَ البُخَارِيِّ مِن رِوَايَةِ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ عَنْ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ، وتَرَكَهُ البُخَارِيُّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ فِي (صَحِيحِهِ) لأَِبِي الأَشْعَثِ شَيْئًا، وهو شَامِيٌّ ثِقَةٌ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُحْسِنٌ فَأَحْسِنُوا، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيُكْرِمْ مَقْتُولَهُ، وَإِذَا ذَبَحَ فَلْيَحُدَّ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)). خرَّجَه ابنُ عَدِيٍّ.
وخرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِن حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا حَكَمْتُمْ فَاعْدِلُوا، وَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ مُحْسِنٌ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)).
فَقَوْلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)).
- وَفِي رِوَايَةٍ لأَِبِي إِسْحَاقَ الفَزَارِيِّ في كِتَابِ (السِّيَرِ) عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)).
أو قَالَ: ((عَلَى كُلِّ خَلْقٍ)).
هَكَذَا خَرَّجَهَا مُرْسَلَةً، وبالشَّكِّ فِي: ((كُلِّ شَيْءٍ)) أو: ((كُلِّ خَلْقٍ))، وظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ الإِحْسَانُ، فيَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ أو كُلُّ مَخْلُوقٍ هو الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ، والمَكْتُوبُ هو الإِحْسَانَ.
وقِيلَ: إِنَّ المَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، أو فِي كُلِّ شَيْءٍ، أو كَتَبَ الإِحْسَانَ في الوِلايَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فيَكُونُ المَكْتُوبُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَذْكُورٍ، وإِنَّمَا المَذْكُورُ المُحْسَنُ إِلَيْهِ.
ولَفْظُ ((الكِتَابَةِ)) يَقْتَضِي الوُجُوبَ عندَ أَكْثَرِ الفُقَهَاءِ والأُصُولِيِّينَ خِلافًا لبَعْضِهِم، وَإِنَّمَا اسْتِعْمَالُ لَفْظَةِ الكِتَابَةِ فِي القُرْآنِ فِيمَا هو وَاجِبٌ حَتْمٌ؛ إمَّا شَرْعًا، كقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء: 103].
وقولِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 182].
{كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]، أو فيما هو وَاقِعٌ قَدَرًا لا مَحَالَةَ، كقَوْلِهِ: {كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}[المجادلة: 21].
وقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقولِهِ: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ}[المجادلة: 22].
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ: ((إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيكُمْ)).
وَقَالَ: ((أُمِرْتُ بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيَّ)).
وَقَالَ: ((كُتِبَ عَلَى ابنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا، فهو مُدْرِكٌ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ)).
وحِينَئذٍ فهَذَا الحَدِيثُ نَصٌّ في وُجُوبِ الإِحْسَانِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَقَالَ:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[النحل: 90]، وقَالَ: {وأحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: 195].
وهَذَا الأَمْرُ بالإِحْسَانِ تَارَةً يَكُونُ للوُجُوبِ؛ كالإِحْسَانِ إِلَى الوَالِدَيْنِ والأَرْحَامِ بِمِقْدَارِ مَا يَحْصُلُ بِهِ البِرُّ والصِّلَةُ، والإِحْسَانِ إِلَى الضَّيْفِ بقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ قِرَاهُ، عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُه.وتَارَةً يَكُونُ للنَّدْبِ؛ كصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ ونَحْوِهَا.
وهَذَا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِن الأَعْمَالِ، لَكِنَّ إِحْسَانَ كُلِّ شَيْءٍ بحَسَبِهِ؛ فَالإِحْسَانُ فِي الإِتْيَانِ بالوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ والبَاطِنَةِ: الإِتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِ كَمَالِ وَاجِبَاتِهَا، فَهَذَا القَدْرُ مِن الإِحْسَانِ فِيهَا وَاجِبٌ، وَأَمَّا الإِحْسَانُ فِيهَا بإِكْمَالِ مُسْتَحَبَّاتِهَا فَلَيْسَ بوَاجِبٍ.
والإِحْسَانُ فِي تَرْكِ المُحَرَّمَاتِ:
الانْتِهَاءُ عَنْهَا، وتَرْكُ ظَاهِرِهَا وبَاطِنِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}[الأنعام: 120].
فَهَذَا القَدْرُ مِن الإِحْسَانِ فِيهَا وَاجِبٌ.
وأَمَّا الإِحْسَانُ فِي الصَّبْرِ عَلَى المَقْدُورَاتِ، فَأَنْ يَأْتِيَ بالصَّبْرِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهِهِ مِن غَيْرِ تَسَخُّطٍ وَلا جَزَعٍ.
والإِحْسَانُ الوَاجِبُ فِي مُعَامَلَةِ الخَلْقِ ومُعَاشَرَتِهِم:
القِيَامُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِن حُقُوقِ ذَلِكَ كُلِّه.
والإِحْسَانُ الوَاجِبُ فِي وِلايَةِ الخَلْقِ وسِيَاسَتِهِم:
القِيَامُ بوَاجِبَاتِ الوِلايَةِ كُلِّهَا، والقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى الوَاجِبِ فِي ذَلِكَ كُلِّه إِحْسَانٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
والإِحْسَانُ فِي قَتْلِ مَا يَجُوزُ قَتْلُه مِنَ النَّاسِ والدَّوَابِّ:
إِزْهَاقُ نَفْسِهِ عَلَى أَسْرَعِ الوُجُوهِ وأَسْهَلِهَا وأَوْحَاهَا مِن غَيْرِ زِيَادَةٍ في التَّعْذِيبِ؛ فَإِنَّه إِيلامٌ لا حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَهَذَا النَّوْعُ هو الذي ذَكَرَه النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هَذَا الحَدِيثِ، ولَعَلَّهُ ذَكَرَه عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ، أو لِحَاجَتِهِ إِلَى بَيَانِهِ فِي تِلْكَ الحَالِ فَقَالَ: ((إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ)).
والقِتْلَةُ والذِّبْحَةُ بالكَسْرِ، أيِ: الْهَيْئَةُ، والمَعْنَى: أَحْسِنُوا هَيْئَةَ الذَّبْحِ، وهَيْئَةَ القَتْلِ.
وهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الإِسْرَاعِ في إِزْهَاقِ النُّفُوسِ الَّتِي يُبَاحُ إِزْهَاقُهَا عَلَى أَسْهَلِ الوُجُوهِ.
وَقَدْ حَكَى ابنُ حَزْمٍ:(الإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الإِحْسَانِ فِي الذَّبِيحَةِ، وَأَسْهَلُ وُجُوهِ قَتْلِ الآدَمِيِّ ضَرْبُه بالسَّيْفِ عَلَى العُنُقِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الكُفَّارِ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}[محمد: 4]، وَقَالَ تَعَالَى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ}[الأنفال: 12].
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ عَيَّنَ المَوْضِعَ الذِي يَكُونُ الضَّرْبُ فِيهِ أَسْهَلَ عَلَى المَقْتُولِ، وهو فَوْقَ العِظَامِ دُونَ الدِّمَاغِ، ووَصَّى دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ قَاتِلَهُ أَنْ يَقتُلَهُ كَذَلِكَ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ لَهُم: ((لا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا)).
وخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ، وابنُ مَاجَه مِن حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَعَفُّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الإِيمَانِ)).
وخَرَّج َ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ مِن حَدِيثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وسَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى عَنِ المُثْلَةِ.
وخرَّجَه البُخَارِيُّ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ يَزِيدَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ نَهَى عَنِ المُثْلَةِ.
وخرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِن حَدِيثِ يَعْلَى بنِ مُرَّةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لا تُمَثِّلُوا بعِبَادِي)).
وخَرَّجَ أيضًا مِن حَدِيثِ رَجُلٍ مِن الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ مَثَّلَ بِذِي رُوحٍ، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ، مَثَّلَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
واعْلَمْ أَنَّ القَتْلَ المُبَاحَ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُما: أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا، فَلا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ فِيهِ بالمُقْتَصِّ منه، بل يُقتَلُ كَمَا قَتَلَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ مَثَّلَ بالمَقْتُولِ، فَهَلْ يُمَثَّلُ به كَمَا فَعَلَ أمْ لا يُقْتَلُ إِلا بالسَّيْفِ ؟
فِيهِ قَوْلانِ مَشْهُورَانِ للعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُما: أَنَّه يُفعَلُ به كَمَا فَعَلَ، وهو قَوْلُ مَالِكٍ والشَّافِعِيِّ وأَحْمَدَ فِي المَشْهُورِ عَنْهُ، وفي((الصَّحِيحَيْنِ))عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْها أَوْضَاحٌ بِالمَدِينَةِ، فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((فُلانٌ قَتَلَكِ؟)).
فَرَفَعَتْ رَأْسَها، فَقَالََ لَهَا فِي الثَّالِثَةِ:
((فُلانٌ قَتَلَكِ؟)).
فَخَفَضَتْ رَأْسَها، فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَضَخَ رَأْسَهُ بَيْنَ الحَجَرَيْنِ.
وفي رِوَايَةٍ لَهُمَا: (فَأُخِذَ فَاعْتَرَفَ).
وفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (أَنَّ رَجُلاً مِنَ اليَهُودِ قَتَلَ جَارِيَةً مِنَ الأَنْصارِ عَلَى حُلِيٍّ لَهَا، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي القَلِيبِ، وَرَضَخَ رَأْسَها بِالحِجَارَةِ، فَأُخِذَ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُمِرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى يَمُوتَ، فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ).
والقَوْلُ الثَّانِي:
لا قَوَدَ إلا بالسَّيْفِ، وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وأَبِي حَنِيفَةَ، ورِوَايَةٌ عَنْأَحْمَدَ.
وعن أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: ((يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ، إِلا أَنْ يَكُونَ حَرَّقَه بالنَّارِ أو مَثَّلَ بِهِ، فيُقْتَلُ بالسَّيْفِ؛ للنَّهْيِ عَنِ المُثْلَةِ وعَنِ التَّحْرِيقِ بالنَّارِ)).
نَقَلَهَا عنه الأَثْرَمُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا قَوَدَ إِلا بِالسَّيْفِ)).
خَرَّجَه ابنُ مَاجَه وإِسْنَادُه ضَعِيفٌ، قَالَ أَحْمَدُ: يُرْوَى: ((لا قَوَدَ إلا بِالسَّيْفِ)).
ولَيْسَ إِسْنَادُهُ بِجَيِّدٍ، وحَدِيثُ أَنَسٍ -يَعْنِي: فِي قَتْلِ اليَهُودِيِّ بالْحِجَارَةِ- أَسْنَدُ منه وأَجْوَدُ.
ولو مَثَّلَ به، ثُمَّ قَتَلَهُ؛ مِثْلَ أَنْ قَطَّعَ أَطْرَافَه، ثُمَّ قَتَلَهُ، فَهَلْ يُكْتَفَى بقَتْلِهِ أم يُصْنَعُ بِهِ كَمَا صَنَعَ، فَتُقَطَّعَ أَطْرَافُه ثُمَّ يُقْتَلَ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ سَوَاءً، وهو قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والشَّافِعِيِّ وأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وإِسْحَاقَ وغَيْرِهِم.
والثَّانِي: يُكْتَفَى بقَتْلِهِ، وهو قولُ الثَّوْرِيِّ وأَحْمَدَ في رِوَايَةٍ وَأَبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ، وقَالَ مَالِكٌ: إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ والتَّعْذِيبِ، فُعِلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَا الوَجْهِ اكْتُفِيَ بقَتْلِهِ.
الوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ القَتْلُ للكُفْرِ؛ إِمَّا لكُفْرٍ أَصْلِيٍّ، أو لرِدَّةٍ عَنِ الإسْلامِ، فأَكْثَرُ العُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ المُثْلَةِ فِيهِ أَيْضًا، وأَنَّه يُقْتَلُ فِيهِ بالسَّيْفِ، وَقَدْ رُوِيَ عن طَائِفَةٍ مِن السَّلَفِ جَوَازُ التَّمْثِيلِ فيه بالتَّحْرِيقِ بالنَّارِ وغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَه خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ وغَيْرُه.
ورُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّه حَرَّقَ الفُجَاءَةَ بالنَّارِ.
ورُوِيَ أَنَّ أُمَّ قِرْفَةَ الفَزَارِيَّةَ ارْتَدَّتْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فأَمَرَ بِهَا، فَشُدَّتْ ذَوَائِبُها في أَذْنَابِ قَلُوصَيْنِ أو فَرَسَيْنِ، ثُمَّ صَاحَ بِهِمَا فتَقَطَّعَتِ المَرْأَةُ. وأَسَانِيدُ هَذِهِ القِصَّةِ مُنْقَطِعَةٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ في (طَبَقَاتِهِ) بغَيْرِ إِسْنَادٍ أَنَّ زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ قَتَلَهَا هَذِهِ القِتْلَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك.
وصحَّ عن عَلِيٍّ أَنَّه حَرَّقَ المُرْتَدِّينَ، وأَنْكَرَ ذَلِكَ ابنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وقِيلَ: إِنَّه لَمْ يُحَرِّقْهُم، وإِنَّمَا دَخَّنَ عَلَيْهِم حَتَّى مَاتُوا.
وقِيلَ: إِنَّه قَتَلَهُم، ثُمَّ حَرَّقَهُم، ولا يَصِحُّ ذَلِكَ، ورُوِيَ عنه أَنَّه جِيءَ بِمُرْتَدٍّ، فأَمَرَ بِهِ فَوُطِئَ بالأَرْجُلِ حَتَّى مَاتَ.
واخْتَارَ ابنُ عَقِيلٍ - مِن أَصْحَابِنَا - جَوَازَ القَتْلِ بالتَّمْثِيلِ للكُفْرِ لا سِيَّمَا إِذَا تَغَلَّظَ، وحُمِلَ النَّهْيُ عن المُثْلَةِ عَلَى القَتْلِ بالقِصَاصِ، واسْتَدَلَّ مَن أَجَازَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ العُرَنِيِّينَ، وَقَدْ خَرَّجَاهُ في (الصَّحِيحَيْنِ) مِن حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَافْعَلُوا)).
فَفَعَلُوا فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُم، وَارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُم وَأَرْجُلَهُم، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُم، وَتَرَكَهُم فِي الحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا).
وفي رِوَايَةٍ: (ثُمَّ نُبِذُوا في الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا).
وفي رِوَايَةٍ: (وسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُم، وَأُلْقُوا في الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلا يُسْقَوْنَ).
وفي رِوَايَةٍ: للتِّرْمِذِيِّ: (قَطَعَ أَيْدِيَهُم وَأَرْجُلَهُم مِنْ خِلافٍ).
وفي رِوَايَةٍ للنَّسَائِيِّ: (وصَلَبَهُم).
وقد اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي وَجْهِ عُقُوبَةِ هؤلاء.
فمِنْهُم مَن قَالَ: (مَن فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِم فارْتَدَّ، وحَارَبَ، وأَخَذَ المَالَ، صُنِعَ بِهِ كَمَا صُنِعَ بهؤلاء).
ورُوِيَ هَذَا عَنْ طَائِفَةٍ، منهم أَبُو قِلابَةَ، وهو رِوَايَةٌ عن أَحْمَدَ.
ومنهم مَنْ قَالَ: (بل هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّمْثِيلِ بِمَن تَغَلَّظَتْ جَرَائِمُهُ في الْجُمْلَةِ، وإِنَّمَا نُهِيَ عن التَّمْثِيلِ في القِصَاصِ) وهو قَوْلُ ابنِ عَقِيلٍ مِن أَصْحَابِنَا.
ومِنْهُم مَن قَالَ: (بل نُسِخَ مَا فُعِلَ بالعُرَنِيِّينَ بالنَّهْيِ عن المُثْلَةِ).
ومنهم مَن قَالَ: (كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الحُدُودِ وآيَةِ المُحَارَبَةِ، ثُمَّ نُسِخَ بذَلِكَ).
وهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ، منهم الأَوْزَاعِيُّ وأَبُو عُبَيْدٍ.
ومنهم مَن قَالَ: (بل مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِم إِنَّمَا كَانَ بآيَةِ المُحَارَبَةِ، وَلَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ مِن ذلك).
وقالُوا: (إِنَّمَا قَتَلَهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَطَعَ أَيْدِيَهُم؛ لأَِنَّهُم أَخَذُوا الْمَالَ، ومَن أَخَذَ الْمَالَ وقَتَلَ، قُطِعَ وقُتِلَ، وصُلِبَ حَتْمًا؛ فَيُقتَلُ لِقَتْلِهِ، ويُقْطَعُ لأَِخْذِهِ الْمَالَ يَدُه ورِجْلُه مِن خِلافٍ، ويُصلَبُ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الجِنَايَتَيْنِ وهُمَا القَتْلُ وأَخْذُ الْمَالِ).
وهَذَا قَوْلُ الحَسَنِ، ورِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وإِنَّمَا سَمَلَ أَعْيُنَهُم؛ لأَِنَّهُم سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ.
كَذَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ أَنَسٍ، وَذَكَرَ ابنُ شِهَابٍ: (أَنَّهُم قَتَلُوا الرَّاعِيَ، ومَثَّلُوا بِهِ).
وذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ: (أَنَّهُم قَطَعُوا يَدَهُ ورِجْلَه، وغَرَسُوا الشَّوْكَ فِي لِسَانِهِ وعَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ، وحِينَئذٍ، فَقَدْ يَكُونُ قَطْعُهُم، وسَمْلُ أَعْيُنِهِم، وتَعْطِيشُهم قِصَاصًا) وهَذَا يَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ المُحَارِبَ إِذَا جَنَى جِنَايَةً تُوجِبُ القِصَاصَ اسْتُوْفِيَتْ مِنْه قَبْلَ قَتْلِهِ، وهو مَذْهَبُ أَحْمَدَ.
لَكِنْ هَلْ يُسْتَوْفَى منه تَحَتُّمًا كقَتْلِهِ أم عَلَى وَجْهِ القِصَاصِ، فيَسْقُطَ بعَفْوِ الوَلِيِّ ؟
عَلَى رِوَايَتَيْنِ عِنْهُ، ولَكِنَّ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ قَطْعَهُم مِن خِلافٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَطْعَهُم للمُحَارَبَةِ، إِلا أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَطَعُوا يَدَ الرَّاعِي ورِجْلَه مِن خِلافٍ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ أَذِنَ فِي التَّحْرِيقِ بالنَّارِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ، كَمَا فِي (صَحِيحِ البُخَارِيِّ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بَعْثٍ فَقَالََ: ((إِنْ وَجَدْتُم فُلانًا وفُلانًا - لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ - فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ)).
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَدْنَا الخُرُوجَ: ((إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلانًا وفُلانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا)).
- وفيه أَيْضًا عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ)).
- وخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ مِن حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَرْنَا بِقَرْيَةِ نَمْلٍ قَدْ أُحْرِقَتْ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ:((إِنَّه لا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ)).
- وقَدْ حَرَّقَ خالِدٌ جَمَاعَةً فِي الرِّدَّةِ، ورُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِن الصَّحَابَةِ تَحْرِيقُ مَن عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّه أَشَارَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَقْتُلَه ثُمَّ يُحَرِّقَهُ بالنَّارِ، واسْتَحْسَنَ ذَلِكَ إِسْحَاقُ بنُ رَاهُويَه؛ لِئَلا يَكُونَ تَعْذِيبًا بالنَّارِ.
- وَفِي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ) أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا ضَرَبَهُ ابنُ مُلْجَمٍ قَالَ: افْعَلُوا بِهِ كَمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ برَجُلٍ أَرَادَ قَتْلَه، قَالَ: ((اقْتُلُوهُ ثُمَّ حَرِّقُوهُ)).
وأَكْثَرُ العُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيقِ بالنَّارِ حَتَّى للهَوَامِّ.
وقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: (تَحْرِيقُ العَقْرَبِ بالنَّارِ مُثْلَةٌ).
ونَهَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ عَنْ تَحْرِيقِ البُرْغُوثِ بالنَّارِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: (لا يُشْوَى السَّمَكُ فِي النَّارِ وهو حَيٌّ).
وَقَالَ: (الجَرَادُ أَهْونُ؛ لأَِنَّهُ لا دَمَ لَهُ).
وقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَبْرِ البَهَائِمِ، وهو: أَنْ تُحْبَسَ البَهِيمَةُ ثُمَّ تُضْرَبَ بالنَّبْلِ ونَحْوِه حَتَّى تَمُوتَ.
- فَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) عَنْ أَنَسٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُصْبَرَ البَهائِمُ)).
وفيهما، أيضًا عن ابنِ عُمَرَ: (أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَها.
فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا).
- وخرَّجَ مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا.
والغَرَضُ : هو الذي يُرْمَى فيه بالسِّهَامِ.
- وفي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الرَّمِيَّةِ؛ أَنْ تُرْمَى الدَّابَّةُ ثُمَّ تُؤْكَلَ؛ وَلَكِنْ تُذْبَحُ، ثُمَّ لْيَرْمُوا إِنْ شَاءُوا)).
وفِي هَذَا المَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
فلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإِحْسَانِ القَتْلِ والذَّبْحِ، وأَمَرَ أَنْ تُحَدَّ الشَّفْرَةُ، وأَنْ تُرَاحَ الذَّبِيحَةُ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الذَّبْحَ بالآلَةِ الحَادَّةِ يُرِيحُ الذَّبِيحَةَ بتَعْجِيلِ زُهُوقِ نَفْسِهَا.
- وخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وابنُ مَاجَه مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِّ الشِّفَارِ، وَأَنْ تُوارَى عَنِ البَهَائِمِ، وَقَالَ:((إِذَا ذَبَحَ أحَدُكُم، فَلْيُجْهِزْ)) يَعْنِي: فَلْيُسْرِعِ الذَّبْحَ.
وَقَدْ وَرَدَ الأَمْرُ بالرِّفْقِ بالذَّبِيحَةِ عِنْدَ ذَبْحِهَا.
- وخَرَّجَ ابنُ مَا جَه، مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: ((مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَجُلٍ وهو يَجُرُّ شَاةً بأُذُنِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعْ أُذُنَهَا وَخُذْ بِسَالِفَتِهَا)).
والسَّالِفَةُ: مُقَدَّمُ العُنُقِ.
-وخرَّجَ الخَلالُ والطَّبَرَانِيُّ مِن حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برَجُلٍ وَاضِعٍ رِجْلَه عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ، وهو يَحُدُّ شَفْرَتَه وهي تَلْحَظُ إِلَيْهِ ببَصَرِهَا، فَقَالَ: ((أَفَلا قَبْلَ هَذَا؟ تُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟)).
وَقَدْ رُوِيَ عَن عِكْرِمَةَ مُرْسَلاً خَرَّجَه عَبْدُالرَّزَّاقِ وغَيْرُه، وفيه زِيَادَةٌ: ((هَلا حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا)).
وقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: (تُقَادُ إِلَى الذَّبْحِ قَوْدًا رَفِيقًا، وتُوارَى السِّكِّينُ عنها، وَلا تُظْهَرُ السِّكِّينُ إِلا عِنْدَ الذَّبْحِ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذَلِكَ؛ أَنْ تُوارَى الشِّفَارُ.
وَقَالَ: مَا أُبْهِمَتْ عَلَيْهِ البَهَائِمُ فَلَمْ تُبْهَمْ أَنَّها تَعْرِفُ رَبَّهَا، وتَعْرِفُ أَنَّهَا تَمُوتُ.
وقَالَ: يُرْوَى عن ابنِ سَابِطٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ البَهَائِمَ جُبِلَتْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِلا عَلَى أَنَّهَا تَعْرِفُ رَبَّهَا وتَخَافُ المَوْتَ).
وَقَدْ وَرَدَ الأَمْرُ بقَطْعِ الأَوْدَاجِ عِنْدَ الذَّبْحِ، كَمَا خَرَّجَه أَبُو دَاوُدَ مِن حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ نَهَى عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ وَهِي الَّتِي تَذْبَحُ فَتَقْطَعُ الجِلْدَ، وَلا تُقْرِي الأَوْدَاجَ، وخَرَّجَه ابنُ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِه) وعندَه قَالَ عِكْرِمَةُ:(كَانُوا يَقْطَعُونَ مِنْهَا الشَّيْءَ اليَسِيرَ، ثُمَّ يَدَعُونَهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَلا يَقْطَعُونَ الوَدَجَ، فنُهِي عَنْ ذَلِكَ).
ورَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي كِتَابِهِ عَن مُحَمَّدِ بنِ رَاشِدٍ، عن الوَضِينِ بنِ عَطَاءٍ، قَالَ: (إنَّ جزَّارًا فَتَحَ بَابًا عَلَى شَاةٍ ليَذْبَحَهَا فانْفَلَتَتْ مِنْهُ حَتَّى جَاءت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاتَّبَعَهَا، فأَخَذَ يَسْحَبُهَا برِجْلِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((اصْبِرِي لأَِمْرِ اللَّهِ، وَأَنْتَ يَا جَزَّارُ فَسُقْهَا إِلَى المَوْتِ سَوْقًا رَفِيقًا)).
وبإِسْنَادِهِ عن ابنِ سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ رَأَى رَجُلاً يَسْحَبُ شَاةً برِجْلِهَا ليَذْبَحَهَا، فَقَالَ لَهُ: ويْلَكَ قُدْهَا إِلَى المَوْتِ قَوْدًا جَمِيلاً.
ورَوَى مُحَمَّدُ بنُ زِيَادٍ أَنَّ ابنَ عُمَرَ: (رَأَى قَصَّابًا يَجُرُّ شَاةً، فَقَالَ: سُقْهَا إِلَى المَوْتِ سَوْقًا جَمِيلاً.
فأَخْرَجَ القَصَّابُ شَفْرَتَه، فَقَالَ: مَا أَسُوقُهَا سَوْقًا جَمِيلاً، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَذْبَحَهَا السَّاعَةَ، فَقَالَ: سُقْهَا سَوْقًا جَمِيلاً).
وفي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ) عَن مُعَاوِيَةَ بنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ: (أَنَّ رَجُلاً قَالَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لأََذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((والشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ)).
وَقَالَ مُطَرِّفُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ: (إِنَّ اللَّهَ لَيَرْحَمُ برَحْمَةِ العُصْفُورِ).
وقَالَ نَوْفٌ البِكَالِيُّ: (إِنَّ رَجُلاً ذَبَحَ عِجَّوْلاً بَيْنَ يَدَيْ أُمِّهِ، فَخُبِّلَ، فَبَيْنَا هو تَحْتَ شَجَرَةٍ فِيهَا وَكْرٌ فِيهِ فَرْخٌ، فَوَقَعَ الفَرْخُ إِلَى الأَرْضِ، فَرَحِمَهُ فأَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ قُوَّتَهُ).
وَقَدْ رُوِيَ مِن غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُوَلَّهَ والِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا، وهو عَامٌّ في بَنِي آدَمَ وغَيْرِهِم.
وفي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ): (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عن الفَرَعِ، فَقَالَ: ((هُوَ حَقٌّ، وَأَنْ تَتْرُكُوهُ حَتَّى يَكُونَ بِكْرًا ابنَ مَخَاضٍ، أَو ابنَ لَبُونٍ، فَتُعْطِيَهُ أَرْمَلَةً، أَوْ تَحْمِلَ عَلَيهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْبَحَهُ فَيَلْصَقَ لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ، وَتُكْفِئَ إِنَاءَكَ، وَتُوَلِّهَ نَاقَتَكَ)).
والمَعْنَى: أَنَّ وَلَدَ النَّاقَةِ إِذَا ذُبِحَ وهو صَغِيرٌ عندَ وِلادَتِهِ لَمْ يُنْتَفَعْ بلَحْمِهِ، وتَضَرَّرَ صَاحِبُه بانْقِطَاعِ لَبَنِ نَاقَتِهِ، فتُكْفِئُ إِنَاءهُ وهو المِحْلَبُ الذي تُحْلَبُ فِيهِ النَّاقَةُ، وتُوَلَّهُ النَّاقَةُ عَلَى وَلَدِهَا بفَقْدِهَا إِيَّاهُ.