بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال العلامة الطحاوي –رحمه الله تعالى-: "ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة, ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة. ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه, ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر، كما جاء في الأثر, والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين؛ برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما ونؤمن ".
الشيخ: (بس) قف.
بسم الله الرحمن الرحيم,الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. اللهم نسألك علماً نافعًا، وعملاً صالحاً، نسألك اللهم العفو والعافية, والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، واكتب لنا الخير ومنّ علينا بالتوفيق في أمرنا كله، إنك على كل شيء قدير.
أما بعد:
فقد قال الطحاوي –رحمه الله تعالى- هنا: "ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة". وهذه الجملة ذكرها بعد الكلام على الخروج على الولاة، أو قتل أحد من أمة محمد r لظهور معنى الجماعة في ذلك, وكل ما ذكره من أول العقيدة إلى آخرها داخل –يعني: فيما أجمع عليه أهل السنة والجماعة- داخل في هذه الجملة، فكل مسائل العقائد التي قررها أئمة الإسلام؛ فإنها اتباع للسنة وللجماعة، وكل مخالفة لهذه العقائد التي دل عليها الكتاب والسنة وقررها الأئمة، فهي شذوذٌ وخلافٌ وفرقة, ولهذا هذه الجملة قاعدة عظيمة من قواعد العقائد بجميع تفاصيلها، كما سيأتي في بيان السنة والجماعة, وبيان ما يضاد ذلك إن شاء الله, وهذا الاتباع الذي ذكره –اتباع السنة والجماعة واجتناب الشذوذ والخلاف والفرقة- هو منشأ السير على ما كانت عليه الجماعة الأولى؛ لأن النبي r أورث الجماعة الأولى وهي جماعة الصحابة –رضوان الله عليهم-، أورثهم العلم النافع, والعمل والهدى في أمور الدين كله، في الأمور العلمية، والأمور العملية، فأجمعوا على مسائل العلم والعقيدة والتوحيد، وعلى كثيرٍ من مسائل العمل، واختلفوا في بعض مسائل العمليات والفروع, ثم صار سبيل المؤمنين-الذي هو سبيل الجماعة الأولى- صار علمًا على اتباع النبي عليه الصلاة و السلام، وترك الأهواء, ثم تبعهم التابعون، ثم هكذا إلى زماننا، بل إلى أن يموت آخر المؤمنين, وهذا الأصل من أهم الأصول التي يقررها أئمة الإسلام؛ لأنه أصلٌ, وما بعده فرع. فالخلاف في توحيد العبادة, أو في طريقة إثبات الربوبية، أو في الأسماء والصفات، أو في الإيمان، أو في القدر، أو في الصحابة، أوفي التعامل مع ولاة الأمور، أو في أي مسألة من المسائل التي تذكر، الخلاف في ذلك خلاف للجماعة الأولى, ولهذا قال من قال من أئمة الصحابة: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد. ويعني بقوله: "إذا فسدت الجماعة". يعني: إذا صارت الجماعة في اختلاف، فإن المصيب منهم من وافق الجماعة التي كانت مجتمعة، غير مختلفة, ولهذا صار هذا الأصل علمًا على أهل السنة والجماعة أتباع الصحابة والسلف الصالح. فسموا أهل السنة والجماعة بهذا الأصل؛ لأنهم يتبعون السنة والجماعة، ويأتي تفسير السنة، وتفسير الجماعة.
وهذا الذي ذكروه هنا، أخذوه من النصوص التي لا تحصى في الكتاب والسنة، في الأمر بالاجتماع نصًا أو معنى، وفي النهي عن الفرقة نصًا أو معنى. فمن ذلك قول الله –جل وعلا-:] وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [، ومنه قوله -Y-: ] أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [ ومنه أيضًا قول الله –جل وعلا-: ] وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [، ومنه قوله أيضًا -Y-: [ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ ][1]، يعني: على الرسول ما حمّل من بيان السنة وبيان الشريعة وتبليغ ذلك، وعليكم ما حملتم من اتباع السنة والجماعة، واتباع هدي النبي عليه الصلاة و السلام, فحمّل الرسول عليه الصلاة و السلام البلاغ، وحمّلت الأمة الاتباع والمتابعة, ومنه أيضًا قول الله –جل وعلا-: ] قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [ ونحو ذلك من الآيات الصريحة في اتباع الجماعة، والنهي عن الافتراق. والسنة فيها من ذلك شيء كثير, كقوله عليه الصلاة و السلام: ((وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)).
قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ((هي الجماعة)) وفي رواية قال: ((هي ما كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
ومنه أيضًا الأحاديث التي في خروج الخوارج، وخلاف الخوارج للصحابة، وأمر النبي r بقتلهم، فقال في وصفهم: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم)).
وذلك لمخالفتهم للسنة والجماعة، وكذلك قوله عليه الصلاة و السلام في أهل الأهواء: ((يتجارى بهم الهوى، كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه مفصل أو عرق إلا دخله)).
ومنه أيضًا ما صح عنه عليه الصلاة و السلام بقوله: ((الجماعة رحمة، والفرقة عذاب)).
ومنه أيضًا قوله: ((ومن أتاكم, وأمركم جميع، يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائناً من كان)).
ومنه أيضًا دعاء النبي عليه الصلاة و السلام: ((ألا يجعل بأس هذه الأمة بعضها ببعض)). قال: فمنعنيها.
ونحو ذلك من الأدلة التي تدل على هذا الأصل العظيم, فإذن هذا الأصل الأدلة عليه في منزلة التواتر، لكثرة ما دل عليه، بل هو أظهر أصول الشريعة، فإن الخلاف والفرقة عما كان عليه النبي عليه الصلاة و السلام، والجماعة الأولى هو حقيقة خلاف لرب العالمين، واتباع غير السبيل الذي يرضى عنه -Y-. فإذن هذا الأصل –كما ذكرنا في أول الكلام- ذكره الطحاوي؛ لأن كل مسائل العقيدة يتفرع عنه.
وإذا تبين ذلك فنقول: إن مسائل الاعتقاد التي يذكرها أهل السنة والجماعة منها ما هو من سبيل المقاصد، ومنها ما هو من سبيل الوسائل إلى المقاصد، ومنها: وهو القسم الثالث, ما هو من سبيل المحافظة على المقاصد, فأما الأول وهو المقاصد: هي أركان الإيمان الستة.
وأما الثاني: وهو الوسائل إلى تحقيق المقاصد: فهي القواعد العامة في التلقي والأخذ؛ لأنها لا يحفظ أصل إلا بدليل، بقاعدة، فلهذا صار هذا الكلام هنا وهو قوله: "ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرق". هذا له حكم المقاصد من جهة، وله حكم الوسائل من جهة أخرى؛ لأن اتباع السنة والجماعة مقصد تعبدي مطلوب ] قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ[.
والثاني: وهو اجتناب الشذوذ والخلاف والفرقة, هذا من وسائل المحافظة على أصول الاعتقاد, وفي هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى:
معنى الاتباع في قوله: "ونتبع السنة والجماعة". معنى الاتباع الاتباع هو: أن تقفوا أثر الشيء. اتبعه أي: اقتفى أثره. اتباع الحق، أن تقفوا الأثر.
والأثر سواء أكان أثر دليل، أو كان أثر مسير، يعني: أثر قول أو أثر مسير, كل منهما دليل، ولهذا صار الاتباع موسوما عند أهل العلم بأنه أخذ القول بدليله, ويقابل هذا التقليد، يقابل الاتباع التقليد، والتقليد: قبول القول والتزامه دون حجة واضحة؛ لأنه إن كان عنده حجة فهو متبع، ولو كان متأولاً أو مخطئًا، وإذا كان ليست عنده حجة, وإنما يتعصب، أو يقبل قول الغير هكذا؛ لأنه قال فقط مع ظهور الحجة في خلافه، فهذا يسمى مقلدًا؛ لأنه جعل القول قلادةً له دون بيان, والتقليد في الاعتقاد فيه تفصيل، فما كان مما يشترط لصحة الإسلام والإيمان، فلا ينفع فيه التقليد، بل لابد فيه من أخذ القول بدليله وجوبًا؛ لأن هذا هو العلم الذي أمر الله –جل وعلا- به في قوله: ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلأ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [. أما التقليد في الاستدلال فلا بأس به،
يعني: أن يعلم وجه الدليل من الحجة، ويقلد العالم في الاقتناع بهذا الدليل،
يعني: بوجه الاستدلال، فهذا لا بأس به؛ لأن المجتهد في فهم الدليل هذا قليل في الأمة, فإذن الواجب في الاتباع وما يحرم من التقليد في العقيدة، وما كان من أصول الإسلام، يعني: ما لا يصح الإسلام, إلا به مثل العلم بالشهادتين وأركان الإيمان الستة، وفرض أركان الإسلام الخمسة, إذا كان التقليد كذلك، فهل يشترط استدامة العلم، واستصحاب العلم، والاتباع؟ أم لا يشترط؟ الذي عليه العلماء المحققون وقرروه أن: الاستدامة ليست شرطًا، وإنما يكفي أن يعلم الحق في هذه المسائل في عمره مرة بدليله، ويأخذ ذلك ويقتنع به، يأخذ ذلك عن دليل وبينة, ثم يعمل بما دل عليه, فمن تعلم مسألة تعلم معنى الشهادتين في عمره، ثم بعد ذلك نسي المعنى، أو تعلم أدلة أركان الإيمان، ثم نسي، أو تعلم فرضية الأركان الخمسة –أركان الإسلام- أو الأربعة العملية، ثم جاءه فترة ونسي؛ فإن هذا لا يؤثر, ولا يأثم بذلك، المهم أن يكون أصل استسلامه عن دليل, فيما لا يصح الإيمان والإسلام إلا به, وهذا هو التقليد, عند حكم التقليد, عند أهل السنة والجماعة، ووجوب الاتباع, وأما المخالفون من أهل الكلام من المعتزلة, والأشاعرة, وجماعات؛ فإنهم جعلوا العلم الواجب هو النظر، أو القصد إلى النظر، أو.. إلى آخره من أقوالهم، ويعنون بذلك النظر في الكونيات، وأهل السنة يقولون: الاتباع النظر في الأدلة الشرعية, يعني: النظر في الشرعيات، وأولئك عندهم النظر في الكونيات؛ لأنهم جعلوا أن أصل الإسلام والإيمان إنما يصح إذا نظر في برهان وجود الله -Y-، وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: وجود الله –جل وعلا- مركوز في الفطر، وإنما يتعلم ما يجب عليه أن يعتقده، وما يجب عليه أن يعلمه مما أمر الله –جل وعلا- به، وجعله فارقًا بين المؤمن والكافر, وبالمقابل التقليد، التقليد عندهم في الكونيات، وعندنا التقليد في الأقوال والشرعيات, وثم تفاصيل لمسألة الاتباع والتقليد في مناهج التلقي ما بين أهل السنة والمخالفين.
المسألة الثانية:
معنى السنة هنا، السنة يراد بها: العلم الموروث عن النبي عليه الصلاة و السلام, في مسائل الاعتقاد, المسائل الغيبية وما يتصل بذلك من الوسائل, وما يحافظ به على الأصول, فما دلت عليه الأدلة من كلام النبي r وكان عليه هديه؛ فإنه السنة الماضية التي يجب اتباعها، وترك ما خالفها؛ لأن المسائل العلمية في الغيبيات البيان فيها واضح، وليست مجالاً للاختلاف وتنوع الآراء والأقوال, ولهذا سمى طائفة من العلماء ممن صنفوا في التوحيد, سموا كتبهم: السنة. وهي كثيرة جدًا، كالسنة لعبدالله بن الإمام أحمد، والسنة للخلال، والسنة لابن أبي عاصم، والسنة للطبراني، وكذلك السنة في كتب الحديث –يعني: في أثناء الكتاب قد يبوّب بعضهم بكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، أو السنة، أو ما أشبه ذلك, فإذن يجمع السنة أنه هدي النبي r في العلم في هذا الموطن, في العلميات، يعني: فيما يعلم ويعتقد، فإن منهجنا اتباع السنة في ذلك، وألا نخوض فيه بالعقليات.
المسألة الثالثة:
الجماعة, الجماعة تطلق إطلاقين؛ تطلق الجماعة ويراد بها: الجماعة في الدين، الجماعة في العلم ,بما أمر الله –جل وعلا- به, أي: يعتقد، أو في تصديق الأخبار في الكتاب والسنة, وهذه الجماعة تكون في الدين، الجماعة في الدين يعني: الاجتماع على الدين الواحد, والمعنى الثاني للجماعة: الجماعة في الأبدان, أن يجتمعوا في أبدانهم، وألا يكون بأسهم بينهم، وألا يتفرقوا في أبدانهم بأنواع التفرق.
ومسائل الاعتقاد تجمع هذين الأصلين، تجمع الاجتماع في الدين، والاجتماع في الأبدان, وكل المسائل التي تذكر في مسائل العقيدة منها ما يرجع إلى هذا، ومنها ما يرجع إلى الثاني, ثم هذا اللفظ السنة والجماعة، صار علمًا على من كان على ما كانت عليه الجماعة الأولى، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، والذي عليه أئمة أهل الحديث، والمحققون من أهل الإسلام، أن هذا اللفظ أهل السنة والجماعة إنما يدخل فيه أهل الحديث والأثر الذين لم ينحرفوا في مسائل الاعتقاد, وقد ذهب بعض الحنابلة من المتأخرين، وبعض الأشاعرة، وجماعات من الفقهاء إلى أن لفظ أهل السنة والجماعة يشمل ثلاث طوائف؛ يشمل أهل الحديث والأثر، والأشاعرة، والماتريدية، وممن صرح بذلك السفاريني في كتابه "لوامع الأنوار". وجماعة آخرون, وهذا ليس بصحيح؛ لأن الأشاعرة والماتريدية خالفوا السنة والجماعة في مسائل كثيرة معلومة، فهم في إثبات وجود الله –جل وعلا- خالفوا طريقة القرآن والسنة، وفي تفسير لا إله إلا الله خالفوا ما دل عليه القرآن والسنة، كان عليه السلف، وفي إثبات الصفات خالفوا, وقالوا: نهج السلف أو طريق السلف أسلم, وطريقتنا أعلم وأحكم, وجعلوا الصواب بين التأويل والتفويض:
وكل نصٍ أوهم التشبيه أوّله أو فوّض ورم تنزيهًا
فالتأويل عندهم حق، والتفويض حق، وأما الإثبات فليس بحق, وفي مسائل الإيمان خالفوا وقالوا بالإرجاء، وعندهم الإيمان هو التصديق فقط دون الإقرار والعمل, وفي مسائل القدر هم جبرية متوسطة, وفي مسائل أخر خالفوا أيضًا, مما يضيق المقام عن ذكره.
فإذن من خالف في هذه الأصول العظيمة في الغيبيات والعقائد، فإن إدراجه في أهل السنة والجماعة وفي الفرقة الناجية، هذا ليس بواضح من جهة الدليل والاتباع, ولهذا يدخلونهم في الفرق المخالفة للسنة والجماعة، لكن ينبغي أن يعلم أن إطلاق السنة قد يراد به ما يقابل الرافضة والشيعة والخوارج، فيدخل في إطلاق أهل السنة الأشعرية, والماتُريدية, والمرجئة, وجماعات، لأجل مقابلتهم بالفرق التي ضلالها عظيم, لهذا من الأفضل بل من المتعين عند الإطلاق أهل السنة والجماعة أن ينتبه ألا يكون شعارًا يدخل فيه من ليس من أهل السنة والجماعة؛ حتى لا يضل الناس، ويكون مقتصرًا على من اعتقد الاعتقاد الحق، والباقون يمكن أن يقال عنهم: أهل السنة، ولكن لا يوصفون بأهل السنة والجماعة؛ لأنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعاً, ولم يقيموا الدين كما أمر الله جل وعلا، بل فرقوا في ذلك، وأخذوا ببعض الكتاب, وتركوا بعضًا، كما هو معلوم من تفاصيل أقوالهم.
المسألة الرابعة:
قوله: "تجتنب الشذوذ". الاجتناب: هو الترك, ويريد بالترك أنه يتركه دينًا, وتعبدًا، وتقربًا إلى الله –جل وعلا- لملازمته للسنة والجماعة, والشذوذ: هو الانفراد. وقد جاء في حديث وفي إسناده ضعف: ((ومن شذ، شذ في النار)). يعني: من انفرد عن الجماعة التي وعدها الله –جل وعلا- بالجنة، فإنه سينفرد عنهم أيضًا في الآخرة في النار، هذا من جهة الوعيد, فمعنى الشذوذ في العلم والعقيدة: الانفراد بأشياء ليس عليها الدليل, ولم تكن عليه الجماعة الأولى, ولهذا كان الإمام أحمد –رحمه الله- وجماعة من أئمة السلف يقولون في مسائل العقائد: لا نتجاوز القرآن والحديث؛ لأنه إذا تجاوز المرء القرآن والحديث في مسائل الغيبيات والعقائد؛ فإنه لا يؤمن عليه الخلاف، ولا يؤمن عليه أن ينفرد بآراء ليست مدللاً عليها, الشذوذ قد يكون في أصل من الأصول, يعني: الانفراد، وقد يكون في فرع لأصلٍ من أصول الاعتقاد, فالشذوذ مرتبتان؛
المرتبة الأولى: أن ينفرد ويشذ في أصل من الأصول –يعني: في الصفات- الإيمان، القدر، فهذا بانفراده في الأصل يخرج من الاسم العام المطلق لأهل السنة والجماعة.
والمرتبة الثانية: أن يوافق في الأصول, لكن يخالف في فرع لأصل، أو في فردٍ من أفراد ذلك الأصل، مثلاً يؤمن بإثبات الصفات، وإثبات استواء الرب -Y- على عرشه، وبعلو الرب -Y-، وبصفات الرحمن -I- لكن يقول: بعض الصفات أنا لا أثبتها، لا أثبت صفة الساق لله –جل وعلا-، أولا أثبت صفة الصورة لله –جل وعلا- , أو أثبت أن لله جل وعلا أعيناً، أو أثبت أن لله –جل وعلا- كذا وكذا, مما خالف به ما عليه الجماعة، فهذا لا يكون تاركاً لأهل السنة والجماعة، بل يكون غلط في ذلك وأخطأ، ولا يتبع على ما زلَّ فيه، بل يعرف أنه أخطأ, والغالب أن هؤلاء متأولون في الاتباع, وهذا كثير في المنتسبين للسنة والجماعة, كالحافظ ابن خزيمة فيما ذكر في حديث الصورة، وكبعض الحنابلة حينما ذكروا أن العرش يخلو من الرحمن -Y- حين النزول، وكمن أثبت صفة الأضراس لله، وأثبت صفة العضد، أو نحو ذلك مما لم يقرره أئمة الإسلام, فإذن من شذ في ذلك –في هذه المرتبة- يقال: غلط وخالف الصواب، ولكن لم يخالف أهل السنة والجماعة في أصولهم بل في بعض أفراد أصلٍ, وهو متأولٍ فيه، وهذا هو الذي عليه أئمة الإسلام, فيما عاملوا به من خالف في أصل من الأصول في هذه المسائل، وكتب ابن تيمية بالذات طافحة بتقرير هذا, فيمن خالف في أصل، أو خالف في مسألة فرعية ليست بأصل.
المسألة الخامسة:
الخلاف، قال: "نتجنب الشذوذ, والخلاف". والفرقة والخلاف شر، ومذموم في الشريعة, والخلاف يطلق ويراد به الاختلاف أيضاً، كما قال –جل وعلا-: ] وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[. فمدح من لم يختلف، وذم من كان في اختلاف، وأهل الاصطلاح يفرقون بين الخلاف والاختلاف، وهذا ليس هذا مورده, وإنما في هذا الموضع الاختلاف والخلاف بمعنى واحد, وهما شر، كما قال ابن مسعود: الخلاف شر -t- وأرضاه، والخلاف له صورتان: خلاف في العلميات –في العلم- والعقيدة, وهذا البحث فيه كالبحث في الشذوذ والفرقة, الآتي.
والثاني: الخلاف في العمليات, يعني: فيما يسمى بالفروع، والخلاف هذا الثاني في الفروع، ليس مباحاً، أو مأذوناً به دائماً، بل قد يكون الخلاف مذموماً, ولو كان في الفروع، وذلك إذا كان سيترتب عليه مفسدة في الناس، أو افتراق أو إساءة ظن أو مخالفة لأئمة المسلمين, ولهذا ابن مسعود -t- في قصته مع عثمان كان يقرر ويذكر أن السنة: أن يصلي أهل منى في منى ركعتين للرباعية, وعثمان -t- صلى الرباعية أربعة، وكان ابن مسعود يصلي معه أربعة، فقيل له في ذلك، قيل له: تقول: السنة ركعتان، وتصلي مع عثمان أربع، فقال: الخلاف شر، وهذا من عظيم فقهه -t- مع أنه كان بينه وبين عثمان -t- خصومة، أو نوع خلاف واختلاف في مسألة عطائه, فكان يطلبه, وعثمان لم يعطه عطائه الذي كان يرى ابن مسعود أنه له؛ لأن ابن مسعود بدري، وكان له في ذلك قول يجادل به عثمان معروف، لكن مع ذلك تخلص من هوى نفسه, وقال: الخلاف شر, فالخلاف إذن في الفروع، في العمليات، ليس دائماً مأذوناً به, أو لا يعاب صاحبه، بل قد يعاب إذا كان في الخلاف مفسدة وفرقة، أو الخلاف يساء به الظن، أو يسد أبواباً من الخير ونحو ذلك، والطحاوي هنا لا يريد تقرير هذا البحث الثاني، وإنما يريد أن الخلاف –الذي هو بمعنى الشذوذ والفرقة- يجتنب ويحذر منه.
المسألة الأخيرة السادسة:
الفرقة هنا بمعنى: الافتراق, والفرقة أكثر النصوص في النهي عنها، والأمر بالجماعة معه النهي عن الفرقة؛ لأنه لا يجتمع الناس إلا إذا انتهوا عن الافتراق والفرقة, ولهذا كما قدمت لك بعض الآيات، نهى الله –جل وعلا- عن الافتراق فقال: ]وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [ دلت هذه الجملة من الآية على أن النهي عن الفرقة هنا، المقصود به الفرقة في الأبدان، ثم قال –جل وعلا-:] وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا [ وهذه الفرقة في الدين, وهذا كما في قوله مثلاً في سورة الشورى: ] شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [ يعني: في الدين. فتحصل من هذا أن الأدلة دلت على أن الفرقة قسمان: فرقة في الأبدان، وفرقة في الدين، مقابلة للجماعة, التي هي جماعة في الدين وجماعة في الأبدان, فكذلك الفرقة؛ فرقة في الدين، وفرقة في الأبدان، أما فرقة الدين فتكون بانتحال الأهواء، والأخذ بطريقة أهل الهوى من الخوارج فمن بعدهم, وأعظم أهل الأهواء الخوارج، يعني: ممن خرج على الصحابة, ثم بعد ذلك إلى أن أتت الملل، أو إذا أتت الأقوال الكفرية عند الجهمية والحلولية… إلى آخره، وهذا أعظم افتراق في الدين، فإن الله –جل جلاله- جعل الدين واضحاً, لا لبس فيه في أصوله وعقائده, وفي قواعده العملية، لا لبس فيها، ولهذا قال –جل جلاله-: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ}
] شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [. يعني: في الدين.
فتحصل من هذا أن الأدلة دلت على أن الفرقة قسمان:
فرقة في الأبدان، وفرقة في الدين، مقابلة للجماعة التي هي: جماعة في الدين، وجماعة في الأبدان, فكذلك الفرقة فرقة في الدين، وفرقة في الأبدان، أما فرقة الدين فتكون بانتحال الأهواء، والأخذ بطريقة أهل الهوى من الخوارج فمن بعدهم, وأعظم أهل الأهواء الخوارج، يعني: ممن خرج على الصحابة, ثم بعد ذلك إلى أن أتت الملل، أو إذا أتت الأقوال الكفرية عند الجهمية والحلولية… إلى آخره، وهذا أعظم افتراق في الدين، فإن الله –جل جلاله- جعل الدين واضحاً, لا لبس فيه، في أصوله وعقائده, وفي قواعده العلمية لا لبس فيه، ولهذا قال –جل وعلا-:
] وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [. فإذن كل أنواع الافتراق التي حدثت إنما كانت لأجل الهوى، ولذلك سموا أهل الأهواء.
سؤال: هل وجود المتشابه في القرآن والسنة يعتبر سبباً في خروج أهل الأهواء؟!
جواب: ليس كذلك؛ لأن الله –جل وعلا- بيّن أن أهل الأهواء في قلوبهم زيغ قبل أن ينظروا إلى الأدلة، فقال –جل وعلا: ] فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [. قال -I- في أول الآية: ] هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [. فبيّن –جل جلاله- أنه جعل كتابه منه محكم, ومنه متشابه، يعني: يشتبه على المرء العلم به، ما الذي حصل؟! أن الذين في قلوبهم زيغ اتبعوا، قال: ] فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ [. فأثبت الزيغ في قلوبهم، ثم وصفهم باتباع المتشابه.
فإذن المتشابه في الكتابوالسنة ابتلاء؛ ليظهر أهل الأهواء من أهل السنة والجماعة, فحصول الهوى والزيغ في القلب ينتج عنه أن يبحث عما يؤيد به هواه، ويؤيد به زيغه, وهذا ما نصت عليه الآية، قال: ] فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ [. بالفاء الترتيبية، ولهذا قال الأئمة: "إن أعظم ما أمر الله –جل وعلا- به الاجتماع، وأعظم ما نهى الله –جل وعلا- عنه الافتراق". لأن حقيقة الاجتماع: اجتماع في الدين وفي الأبدان, وبهما صلاح العباد، وأعظم المصائب الافتراق، وبهما يحصل البلاء كله.
فالشرك فرقة، والتوحيد جماعة، والبدعة فرقة، والسنة جماعة، والعقائد الصحيحة جماعة، والعقائد الفاسدة فرقة، الاستدلال بالكتاب والسنة وصحة منهج التلقي جماعة، والاستدلال بالأهواء والعقول وما ألفى المرء آباءه وأقوامه عليه فرقة؛ لأنه خالف المنهج الصحيح في الاستدلال، الاجتماع مع جماعة المسلمين وأئمتهم جماعة، والافتراق وترك أئمة المسلمين وجماعتهم فرقة، وهكذا...
فكل خير في الجماعة والسنة، وكل شر في الشذوذ والخلاف والفرقة.
[1] الآية هكذا خطأ والصواب { قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور :54].