ص: الحروفُ.
ش: المرادُ بالحروفِ التي يُحْتَاجُ إلى معرفتِها الفَقَيهُ، وليسَ المرادُ هنا ما هو قَسَيمُ الاسمِ والفِعْلِ، بل أسماءُ وظروفٌ وحروفٌ يَكْثُرُ تداولُها، فأُطْلِقَ الحَرْفُ على ذلك؛ لأنَّها أجزاءُ الكلامِ، من بابِ إطلاقِ الجزءِ وإرادةِ الكلِّ، هذا مُصْطَلَحُ الأصولِيِّينَ والفقهاءِ، فجَرَى المُصَنِّفُ عليه وليسَتْ الكلماتُ التي سَرَدَها كلَّها حروفاً، ولهذا عَدَا إمامُ الحرمَيْنِ في (البُرْهانِ) (مَا) في الحروفِ معَ تصريحِه بأنَّها اسمٌ، وكذلك فَعَلَ القاضِي الحُسَيْنِ في مسألةٍ: أي: عَبْدِي ضَرَبَكَ، قلتُ: بل عَبَّرَ بذلك سِيبَوَيْه إمامُ الصناعةِ.
قالَ الصَّفَّارُ في (شَرْحِ سِيبَوَيْه) يُطْلِقُه سيبويه على الاسمِ والفعلِ بدليلِ قولِه: ولم يَسَكِّنُوا آخَرَ الحرفِ، يعني: فِعْلٌ؛ لأنَّ فيه بعضُ ما في المُضارَعَةِ، أَرَادَ بالحرفِ الفِعْلَ المَاضِي، وقالَ في قَوْلِهِ تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقِهِمْ}. فمَا لم يَمْنَعِ الباءَ من العمَلِ في الحرفِ نَقْصاً وهو اسمٌ. انتهى.
ص: أحدُها: إذن، قالَ سِيبَوَيْه: للجوابِ والجزاءِ، قالَ الشَّلَوْبِينَ: دائماً، وقالَ الفارسيُّ: غالباً.
ش: إذن: مَعنَاها: الجوابُ والجزاءُ، فإذا قالَ: أنا صَدِيقُكَ، فقلتَ: إذن أُكْرِمَكَ، فقد أَجَبْتَه وصَيَّرْتَ إِكْرَامَك إيَّاهُ جزاءً على قَصْدِه.
قالَ الزجاجُ: تأويلُها: إنْ كانَ الأمْرُ كما ذَكَرْتَ فأنَا أُكْرِمُكَ، فأَغْنَتْ إذنْ عن ذِكْرِ الشَّرْطِ في الجوابِ كما أَغْنَتْ نَعَمْ عن ذِكْرِ المسؤولِ عنه في الجوابِ، فهي كذلك تُفِيدُ معنيَيْنِ:
أحدُهما: جوابُ كلامِه.
والثاني: جزاءُ فِعْلِه.
واعْلَمْ أنَّ مُجِيبَها لهما هو نصُّ سِيبَوَيْه، واخْتُلِفَ فيه، فحَمَلَه قومٌ منهم الشَّلَوْبِينَ على ظاهرِه، وقالَ: إنَّها لهُما في كلِّ مَوْضِعٍ. وتَكَلَّفَ تَخْرِيجَ ما خَفِيَ فيه ذلك، وذَهَبَ الفارسيُّ إلى أنَّها قد تَرِدُ لهُما وهو الأكثرُ، وقد تَتَمَحَّضُ للجوابِ وَحَدَه، نحوَ قولِك: أُحِبُّكَ. فتقولُ: إذنْ أَظُنَّكَ صَادِقاً. فلا يُتَصَوَّرُ هنا الجزاءُ، وحُمِلَ كلامُ سَيبَوَيْه على ذلك كما قالَ في (نَعَمْ): إنَّها عُدَّةٌ= وتصديقٌ باعتبارِ حالَيْنِ.
وقالَ بعضُ المُتَأَخِّرِينَ: (إذن) وإنْ دَلَّتْ على أنَّ ما بعدَها مُتَسَبِّبٌ عمَّا قَبْلَها ـ على وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُما: أنْ تَدُلَّ على إنشاءِ الارتباطِ والشَّرْطِ بحيثُ لا يُفْهَمُ الارتباطُ من غيرِها في ثاني الحالِ، فإذا قلتَ: أَزُورُك. فقلتَ: إذنْ أَزُورَكَ. فإنْ أَرَدْتَ أنْ تَجْعَلَ فِعْلَه شَرْطاً لفِعْلٍ، وإنشاءُ السبَبِيَّةِ في ثاني حالٍ من ضرورتِه إنَّها تكونُ في الجوابِ وبالفِعْلِيَّةِ في زمانٍ مُسْتَقْبَلٍ.
والثاني: أنْ تكونَ مُؤَكِّدَةُ جوابٍ ارْتَبَطَ بمُتَقَدِّمٍ، أو مُنَبِّهَةٍ على سببٍ حَصَلَ في الحالِ، نحوَ: إنْ آتَيْتَنِي إذنْ آتِكَ، وواللهِ إذنْ أفَعْلَ، وإذنْ أُظُنَّكَ صادقاً، تقولُه لمَنْ حَدَّثَكَ، فلو حَذَفْتَ (إذنْ) فُهِمَ الرَّبْطُ، وإذا كانَ بهذا المعنَى ففي دُخُولِها على الجُمْلَةِ الصريحةِ، نحوَ: إنْ يَقُمْ زيدٌ إذنْ عمرٌو قائمٌ، نظرٌ، والظاهرُ الجوازُ.
ص: الثاني: إنَّ للشروطِ والنَّفْيِ والزيادَةِ.
ش: مَجِيئَها للشرْطِ هو الغالبُ: وهي أمُّ أدواتُ الشرْطِ، ومجيئَها للنَّفْيِ بمعنَى (مَا) نحوَ: إنْ زيدٌ قائماً، وهي تارةٌ تكونُ معه عاملَةٌ، تَرْفَعُ الاسمُ وتَنْصِبُ الخَبَرَ عندَ الكُوفِيِّينَ، كقراءَةِ سعيدِ بنَ جُبَيْرٍ: (إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَاداً أَمْثَالُكُمْ). وتارةً تكونُ غيرُ عاملَةٍ، وهو كثيرٌ كقولِه تعالى: {إِنِ الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ}، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حَافِظٌ} وادَّعَى بَعْضُهم أنَّها لا تَجِيءُ نافِيَةٌ إلاَّ بعدَها (إلاَّ) أو (لمَّا) المُشَدَّدَةُ التي بمعنَى (إلاَّ) ويَرُدُّه قولُه تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا}، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ}.
ومَجِيئِها للزيادَةِ أَكْثَرُه بعدَ (مَا) النافيةِ لتَوْكيدِ النَّفْيِ نحوَ: ما إنْ زيدٌ قائمٌ، وزَعَمَ ابنُ الحَاجِبِ: أنَّها تُزادُ بعدَ (لمَّا) الإيجابِيَّةِ، وغَلَطَ فيه، وإنَّما تلك المَفْتُوحَةِ.
تنبيهٌ: لم يَذْكُرْ (إنَّ) المُشَدَّدَةَ ومَجِيئِهَا للتعليلِ، وذَكَرَه في بابِ القياسِ في مَسَالِكِ العِلَّةِ، وكأنَّه اسْتَغْنَى عنه كذلك، وقد أنْكَرَهُ ابنُ الأنْبَارِيِّ في مَسائِلِ سُئِلَ عنها في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهَا مِنَ الطَّوَافِينَ عَلَيْكُمْ)) فقالَ: لم تَأْتِ للتَّعْلِيلِ بالإجماعِ، وإنَّما هي للتأْكِيدِ، وبمعنَى نَعَم لا غيرُ، والتعليلُ إنَّما اسْتُفِيدَ من الطوافِ لا من إنَّ.
ص: الثالثُ: أو للشَّكِّ والإبْهامِ والتخْييرِ ومُطْلَقُ الجَمْعُ والتَّقْسِيمُ وبمعنَى إلِى والإضْرابُ كـ (بَلْ) قالَ الحَرِيرِيُّ: والتقريبُ نحوَ: ما أَدْرِي أَسَلَّمَ أو وَدَّعَ.
ش: مثالُ الشَّكِّ: قامَ زيدٌ أو عَمْرٌو، وإذا لم تَعْلَمْ أيُّهما قَامَ، ومنه: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} والفرقُ بينها وبينَ إمَّا، إذا اسْتُعْمِلَتْ للشَّكِّ، أنَّ الكلامَ معَ إمَّا لا يكونُ إلاَّ مبنيًّا على الشَّكِّ، و (أو) بخلافِه، وقد يُبْنَى الكلامُ أولاً على الشَّكِّ فتكونُ كإمَّا، وقد يُبْنَي المُتَكَلِّمُ كلامُه أولاً على اليقينِ ثمَّ يُدْرِكُه الشَّكُّ.
ومثالُ الإبْهامِ: قَامَ زَيدٌ أو عَمْرٌو، إذا كُنْتَ تَعْلَمُ القائمَ منهما، إلاَّ أنَّك قَصَدْتَ الإيهامَ على المُخاطَبِ، ومنه قولُه تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} والفرْقُ بينَهُما: أنَّ الشَّكَّ من جِهَةِ المُتَكَلِّمِ والإبْهامِ من جِهَةِ السامِعِ، وجَوَّزَ القِرَافِي في الإبِهامِ قراءَتَه بالمُوَحَدَّةِ والمُثَنَّاةِ؛ لأنَّ المقصودَ التلْبِيسُ على السامِعِ، ومثالُ التخْييرِ وهي الواقعةُ بعدَ الطَّلَبِ، وقيلَ: ما يُمْنَعُ فيه الجَمْعُ نحوَ: تَزَوَّجْ هنداً أو أُخْتَها، وخُذْ من مالِي دِرْهَماً أو دِيناراً.
واسْتُشْكِلَ على التفسيرِ الثاني تَمْثِيلُ الأَئِمَّةِ بآيَتِي الكفَّارَةِ والفِدْيَةِ، للتَّخْييرِ معَ إمْكانِ الجَمْعِ، وأَجَابَ صاحبُ (البسيطِ) من النحْويينَ بأنَّه إنَّما يَمْتَنِعُ الجَمْعُ بينَهما في المحظورِ؛ لأنَّ أحدَهما يَنْصَرِفُ إليه الأمَرُ، والآخَرُ يَبْقَى محظوراً لا يَجُوزُ له فِعْلُه، ولا يَمْتَنِعُ في خِصالِ الكفَّارَةِ؛ لأنَّه يأتِي بمَا عدا الواجبُ مُتَبَرِّعاً ولا مَنَعَ من التبَرُّعِ، ولم يَذْكُرْ المُصَنِّفُ الإبَاحَةَ، ومنهم مَن غَايَرَ بينَهما وبينَ التخييرِ، ومثلُ الإبَاحَةِ بما يَجُوزُ الجَمْعُ بينَهما نحوَ: أَصْحَبَ العلماءُ أو الزهادُ، والتخييرُ بما يُمْنَعُ الجمعُ نحو: خُذْ الثوْبَ أو الدينارَ، والظاهرُ أنَّهما قِسْمٌ واحدٌ؛ لأنَّ حقيقةَ الإباحةِ هي التخييرُ،وإنَّما امتنع الجمع في الثوب أو الدينار للقرينة العرفية لا من مدلول اللفظ، كما أن الجمع بينَ صحبة العلماء والزهاد وصف كمال لا نقص فيه، والفرق بينَ الإباحةِ والتخييرِ، وبقيةُ معانِي (أَوْ) أنَّ الإباحةَ والتخييرِ في الطَلَبِ والشَّكِّ والإيهامِ والتنْويعِ في الخَبَرِ، فإنْ جَاءَتْ (أو) بعدَ النهْيِ وَجَبَ اجْتِنابُهُما معاً كقولِه تعالى: {وَلاَ تُطِعْ فيهِم آثِماً أَوْ كَفُوراً}؛ أي: لا تُطِعْ أحدُهما، فلو جَمَعَ بينَهما لفِعْلِ المَنْهِيِ عنه مَرْتَيْنِ، وفي (الارْتِشافِ) إذا نَهَيْتَ عن المُبَاحِ اسْتَوْعَبْتَ ما كانَ مُباحاً، باتفاقِ النُّحَاةِ، منه، ولا تُطِعْ منهم آثماً أو كَفُوراً، وإذا نَهَيْتَ عن المُخَيَّرِ فيه، فذَهَبَ السِّيرَافِيُّ إلى أنَّه يَسْتَوْعِبُ الجميعَ، وذَهَبَ ابن كَيْسَانَ إلى جوازِ أنْ يكونَ النَّهْيُ عن واحدٍ وأنْ يكونَ عن الجميعِ. انتهى.
ومثال: مُطْلَقُ الجمْعِ كالواوِ، قولُه تعالَى: {أَوْ يَزِيدُونَ} وهذا قولٌ كُوفِيٌّ.
ومثالُ التقسيمِ: الكَلِمَةُ اسمٌ أو فِعْلٌ أو حرفٌ، وأَبْدَلَ ابنُ مالِكٍ التقسيمُ بالتفريقِ المُجَرَّدِ، يعني من المعانِي السابِقَةِ، ومثلُه بقولِه تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى}. قالَ: والتعبيرُ عنه بالتفريقِ أوْلَى من التقسيمِ؛ لأنَّ استعمالَ الواوِ فيما هو تَقْسيمٌ أَجْوَدٌ من اسْتِعِمَالِ (أو)، ونُوَزِّعُ في ذلك بأنَّ مَجِيءَ الواوِ في التقْسيمِ أكْثَرُ، لا يَقْتَضِي أنَّ (أو) لا يَأْتِي له، بل يَقْتَضِي ثُبُوتُ ذلك غيرَ أكثرَ.
ومثالُ (إلى): لأَلْزَمَنَّكَ أو تَقْضِي حَقِّي، وجَعَلَ منه بعضُهم قولِه تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةٌ} إذا قُدِّرَ تَفْرِضُوا مَنْصُوباً بأنْ مُضْمَرَةً، ويَكونُ غايةٌ لنَفْي الجناح=.
ومثالُ الإضرابِ قولُه تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ}. قالَ الفَرَّاءُ هنا: (أو) بمعنَى بل، وقد تَجِيءُ للإضرابِ مُطْلَقاً، وعن سِيبَوَيْه بشرْطَيْنِ، تَقَدَّمَ نَفْيٌ أو نَهْيٌ، وإعادةُ العامِلُ، نحوَ: ما قَامَ زيدٌ أو ما قَامَ عَمْرٌو، ولا يَقُمْ زَيدٌ أو لا يَقُمْ عمرٌو.
ومثالُ التقْريبِ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ: ما أَدْرِي أَسْلَمَ أو وَدَّعَ؛ أي: لسُرْعَتِه، وإنْ كانَ يَعْلَمُ أنَّه سَلَّمَ أولاً، وجَعَلَ مثلَه: ما أَدْرِي أَذَّنَ أو أَقَامَ، وحكايتُه عن الحَرِيرِيِّ تَابَعَ فيه الشيخُ في (المُغْنِي)، وقد ذَكَرَهُ أَبُو البَقاءِ أيضاًً، وجَعَلَ منه قولَه تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}. ثمَّ قالَ الشيخُ: وهو بَيَّنَ الفسادَ، و (أو) فيه إنَّما هي للشَّكِّ، وإنَّما اسْتُفِيدَ التقريبُ من: إثباتِ اشتباهِ السلامِ بالتوْدِيعِ، إذ حصولُ ذلك معَ تَبَاعُدِ ما بينَ الوقتَيْنِ مُمْتَنِعٌأو مُسْتَبْعِدٌ، قلتَ: وهذا لا يَتَأَتَّى في الآيةِ إلاَّ برجوعِه إلى الإبْهامِ على المُخاطَبِ، وأمَّا دَعْوَى إسنادِه ذلك فيما بعدَ (أو)، فلا خُصوصِيَّةٍ له بهذا المعنَى، ولهذا ذَهَبَ قومٌ إلى أنَّها موضوعةٌ للقَدْرِ المُشْتَرَكِ بينَ المعانِي السابِقَةِ، وهي لأحَدِ الشيئَيْنِ أو الأشياءِ، وإنَّما فُهِمَتْ هذه المعانِي من القرائنِ.
ص: الرابعُ: أي: بالفتحِ والسكونُ للتَّفْسيرِ والنداءِ القريبِ أو البعيدِ أو المتوسطِ، أقوالٌ:
ش: معنى التفسيرُ: أنْ تكونَ تفسيراً لِمَا قَبْلَها وعبارَةٌ عنه، وهي أَعَمٌّ من (أنْ) المُفَسِّرَةِ؛ لأنَّ (أي) تَدْخُلُ على الجُمْلَةِ والمُفْرَدِ، ويَقَعُ بعدَها القولُ وغيرُه.
مثالُ المُفْرَدِ: عندَي عَسْجَدُ، أي: ذَهَبَ.
ومثالُ الجُمْلَةِ: قولُ الشاعرِ:
=وتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أي أَنْتِ مُذْنِبٌ وتقلينني لَكِنْ إيَّاكِ لاَ أَقلي.
فجَعَلَ (أنت مُذْنِبٌ) تفسيراً لـ (تَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ) إنْ كانَ (تَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ) معناهُ: تَنْظُرُ إلى نَظَرٍ مُغْضِبٍ، ولا يكونُ ذلك إلاَّ عن ذَنْبٍ.
وأَغْرَبَ ابنُ أَبِي الفَتْحِ في (شَرْحِ الجُمَلِ) فقالَ: شَرْطُها أنْ يكونَ ما قَبْلَها جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مُسْتَغْنِيَةٌ بنَفْسِها يَقَعُ بعدَها جُمْلَةٌ أُخْرَى تَامَّةٌ أيضاًً، تكونُ الثانيةُ هي الأولَى في المعنَى مُفَسِّرَةً لهَا، فتَقَعُ بينَهما (أي) وادَّعَى بعضُهم أنَّها اسمُ فِعْلٍ بمعنَى: عُوا= أو فهموا=، وُضِعَتْ لِعَدَمِ دلالَتِها على معنًى في نَفْسِه بغيرِ إضَافَةٍ.
وحَكَى ابنُ مالِكٍ عن صاحبِ (المُسْتَوْفِي) أنَّها حَرْفُ عَطْفٍ، ثمَّ قالَ: والصحيحُ أنَّها حَرْفُ تفسيرٍ تَابِعٍ يَتْبَعُ ما بعدَها الأجْلَى الأخْفَى، وهو عَطْفُ بيانٍ يُوافِقُ ما قَبْلَها في التعريفِ والتنكيرِ.
ومثالُ النداءِ: أي زيدٌ، وفي الحديثِ: ((أي رَبُّ))، وعلى هذا فهل يُنَادَى بها القريبُ أو البعيدُ مسافةً أو حُكْماً، أو المُتَوَسِّطُ، أقوالٌ:
وبالأوَّلِ قالَ المُبَرِّدُ والزَّمَخْشَرِيُّ، وبالثالثِ قالَ ابنُ بُرْهانٍ، وفيه إثباتُ رُتْبَةٍ ثالثةٍ وهو التَّوَسُّطُ ولا يَعْرِفُه الجمهورُ، والراجحُ الثاني، ونَقَلَه ابنُ مالِكٍ عن سِيبَوَيْه؛ لأنَّه صَرَّحَ بأنَّها مثلُ (هنا) و(أيا) في البعيدِ، وعَلْلَّ القَوَّاسُ الأوَّلَ بقلَّةِ لفظِها وعَدَمِ الحاجةِ لمَدِّ الصوتِ، وتَظْهَرُ فائدَةُ العِلَّتَيْنِ في الأُولَى، فعَلَى الأوَّلِ هي مُساوِيَةٌ لها وعلى الثاني فلا، وفي كتابِ (الأدَواتِ)؛ أي: للقريبِ حاضراً إذا كانَ مُعْرِضاً عنك، والألِفُ للقريبِ المُقْبِلِ عليك، و(يا) للجَمْعِ.
ص: وبالتشديدِ: الشرْطُ والاستفهامُ ومَوصولَةٌ ودَالَّةٌ على معنَى الكمالِ ووصْلَةٌ لنداءٍ ما فيه (أل).
ش: أي: بالفتحِ والتشديدِ، مثالُ الشرْطِ: أيُّهم يُكْرِمُنِي أَكْرِمْه.
والاستفهامُ {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً}. قالَ الآمِدِيُّ: ولا تكونُ اسْتِفْهَامِيَّةً أو شَرْطِيَّةً إلاَّ مَعْرِفَةً وهو مردودٌ، بل يَجُوزُ أنْ تكونَ مَعْرِفَةً أو نَكَرِةً حسَبِ ما تُضَافُ إليه.
ومثالُ الموصولةِ: أي: بمعنَى (الذي)، قولُه تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ}. التقديرُ: لِنَنْزِعَنَّ الذي هو أَشَدُّ، قالَه سِيبَوَيْه وخَالَفَه الكُوفِيُّونَ، والدالَّةُ على معنَى الكمالِ هي الصفَةُ.
وتَقَعُ تَارَةً صِفَةً للنَّكِرَةِ: نحوَ: زيدٌ رجلٌ أيَّ رَجُلٍ؛ أي: كاملٌ في صفاتِ الرجالِ.
وحالاً للمَعْرِفَةِ: كمَرَرْتُ بعَبْدِ اللهِ أيَّ رَجُلٍ.
واعْلَمْ إنَّها إذا وَقَعَتْ صِفَةٍ، فإنَّ أُضِيفَتْ إلى مُشْتَقٍّ كانَتْ للمَدْحِ بالمُشْتَقِّ منه خاصَّةً، وإنْ أُضِيفَتْ إلى غيرِ المُشْتَقِّ، كانَتْ للمَدْحِ بكلِّ صِفَةٍ يُمْكِنُ أنْ يُثَنَّي بها، فالأوَّلُ: كمَرَرْتُ بعالِمٍ أيَّ عَالِمٍ، فالثناءُ عليه بالعِلْمِ خَاصَّةً، والثاني: كمَرَرْتُ برجُلٍ أيَّ رجُلٍ، فالثناءُ عليه بكلِّ ما يُمْدَحُ به الرَّجُلُ، وكلامُ المصنِّفِ شاملٌ للضرْبَيْنِ.
ومثالُ الوَصْلَةِ: يا أَيُّها الرجلُ، وزَادَ بَعْضُهم مَجيئِها للتَّخْصِيصِ، نحوَ: اللَّهُمَ اغْفِرْ لنا أيَّتُها العِصَابَةُ.
والتَّعَجُّبِ كقولِه: أيَّ فَتَى الهَيْجَاءِ أنت، وجَارَةٌ وهذا رَاجِعٌ إلى الاسْتِفْهامِ.
تنبيهٌ: كانَ يَنْبَغِي أنْ يَذْكُرَ (إيْ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وسُكُونِ الياءِ، ليَسْتَوْفِي جميعِ أقْسامِها، وهي حَرْفُ جَوابٍ بمعنَى نَعَمْ، ولا يُجَابُ بها إلاَّ معَ القِسْمِ في جوابِ الاسْتِفْهامِ نحوَ: {ويَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي}.
ص: الخامسُ: إذ: اسمٌ للماضِي ظَرْفاً، ومفعولاً به، وبَدَلاً من المفعولِ، ومُضَافاً إليها اسمُ زمانٍ والمستقبلُ في الأصَحِّ، وتُرَدُّ للتَّعْلِيلِ حرفاً، وقيلَ: ظرفاً وللمُفَاجَأَةِ وفاقاً لسِيبَوَيْه.
ش: أَجْمَعُوا على سبَبِيَّةِ (إذ) بدليلِ تَنْوينِها في نحوَ: يومَئذٍ، والإضافةُ إليها نحوَ: {إِذْ هَدَيْتَنَا}. وهي اسمٌ للمَاضِي نحوَ: قُمْتُ إِذ قَامَ زَيدٌ، سواءٌ دَخَلَتْ على الماضِي أو غيرِه.
ومثالُ اسْتِعْمَالِها ظَرْفاً: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَدَّمَه المُصَنِّفُ؛ لأنَّه الغَالِبُ فيها.
ومثالُ المَفْعُولِيَّةِ: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}.
ومثالُ البدلَيَّةِ: {اذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انْتَبَذَتْ}، فإذ: بَدَلُ اشْتِمالٍ من مريمَ على حدِّ البَدَلِ في قَوْلِهِ تعالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}.
ومثالُ المُضَافِ إليها الزمانُ: أي: سواءٌ صَلُحَ الاسْتِغْنَاءُ عنه نحو: يومَئذٍ، أو لا، نحوَ: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}.
ومثالُ المستقبلِ: بمعنَى إذا: {يَوْمَئذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارِهَا} وهذا ما اخْتَارَهُ ابنُ مالِكٍ وجَمْعٍ من المُتَأَخِّرِينَ مُحْتَجِّينَ بقولِه تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}. ولكنَّ الأكثرِينَ على المَنْعِ، وأَجَابُوا عمَّا تَمَسَّكَ به الأوَّلُونَ بأنَّ الأمورَ المُسْتَقْبَلَةَ لمَّا كانَتْ في أَخْبَارِ اللهِ مُتَيَقِّنَةٍ مَقْطُوعاً بها، عَبَّرَ عنها بلفْظِ المَاضِي، وبِهذا أَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وابنُ عَطِيَّةَ، وغيرُهما.
ومثالُ التعْلِيلِ: {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا}. ثمَّ اخْتَلَفَ النحْويُّونَ في أنَّها حينَئذٍ هل تَكونُ حَرْفاً بمَنْزِلَةِ لامِ العِلَّةِ ـ ونُسِبَ لسِيبَوَيْه، وصَرَّحَ به ابنُ مالِكٍ في بَعْضِ نُسَخِ (التسْهيلِ) ـ أو ظَرْفاً؟ والتعليلُ مُسْتَفَادٌ من قوَّةِ الكلامِ لا من اللفظِ.
والمرادُ بالمُفاجأةِ: الواقعةُ بعدَ (بينا) و(بينما)، قالَ سِيبَوَيْه: بيْنَا أنَا كذا إذ جَاءَ زَيدٌ، فهو لمَّا تَوَقَّعَه ويهجم= عليه، والخلافُ السابقُ آتٍ هنا: هل هي حرفٌ بمعنَى المفاجأةِ، أو باقيةٌ على ظرْفِيَّتِها الزمانيَّةِ، ويَزِيدُ هنا قولُ: إنَّها ظرفُ مكانٍ كما قيلَ به في إذا الفُجَائِيَّةِ.
ص: السادسُ: إذا للمُفَاجَأَةِ.
ش: وهي التي يَقَعُ بعدَها المبتدأُ، فرقاً بينها وبينَ الشرْطِيَّةِ، نحو: خَرَجْتُ فإذا الأسدُ بالبابِ، ومنه قولُه تعالى: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}. قالَ صاحبُ (الكَشَّافِ) إنَّها إذا الكائنَةُ بمعنَى الوقْتِ، الطالِبَةُ ناصِباً لها وجُمْلَةٌ تُضَافُ إليها، خَصَّتْ في بَعْضِ المَواضِعِ بأنْ يكونَ ناصِبُها فِعْلاً مَخْصُوصاً، وهو فعْلُ المفاجأةِ، والجملةُ ابتدائيَّةٌ لا غيرَ، نحو قولِه تعالى: {حِبَالُهُمْ وعِصِيُّهُمْ} وفَاجَأَ مُوسَى وقْتَ تَخَيُّلِ سَعْيِّ= حِبَالِهم.
وقالَ ابنُ الحَاجِبِ: معنَى المفاجأةِ: حضورُ الشيءِ معَكَ في وصْفٍ من أوصافِك الفِعْليَّةِ، وتصويرُه في المثالِ حضورُ السبْعِ معَك في زَمَنِ وصفِك بالخروجِ، أو في مكانِ خروجِك؛ لأنَّ حَصْرَ ذاتِكَ في مكانِ فِعْلِك حينَ تَلَبُّسِكَ به أَمَسُّ من حَصْرِكَ في زَمَنِ فِعْلِكَ حينَ تَلَبَّسَكَ به؛ لأنَّ ذلك المكانَ يَخُصُّكَ ذلك الحينُ دونَ مَن أشْبَهَك، وذلك الزمانُ لا يَخُصُّكَ دونَ مَن أَشْبَهَكَ، وكلمَّا كانَ الفاجِئُ ألَصَفُ بالمُفَاجَأِ، كانَتْ المُفَاجَأَةِ أَقْوَى.
ص: حرفاً، وِفَاقاً للأخْفَشِ وابنِ مالِكٍ، وقالَ المُبَرِّدُ وابنُ عُصْفُورٍ ظَرْفُ زمانٍ، والزجَّاجُ والزَّمَخْشَرِيُّ: ظرْفُ مكانٍ.
ش: اخْتَلَفُوا فيها على ثلاثةِ مذاهبَ: أَصَحَّهَا: أنَّها حَرْفٌ؛ لأنَّ المُفاجأةَ معنًى من معانِي الكلامِ كالاسْتفهامِ والنفْيِ، والأصْلُ في المعانِي أنْ تُؤَدِّي بالحروفِ نحوَ: (لم) و (قد) و (ما) ورَجَّحَ قولُهم: فإذا إنَّ زيداً بالبابِ بكَسْرِ إنَّ، إذ لا يُعْمَلُ ما بعدَ إنَّفيما قبْلَها.
والثاني: أنَّها ظَرْفُ زمانٍ.
والثالثُ: أنَّها ظرفُ مكانٍ بدليلِ وُقوعِها خَبَراً عن الجُثَّةِ بدليلِ: خَرَجْتُ فإذا زَيدٌ، وظرفُ الزمانِ لا يَقَعُ خَبَراً عن الجُثَّةِ، وأَجَابَ الثاني بأنَّه على حَذْفِ مُضافٍ؛ أي: حضورُ زيدٍ، ونَسَبَ هذا وما قَبْلَه لسِيبَوَيْه.
وفائدةُ الخلافِ تَظْهَرُ إذا قُلْتَ: خَرَجْتُ فإذا الأسدُ، فعَلَى الأوَّلُ لا يَصِحُّ كونُها خبراً؛ لأنَّ الحرْفَ لا يُخْبَرُ به ولا عنه، وكذا على الثاني؛ لأنَّ الزمانَ لا يُخْبَرُ به عن الجُثَّةِ، ويَصِحُّ على الثالثِ؛ أي: فبالحَظِيرَةِ الأسدُ.
ص: وتَرِدُ ظَرْفاً للمُسْتَقْبَلِ مُضَمَّنَةً معنَى الشرطِ غالباً.
ش: ولذلِكَ تُجَابُ بمَا يُجابُ به أَدَواتُ الشرْطِ، نحوَ: إذا جَاءَ زيدٌ فَقُمْ إليه، قالُوا: واخْتُصَّتْ من بينَ أدواتِ الشرْطِ بأنَّها لا تكونُ إلاَّ في المُحَقَّقِ، نحوَ: إذا طَلَعَتِ الشمْسُ فأْتِنِي.
أمَّا (إنَّ) ونحوها فتكونُ للمَشْكُوكِ فيه، ولهذا قالَ تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} لمَّا كانَ المَسُّ في البحرِ مُحَقَّقاً، بخلافِ قولِه: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} فإنَّه لم يُقَيِّدْ مَسُّ الشَّرِّ بل أَطْلَقَه، ولمَّا قَيَّدَه بالبحرِ الذي يَتَحَقَّقُ ذلك أَتَى بهذا، وهذا يُضْعِفُ التأْويلَ الذي حَكَاهُ البُخَارِيُّ عن إِسْحَاقَ بنِ رَاهُويَهْ في الحديثِ الذي حَسَّنَه التِّرْمِذِيِّ: ((أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ، كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ)) أنَّ معناهُ: إنِ اشْتَهَى الولَدَ كانَ ولكنْ لا يَشْتَهِيهِ، فقيلَ: ليسَ هذا طبيعَةُ (إذا)، بل طبيعةُ غيرِها من أدواتِ الشرْطِ، واسْتَظْهَرَ بقولِه: غالباً إلى مَجِيئِهَا مُجَرَّدَةً من معنَى الشرْطِ كما سَيَأْتِي.
ص: ونَدَرَ مَجيئُها للماضِي والحالِ.
ش: أمَّا المَاضِي فعَلامَتُها أنْ تَقَعَ مَوْقِعَ إذ، كقولِه تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُم} وقولِه: {وَإِذَا رَأَوُا تِجَارَةُ أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} خَبرٌ أَثْبَتَه بعضُهم، وتَابَعَه ابنُ مالِكٍ، والجمهورُ مَنَعُوهُ، وتَأَوَّلُوا ما أَوْهَمَ ذلك.
وأمَّا الحالُ وعَلامَتُها بعدَ القَسَمِ نحوَ: {وَالْلَيْلِ إِذَا يَغْشَى}، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}؛ لأنَّها لو كانَتْ للاسْتِقْبَالِ لم تَكُنْ ظَرْفاً لفِعْلِ القَسَمِ؛ لأنَّه إنشاءٌ لا إخْبارٌ عن قِسْمٍ ثانٍ؛ لأنَّ قَسَمَه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى قديمٌ، ولا يكونُ محذوفٌ هو حالٌ من الليلِ والنجمِ؛ لأنَّ الاستقبالَ والحالَ مُتنافِيانِ، وإذا بَطُلَ هذانِ تَعَيَّنَ أنَّه ظَرْفٌ لأحدِهما على أنَّ المُرَادَ به الحالُ.
وقالَ ابنُ الحَاجِبِ في (شَرْحِ المُفَصَّلِ): قد تَأْتِي لمُجَرَّدِ الظرفيَّةِ دونَ الشرطيَّةِ، نحوَ: {وَالْلَيْلِ إِذَا يَغْشَى}؛ لأنَّها لو كانَتْ شَرطيَّةٌ لاحْتَاجَتْ إلى جوابٍ، وليسَ في اللفظِ، فيكونُ مُقَدَّراً يَدُلُّ عليه فِعْلُ القَسَمِ، وهو فَاسِدٌ؛ لأنَّه يَصِيرُ المعنَى: إذا يَغْشَى أَقْسَمَ، فيكونُ القسمُ مُتَعَلِّقاً بالشرطِ وهو ظاهرُ الفسادِ، وإذا ثَبَتَ أنَّها لمُجَرَّدِ الظرفيَّةِ فليسَتْ مُتَعَلِّقَةٌ بفِعْلِ القَسَمِ؛ لأنَّه يَصِيرُ المَعْنَى: أَقْسَمَ في هذا الوَقْتِ بالليلِ، فيَصِيرُ القسمُ مبتدأً، والمعنَى على خلافِه، بل يَتَعَلَّقُ بفِعْلٍ محذوفٍ؛ أي: أَقْسَمَ بالليلِ حاصلاً في هذا الوقْتِ، فهي إذاً في مَوْضِعِ الحالِ من الليلِ. انتهى. وقد وقع في محذورٍ آخَرَ، وهو أنَّ الليلَ عبارَةٌ عن الزمانِ المعروفِ، فإذا جَعَلْتَ إذا مَعْمُولَةٌ لفِعْلٍ هو حالٌ من الليلِ لَزِمَ وقوعُ الزمانِ في الزمانِ وهو مُحالٌ، والحقُّ أنَّ (إِذَا) كما تَجَرَّدَ عن الشرْطِ تَجَرَّدَ كذلك عن الظرْفِ، فهي هنا لمُجَرَّدِ الوقْتِ من دونِ تَعَلُّقِها بشيءٍ تَعَلُّقَ الظرفيَّةِ، وهي مجرورَةُ المَحَلِّ هَهنا لكونِها بَدَلاً عن الليلِ، كما جَرَتْ بحتى في قَوْلِهِ تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا} والتقديرُ: أَقْسَمَ بالليلِ وقتَ غَشَيَانِه؛ أي: أَقْسَمَ بوقَتِ غَشيانِ الليلِ.
ص: السابعُ: الباءُ للإلصاقِ حقيقةً أو مجازاً.
ش: معنَى الإلصاقِ: أنْ تُضِيفَ إلى ما كانَ لا يُضافُ إليه وتُلْصِقُه به لولاَ دُخُولُها نحوَ: خُضْتُ الماءَ برِجْلِي، ومَسَحْتُ برَأْسِي، وهو أَصْلُ مَعانِيها، ولم يَذْكُرْ لها سِيبَوَيْه غيرَه، ولهذا قالَ المَغَارِبَةُ: لا تَنْفَكَّ عنه إلاَّ أنَّها قد يَتَجَرَّدَ له، وقد يُدْخِلُها معَ ذلك معنًى آخَرَ.
وقالَ عبدُ القاهرِ: قولُهم الباءُ للإلصاقِ إنْ حَمْلْنَاهُ على ظاهرِه اقْتَضَى إفادتُها في كلِّ ما تَدْخُلُ عليه وهذا محالٌ؛ لأنَّها تَجِيءُ معَ الإلصاقِ نَفْسُه كقولِنَا: أَلْصَقَتْهُ به ولُصِقَتْ به، وحينَئذٍ فلا بُدَّ من تَأْويلِ كلامِهم، والوجْهُ فيه أنْ يكونَ غَرَضَهُمْ من ذلك أنْ يقولُوا للمُتَعَلِّمِ: انْظُرْ إلى قولِك: أَلْصَقَتْهُ به، وتَأَمَّلِ المُلابَسَةَ التي بينَ المُلْصِقِ والمُلْصَقِ به، واعْلَمْ أنَّ الباءَ أينَما كانَت، كانَت المُلابَسَةُ التي تَحْصُلُ بها شَبِيهَةً بهذِه المُلابَسَةِ التي تَرَاهَا في قولِك: أَلْصَقَتْه به. انتهى.
ثمَّ الإلصاقُ قد يكونُ حقيقةً وهو الأكثرُ، نحوَ: أَمْسَكْتُ الحَبْلَ بِيَدِي، قالَ ابنُ جِنِّي: أي أَلْصَقْتُها به، وقد يكونُ مجازاً، نحوَ: مَرَرْتُ بزيدٍ، فإنَّ المرورَ لم يُلْصَقْ بزَيدٍ، وإنَّما التصورُ بمكانٍ يَقْرُبُ منه.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المعنَى: أَلْصَقْتُ مُرُورِي بمَوْضِعٌ يَقْرُبُ منه، كأنَّه يَلْتَصِقُ به، فهو على الاتساعِ.
ص: والتَّعْدِيَةُ.
ش: وهي التي يُقالُ لها: باءُ النقْلِ؛ لأنَّها تَنْقُلُ الفاعلَ ليَصِيرَ مَفْعُولاً، نحوَ: قُمْتُ بزيدٍ؛ أي: أَقَمْتُهُ، وذَهَبْتُ بزَيدٍ؛ أي: أَذْهَبْتُه، وإنْ كَانَتْ التَّعْدِيَةُ لا يُفَارِقُها، ولكنَّ المرادَ بالتعدِيَةِ هذا النوعُ الذي في مُقَابَلَةِ الهمْزَةِ.
قالَ ابنُ مالكٍ: وهي القائِمَةُ مُقامَ النَّقْلِ في إيصالِ معنَى الفِعْلِ اللازمِ إلى المَفْعُولِ به، نحوَ: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} و {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} واعْتَرَضَهُ الشيخُ أَبُو حَيَّانٍ بأنَّها قد وَرَدَتْ معَ المُتَعَدِّي نحوَ: صَكَكْتُ الحَجَرَ بالحَجَرِ، ودَفَعْتُ بعضَ الناسِ ببَعْضٍ، فلهذا كانَ الصوابُ قولَ غيرِه، هي الداخلةُ على الفاعلِ فيَصِيرُ مفعولاً، ليَشْمَلَ المتعدِيَ واللازمَ.
وغَلِطَ الشيخُ في ذلك؛ لأنَّ الباءَ في المثالَيْنِ إنَّما دَخَلَتْ على ما كانَ مفعولاً، والمُغَلَّطُ غالطٌ، بل إنَّما دَخَلَتْ على ما كانَ فاعلاً، والأصلُ: دَفْعُ بعضِ الناسِ بعضاً، وَصَكُّ الحجرِ الحجرَ بتَقْدِيم المفعولِ؛ لأنَّ المعنَى أنَّ المُتَكَلِّمَ صَيَّرَ البعضُ الذي دَخَلَتْ عليه الباءُ واقعاً للبعضِ المُجَرَّدِ عنها.
ولكنْ قولُه: وأَصْلُه دَفْعُ بعضِ الناسِ بعضاً، وصَكُّ الحجرِ الحجرَ ـ ليسَ بجَيِّدٍ؛ لأنَّه قَدَّمَ الفاعلَ، فأَوْهَمَ كونُ الباءِ دَخَلَتْ على ما كانَ مفعولاً، كما فَهِمَ المُعْتَرِضُ.
وهنا فوائدُ: أحدُها: مَذْهَبُ الجمهورِ أنَّ باءَ التعديةِ بمعنَى همزةِ النقلِ لا تَقْتَضِي مُصَاحَبَةَ الفاعلِ للمفعولِ في الفعلِ، فإذا قلتَ: قُمْتُ بزَيدٍ، فالمعنَى: جَعَلْتُه يَقُومُ، ولا يَلْزَمُ أنْ يَقُومَ معه، وذَهَبَ المُبَرِّدُ والسُّهَيْلِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ إلى اقْتِضائِها المُصاحبةُ بخلافِ الهمزةِ.
قالَ السُّهَيْلِيُّ: إذا قلتََ: قَعَدْتُ به، فلا بُدَّ من مشاركةٍ، ولو باليدِ، وَرَدَّ عليهما بقولِه: ذَهَبَالله بِنُورِهِم؛ لأنَّ اللهَ تَعالَى لا يُوصَفُ بالذهابِ معَ النورِ، وأُجِيبَ بأنَّه يَجُوزُ على معنًى يَلِيقُ به، كما وَصَفَ نفسَه بالمجيءِ في قَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} وهو ظاهرُ البُعْدِ، ويُؤَيَّدُ بأنَّ باءَ التعديةِ بمعنَى الهمزةِ.
قَرَأَ اليَمَانِيُّ: (أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ) الثانيةُ: إنْ قيلَ: كيفَ جَاءَ قولُه تعالَى {تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ} في قراءةٍ: ضَمُّ الباءِ، وتُنْبِتُ: مضارعُ أنْبَتَ، والهمزةُ في أَنْبَتَ للنقلِ، فكيفَ جَازَ الجَمْعُ بينَهما وبينَ الباءِ وهي للنقلِ، بل حَقُّهُ أنْ يَقُولَ: تُنْبِتُ بالدُّهْنِ أو تُنْبِتُ الدُّهْنَ؟ فالجوابُ أنَّها تَخْرُجُ على ثلاثةِ أوجِهٍ:
أحدُها: أنَّ الباءَ للحالِ؛ أي: تُنْبِتُ ثَمَرِها، وفيه الدُّهْنُ أو في هذه الحالِ.
ثانيها: أنَّ أَنْبَتَ ونَبَتَ بمعنًى واحدٍ، فكما يُقالُ نَبَتَ بالدُّهْنِ فكذا أَنْبَتَ بالدُّهْنِ.
ثَالِثُها: أنَّها زَائِدَةٌ.
الثالثةُ: نَازَعَ ابنُ الخَبَّازِ وغيرُه في جَعْلِ التعديةِ قَسِيماً للإلصاقِ؛ لأنَّ الإلصاقَ تعديةٌ، وجوابُه: أنَّ المرادَ بها نوعٌ خاصٌّ على ما تَقَدَّمَ، والإلصاقُ أَعَمٌّ منها؛ ولهذا قالَ الشيخُ أَبُو الفَتْحِ إذا قُلْتَ: أَمْسَكْتُ زَيْداً، احْتَمَلَ أنْ يكونَ باشَرْتُه بِيَدِكَ، وأنْ تكونَ مَنَعَتْهُ من التصرُّفِ من غيرِ مُبَاشَرَةٍ، فإذا قلتَ: أَمْسَكْتُ بزيدٍ، دَلَّتْ على أنَّ مُبَاشَرَتِكَ له بِيدِكَ، فالباءُ مُلْصَقَةٌ غيرُ مُتَعَدِّيَةٍ.
ص: والاستعانةُ والسبَبِيَّةُ.
ش: باءُ الاستعانةِ هي الداخلةُ على آلَةِ الفعلِ، نحوَ: كَتَبْتُ بالقلمِ وبَرَيْتُ بالسكينِ، ومنه: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}. والسَّبَبِيَّةُ، نحوَ: {فُكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} ومنهُ: لَقِيتُ بزيدٍ الأسدَ؛ أي: بسببِ لِقائِي إِياهُ، ولم يَذْكُرْ في (التسهيلِ) باءُ الاستعانةِ وأَدْرَجَها في السبَبِيَّةِ.
وقالَ في شرحِه: باءُ السببِيَّةِ هي الداخلةُ على صريحٍ؛ للاستعانَةِ عن فاعلٍ يَتَعَدَّاها مجازاً، نحوَ: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} فلو قَصَدَ إسنادَ الإخراجِ إلى الباءِ لحُسُنَ، ولكنَّه مَجازٌ.
قالَ: ومنه: كَتَبْتُ بالقَلَمِ، وقَطَعْتُ بالسكينِ، والنحْويُّونَ يُعَبِّرونَ عن هذه الباءِ باءَ الاستعانةِ، =وأوثرتْ على ذلك التعبيرِ بالسببِيَّةِ من أجلِ الأفعالِ المنسوبةِ إلى اللهِ تعالى، فإنَّ استعمالَ السببِيَّةِ فيها يَجُوزُ، واستعمالُ الاستعانةِ فيها لا يَجُوزُ، ولم يَذْكُرِ المُصَنِّفُ باءَ التعليلِ استغناءً عنه بالسببِيَّةِ؛ لأنَّ العِلَّةَ والسببَ واحدٌ، وابنُ مالكٍ غايَرَ بينهما، ومثلُ التعْلِيلِيَّةِ بقولِه تعالى: {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} {فَبُظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} وقالَ بعضُهم: إذا قلتَ: ضَرَبْتُه بسوءِ أَدَبِه، احْتُمِلَ العِلِيَّةَ والسببِيَّةَ، والفرقُ بينَهما: أنَّ العِلَّةَ مُوجِبَةٌ لمَعْلُولِها، بخلافِ السببِ لمُسَبِّبِه فهو للأمَارَةِ عليها، ومن هنا اخْتَلَفَ أهلُ السُّنَّةِ والمُعْتَزلَةِ في أنَّ الأعمالَ طاعةٌ ومعصيةٌ هل هي عِلَّةٌ للجزاءِ ثواباً وعقاباً أو سببٌ؟ فقالَت المعتزلةُ بالأوَّلِ وأهلُ السُّنَّةِ بالثاني، واخْتُلِفَ في الحجِّ عن الغيرِ، فمَنْ رَأَى العملُ عِلَّةً، قالَ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ عَمَلَ زيدٌ لا يكونُ عِلَّةٌ لبِرَاءَةِ ذِمَّةِ عَمْرٍو=، ومَن رَآهُ سَبَباً، قالَ: يَصِحُّ، لجوازِ أنْ يكونَ سبباً للبراءةِ وعَلَماً عليها.
ص: وللمُصاحَبَةِ.
ش: وهي التي يَصْلُحُ في مَوْضِعِها (معَ) أو تُغْنِي عنها وعن مصحوبِها الحالُ، كقولِه تعالَى: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ}؛ أي: معَ الحقِّ أو مُحِقًّا، ولهذا يُسَمِّيهَا كثيرٌ من النحويِّينَ باءُ الحالِ؛ لأنَّ ما تَدْخُلُ عليه يَصْلُحُ أنْ يكونَ حالاً، فمَنْ لاحَظَ المَوْضِعَعَبَّرَ عنها بما تَقِعُ فيه، فسَمَّاهَا باءُ الحالِ، ومَن لاحَظَ معنَى المعيَّةِ الموجودِ معها، عَبَّرَ عنها بالمُصَاحَبَةِ، إذ مَعنَى (مع) المصاحَبَةُ.
ص: والظَّرْفِيَّةُ.
ش: وهي التي يَصْلُحُ مَوْضِعُها (في) وتكونُ معَ اسمِ الزمانِ، كقولِه تعالَى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِالْلَيْلِ}، ومعَ المكانِ نحوَ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ونحوَ: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ} ويَنْبَغِي أنْ يُقَيَّدَ هذا بالظرفيَّةِ الحقيقَةِ، وإلاَّ فحينَئذٍ يَدُخُلُ مجازانِ في الكلامِ، وهي كونُها للظرفيَّةِ والتوَسُّعُ في الظرفيَّةِ.
ص: والبَدَلُ.
ش: بأنْ يَجِيءَ مَوْضِعُهَا بَدَلٌ، وفي الحديثِ: ((مَا يَسُرُّنِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمْ)، أي: بَدَلَها.
ص: والمُقَابَلَةُ.
ش: قالَ ابنُ مالِكٍ: هي الباءُ الداخلةُ على الأثمانِ والأعراضِ، نحوَ: اشْتَرَيْتُ الفَرَسَ بأَلْفٍ، وقالَ بعضُهم: تَرْجِعُ وما قَبْلَها إلى السببِ، فإنَّ التقديرَ: هذا مُسْتَحَقٌّ بذلك أي: بسبَبِه، واسْتَشْكَلَ الفارِسِيُّ دخولَ الباءِ على الآياتِ في قَوْلِهِ تعالَى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}. وقالَ: مُشْكَلٌ؛ لأنَّ الباءَ دَخَلَتْ على المُثْمَنِ دُونَ الثَّمَنِ، فلا بُدَّ أنْ يُضْمَرَ الثمَنُ حتى يكونَ الثمنُ هو المُشْتَرَى، وعلى رَأْي الفَرَّاءِ لا يَحْتَاجُ إلى المُضْمَرِ؛ لأنَّه قالَ: إذا كانَ المُتَقابِلاتُ في العُقودِ نَقْدَيْنِ جَازَ دخولَ الباءِ على كلِّ واحدٍ منهما، وكذا كانَا معنَيَيْنِ، نحوَ: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} والباءُ تَدْخُلُ على المَتْروكِ المرغوبِ عنه في بابِ الشراءِ بخلافِ البَيْعِ.
ص: والمُجَاوَزَةُ.
ش: وعَبَّرَ عنه بَعْضُهم بمُوافَقَةِ عن، وتَكْثُرُ بعدَ السؤالِ نحوَ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} وقليلٌ بعدَ غيرِه، نحوَ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} وهذا منقولٌ عن الكُوفِيِّينَ وتَأَوَّلَ الشَّلَوْبِينُ على أنَّها للسببِيَّةِ؛ أي: فاسْأَلْ بسبَبَلشافِعِيِّ، ويُؤَيِّدُه قولَه تعالى: {هَلْ آمَنَكُمْ عَلَيْهِ}.
ص: والقَسَمُ، والغَايَةُ، والتَّوْكِيدُ.
ش: فالأوَّلُ نحوَ: باللهِ لأفَعْلَنَّ، وهي أصْلُ حروفِ القَسَمِ.
والثاني نحوَ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي}؛ أي: إليَّ.
والثالثُ وهي الزائِدَةُ إمَّا معَ الفاعلِ، نحوَ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجْذِعِ النَّخْلَةِ} أو المُبْتَدَأِ نحوَ: بحَسْبِكُ زيدٌ، أو الخَبَرِ نحوَ: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدُهُ}.
ص: وكذا التَّبْعِيضُ، وِفَاقاً للأصْمَعِيِّ، وابنِ مالِكٍ.
ش: مُسْتَدِلِينَ بقولِه تعالَى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ}؛ أي: منْها، وخَرَجَ عليه: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} ولم تَرِدْ باءُ التَّبْعِيضِ عندَ مُثْبِتِها إلاَّ معَ الفعلِ المُتَعَدِّي، وأَنْكَرَهُ قومٌ، منهم ابنُ جِنِّي وتَأَوَّلُوا أَدِلَّةَ المُثْبَتِينَ على التَّضْمِينِ، أو أنَّ التَّبْعِيضِ اسُتِفيدَ من القرائنِ، واعْتَرَضَ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ على كلامِ ابنِ جِنِّي، فقالَ: شهادةٌ على النَّفْي وهي غيرُ مَقْبُولَةٍ، هذا معَ أنَّه قبلَ هذا قالَ: إنَّها للسببِيَّةِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه لم يَقُلْ به أَحَدٌ من أهْلِ اللُّغَةِ، فقد وَقَعَ فيما أَنْكَرَهُ، وأَجَابَ ابنُ دَقِيقِ العِيدِ فيما كَتَبَهُ على (فُروعِ ابنِ الحَاجِبِ): بأنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّها شهادةٌ، بل هي إخْبَارٌ مَبْنِيٌّ على ظَنٍّ غالبٍ مُسْتَنَداً إلى الاستقراءِ مَن أُهِّلَ لذلك، مُطَلِّعٌ على لسانِ العَرَبِ فيَسْمَعُ كسائِرِ أَحْكَامِهِم في نَفْي ما دَلَّ الاستقراءُ على نَفْيهِ كقولِهم: ليسَ في كلامِ العَرَبِ: اسمٌ آخِرَهُ واوٌ قَبْلَها ضَمَّةٌ، وإنَّ تركيبَ (ق ب ش)، و (ق ب ع)، مُهْمَلٌ. نَعَمْ إنْ وَقَعَ نَقْلٌ إثْبَاتِيٌّ من مُعْتَبَرٍ في الصنْعَةِ، أنَّها للتَّبْعِيضِ قُدِّمَ على هذا النفْيِ، فمَن ادَّعَى هَهُنا، فَعَلَيْه إظْهَارُه. انتهى.
وذَكَرَ ابنُ مالِكٍ في (شَرْحِ الكافيَةِ) أنَّ الفارسيَّ في (التَّذْكِرَةِ) أَثْبَتَ مَجِيئِها للتَّبْعِيضِ، وكذا الأصمعيِّ في قولِ الشاعرُ:
شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعْتْ مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئيجٌ.
قالَ في (شَرْحِ الإِلْمَامِ) المُثْبِتُونَ للتَّبْعِيضِ فَرَّقُوا بينَ الفِعْلِ المُتَعَدِّي بنفسِه وبحَرْفِ الجَرِّ، فقالَ: إنَّ المُتَعَدِّيَ بنفسِه تكونُ الباءُ فيه للتبعيضِ؛ لأنَّها لو لم تَكُنْ كذلك لكانَتْ زائدَةٌ، والأصْلُ عَدَمُ الزيادةِ، واعْتُرِضَ بوجْهَيْنِ: أحدُهما: مَنَعَ المُلازَمَةَ بينَ عدَمِ كونِها للتبعيضِ وكونِها زائدةً، وهذا ما قالهُ ابنُ العَرَبِي، وهي كونِها تُفِيدُ فائدَةُ الدلالَةِ على مسموحٍ به، وجَعَلَ الأصْلُ فيه امْسَحُوا رُؤُوسَكُمْ بالماءِ، فيكونُ من بابِ المقلوبِ؛ أي: امْسَحُوا بالماءِ رُؤُوسَكُم.
الثاني: أنْ يُقالَ: سَلَّمْنَا أنَّ الأصْلَ عَدَمُ الزيادةِ، فنَقُولُ: الأصلُ مَتْروكٌ إذا دَلَّ الدليلُ على تَرْكِه، وقد دَلَّ، وهو عَدَمُ ثُبُوتِ الباءِ للتبعيضِ في اللغةِ ثُبُوتاً يَرْجِعُ إليه في قولِ مَن يَجِبُ الرجوعَ إليه، قولُه: وأيضاًً فالزيادةُ في الحروفِ كثيرةٌ، وطريقُ إثباتِ اللغةِ النَّقْلُ.
فائدةٌ: ذَكَرَ العِبَادِيُّ في زِيادَاتِه مَجِيءُ الباءِ للتعْلِيقِ كانَ، فإنْ قالَ: أنْتَ طَالِقٌ بمشيئَةِ اللهِ أو بِإرَادَتِه أو بِرِضَاهُ ـ لم تُطَلَّقْ، قالَ: لأنَّ الباءَ في كلِّ هذا في ظاهرِ اللغةِ تُحْمَلُ على التعليقِ، ألاَ تَرَاهُ يقولُ: أَخْرَجُ بمَشِيئَةِ اللهِ، معناهُ: إنْ شاءَ اللهُ، وأَنْتِ طَالِقٌ بدُخولِ الدَّارِ؛ أي: إنْ دَخْلَتْ، ثمَّ قالَ: ولو قالَ: أنتِ طالقٌ بأَمْرِ اللهِ، أو بقَدَرِ اللهِ، أو بِحُكْمِ اللهِ، أو بِعِلْمِ اللهِ ـ طُلِّقَتْ في الحالِ؛ لأنَّه لا يَتَعَارَفُ كونُه شَرْطاً يُرِيدُونَ به التحْقِيقَ، انتهى.
وهذا يَدُلُّ على أنَّ التفْرِقَةَ أَخَذَهَا من العُرْفِ لا مِن اللغةِ، ومَسائِلُ الفِقْهِ لا تُبْنَى على دقائقِ النَّحْوِ.
ص: الثامنُ: بل للعَطْفِ والإضرابِ، إمَّا للإبْطالِ أو الانْتقالِ من غَرَضٍ إلى آخَرَ.
ش: (بل) إمَّا أنْ يَقَعَ بَعْدَها المُفْرَدُ أو الجُمْلَةُ، فإنْ وَقَعَ بَعْدَها مُفْرَدٌ كانَتْ للعَطْفِ ثمَّ إمَّا أنْ يُعْطَفَ بها في الإثباتِ أو النفْيِ، فالأوَّلُ نحوُ: جَاءَ زَيدٌ بل عَمْرٌو، فهي لنَقَلِ الحُكْمِ عمَّا قَبْلَهَا وجَعْلِهُ لَمَّا بَعْدَهَا قَطْعاً، ولا نَعْنِي بذلك أنَّها تَنْفِيَه عمَّا قَبْلَها، وتُجْعَلُ ضِدَّهُ لِمَا بَعْدَها فتُقَرِّرُ نَفْيَ القيامِ عن زيدٍ وتُثْبِتُه لعَمْرٍو، وأَجَازَ المُبَرِّدُ وابنُ عَبْدِ الوارثِ، وتلميذُه الجُرْجَانِيُّ معَ ذلك أنْ تكونَ نَاقِلَةً حُكْمَ النَّفْيِ لِمَا بعدَها، كما في الإثباتِفتَحْتَمِلُ عندَهم في نحوِ: ما قَامَ زيدٌ بل عمرٌو، أنْ يكونَ التقديرُ: بل ما قَامَ عمرٌو، وإذا لا يَضْرِبْ زيدٌ عمراً، يكونُ ناهياً عن ضربِ كلِّ واحدٍ منهما، وإذا قالَ: ما له عليَّ دِرْهَمٌ بل دِرْهَمَانِ، لا يَلْزَمَه شيءٌ؛ لأنَّ الدرهمَ مَنْفِيٌّ صريحاً، وعُطِفَ عليه الدرْهَمَانِ مَنْقُولاً النفْيُ إليهما، فصَارَ كأنَّه قالَ: ما له عَلَيَّ دِرْهَمٌ وما له عَلَيَّ دِرْهَمَانِ.
قالَ القَوَّاسُ في (شرحِ الدرَّةِ) وأَوْجَبُوا تقديرَ حَرْفِ النَّفْيِ بعدَها لتحقيقِ المُطَابَقَةِ في الإضرابِ عن مَنْفِيٍّ، كما يَتَحَقَّقُ عن مُوجَبِ إلى مُوجَبٍ، قالَ: ويَجِبُ أنْ يُقالَ: إنْ كانَ المعطوفُ غَلَطاً، قَدَّرَ حَرْفَ النفْيِ، ليَشْتَرِكَا في نَفْيِ الفِعْلِ عنْهُما، وإنْ لم يَكُنْ غَلَطاً لم يُقَدَّرْ حَرْفَ النَّفْي؛ لأنَّ الفِعْلَ ثَابِتٌ له، فلا يُنْفَى عنه انْتَهَى.
وضَعَّفَ مَذَهْبَ المُبَرِّدِ ما قالَه الفَارِسِيُّ في (الإيِضاحِ) في مسألةِ: ما زيدٌ خارجاً بل ذاهبٌ، لا يَجُوزُ إلاَّ الرَّفْعُ؛ لأنَّ الخَبَرَ مُوجَبٌ، وما الحِجَازِيَّةُ لا تَعْمَلُ في الخبرِ إلاَّ مَنْفِيًّا، فلو كانَتْ لنَقْلِ حُكْمِ الأوَّلِ لجَازَ النَّصْبِ بتقديرٍ: بل هو ذاهباً، والإجْماعُ مُنْعَقِدٌ على مَنْعِه، وإنَّما لم تُجِزِ العربُ ذلك لئلاَّ يُلْتَبِسُ أَحَدُ المعنيَيْنِ بالآخَرِ، فإذا أَرَادُوا أنَّ ما بَعَدَ بل مَنْفِيٍ، أَتَوُا بحَرْفِ النَّفْيِ، فقالُوا: ما قَامَ زَيدٌ بل ما قَامَ عَمْرٌو.
وإنْ وَقَعَ بعدَها الجُمْلَةُ، لم تَكُنْ حرْفَ عطْفٍ بل حرفَ ابتداءٍ، نحوَ: ما قَامَ زيدٌ بل عمرٌو قِائمٌ، ومعناها الإضرابُ أيضاًً، لكنِ الإضرابُ تَارَةً يكونُ لإبطالِ السابقِ نحوَ: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ}، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنَ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وتَارَةً تكونُ للانتقالِ من غَرَضٍ إلى آخَرَ من غيرِ إبطالٍ، كقولِه تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ}، قولِه: {بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}.
لم يُبْطِلْ شيءٌ ممَّا أَخْبَرَ عنه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، بل المعنَى: بل يَكْفِي الحديثُ في هذه القصةِ ولنَّدْخُلَ في أُخْرَى، فهو لقَطْعِ الخَبَرِ لا المُخْبَرِ عنه، ووَهَمَ ابنُ مالِكٍ في (شَرْحِ الكافِيَةِ) فزَعَمَ أنَّها لا تَقَعُ في القرآنِ إلاَّ على هذا الوجْهِ.
وسَبَقَه إلى ذلك صَاحِبُ (البسيطِ)، وبَالَغَ فقالَ: ولا في كلامِ فصيحٍ. إذا عَلِمْتَ هذا فكلامُ المُصَنِّفِ يَقْتَضِي أموراً: أَحدُها: إذا كانت للعَطْفِ لا يكونُ معناها الإضرابُ وليسَ كذلك.
ثانيها: أنَّها إذا كانَتْ للإضْرابِ لا تكونُ عاطفةٌ، وهو ما عليه الجمهورُ، وظاهرُ كلامِ ابنِ مالكٍ أنَّها عاطفَةٌ، وصَرَّحَ به وَلَدُه، في (شَرْحِ الخُلاصَةِ) وكانَ بعضُ الأكَابِرِ يقولُ: لِمَ لمْ تكنْ عاطفَةٌ إذا وَقَعَتْ بعد الجُمَلِ، وما الفرقُ بينَها وبينَ الواوِ، فإنَّها تكونُ عاطفةٌ للجُمَلِ، وإنْ كانَ الحُكْمُ مَنْفِيًّا أو مُثْبَتاً تقولُ: ما قَامَ زَيدٌ ولم يَخْرُجُ عَمْرٌو، وما قَامَ بَكْرٌ وخَرَجَ خَالِدٌ، والذي يَظْهَرُ في الفرقِ أنَّ أصْلَهَا للإضْرَابِ، صَارَ ما قَبْلَها كأنَّه لم يَذْكُرْ، فكأنَّه لا شيءٌ يَعْطُفَ، وكانَ مُقْتَضَى هذا أنَّ لاَ يَعْطِفَ المُفْرَدَاتَ، لكنْ لمَّا حَصُلَ التشْرِيكُ في الإعرابِ وكانَ ما بعدَها معْمُولاً لِمَا قبْلَها ـ لم يكنْ إلغاؤهُ من هذا الوجْهِ، فلمَّا بَقِيَ تَعَلَّقَ ما قَبْلَها لِمَا بَعْدَها لم يَحْصُلُ الإضرابُ إلاَّ في نِسْبَةِ الحُكْمِ لِمَا قَبْلَها فقط، لكنْ كانَ مُقْتَضَى هذا أنْ تكونَ (حتى) عاطفةٌ إذا وَقَعَ بعدَها الجُمْلَةُ، إلاَّ أنَّها لم يكنْ أصْلَها العطفُ، بل أصْلَها الغايَةُ والانْتِهاءُ= كـ (إلى) فلمَّا وَقَعَ بعدَها الجُمَلُ لم يَتَعَّدَ بقاؤُهُا على أصَالَتِها، ولما وَقَعَ بعدَها المُفْرَدُ معَ عَدَمِ صلاحِيَّتِها للغَايَةِ، جُعِلَتْ حَرْفَ عطفٍ؛ ولهذا يُدَّعَى فيها معَ كونِها عاطفةً معنَى الغايةِ.
ص: التاسعُ: بَيْدَ بمعنى غيرَ، وبمعنَى: من أجْلٍ، وعليه، بَيْدَ أنِّي من قريشٍ.
ش: بَيْدَ ويُقالُ: مَيْدَ بالمِيمِ: اسمٌ مُلازمٌ للإضافةِ إلاَّ إنْ وصْلَتَها، ولها مَعْنِيانِ:
أَحَدُهما: بمعنَى غيرَ، ومنه الحديثُ: (نَحْنُ الآخَرُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا).
وثانيهما: بمعنَى مِن أَجْلِ، قالَه الشافِعِيُّ فيما رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ في صحيحِه عنهُ عَقَبَ الحديثُ= المُتَقَدِّمِ، وعلى هذا الحديثُ الآخَرِ: ((أنَّا أفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ) وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في (الفائقِ) هو من تأكيدِ المدْحِ بمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ.
ص: العاشرُ: ثمَّ: حَرْفُ عطْفٍ للتشْرِيكِ والمُهْلَةُ على الصحيحِ.
ش: ينْبَغِي أنْ يكونَ الخلافُ رَاجِعاً إلَيْهِما،ـ فأمَّا التشْرِيكُ فالمُخَالِفُ فيه الكُوفِيِّونَ، قالُوا: قد تَتَخَلَّفُ بِوقُوعِها زائدةً، فلا تكونُ عاطفةً البَتَّةَ، كقولِه تعالَى: {وَظَنَّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}.
وأمَّا المُهْلَةُ والمُرادُ به الترَاخِي، ولذلك قالَ سِيبَوَيْه: إذا قُلْتَ: مَرَرْتُ بِرجُلٍ ثمَّ امرأةٍ، فالمرورُ هنا مرورَانِ، يُريدُ أنَّ المرورَ الثانِيَ لم يَقَعْ إلاَّ بعدَ انْقضاءِ المُرورِ الأوَّلِ، والمخالفُ فيه الفَرَّاءُ.
قالَ: قد يَتَخَلَّفُ، بدليلِ: أَعْجَبَنِي ما صَنَعْتَ اليومَ ثمَّ ما صَنَعْتَ أَمْسِ أَعْجَبُ؛ لأنَّ (ثمَّ) في ذلك لترتيبِ الأخبارِ، ولا تَراخِي بينَ الإخبارَيْنِ، ووَافَقَهُ ابنُ مالِكٍ وقالَ: تَقَعُ (ثمَّ) في عَطْفِ المُتَقَدِّمِ بالزمانِ اكتفاءً بترتيبِ اللفْظِ وجَعَلَ منه قولَه تعالَى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} والصحيحُ الأوَّلُ، قالَ الشيخُ في (شَرْحِ الإلمامِ) ولأجْلِ إفادَةَ (ثمَّ) التَّراخِي امْتَنَعَ أنْ يَقَعَ في جوابٍ، فلا تَقولُ: إنْ تُعْطِنِي ثمَّ أنَّا أَشْكُرَكَ، كما تَقولُ: فأنَّا أَشْكُرُكَ لأنَّ الجزاءَ لا يَتراخَى عن الشرطِ، فالمعنيانِ مُتَنافِيَانِ، وكذلك أيضاًً لا يَقَعُ في بابِ الافْتِعالِ والتفاعُلِ لمُنَافَاةٍ معناها.
وقالَ ابنُ عُصْفُورٍ فيما قَيَّدَه على (الجَزُولِيَّةِ): من الدليلِ على أنَّ (ثمَّ) ليسَتْ كالواوِ، إجماعُ الفقهاءِ على أنَّه لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: يمينُ اللهِ ويَمِينُكَ، وأَجَازُوا: هذا بيَمِينِ الله ثمَّ بيمينِكَ، ولو كانَتْ بمعنَى الواوِ ما فَرُّوا إليها، وفي الحديثِ: أنَّ بعضَ اليهودِ قالَ لبعضِ أصْحَابِه: أَنْتُمْ تَزْعُمونَ أنَّكُم لا تُشْرِكُونَ باللهِ شيئاً، وأَنْتُم تَقُولُونَ: شَاءَ اللهُ وشِئْتُ، ذُكِرَ ذلك للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: ((لا تَقُولُوهَا، ولكنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثمَّ شِئتُ))، رَوَاهُ قَاسِمُ بنُ أَصْبَغَ، في مُسْنَدِه واعْلَمْ أنَّ الراغِبَ ذَكَرَ في (ثمَّ) عبارَةً جَامِعَةً، فقالَ: حَرْفُ عَطْفٍ يَقْتَضِي تَأَخُّرَ ما بَعْدَه عمَّا قبلَه، إمَّا تَأَخُّراً بالذاتِ أو بالمَرْتَبَةِ أو الوَضْعِ.
ص: والترتيبُ، خلافاً للعَبَّادِيِّ.
ش: في إطلاقِ حكايةِ هذا عن العَبَّادِيِّ نَظَرٌ، فإنَّه إنَّما قالَه في مَوْضِعٍ خَاصٍّ، لا في مَدْلُولِ ثمَّ، نَقَلَ القَاضِي الحُسَيْنُ عنه في بابِ الوقفِ، أنَّه لو قالَ: وَقَفْتُ على أولادِي ثمَّ على أولادِ أولادِي بَطْناً بعدَ بطْنٍ ـ فهي للترْتيبِ.
وقالَ العَبَّادِيُّ: هو للجَمْعِ. انتهى. ولعلَّ مَأْخَذَهُ أنْ (وَقَفْتُ) إنشاءٌ، فلا مَدْخَلَ للترتيبِ فيه، كقولِكِ: بِعْتُكَ هذا ثمَّ هذا، بل عَدَاهُ القاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ إلى بعضِ الأخبارِ، فقالَ في بابِ الإقْرارِ من تَعْليقِه: لو قالَ: له عَلَيَّ درْهَمٌ ثمَّ دِرْهَمٌ لزِمَه دِرْهَمَانِ؛ لأنَّ ثمَّ مِن حروفِ العَطْفِ الخالصِةِ كالواوِ غيرَ أنَّه للفَصْلِ والمُهْلَةِ ولا فائِدَةَ للفَصْلِ والمُهْلَةِ هنا، فيكونُ كقولِه: دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ. انتهى.
وهو المذهبُ، نَعَمْ، القولُ بأنَّها كالواوِ لا تَرْتِيبَ فيها ـ منقولٌ عن الفَرَّاءِ، حكاهُ السِّيَرَافِيُّ وعَزَاهُ غيرُه للأَخْفَشِ مُحْتَجًّا بقولِه: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ومعلومٌ أنَّ هذا الجَعْلَ كانَ قبلُ خَلْقِنَا، والجمهورُ تَأَوَّلُوُهُ على الترتيبِ الإخْباريِّ، وفيها مذهبٌ ثالثٌ: أنَّها للترتيبِ في المفرداتِ نحوَ: قَامَ زيدٌ ثمَّ عَمْرٌو.
ودونَ الجُمَلِ، كقولِه تعالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}؛ إذ شهادةُ اللهِ تعالى مُقَدَّمَةٌ على المرْجِعِ، قالَه ابنُ بُرْهَانَ ومِثْلُه قولُ ابنِ السَّمْعَانِيِّ في (القواطعِ) تُسْتَعْمَلُ في موضعِ الواوِ مجازاً، كقولِه: {ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ}، والصحيحُ أنَّها للترتيبِ مُطْلَقاً لكنَّها في المفردِ ترتيبُ الواقعِ نحوَ: قَامَ زَيدٌ ثمَّ قَامَ عَمْرٌو، ومعَ الجُمَلِ تَدُلُّ على ترتيبِ خَبَرٍ، على خَبَرٍ لا على ترتيبِ خَبَرٍ على المُخْبَرِ عنه، كقولِه:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدَّهُ.
ص: الحادِي عَشْرٌ: حتى لانْتَهاءِ الغايَةِ غالباً، وللتعليلِ، ونَدَرَ للاستثناءِ.
ش: حتى: على أرْبَعَةِ أقْسَامٍ:
جَارَةٌ نحوَ: سِرْتُ حتى الليلِ، ومنه قولُه تعالَى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، وخَالَفَ فيه الكِسَائِيُّ، وقالَ: الجَرُّ بـ (إِلَى) مُضْمَرَةٌ بعد حتَّى؛ أي: حتى انْتَهَى التَّسْلِيمُ إلى مَطْلَعِ الفجْرِ.
وعَاطِفَةٌ كالواوِ، نحوَ: قَدِمَ الحُجَّاجُ حتَّى المُشَاةُ، وخَالَفَ فيه الكُوفِيُّونَ، ويُعْرِبُونَ ما بَعْدَها على إضْمَارِ عَامِلٍ.
وابتدائِيَّةٌ؛ أي: مُسْتَأْنِفٌ بعدَها الجُمَلُ، إمَّا الاسْمِيَّةِ نحوَ: حتى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ، أو الفعليَّةُ نحوَ: {حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ} على قَراءَةِ الرَّفْعِ، وناصبِةً للفعلِ عندَ الكُوفِيِّينَ نحوَ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، أنَّها الجَارَةُ والناصبُ (أنَّ) مُضْمَرَةً بعدَها.
إذا عَلِمْتَ هذا فإطْلاقُ المُصنِّفِ يَقْتَضِي، الغَايَةِ تَشْمَلُ جميعَ أقْسَامِها، فنَقُولُ: أمَّا الجارةُ فلا شَكَّ أنَّ معناها الغايَةُ.
واخْتُلِفَ في المجرورِ بها: هل يَدْخُلُ فيما قَبْلَها أو لا؟ على مذاهبَ:
أحدُها: وهو قولُ الجمهورِ منهم المُبَرِّدُ، وابنُ السَّرَّاجِ، والفَارِسِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابنُ الحاجِبِ وغيرَهم، أنُّه دَاخِلٌ، فإنَّ غايةَ الشيءِ بعضُه، واسْتَثْنَى بعضُهم ما إذا دَلَّتْ قرينَةٌ على خُروجِهِ، نحوَ: صُمْتُ حتى الفِطْرَةِ، وذَكَرَ صاحِبُ (الإيضاحِ): أنَّ سِيبَوَيْه صَرَّحَ بِأَنَّ ما بَعْدَها دَاخِلٌ فيما قَبْلَها ولا بُدَّ، لكنَّه مَثَّلَ بما هو بَعْضٌ.
والثاني: لا يَدْخُلُ ورَجَّحَهُ ابنُ عُصْفُورٍ.
والثالثُ: قد يَدْخُلُ وقد لا، وحُكِيَ عن ثَعْلَبٍ، وقالَ ابنُ مالِكٍ: حتى لانتهاءِ الغايَةِ بمَجْرُورِها أو عندَه يعني: أنَّه يُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ دَاخلاً فيما قَبْلَها أو غيرُ داخِلٍ، فإذا قلتَ: ضَرَبْتُ القومَ حتى زيدٍ، فيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ زيدٌ مَضْرُوباً انْتَهَى الضرْبُ به، ويَجُوزُ أنْ يكونَ غيرُ مضروبٍ انْتَهى الضرْبُ عندَه.
وذَكَرَ أنَّ سِيبَوَيْه والفَرَّاءَ أَشَارَا إلى ذلك، وتَحَصَّلَ أنَّ الجمهورَ على الدخولِ بخلافِ (إلى)، وزَعَمَ القِرَافِيِّ أنَّه لا خِلافَ في وجوبِ دُخُولِ ما بَعْدَ حتى، وأنَّه لا يَجْرِي فيها الخِلافُ الذي في (إلى) لاتِّفاقِ النُّحاةِ على أنَّ شرطَ (حتى) أنْ يكونَ ما بَعْدَها من جِنْسِ ما قَبْلَها ودَاخِلاً في حُكْمِه، وليسَ كما قالَ، بل الخلافُ فيها مشهورٌ وإنَّما الاتِّفاقُ في (حتى) العاطفةِ لا الخافضةِ، والفرقُ أنَّ العَاطِفَةَ بمنزلَةِ الواوِ فتَفَطِّنْ له، وأمَّا العاطفةُ فيَلْزَمُ أنْ يكونَ ما بعدَها غايةٌ لما قَبْلَها في زيادةٍ أو نَقْصٍ.
قالَ النَّحَّاسُ في كتابِ (الكَافِيِ) اعْلَمْ أنَّ حتى فيها معنى الغايةِ وإنْ عُطِفَ بها، ولهذا وُجِبَ أنْ تكونَ لإخراجِ شيءٍ من شيءٍ انْتَهَى، يَعْنِي: أنْ يُؤْتَى بها لِدَفْعِ ما يُتُوَّهَمُ إِخْرَاجُه معَ صِحَّةِ شُمُولِ الأدِلَّةِ له وهذا عَكْسُ إلاَّ، فإنَّه يُؤْتَى بها لإخْراجِ ما يُظَنُّ دُخُولُه، وأمَّا الاستثناءُ به فأَثَرُها واضِحٌ، وأمَّا الناصِبَةُ: فالمشهورُ أنَّ لها معنيَيْنِ:
أحدُهما: الغايةُ.
والثاني: التعليلُ، نحوَ: كَلَّمْتُه حتى يَأْمُرَنِي بشيءٍ، وعلامُة كونِها للغايةِ أنْ يَجِيءَ مَوْضِعُها (إلى أنْ)، وكونُها للتعليل أنْ يَجِيءَ مَوْضِعُها (كي) وزَادَ ابنُ مالِكٍ في (التسهيلِ) معنى ثالثاً وهو معنَى (إلاَّ)؛ أي: تكونُ للاستثناءِ المُنْقَطِعُ، لقولِ الشاعرِ:
ليسَ العطاءَ من الفضولِ سَمَاحَةٌ حتَّى تَجُودَ وما لَدَيْكَ قليلٌ
ويمكنُ جَعْلَهُ بمعنَى (إلى).
فائدةٌ: من المُهِمِّ البحثِ عن حُكْمِهِا في الترتيبِ، وكانَ يَنْبَغِي للمُصَنِّفِ التَّعَرَّضَ له، واخُتُلِفَ فيه، فقالَ ابنُ الحَاجِبِ، حتى مِثْلُ الفاءِ، يعني: في الترتيبِ، وقالَ الخفافُ= والصَّيْمَرِيُّ=: هي في العطفِ كالواوِ، وجَرَى عليه ابنُ مالِكٍ في (شَرْحِ العُمْدَةِ) قالَ: وزَعَمَ بعضُ المُتَأَخِّرِينَ أنَّها تَقْتَضِي الترْتِيبَ. وليسَ بصحيحٍ، بل يَجُوزُ أنْ تقولَ: حَفِظْتُ القرآنَ حتى سورةَ البَقَرَةِ، وإنْ كانَتْ أوَّلَ ما حَفِظْتَه أو مُتَوَسِّطَ، وفي الحديثِ: ((كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ حَتَّى الْعَجَزُ والكَيْسُ)). ولا ترتيبَ في تَعَلُّقِ القضاءِ بالمُقْضَياتِ، إنَّما الترتيبُ في كونِها، وتوسَّطَ ابنُ أَبَانٍ فقالَ: الترتيبُ الذي تَقْتَضِيهِ (حتى) ليسَ على تَرْتِيبِ الفاءِ، وثمَّ، وذلِك أنَّهما يُرَتِّبانِ أَحَدَ الفِعْلَيْنِ على الآخَرِ في الوجودِ، وهي تُرَتَّبُ ترتيبَ الغايةِ والنهايَةِ، ويُشْتَرَطُ أنْ يكونَ ما بَعْدَها من جِنْسِ ما قَبْلَها، ولا يَحْصُلُ ذلك إلاَّ بذِكْرِ الكُلِّ قبلَ الجُزْءِ.
قالَ الجُرْجَانِيُّ: الذي أَوْجَبَ ذلك أنَّها للغَايَةِ والدلالَةِ على أَحَدِ طَرَفِي الشيءِ، وطَرَفُ الشيءِ لا يكونُ من غيرِه؛ ولهذا كانَ فيها معنَى التعظيمِ والتحقيرِ؛ وذلك لأنَّ الشيءَ إنْ أَخَذْتَه من أعلاهُ فأَدْنَاهُ غايَتُه وهي التحقيرُ، وإنْ أَخْذَتَه من أَدْنَاهُ فأَعْلاهُ غايَتُه وهي التعظيمُ، قلتَ: وقد يَرِدُ على القائلِينَ أنَّها لَيسَتْ للترتيبِ قولُهم: إنَّها للغايةِ إمَّا في نَقْصٍ أو زيادةٍ، نحوَ: غَلَبَكَ الناسُ حتى النائِيَ، وسُبْحَانَ مَنْ يُحْصِي الأشْياءَ حتى مَثاقِيلَ الذَّرِّ، والجمْعُ بينَ الكلامَيْنِ مُشْكَلٌ، فإنَّها لو لم تكنْ للترتيبِ، لم يكنْ لاشتراطِ القوَّةِ والضعْفِ فائدَةٌ، ولو لم يَقْتَضِ التأخِيرَ عقلاً أو عَادَةً لم يُحْسِنْ ذلك، فإنَّ قلت: فائدتُه فائدةُ العمومِ، قلتُ ذلك مُسْتَفادٌ من اللفظِ قَبْلَها.
وقالَ القَّوَّاسُ: تُفِيدُ معَ الترتيبِ المُهْلَةُ، إلاَّ أنَّ المُهْلَةَ فيها أقلُّ من ثمَّ، وقيلَ: لا مُهْلَةَ فيها كالفاءِ، وقيلَ: هي بمنزلَةِ الواوِ، قالَ: والأوَّلُ أظْهَرُ لأنَّ شَرْطَها في العَطْفِ أنْ يكونَ ما بَعْدَها جُزْءاً ممَّا قَبْلَها، فلو لم تُفِدْ الترتيبَ للَزِمَ جَوَازُ تَقَدُّمِ خَبَرُ الشيءِ المُتَأَخِّرِ عليه وهو مُحَالٌ.
ص: الثانِي عَشَرَ: رُبَّ للتَّكْثِيرِ والتَّقْلِيلِ، ولا يُخْتَصُّ بأَحدِهما، خلافاً لِمَنِ ادَّعَى ذلك.
ش: اخْتُلِفَ في رُبَّ على مذاهبَ:
أحدُها: أنَّها للتقليلِ دائماً، وعليه الجمهورُ، ونَسَبَه صاحبُ (البَسِيطِ) لسِيبَوَيْه.
والثاني: للتَّكْثيرِ دائماً، وبه قالَ صَاحبُ (المُعينِ) واخْتارَهُ ابنُ دِرْسَتَوَيْه والجُرْجَانِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ، وعَزَاهُ ابنُ خَروفٍ وابنُ مالِكٍ إلى سِيبَوَيْه، مُسْتَدَلِّينَ بقولِه: في بابِ لم، ومعنَاها معنَى رُبَّ.
والثالثُ: أنَّها تَرِدُ لهُما، فمِنَ التَّكْثِيرِ قولِه تعالى: {رُبَمَا يُوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} وقولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا رَبُّ كَاسِيَةٍ فِي الْدُّنْيَا عَارِيَةَ يَوْمَ القِيَامَةِ))، ومنَ التقْلِيلِ قولُ الشاعِرِ:
ألاَ رُبَّ مَوْلُودٍ ولَيسَ لَهُ أَبٌ وذِي وَلَدٍ لَمْ يَلَدْهُ أَبَوانٍ
ومُقْتَضَى تعبيرِ المُصنِّفِ: أنَّها تَرِدُ لهما على السواءِ فيَكُونُ مِن الأضدادِ، وهو قولُ الفارِسِيِّ في كتابِ (الحُروفِ)، لكنَّ المُختارَ عندَ ابنِ مَالكٍ أنَّها أَكثَرُ ما تَكُونُ للتكثيرِ، والتقليلُ بها نادرٌ، وهو المختارُ، ويَتَحَصَّلُ مِن ذلك أَربعةُ مَذَاهبَ، ويَخرجُ مِن كلامِ جمعٍ مِن المَغَاربةِ.
خَامسٌ: وهو أنَّها للتكثيرِ في مواضعِ المُبَاهاةِ والافتخارِ.
وسادسٌ: وهو أنَّها حرفُ إثباتٍ لم تُوضَعْ لتقليلٍ ولا تكثيرٍ، وإنَّما يُستَفَادُ ذلك مِن القَرائنِ، واختَارَهُ أَبُو حَيَّانَ، وفيه بُعْدٌ؛ للُزومِه وجودَ حرفٍ لا يُفيدُ معنًى أصلاً إلاَّ بالقَرائنِ المُصَحِّحَةِ.
ص: الثَّالثَ عَشَرَ: على الأصحِّ أنَّها قد تكونُ اسماً بمعنَى فوقَ، وتكونُ حَرْفاً.
ش: ذَهَبَ ابنُ طَاهِرٍ وابنُ خَرُوفٍ .....
وابنُ الطَّرَاوَةَ والآمِدِيِّ والشَّلَوْبِينَ إلى أنَّها اسمٌ أبداً، وزَعِمُوا أنَّه مَذْهُبُ سيِبَوَيْه، ومشهورُ مذهبُ البصريِّينَ أنَّها حَرْفُ جرٍّ، إلاَّ إذا دَخَلَ عليها حَرْفُ جرٍّ كقولِ الشاعرِ:
غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بعدَما تَمَّ ظَمَؤُهَا....
وزَادَ الأَخْفَشَ مَوْضِعاً آخَرَ، وهو أنْ يكونَ مجرورُها، وفاعلُ مُتَعَلِّقِها ضَمَيرَيْنِ لمُسَمٍّى واحدٍ، كقولِه تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجُكَ}.
وقالَ الفَرَّاءُ: حَرْفٌ ولو دَخَلَ عليها حَرْفُ الجَرِّ، فهذه أربعةُ مذاهبَ: حَرْفُ مُطْلَقاً، اسم مُطْلَقاً إلاَّ في مَوْضِعِ حَرْفٍ إلاَّ في موضعَيْنِ كالأخَفْشِ.
ص: للاسْتِعْلاءِ، والمصاحَبَةِ، والمجاوزَةِ، والتعليلِ والظرفيَّةِ، والاسْتِدْراكِ، والزيادَةِ.
ش: الاستعلاءُ إمَّا حِسِيٌّ، كقولِه تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}. أو معنويٌّ، كقولِه: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ونحوَ: عليه دَيْنٌ، كأنَّ بلُزُومِه له عَلاَ علَيْهِ؛ ولهذا يُقالُ: رَكِبَهُ الدَّيْنُ، وهذا المعنَى يُطْرَقُ أَوْجُهُهَا الثلاثَةُ، فإنَّك إذا قلتَ: زَيدٌ على الحائطِ فقد دَلَلْتَ على استعلائِه عليه، وكذا عَلاَ زيدٌ على الحائطِ، وكذا سِرْتُ مِن عليهِ، فإنَّ السائِرَ من فوقٍ مُسْتَعْلٍ على السائِرِ من أسْفَلِ، ولم يُثْبِتْ لها أكثرُ البصريِّينَ غيرَ هذا المعنَى، وأَوَّلُوا ما أَوْهَمَ خلافَه؛ ولهذا قَدَّمَهُ المُصَنِّفُ.
وأمَّا نحوُ: تَوَكَّلْتُ على اللهِ واعْتَمَدْتُ عليه، وقولُه: {وَتَوْكَّلْ عَلَى الْحَيِّ} فهي بمعنَى الإضافَةِ والإسنادِ؛ أي: أَضَفْتَ تَوَكُّلِي وأَسْنَدْتُه إلى اللهِ تَعَالَى، لا للاسْتِعْلاءِ، فإنَّها لا تُفِيدُه هَهنا حقيقةً ولا مجازاً.
ومثالُ المُصاحَبَةِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} والمُجَاوَزَةِ بمعنَى (عن) كقولِه:
إذا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ لعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا
وخَرَّجَ عليه المُزَنِيُّ وابن خُزَيْمَةَ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ))؛ أي: عنه فلا يَدْخُلُها، والتعليلُ: {وَلُتَكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. والظرفيَّةُ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانِ} والاسْتِدَراكِ، فلانٌ لا يَدْخُلُ الجنَّةَ لسُوءِ صُنْعِه، على أنَّه لا يَيْأَسُ من رحْمَةِ اللهِ، والزيادةُ كقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَلِفَ عَلَى يَمِينٍ))؛ أي: يَمِيناً، وقد تُزَادُ للتَّعْويضِ من أُخْرَى محذوفَةٌ كقولِ الشاعرِ:
............. إنْ لَمْ يَجِدْ يَوْماً عَلَى مَنْ يَتَّكِلْ
أي: عَلَيْه، وفي هذا خلافُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْه أنَّ (على) و (عن) لا يُزَادَانِ.
ص: أمَّا عَلاَ يَعْلُو، فَفََعَلَ.
ش: ومنه قولُه تعالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ} فإنَّها لو كانَتْ حَرْفاً لمَّا دَخَلَتْ على (فِي) وقد اجْتَمَعَتْ الفِعْلِيَّةِ والظَّرْفِيَّةِ في قَوْلِهِ تعالَى: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وأَشَارَ المصنِّفُ بذلك إلى أنَّها تَأْتِي اسماً وفِعْلاً وحَرْفاً.
ونَبَّهَ بقولِه: (يَعْلُو) على أنَّ الفعليَّةَ تُفَارِقُ الاسميَّةَ بتَصَرُّفِها، قالَ لبيدُ:
يَعْلُو بِهَا حَدَبَ الإكَامِ مُسَحَّجٌ قدْ رَابَهُ عِصْيَانُها ووحَامُها
ص: الرابعَ عَشَرَ: الفَاءُ عاطفَةٌ للترتيبِ المعنويِّ والذِكْرِيِّ.
ش: مثالُ المعنويُّ: قَامَ زَيْدٌ فعَمْرٌو، والذِكْرِيُّ: هو عَطْفٌ مُفَصَّلٌ على مُجْمَلٍ هو هو في المعنَى، نحو: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانَ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}، ونحوُ: تَوَضَّأَ فغَسَّلَ وجْهَهُ ويَدَيْهِ ومَسَحَ برَأْسِه، ورِجْلَيْه.
وقالَ الفَرَّاءُ: لا تُفِيدُ الترتيبَ، واسْتُنْكِرَ هذا منهُ معَ قولِه بأنَّها تُفِيدُ الترتيبَ، واحْتَجَّ بقولِه: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} وأُجِيبَ بأنَّها للترتيبِ الذِكْرِيُّ أو على حَذْفٍ؛ أي: أَرَدْنَا إِهْلاكُهَا، واقْتِصارُ المُصنِّفُ على هَذَيْنِ النوعَيْنِ يَخْرُجُ الترْتِيبُ في الأخْبارِ، وذَكَرَ جماعةٌ أنَّ الفاءَ تُشَارِكُ (ثمَّ) في الترتيبِ الإخْبارِيِّ كما تُشَارِكُهَا في الترتيبِ الوجُودِيِّنحو: مُطِرْناً بمَكانِ كذا فمَكانِ كذا، ورُبَّمَا لم نَذْكُرْ كيفَ نَزَلَ بها، ورُبَّمَا ذَكَرْتُ الذي كانَ أولاً وآخِراً، ونَقَلَ الشيخُ في (شَرْحِ الإلمامِ) فَصْلاً عمَّن يَرَى في الترتيبِ بثُمَّ ضَعْفاً، والقولُ بالترتيبِ الإخْبارِيِّ، قالَ بعدَ أنْ قَرُبَ أنَّ ثمَّ للترتيبِ الثاني على الأوَّلِ في الوجودِ بمُهْلَةٍ: ثمَّ تَأْتِي لتِفَاوُتِ الترتيبِ، ثمَّ قالَ: ومَجِيءُ هذا المعنَى أيضاًً مقصودٌ بالفاءِ العاطفةِ، نحوَ: خُذِ الأفْضَلَ فالأكْمَلَ، واعْمَلِ الأحْسَنَ فالأجْمَلَ، ونحوَ: يَرْحَمُ اللهُ المُحْلِقِينَ فالمَقْصِّرِينَ، فالفاءُ في الأوَّلِ لتفاوُتِ مَرْتَبَةِ الأفْضَلِ من الكمَالِ والحَسَنُ من الجَمَالِ، وفي الثاني لتِفَاوُتِ رُتَبِ المُحْلِقينَ من المُقَصِّرِينَ بالنِّسْبَةِ إلى تَحْلِيقِهِم وتَقْصِيرِهِم.
وقولِه تعالَى: {وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} تُحْتَمَلُ فيه الفاءُ المَعْنَيَيْنِ معاً، فيَجُوزُ أنْ يُرَادَ بها تَفَاوُتِ رُتْبَةِ الصَّفِّ من الزَّجْرِ،ورُتْبَةُ الزَّجْرِ من التلاوةِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بها تفاوُتُ رُتْبَةِ الجِنْسِ للزاجرِ بالنسبةِ إلى صَفِّهِم وزَجْرِهم.
ص: وللتَّعْقِيبِ في كلِّ شيءٍ بحَسْبِه.
ش: معنَى التَّعْقِيبِ في المشهورِ كونِ الثانِي بعدَ الأوَّلِ من غيرِ مُهْلَةٍ، بخلافِ ثمَّ؛ ولهذا قالَ بعضُهم: (ثمَّ) لمُلاحَظَةِ أوَّلِ زَمَنِ المعطوفِ عليه، والفاءُ لملاحظةِ آخِرِهِ، قالَ ابنُ جِنِّي في خَاطِرِيَّاتِهِ، وقد أَجَادَ العِبَارَةَ أَبُو إِسْحَاقَ في قَوْلِهِ: الفاءُ للتَّفْرِيقِ على مُواصَلَةٍ، فقولُه: للتفْرِيقِ؛ أي: ليسَتْ كالواوِ في أنَّ ما عُطِفَ بها معَ ما قَبْلَهُ بمَنْزِلَةِ المُتَّبَعِ في لفظٍ واحدٍ.
وقولُه: على مواصَلَةٍ؛ أي: لِمَا فيها من قُوَّةِ الاتْباعِ وأنَّه لا مُهْلَةَ بينَهُما، انْتَهى، وصَارَ المُحَقِّقُونَ إلى أنَّ التعْقِيبَ في كلِّ شيءٍ بحَسَبِه؛ ولهذا يُقالُ: تَزَوَّجَ فُلانٌ فَولِدَ لهُ، إذا لم يكنْ بينَهما إلا مُدَّةَ الحَمْلِ، وإنْ كانَتْ مُتَطَاوِلَةً، ودَخَلَتِ البَصْرَةَ فالكُوفَةَ، إذا لم يُقِمْ في البصرةِ ولا بينَ البلدَيْنِ، وفي هذا انْفِصالٌ عمَّا أَوْرَدَهُ السِّيرَافِيُّ على قولِ البصرِيِّينَ: أنَّ الفاءَ للتعقيبِ في هذه الأمثلَةِ، فإنَّا نقولُ: هي للتعقيبِ على الوجْهِ الذي يُمْكِنُ.
قالَ ابنُ الحاجِبِ: المرادُ بالتعقيبِ: ما يُعَدُّ في العادَةِ تَعْقِيباً لا على سَبيلِ المُضَايَقَةِ، قَرُبَ الفِعْلَيْنِ بعدَ الثانِي عَقِبَ الأوَّلِ عادَةً، وإنْ كانَ بينَهما أزمانٌ كثيرةٌ كقولِه تعالى: {خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} الآيةَ، ونَصَّ الفارسيُّ في (الإيضاحِ) على أنَّ ثمَّ أَشَدَّ تَراخِياً من الفاءِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الفاءَ فيها تَرَاخٍ، ووجْهُهُ ابنُ أَبِي الرَّبِيعِ بأنَّ الاتصالَ يكونُ حقيقةً ومجازاً، فإذا كانَ حقيقةً فلا تَرَاخِي فيه وإذا كانَ مجازاً ففيه تراخٍ بلا شَكَّ، نحوَ: دَخَلْتُ البَصْرَةَ فالكوفةَ، وقد يكونُ التراخِي قليلاً، فيكونُ كالمُسْتَهْلَكِ، وتَوَسَّعَ ابنُ مَالِكٍ فذَهَبَ إلى أنَّها تَكونُ مَعهَا مُهْلَةٌ، كـ (ثمَّ) كقولِه تعالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فُتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةٌ} والأَحْسَنُ أنَّها للتعقيبِ على ما سَبَق.
تنبيهٌ: قضيةُ كلامِ المصنِّفِ اختصاصُ التعقيبِ بالعاطفةِ فتَخَرَّجَ الرابِطَةِ للجوابِ، وبه صَرَّحَ القاضِي أَبُو بَكْرٍ في (التقريبِ) وقالَ: إنَّها لا تَقْتَضِي التعقيبَ في الأجوبَةِ فِرَاراً من مذَهْبِ المُعْتَزَلَةِ في أنَّ الكلامَ حروفٌ وأصواتٌ، فقالُوا في قَوْلِهِ تعالَى: {كُنْ فَيَكُونَ}: إنَّ الكلامَ عندَهم القديمُ هو الكافُ والنونُ، فإذا تَعَقَّبَهُ الكائنُ فإمَّا أنْ يُؤَدِّي إلى قِدَمِ الحادثِ أو حَدَثُ القَدِيمِ.
ص: وللسَّبَبِيَّةِ.
ش: نحوَ: {فَتَلَّقَى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} {لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} وجَعَلَ منه العَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الجُمَلِ: طَلَعَتِ الشمْسُ فوُجِدَ النهَارُ، وحديثُ: ((فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا)). فالتَّقَدُّمُ هنا بالسبَبِيَّةِ، فإنَّ لم يَتَقَدَّمْ طلوعُ الشمْسِ لوجودِ النهارِ بالزمانِ، فقد تَقَدَّمَ بأنَّه سَبَبُ وجودِ النهارِ، وكذلك الإمامُ فإنْ لم يَتَقَدَّمْ رُكُوعَه ولا سُجُودَه بالزمانِ سُجودَ المأمومِ ورُكُوعِه، فقد تَقَدَّمَاهُما بالسَّبَبِيَّةِ، وجَعَلَهُ السُّهَيْلِيُّ حقيقةً في التَّعْقِيبِ، وَرَدَ الترتيبُ والسببِيَّةُ إليه؛ لأنَّ الثانيَ بعدَها إنَّما يَجِيءٌ في عَقِبِ الأوَّلِ.
ص: الخامِسَ عَشَرَ: في للظَّرْفَيْنِ.
ش: أي: المَكَانِيُّ والزَّمَانِيُّ، واجْتَمْعَا في قَوْلِهِ تعالَى: {الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}. والمرادُ بالظرفِيَّةِ أنْ يَكُونَ مَحَلاًّ لوقوعِ الشَّيءِ إمَّا حقيقةٌ كما سَبَقَ؛ لأنَّ الأجْسامِ هي القابِلَةُ للحُلولِ، أو مَجازاً نحوَ: نَظَرَ في الكتابِ وسَعَى في الحاجَةِ؛ لأنَّ العَلَمَ قد صَارَ وِعَاءً لنَظَرِه، ومنه قولُه تعالَى: {لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}؛ لأنَّ الرَّحْمَةَ كَأَنَّهَا صَارَتْ مُحِيطَةٌ بالمُؤْمِنِينَ إِحَاطَةَ الجِسْمِ بالجِسْمِ، وفي هذا تأكيدٌ للتفصيلِ، حيثُ أَخَرَجَ العَرَضَ إلى حُكْمِ الجَوْهَرِ، والضابطُ أنَّ الظَّرْفَ والمَظْرُوفَ إنْ كانَا جِسْمَيْنِ كزيدٍ في الدارِ، أو الظرفُ جسماً والمظروفُ عَرَضاً كالصَّبْغِ في الثوابِ، فالظَّرْفِيَّةِ حقيقةٌ، وإنْ كانا عَرَضَيْنِ كالنجاةِ في الصِّدْقِ أو الظَّرْفُ عَرَضاً والمظروفُ جِسْماً نحوَ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغْلٍ فَاكِهُونَ} كانَتِ الظَّرْفِيَّةِ مَجَازاً
فائدة: لو قال: أَنْتِ طالِقٌ اليومَ وفي الغَدِ وفيما بعد الغَدِ، وَقَعَ في كُلِّ يومٍ طَلْقَةً؛ لأنَّ حَرْفَ (في) للظرفِيَّةِ، والظَّرْفُ لا بُدَّ له من مظروفٍ، كذا قالَهُ المُتَوَلِيُّ، قالَ الرَّافِعِيُّ: وليسَ هذا التوْجِيهُ بواضِحٍ، إذ يَجُوزُ أنْ يَخْتَلِفَ الظَّرْفُ ويَتَّحِدَ المظروفُ.
ص: وللمُصَاحَبَةِ والتَّعْلِيلِ والاسْتِعْلاءِ.
ش: مثالُ المصاحَبَةِ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} والتعْلِيلِ: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} والاستعلاءِ: {لأَصْلِبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وهذا قولٌكُوفِيٌّ، ومَنَعَهُ بعضُهم؛ لأنَّه يَلَزَمُ منه المجازُ، فيَكُونُ مَجَازَانِ: اسْتِعْمالُ (فِي) بمَعْنَى (عَلَى) وكَوْنِ (على) ليسَ فيها العُلُوُّ على حقيقَتِه، وإنَّما هي على بابِها، وهو اختيارُ صَاحِبُ (المُفَصَّلِ) فقالَ: وقولُهم: لأنَّها في الآيةِ بمعنَى (على) يُحْمَلُ على الظاهرِ.
ص: والتوكيدُ والتَّعْويضُ وبمعنَى الباءِ، وإلى، ومِنْ.
ش: مثالُ التوكيدِ: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا}.
والتَّعْويضِ؛ هي الزائدةُ عِوَضاً مِن أُخْرَى مَحْذُوفَةٍ، كقولِك: ضَرَبْتُ فيمَنْ رَغِبْتُ؛ أي: فيه، قالَهُ ابنُ مالِكٍ.
والباءِ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}؛ أي: يَلْزَمُكُمْ به.
وإلى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}.
ومِنْ: كقولِ امْرُئ القَيْسِ.
وهلْ يعمن مَن كانَ أَحْدَثَ عَهْدَهُ ثلاثِينَ شَهْراً في ثلاثةِ أَحْوالٍ.
أي: مِن ثلاثةِ أَحْوالٍ، وفيه رَدَّ على ابنِ مالِكٍ حيثُ زَعَمَ أنَّه لا يُسْتَعْمَلُ (عِمْ) إلاَّ فِعْلُ أَمْرٍ.
ص: السادسَ عَشَرَ: كِي للتَّعْلِيلِ.
ش: أي: بمَنْزِلَةِ اللامِ، قالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ طَلْحَةَ: كَي: حَرْفُ سَبَبٍ وعِلَّةٍ، كذا يقولُ النَّحْوِيُّونَ، وإذا تَأَمَلَّتْ وَجَدَّتَها حرفاً يَقَعُ بينَ فِعْلَيْنِ، الأوَّلُ سببٌ للثانِي، والثانِي عِلَّةٌ للأوَّلِ، وكذا قولُك: جِئْتُكَ كي تُكْرُمُنِي فالمَجِيءُ سببٌ لوجودُ الكرامَةِ، والكرامَةُ عِلَّةٌ في وجودِ المَجِيءِ.
ص: وبمَعْنَى أنْ المَصْدَرِيَّةِ.
ش: لقولِه تعالَى: {لِكَيْلاَ تَأْسُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} فإنَّها لو كَانَتْ حَرْفَ تعليلٍ لم يَدْخُلْ عليها حَرْفُ تعليلٍ، ويَلْزَمُ اقْتِرَانُها باللاَّمِ لَفْظاً، أو تَقْديراً فإذا قلتَ: جِئْتُ لكِي تُكْرِمُنِي، فكَي هنا نَاصِبَةٌ للفِعْلِ بنَفْسِها؛ لأنَّ دخولَ اللاَّمِ عليها يُعَيَّنُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وإذا قلتَ: جِئْتُ كي تُكْرِمُنِي، احْتَمَلَ أنْ تكونَ مَصْدِرِيَّةً بنَفْسِها، واللاَّمُ قَبْلَها مُقَدَّرَةٌ، وأنْ تَكُونَ حَرْفُ جَرٍّ، و (أنْ) بَعْدَها مُقَدَّرَةٌ هي الناصِبَةُ.
ص: السَّابِعَ عَشَرَ: (كلُّ) اسمٍ لاستغراقِ أفرادِ المُنْكَرِ والمُعَرَّفِ المجموعُ، وأجْزاءِ المُفْرَدِ المُعْرَّفِ.
ش: لـ (كلٍّ) ثلاثةُ أحوالٍ؛ لأنَّها إمَّا أنْ تُضَافَ إلى نَكِرَةٍ فهي للاستغراقِ في جُزْئياتِ ما دَخَلَتْ عليه، نحوَ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وإمَّا أنْ تُضَافَ إلى مَعْرِفَةٍ، وتَحْتَهُ قِسْمَانٍ:
أحدُهما: أنْ يَكونَ مَجْمُوعاً نحوَ: كلُّ الرجالِ.
والثاني: أنْ يكونَ مُفْرَداً، نحوَ: كلُّ زيدٍ حَسَنٍ، فيُفِيدُ العمومَ في أجزائِه ولا خِلافَ في هذا القِسْمِ.
وأمَّا الذي قَبْلَه، فهل يَقُولُ الألِفَ واللاَّمَ تُفِيدُ العمومَ، و (كلُّ) تأكيدٌ لها، أو لِبِيانِ الحَقِيقَةِ، و (كلُّ) تأسيسٌ؟ فيه احتمالانِ لوالِدِ المُصَنِّفِ، ثمَّ قالَ: ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: أنَّ الألِفَ واللاَّمَ تُفِيدُ العُمُومَ في مَراتِبٍ ما دَخَلَتْ عليه، و (كلُّ) تُفِيدُ العُمُومَ في أجزاءِ كُلِّ من تلكِ المراتِبِ، فإذا قلتَ: كلُّ الرجالِ، أَفَادَتِ الألِفُ واللاَّمُ استغراقَ كلِّ مَرْتَبَةٍ من مَرَاتِبِ جميعِ الرجالِ، وأَفَادَتِ (كُلُّ) استغراقَ الآحادِ، وكما قيلَ في أجْزاءِ العَشَرَةِ، فيَصِيرُ لِكُلٍّ منهُما معنًى وهو أَوْلَى من التَّأْكِيدِ.
قالَ: ومِن هُنَا يُعْلَمُ أنَّها لا تَدْخُلُ على المُفْرَدِ المُعَرَّفِ بالألِفِ واللاَّمِ إذا أُرِيدَ بكُلٍّ منْهُما العمومَ، وقد نَصَّ عليه ابنُ السَّرْاجِ في (الأصولِ) قلتُ: لم لا يَجُوزُ على أنَّ (كُلَّ) مُؤَكِّدَةٌ كما هو أَحَدُ الاحْتمالَيْنِ السابقَيْنِ عندَه في المُعَرَّفِ المجموعِ، ويُمْكِنُ الفَرْقُ، وذَكَرَ أَخُو المُصَنِّفِ، أنَّ مِن دُخُولِها على المُفْرَدِ المُعْرَّفِ قولَه تعالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}. وقولَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ الطَّلاَقِ وَاقِعٌ إِلاَّ طَلاقَ المَعْتُوهِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قلتُ: وكأنَّه نَظَرَ إلى صورةِ اللفْظِ، وإلاَّ فهو في الحقيقةِ من قِسْمِ المجموعِ؛ لأنَّ المقصودَ به الجِنْسِ، ونظيرُه: كلُّ الناسِ يَغْدُو.
ص: الثامنَ عَشَرَ: اللاَّمُ للتَّعْلِيلِ، والاسْتِحْقَاقِ، والاخْتِصَاصِ والمُلْكِ.
ش: مثالُ التَّعْلِيلِ: زُرْتُكَ لشَرَفِكَ، ومنهُ قولُه تعالَى: {لَتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}، {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلْنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وخَرَّجَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا: أَنْتِ طالِقٌ لرِضَا زيدٍ، إذا طُلِّقَ فإنَّه يَقَعُ في الحالِ رَضِيَ فُلانٌ أو سَخِطَ؛ لأنَّ اللاَّمَ للتَّعْلِيلِ.
ومثالُ الاسْتِحْقَاقِ، النَّارُ للكافرِينَ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}. قالَ بعضُهم: وهو معنَاها العامُّ لا يُفَارِقُها، ومنه الثوبُ.
ومثالُ الاختصاصِ، نحوَ: الجَنَّةُ للمؤمنِينَ، وفَرَّقَ القِرَافِيُّ بينَ الاستحقاقِ والاختصاصِ، بأنَّ الاستحقاقَ أَخَصُّ، فإنَّ ضابطَه ما شَهِدَتْ به العادةُ، كما شَهِدَتْ للفَرَسِ بالسَّرْجِ وللدارِ بالبابِ، وقد يَخْتَصُّ الشيءُ بالشيءِ من غيرِ شهادةٍ عادةً، نحوَ: هذا ابنُ زيدٍ، فإنَّه ليسَ من لوازمِ البشرِ أنْ يكونَ له وَلَدٌ، كما تَقُولُ في الفَرَسِ معَ السَّرْجِ.
ومثالُ المُلْكِ: المالُ لِزَيدٍ، قالَ الرَّاغِبُ: ولا نَعْنِي بالمُلْكِ مُلْكُ العَيْنِ، بل قد يَكونُ مُلْكاً لبَعْضِ المَنَافِعِ، أو لضَرْبٍ من التَّصَرُّفِ، فمُلْكُ العَيْنِ نحوَ: قولُه تعالَى: {وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ومُلْكُ التَّصَرُّفِ، كقولِكِ لِمَنْ يَأْخُذُ مَعَكَ خَشَباً، خُذْ طَرْفُكَ لاخذ= طَرْفِي، قُلتُ: كذا جَعَلُوا المُلْكَ والاستحقاقَ قَسِيماً للاختصاصِ، والظاهرُ أنَّ أَصْلَ مَعانِيهَا الاختصاصُ، ولهذا لم يَذْكُرْ الزَّمَخْشَرِيُّ في مُفَصَّلِهِ غيرَه، وأمَّا المُلْكُ فهو نَوْعٌ من أنواعِ الاختصاصِ وهو أَقْوَى أنْواعُه وكذلكَ الاستحقاقُ؛ لأنَّ مَن اسْتَحَقَّ منهما، فقد حَصَلَ له نَوْعُ اختصاصٍ، وحَكَى ابنُ السَّمْعَانِيِّ عن بعضِ النَّحْوِيِّينَ إنْكارَ مجيءِ اللاَّمِ للمُلِكِ، وقالُوا: إذا قيلَ: هذا أَخٌ لِعَبْدِ اللهِ، فاللاَّمُ لمُجَرَّدِ المُقَارَبَةِ، وليسَ أحدُهما في مُلْكِ الآخَرِ، وفي قَوْلِهِم: وهذا الغلامُ لعَبْدِ اللهِ، فإنَّما عَرَفْتَ المُلْكَ بدلَيلٍ آخَرَ، قالَ: وزَعَمَ هذا القائلُ أنَّ لاَمَ الإضَافَةِ تَحْتَمِلُ الأوَّلَ لاصِقاً بالثانِي فحَسْبٌ، قالَ: والذي ذَكَرْنَاهُ هذا الذي يَعْرِفُه الفقهاءُ.
ص: والصَّيْرُورَةِ؛ أي: العَاقِبَةِ.
ش: أي: تُسَمَّى لامُ العَاقِبَةِ، ولامُ المآلِ، نحوَ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُّوًّا وَحَزَناً}. وقالَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ في (القواطعِ) عندَي أنَّ هذا على طريقِ التَّوَسُّعِ والمجازِ، فإنَّ هذه مثالٌ لِمَا يَزْعَمُه المعتزلِةُ من تَأْوِيلِ قولِه تعالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كِثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ}. قلتُ: وكذا قالَه الزَّمَخْشَرِيُّ: التحقيقُ أنَّها لامُ العِلَّةِ وأنَّ التعليلَ فيها وَارِدٌ على طريقِ المَجَازِ دُونَ الحقيقةِ، فإنَّه لم تَكُنْ داعيةُ الالتقاطِ، أنْ يَكُونَ لهم عَدُوًّا، بل المَحَبَّةُ والتَّبَنِّي، غيرَ أنَّ ذلِكَ لمَّا كانَ نَتِيجَةَ الْتِقَاطِهِم له وثَمَرَتَه، شَبَّهَ بالدَّاعِي الذي مُعَدُّ الفِعْلِ لأجْلِه، فاللاَّمُ مُسْتَعَارَةٌ لِمَا يُشْبِه التعليلُ، كما اسْتُعِيرَ الأَسَدُ لِمَنْ يُشْبِه الأَسَدُ.
وقالَ ابنُ عَطِيَّةَ: قيلَ اللاَّمُ في قَوْلِهِ تعالَى: {لِجَهَنَّمَ} لامُ العَاقِبَةِ؛ أي: مآلِهِمْ، وليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ لامَ العَاقِبَةِ إنَّما تَتَصَوَّرُ إذا كانَ فِعْلُ الفاعلِ لم يُقْصَدْ ما يَصِيرُ الأمْرُ إليه، وأمَّا هنا فالفِعْلُ قًُصِدَ به ما يَصِيرُ الأمْرُ إليه من سُكْنَاهِم، واعْلَمْ أنَّ بعضَهم حَكَى عن البصريَّينَ إنْكارَ لامِ العاقبةِ، لكنْ رَأَيْنَا في كتابِ (المُبْتَدَى) لابنِ خَالَوَيْه: فأمَّا قولُه: {لِيَكُونَ لَهُمْ عُدَوًّا وَحَزَناً} فهي لامُ (كِي) عندَ الكُوفِيِّينَ، ولامُ الصَّيْرُورَةِ عندَ البصريِّينَ، انتهى.
ص: والتَّمْلِيكُ وشِبْهُهُ.
ش: مثالُه: وَهَبْتُ لزيدٍ ديناراً، وقولُه تعالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}. وشِبْهُهُ نحوَ: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} وكانَ يَنْبَغِي للمُصَنِّفِ أنْ يَذْكُرَ ممَّا سَبَقَ شِبْهُ المُلْكِ، نحوَ: أَدْوَمَ لكَ ما دُمْتَ لي.
ص: وتوكيدُ النَّفْي.
ش: نحوَ: {مَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} وتُسَمَّى لامُ الجُحُودِ، لِمَجِيئِهَا بعدَ النَّفْيِ؛ لأنَّ الجَحْدَ عبارةٌ عن نَفْيِ ما سَبَقَ ذِكْرُه.
قالَ ابنُ الحَاجِبِ: وهي كلَفْظِ لامِ كي، وفَرَّقَ غيرُه بأنَّ تلكَ للتَّعْلِيلِ بخلافِ هذه، ولأنَّ هذه لو أُسْقِطَتْ لا يَخْتَلُّ المعنَى، بخلافِ المرادِ، وتلكَ لو أُسْقِطَتْ اخْتَلَّ، وبأنَّ هذه بعدَ نَفْيٍ دَاخِلٍ على (كانَ) بخلافِ تلكَ، وكانَ يَنْبَغِي للمصنِّفِ تَقْييدِ النَّفْيِ بالدَّاخِلِ على (كانَ)، لِمَا سَبَقَ.
ص: والتَّعْدِيَةُ.
ش: نحوَ: مَا أَضْرَبْ زيداً لِعَمْرٍو، وجَعَلَ منه ابنُ مالِكٍ قولُه تعالَى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}. والظاهرُ أنَّها لشِبْه التَّمْلِيكِ، وقَسَّمَ الرَّاغِبُ المُتَعَدِيَّةَ للفِعْلِ على ضربَيْنِ: ما يَمْتَنِعُ خلافُه، نحوَ: {وَتَلَّهُ لِلْجَبَينِ}. وما يَجُوزُ، نحوَ: {يُرِيدُ اللهُلِيُبَيِّنَ لَكُمْ}، وقالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ}. فأَثْبَتَ في مَوْضِعٍ وحَذَفَ في مَوضِعٍ آخَرَ.
ص: والتَّأْكِيدُ.
ش: وهي إمَّا لِتَقْوِيَةُ عَامِلٍ ضُعِّفَ بالتَّأْخِيرِ، نحوَ: {إِنْ كُنْتُمْ لِلْرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}. فإنَّ الأصْلَ: إنْ كُنْتُم تُعَبِّرُونَ الرُّؤيا، فلمَّا قَدَّمَ المفعولَ، زَادَ اللاَّمَ، أو لكونِه فَرْعاً في العَمَلِ، نحوَ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}. وهذان يَجُوزُ القياسُ علَيْهِما.
وغيرُ المَقِيسَةِ: أنْ يُزَادَ معَ المفعولِ في غيرِ ذلكَ، نحوَ: {رَدِفَ لَكُمْ}، ولم يَذْكُرْ سِيبَوَيْه زيادَةَ اللاَّمِ، وتَابَعَه الفَارِسِيُّ، وقد أَوَّلَ بعضُهم (رَدِفَ لَكُمْ) على التَّضْمِينِ، أي: اقْتَرَبَ، ويُشْهَدُ لهُ مَا في الْبُخَارِيِّ: رَدِفَ بمعنَى قَرُبَ.
ص: وبمعنَى: إِلَى، وعَلَى، وفِي، وعِنْدَ، ومِن، وعَن.
ش: مِثالُ إلَى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}، {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}. وَأَنْكَرَ الرَّاغِبُ ذلكَ؛ لأنَّ الوَحْيَّ للنَّحْلِ، جَعَلَ ذلكَ لهُ بالتَّسْخِيرِ والإلْهَامِ، وليسَ ذلك كالوَّحْيِ المُوحَى إلى الأنْبياءِ، فنَبَّهَ باللاَّمِ على جَعْلِ ذلكَ الشيءِ لهُ بالتَّسْخِيرِ. انتهى.
وكانَ نَظِيرُه انْتَقَلَ مِن آيةِ الزَّلْزَلَةِ إلى آيةِ النَّحْلِ، وآيةُ النَّحْلِ إنَّما هي بـ (إلَى) لا باللاَّمِ، وعلى قولِه: {يُخَّرُونَ لِلأَذْقَانِ}.
وحَكَى البَيْهَقِيُّ، عَن حَرْمَلَةَ، عن الشَّافِيِّ في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاءَ))؛ أي: عليهِم، وفي: {نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
وعندَ: والمرادُ بها التَّأْقِيتُ إذا قُرِنَ بالوَقْتِ أو بما يَجْرِي مَجْرَاهُ، مثلَ: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ)). ومنهُ: كَتَبْتُهُ لخَمْسِ ليالٍ، وجَعَلَ منهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}. وجَعَلَ منه ابنُ جِنِّي قِراءَةَ الجَحْدَرِيِّ: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}؛ أي: عندَما جَاءَهُم.
ومثالُ (مِن): سَمِعْتُ له صُرَاخاً؛ أي: منهُ.
و (عَن): وهي الجارَةُ، اسمٌ مَن غَابَ حقيقةً أو حُكْماً عَن قولِ قائِلٍ يَتَعَلَّقُ به، نحوَ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}؛ أي: عَن الذينَ آمَنُوا، وإلاَّ لَقِيلَ: ما سَبَقْتُمُونَا، ولم يَخُصَّهُم بعضَهم بما بعدَ القولِ، ومثلَهُ تَقُولُ العَرَبُ: لَقِيتُهُ كفهُ؛ لأنَّهم قالُوا: لَقِيتُهُ كفه لكفِّه؛ أي: عن كَفِّه؛ لأنَّهم قالُوا: لَقِيتُهُ عن كَفِّه، والمعنَى واحدٌ، واعْلَمْ أنَّ مَجَيئِهَا لهذه المعانِي مذهبٌ كُوفِيٌّ، وأمَّا حُذَّاقُ البَصْرِيِّينَ فهي عندَهم عَلَى بابِها ثمَّ يُضَمِّنُونَ الفِعْلَ ما يَصْلَحُ معها، ويَرَوْنَ التَّجَوُّزَ في الفِعْلِ أَسْهَلُ من الحَرْفِ.
ص: التاسعَ عَشَرَ: لولاَ: حَرْفٌ معناهُ في الجُمْلَةِ الاسمِيَّةِ: امْتِنَاعُ جَوابِه لوُجودِ شَرْطِه.
ش: نحوَ: لولاَ زيدٌ لأَكْرَمْتُكَ؛ أي: لولاَ زيدٌ موجودٌ، ولا يَرِدُ قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهْمْ)). التقديرُ: لولاَ مَخَافَةَ أنْ أَشُقَّ لأَمَرْتُهُم، أَمْرُ إيجابٍ وإلاَّ انْعَكَسَ المعنَى، إذ المُمْتَنِعُ المَشَقَّةُ، والموجودُ الأمْرُ.
ص: وفي المُضَارِعَةِ التحضيضِ.
ش: نحوَ: {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ}.
والتحضيضُ: طَلَبُ بَحْثٍ، وكذا للعَرْضِ، وهو الطَلَبُ بلِينٍ، نحوَ: {لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}. وكأنَّ المُصَنِّفَ اسْتَغْنَى عنه بالتحضيضِ؛ لأنَّه يُفْهَمُ من بابٍ أوْلَى، (وَأَخَّرْتَنِي) معناهُ الاستقبالُ.
ص: وفي الماضِيَةِ التَّوْبِيخُ.
ش: نحوَ: {لَوْلاَ جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}، {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ}.
ص: وقيلَ تَرِدُ للنَّفْيِ.
ش: بمَنْزِلَةِ (لم) قالَ الهَرَويُّ في (الأَزْهِيَةِ): وجَعَلَ منهُ: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ}، والجمهورُ: أنَّها للتَّوْبِيخِ؛ أي: فهلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ واحدَةٌ من القُرَى المُهْلَكَةِ تَابَتْ عندَ الكُفْرِ قبلَ مَجِيءِ العذابِ، فنَفَعَها ذلك.
ص: العشرونَ: لو شُرِطَ للمَاضِي.
ش: أي: وإنْ دَخَلَتْ على المضارعِ فإنَّها تُصْرِفُه للمِضِيِّ، والقَصَدُ أنَّها تُفِيدُ الشَّرْطُ في الماضِي، وبهذا فَارَقَتْ إنِ الشَّرْطِيَّةَ، فإنَّها تَصْرِفُ الماضِيَ إلى الاستقبالِ، وما صَرَّحَ به المُصَنِّفُ هو قولُ ابنُ مالِكٍ والزَّمَخْشَرِيِّ وغيرِهما، وأَبَى قَومٌ تَسْمِيتُها حَرْفاً؛ لأنَّ حقيقةَ الشرْطِ إنَّما تَكُونُ في الاستقبالِ، و (لو) إنَّما هي للتَّعْلِيقِ في الماضِي، فليسَتْ من أدواتِ الشرْطِ، وقيلَ: إنَّ النزاعَ لَفْظِيٌّ، فإنَّ أُرِيدَ بالشرْطِ الرَّبْطُ المَعْنَوِيُّ الحُكْمِيُّ، فلا شَكَّ أنَّها تَقَعُ شَرْطاً، وإنْ أُرِيدَ به ما يَعْمَلُ في الجُزْءَيْنِ، فلا.
ص: ويَقِلُّ للمُسْتَقْبَلِ.
ش: أي: قد يَرِدُ بمعنَى إنِ الشَّرْطِيَةَ يَلِيهَا المُسْتَقْبَلُ ويَصْرِفُ الماضِي إلَى الاسْتِقْبَالِ، كقولِه تعالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلُوْ كُنَّا صَادِقِينَ} وقولِه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاًَ خَافُوا عَلَيْهِمْ} كذا قالَهُ جماعةٌ.
وخَطَّأَهُم ابنُ الحَاجِّ في نَقْدِه على (المُقَرَّبِ) قالَ: والقاطِعُ بذلكَ أنَّكَ لا تَقُولُ: لو يَقُومُ زيدٌ فعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ.
وقالَ بَدْرُ الدِّينِ بنُ مَالِكٍ: عندِي أنَّها لا تَكُونُ لغيرِ الشَّرْطِ في الماضِي، ولا حُجَّةَ فيمَا تَمَسَّكُوا به، لصِحَّةِ حَمْلِه على المِضِيِّ.
ص: قالَ سِيبَوَيْهِ: حَرْفٌ لِمَا كانَ سَيَقَعُ لوقوعِ غيرِه، وقالَ غيرُه: حَرْفُ امْتِناعٍ لامتناعٍ، وقالَ الشَّلَوْبِينُ: لمُجَرَّدِ الرَّبْطِ، والصحيحُ وِفَاقاً للشيخِ الإمامِ: امتناعُ ما يَلِيهِ واسْتِلْزِامُه لتَالِيه، ثمَّ يَنْتَفِي التَّالِي إنْ نَاسَبَ، ولم يَخْلُفْ المُتَقَدِّمُ غيرَه، كـ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهَ لَفَسَدَتَا} لا إنْ خَلَفَه غيرُه، كقولِكَ: لو كانَ إنساناً لكانَ حيواناً، ويُثْبِتُ التالِيَ إنْ لم يُنَافِ، ونَاسَبَ بالأوْلَى كـ (لو) لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِه، أو بالمُسَاوَاةِ كـ (لو) لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتُه لِمَا حَلَّتْ للرضاعِ، أو الأَدُونَ كقولِكَ: لو انْتَفَتْ أُخُوَّةُ النَّسْبِ لما حَلَّتِ للرضَاعِ.
ش: حَاصِلُه أنَّ في (لو) أربعُ مقالاتٍ:
أحدُها: قولُ سِيبَوَيْهِ: حَرْفٌ لِمَا كانَ سَيَقَعُ لوقوعِ غيرِه، ومعناه كما قالَ البَدْرُ بنُ مَالِكٍ: أنَّها تَقْتَضِي فِعْلاً ماضياً كانَ يَتَوَقَّعُ ثُبُوتَه لثُبُوتِ غيرِه، والتَّّوَقُّعُ غيرُ واقِعٍ، فكأنَّه قالَ: (لو): حَرْفٌ يَقْتَضِي فِعْلاً، امْتَنَعَ لامتناعِ ما كانَ يَثْبُتُ لثُبُوتِه.
والثاني: حَرْفُ امتناعٍ لامتناعٍ؛ أي: يَدُلُّ على امْتِناعِ الثاني لامتناعِ الأوَّلِ، فإذا قُلْتَ: لو جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، أَفَادَ أنَّه مَا حَصَلَ المَجِيءُ ولا الإكرامُ، وهي عبارةُ الأكثرِينَ المُعَرَّبِينَ، وظاهِرُها غيرُ صحيحٍ لأنَّها تَقْتَضِي كونُ جوابُ (لو) مُمْتَنِعاً غيرُ ثَابِتٍ دائماً، وذلك غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ جوابَها قد يَكُونُ ثَابِتاً في بعضِ المواضعِ، كقولِكِ لطَائِرٍ، لو كانَ إنْساناً لكانَ حيواناً فإنْسانِيَّتُه مَحْكُومٌ بامْتِنَاعِها وحَيَوانِيَّتُه ثَابِتَةٌ، وكذا قولُه في صُهَيْبٍ: ((لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ)) فَعَدَمِ المعصيَةِ مَحْكومٌ بثبوتِه؛ لأنَّه إذا كانَ ثَابِتاً على تقديرِ عَدَمِ الخَوْفِ، فالحُكْمُ بثبوتِه معَ تقديرِ ثبوتِ الخَوْفِ أَوْلَى، وكذا قولُه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةِ أَقْلامٌ} الآيةَ، مُقَدَّمُ النَّفَاذِ ثابتٌ على تقديرِ كونِ ما في الأَرْضِ من شَجَرَةٍ =أقلام، والبَحْرِ =مداد، أو سَبْعَةِ أمثالِه، فثُبُوتُ عَدَمَ النفاذِ على تقديرِ عَدَمِ ذلكَ أوْلَى، وكذا قولُه تعالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْؤ} يَقْتَضِيِ أَنَّه مَا عَلِمَ فيهِم خيراً وما أَسْمَعَهُم، ثمَّ قولُه: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ} فيَكُونُ معناهُ أنَّه ما أَسْمَعَهُم، وأنَّهم ما تَوَلَّوْا، لكنْ عَدَمُ التَّوَلِّي خَيْرٌ من الخَيْرَاتِ، فأوَّلُ الكلامِ يَقْتَضِي نَفْيَ الخَيْرِ، وآخِرُه يَقْتَضِي حصولَه، وهما مُتَنَافِيَانِ ولهذا الإشكالُ صَارَ قومٌ إلى المَذْهَبَيْنِ الآتِيَيْنِ:
والثالثُ: قولُ الشَّلَوْبِينُ: إنَّها لِمُجَرَّدُ الرَّبْطِ؛ أي: إنَّما تَدُلُّ على التَّعْلِيقِ في الماضِي كما دَلَّتْ على التَّعْلِيقِ في المُسْتَقْبَلِ، ولا تَدُلُّ على امتناعِ الشَّرْطِ ولا امتناعِ الجوابِ، وتَابَعَه ابنُ هِشامٍ الخَضْرَاوِيُّ، وهو ضعيفٌ بل جَحَدٌ للضَّرُورِيَّاتِ، فإنَّ كلَّ مَن سَمِعَ (لو فَعِلَ) فَهِمَ عَدَمُ وقوعِ الفِعْلِ من غيرِ تَرَدُّدٍ، ولهذا جَازَ اسْتِدْراكُه فتَقُولُ: لو جَاءَنِي أَكْرَمْتُه لكنَّه لم يَجِئْ.
الرابعُ: أنَّها تَقْتَضِي امتناعَ ما يَلِيهِ واسْتِلْزَامِه لتالِيهِ، وحَكَاهُ المُصَنِّفُ عن والِدِه، وهذه العبارَةُ وَقَعَتْ في بعضِ نُسَخِ (التَّسْهِيلِ) وانْتُقِدَتْ بأنَّها لا تُفِيدُ أنَّ اقْتِضَاءَها للامْتِناعِ في الماضِي، فلو قالَ: تَقْتَضِي في المَاضِي امْتِناعَ ما يَلِيهِ، كانَ أَوْضَحَ. وحَاصِلُهُ أنَّها تَدُلُّ على أَمْرَيْنِ:
أحدُهما: امْتِناعُ شَرْطِهَا، والأُخْرَى: كونُه مُسْتَلْزِماً لجَوابِها, ولا يَدُلُّ على امتناعِ الجوابِ في نَفْسِ الأمْرِ، ولا بثُبُوتِه، فإذا قلتَ: لو قَامَ زيدٌ لقَامَ عَمْرٌو. فقِيامُ زيدٍ مَحْكومٌ بانْتِفَائِه فيمَا مَضَى، وبِكَوْنِه مُسْتَلْزِماً ثُبُوتَ قِيامِ عَمْرٍو، وهل لِعَمْرٍو قيامٌ آخَرَ غيرُ اللاَّزمِ عن قيامِ زيدٍ، أو ليسَ له؟ لا تَعَرُّضَ في الكلامِ لذلك، ولكنَّ الأكْثَرَ كونُ الأوَّلِ والثاني غيرَ واقِعَيْنِ، وقولُه: ثمَّ يَنْتَفِي التالِي؛ أي: وأَمَّا التالِي فإمَّا أنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ بَيْنَه وبَيْنَ الأوَّلِ تَنَاسُباً، أو لا، فإنْ كانَ مُنَاسِباً نُظِرَ إنْ لم يَخْلُفِ المُقَدَّمُ غيرَه فالتالِي مُنْتَفٍ في هذه الصورةِ، نحوَ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهَ لَفَسَدَتَا}. وقولُك: لو جِئتَنِي لأَكْرَمْتُكَ، لكنَّ المقصودَ الأعظمَ في المثالِ الأوَّلِ: نَفْيُ الشَّرْطِ رَدًّا على مَن ادَّعَاهُ، وفي الثاني: أنَّ المُوجِبَ لانْتِفاءِ الثاني هو الأوَّلُ لا غيرَ، وإنْ كانَ للأوَّلِ عندَ انتفاءِ شيءٍ آخَرَ يَخْلُفُه ممَّا يَقْتَضِي وجودَ الثانِي نحوَ: لو كانَ إنساناً لكانَ حيواناً، فإنَّه عندَ انتفاءِ الإنْسانِيَّةِ قد يَخْلُفُها غيرُها ممَّا يَقْتَضِي وجودَ الحيوانِيَّةِ، وإنْ لم يكنِ الترتيبُ بينَ الأوَّلِ والثانِي مُنَاسِباً لم يَدُلُّ على انتفاءِ الثاني بل على وجودِه من بابِ أَوْلَى، نحوَ: ((نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْبٍ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ)). فإنَّ المَعْصِيَةَ مُنْتَفِيَةٌ عندَ عَدَمِ الخوفِ فعِنْدَ الخوفِ أوْلَى، ثمَّ جَعَلَ المُصَنِّفُ للمُناسِبِ مَراتِبَ:
أَحدُها: أنْ يكونَ بالأوْلَى كـ (لو) لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِه.
وثانِيها: بالمساواةِ؛ أي: تكونُ مُنَاسِبَةَ التالي مُساويَةً لمناسبةِ المُقَدَّمِ. كقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ: ((إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتَي فِي حِجْرِي، مَا حُلَّتْ لِي، إِنَّهَا لابْنَةَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعِ)). فإنَّ حِلَّها له عليه الصلاةُ والسلامُ مُنْتَفٍ من وَجْهَيْنِ، كونُها رَبِيبَتُه، وكونُها ابنةُ أَخِيهِ من الرضاعِ.
ثالثُها: أنْ تكونَ المُناسبَةُ في ذلك دونَ مُناسبَةِ المُقَدَّمِ، فيَلْحَقُ به أيضاًً، للاشتراكِ في المَعْنَى، كقولِكِ في أُخْتِكَ من النَّسَبِ والرَّضاعِ: لو انْتَفَتْ أُخُوَّةُ النَّسَبِ لَمَا كانَتْ حَلالاً؛ لأنَّها أُخْتٌ من الرَّضاعةِ، فتُحْرَمُ أُخْتٌ من الرَّضاعَةِ دونَ تَحْريمِ أُخْتُ النَّسَبِ، ولكنَّها عِلَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ للتَّحْرِيمِ كاقْتِضاءِ السَّبَبِ ولو انْتَفَتْ أَقْوَى العِلَّتَيْنِ، لاسْتَقَلَّتْ الضعِيفَةُ بالتعليلِ، إذا كانَتْ في نَفْسِها صالِحَةً له، وإنَّما قالَ المُصَنِّفُ: كقولِك؛ لأنَّه لا وُجودَ له في كلامِ الشارعِ ولا العُرْفِ، وكذا قولُه: لو كانَ إنساناً لكانَ حيواناً، بخلافِ الأمْثِلَةِ الباقِيَةِ، وحاصلُ الخلافِ في إفَادَتِها الامتناعُ، أقوالٌ:
أحدُها: لا تُفِيدُه أبداً، وهو قولُ الشَّلَوْبِينِ.
والثاني: تُفِيدُ امْتِناعَ الشرْطِ وامتناعَ الجوابِ جميعاً، وهو قولُ البَصْرِيِّينَ.
والثالثُ: تُفِيدُ امتناعَ الشرطِ خاصَّةً، ولا دلالَةَ لها على امتناعِ الجوابِ ولا على ثُبُوتِه، ولكنَّه إنْ كانَ مُساوياً للشرْطِ في العمومِ، نحوَ: لو كَانَتِ الشَّمْسُ طالِعَةً كانَ النهارُ موجوداً ـ لَزِمَ انْتِفَاؤُه؛ لأنَّه يَلْزَمُ من انْتفاءِ السَّبَبِ المُسَاوِي انْتِفاءَ مُسَبِّبِه، وإنْ كانَ أَعَمٌّ، نحوَ: لو كَانَتْ الشَّمْسُ طَالِعَةً كانَ الضوءُ موجوداً، فلا يَلْزَمُ انتفاءَ القَدَرِ المُساوِي فيه للشرْطِ، وعَزَاهُ بعضُ الأَئِمَّةِ المُحَقِّقِينَ، وهو ظاهرُ عبارةِ سِيبَوَيْهِ، فإنَّ قولَه: لَمَّا كانَ سَيَقَعُ، دليلٌ على أنَّه لم يَقَعْ، وهذا تصريحٌ بأنَّها دالَّةٌ على امتناعِ شَرَاطِها، وقد اعْتَنَى بَدْرُ الدِّينِ بنُ مَالِكٍ بكلامِ المُعَرَّبِينَ، وَرَدَّهُ لكلامِ سِيبَوَيْهِ، وقالَ: إنَّه يَسْتَقِيمُ على وَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنْ يكونَ المُرادُ أنَّ جوابَ (لو) مُمْتَنِعٌ لامتناعِ الشرطِ غيرُ ثَابِتٍ لثبوتِ غيرِه، بِنَاءٌ منهُم على مفهومِ الشرطِ في حُكْمِ اللُّغَةِ لا في حُكْمِ العَقْلِ.
الثاني: أنْ يكونَ المرادُ أنَّ جوابَ (لو) امْتَنَعَ لامتناعِ شرْطِه، وقد يكونُ ثابتاً لثبوتِ غيرِه؛ لأنَّها إذا كانَتْ تَقْتَضِي نَفْيَ تالِيهَا واسْتِلْزَامِه لتالِيه، فقد دَلَّتْ على امتناعِ الثاني لامتناعِ الأوَّلِ؛ لأنَّه متى انْتَفَى شيءٌ انْتَفَى مُساوِيهُ في اللُّزومِ، معَ احتمالِ أنْ يَكُونَ ثَابِتاً لثبوتِ أَمْرٍ آخَرَ، فإذا قلتَ: لو كانَتِ الشمسُ طالعِةً، كانَ الضوءُ موجوداً، فلا بُدَّ من انتفاءِ القَدْرِ المُساوِي منه للشَّرْطِ، فصَحَّ أنْ يُقالَ: (لو) حَرْفٌ يَدُلُّ على امتناعِ الثاني لامتناعِ الأوَّلِ.
ص: وتَرِدُ للتَّمَنِّي.
ش: نحوَ: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}؛ أي: فلَيْتَ لنَا، ولهذا نَصَبَ (نكونَ) في جوابِها، كما انْتَصَبَ (فأَفُوزَ) في جوابِ ليْتَ في: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ} وهل هي الامْتِنَاعِيَّةُ، أُشْرِبَتْ معنَى التَّمَنِّي لكونِها لا تَقَعُ غالباً إلاَّ بعدَ مُفْهَمِ تَمَنٍّ؟ ثلاثةُ أقوالٍ، وإلى الأخيرِ صَارَ ابنُ مالِكٍ، وغَلَّطَ الزَّمَخْشَرِيُّ في عَدِّهَا حَرْفُ تَمَنٍّ لمَجِيئِها معَ فِعْلِ التَّمَنِّي في قَوْلِهِ: {وَدُّوا لَوُ تُدْهِنُ} ولو كانَتْ لِلتَّمَنِّي لَمَا جَمَعَ بينَهما كما لم يَجْمَعْ بينَ لَيْتَ وفِعْلَ تَمَنَّ، وهذا مَرْدُودٌ؛ لأنَّ حَالَةَ دخولِ فِعْلَ التَّمَنِّي عليها لا تكونُ حَرْفُ تَمَنٍّ، بل مُجَرَّدَةٌ عنه، فمرادُ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيرَه ممَّنْ أَثْبَتَها للتَّمَنِّي حيثُ لم تَلِ فِعْلَ تَمَنٍّ.
ص: ولِلْعَرْضِ والتَّحْضِيضِ.
ش: فالأوَّلُ: نحوَ: لو تَنْزِلُ عندَنا فتُصِيبُ خيراً، والثاني: لو فَعَلْتَ كذا يا هذا، بمعنَى افْعَلْ، والفرقُ بينَهما أنَّ العَرْضَ طَلَبٌ بلِينٍ، والتحضيضُ طَلَبٌ بِحَثٍّ، وقَلَّ مَن ذَكَرَ التحضيضَ، وقد ذَكَرَهُ العَكْبَرَاوِيُّ في (الشامِلِ) ومثلُه بما ذَكَرَنَا، قالَ: وأكثرُ ما تَجِيءُ معَ ما.
ص: والتقليلُ نحوَ: ولو بِظُلْفٍ مُحْرَقٍ.
ش: أَثْبَتَهُ ابنُ هِشَامٍ الخَضْرَاوِيُّ، وابنُ السَّمْعَانِيِّ في (القواطعِ)، والحقُّ أنَّه مُسْتَفَادٌ ممَّا بعدَها لا مِن الصِّيغَةِ، والظَّلَفُ بالكَسْرِ: للبَقَرِ والغَنَمِ، كالحافِرِ للفَرَسِ، وإنَّما لم يُمَثِّلِ المُصَنِّفُ: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوُ بِشِقِّ تَمْرَةٍ))، ((الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتِماً مِنْ حَدِيدٍ)). معَ أنَّهما أَصَحُّ ممَّا ذَكَرَه، لإفَادَتِه النهايةُ في التقليلِ بخلافِ التَّمَرَةِ والخَاتَمِ.
ص: الحَادِي والعشرونَ: (لَنْ) حَرْفُ نَفْيٍ ونَصْبٍ واسْتِقْبَالٍ، ولا تُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ ولا تَأْبيدِه، خلافاً لِمَا زَعَمَه.
ش: (لَنْ) تَنْصِبُ المضارعَ وتُخْلِصُه للاستقبالِ، نحوَ: لَنْ يَقُومَ زَيدٌ، وهي تُفِيدُ مُطْلَقُ النَّفْيِ، وزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ في (الكَشَّافِ) أنَّها تُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ، وفي (الأَنْمُوذَجِ) تُفِيدُ تَأْبيدِه، قالَ ابنُ مَالِكٍ: وحَمَلَه على ذلك اعتقادُه أنَّ اللهَ تعالَى لا يُرَى، وهو اعتقادٌ باطلٌ.
وقالَ ابنُ عُصْفُورٍ، ما ذَهَبَ إليه دَعْوَى بلا دليلٍ عليها، بل قد يكونُ النَّفْيُ بـ (لا) آكِدٌ من النَّفْيِ بـ (لن)؛ لأنَّ المَنْفِيَّ بـ (لا) قد يكونُ جواباً للقَسَمِ، والمَنْفِيَّ بـ (لن) لا يكونُ جواباً له، ونَفْيُ الفِعْلِ إذا أَقْسَمَ عليه آكِدٌ، ورَدَّهُ غيرَه بأنَّها لو كانَتْ للتَّأْبيدِ لم يُقَيَّدْ مَنْفِيهَا باليومِ في قَوْلِهِ تعالَى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}، ولكانَ ذَكَرَ الأبَدُ في قَوْلِهِ تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} تِكْرَاراً، إذِ الأصْلُ عَدَمُه، بقولِه تعالَى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} ولو كَانَتْ للتَّأْبيدِ لَمَا صَحَّ أنْ يُوَقِّتَ.
قلتُ: ووافَقَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الثاني ابنُ عَطِيَّةَ، واقْتَضَى كلامُه أنَّها مَوْضُوعَةٌ في اللُّغَةِ لذلكَ، حتى قالَ: ولو بَقِينَا على هذا النَّفْيِ بمُجَرَّدِه لتَضَمَّنَ أنَّ مُوسَى لا يَرَاهُ أَبَداً ولا في الآخِرَةِ، لكنْ وَرَدَ من جِهَةٍ أُخْرَى في الحديثِ المُتَواتِرُ أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَرَوْنَهُ.
قلتُ: ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرادُه أنَّ نَفْيَ المُسْتَقْبَلِ بعدَها يَعُمُّ جميعَ الأزْمِنَةِ المُسْتَقْبَلَةِ من جِهَةِ أنَّ الفِعْلَ نَكِرَةٌ، والنكرةُ في سِياقِ النَّفْيِ تَعُمُّ.
وَوَافَقَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الأوَّلِ جماعَةٌ منهم ابنُ الخَبَّازِ في (شَرْحِ الإيضاحِ) فقالَ: (لن) لِنَفْيِ المُضَارِعُ على جِهَةِ التَّأْكِيدِ، ونَفْيهُ أَبْلَغُ من نَفْيِ (لا) ألاَ تَرَى أنَّه يُسْتَعْمَلُ في المواضِعِ التي يَسْتَمِرُ عَدَمِ الاتصالِ فيها كقولِه: {لَنْ تَرَانِي} ليسَ لا يَرَاهُ في الدُّنْيَا، وقولُه: {وَلَنْ يَخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ}؛ لأنَّ خُلْفُ= الوَعْدِ على اللهِ مُحَالٌ، ومنهم صَاحِبُ (التِّبْيَانِ) فقالَ: إنْ (لن) لنَفْيِ المَظْنُونِ حُصوله= ولا لنَفِي المَشْكُوكِ فيه، فـ (لن) آكِدٌ، وأنَّ (لن) تَنْفِي ما قَرُبَ، ولا يَمْتَدُّ معنَى النَّفْيِ فيها كما يَمْتَدُّ في (ما)؛ لأنَّ ما آخِرُه ألِفٌ يَمْتَدُّ معه الصُّوْتُ بخلافِ ما في آخِرِه نُونٌ، وقد رَدَّ عليه ابنُ عَمِيرَةَ في (التَّنْبِيهَاتِ) هذا الكلامُ وقيلَ: إنَّ السُّهَيْلِيَّ ذَكَرَهُ في (نَتَائِجِ الفِكْرِ).
ص: وتَرِدُ للدُّعاءِ وِفَاقاً لابنِ عُصْفُورٍ.
ش: أي: كَمَا أنَّ (لا) لذلكَ حَكَاهُ ابنُ السَّرَّاجِ عن قَوْمٍ، وخَرَّجَ عليه.
قولَه تعالى: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} والصحيحُ عندَ ابنِ مالِكٍ وغيرِه، أنَّه يُسْتَعْمَلُ في الدُّعاءِ من حروفِ النَّفْيِ إلاَّ (لا) خاصَّةً، ولا حُجَّةَ فيما اسْتَدَلُّوا به لاحْتِمَالِ أنْ يَكُونَ خَبَراً، ولأنَّ الدُّعاءَ لا يَكُونُ للمُتَكَلِّمِ، اعْلَمْ أنَّ عِبَارَةَ (التَّسْهِيلِ) ولا يَكُونُ الفِعْلُ مَعَها دعاءً خلافاً لبعضِهم، وبه ظَهَرَ أنَّ تَعْيينِ المُصَنِّفِ مُنْتَقِدٌ.
ص: الثاني والعِشْرونَ: (ما) تَرِدُ اسْمِيَّةٌ وحَرْفِيَّةٌ مَوْصُولَةٌ، ونَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وللتَّعَجُّبِ واسْتِفْهَامِيَّةٌ وشَرْطِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ وغيرُ زَمَانِيَّةٍ.
ش: تَرِدُ (ما) اسماً وحَرْفاً، فالاسْمِيَّةُ: هي التي يَكُونُ لها مَوْضِعٌ من الإعْرابِ، والحَرْفِيَّةُ خلافَ ذلك، وللاسِمِيَّةُ مَوارِدٌ:
أحدُها: أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةٌ، وهي ما صَلَحُ في مَوْضِعِها (الذي) نحوَ: يُعْجِبُنِي ما عندَك، ونحوَ: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ}.
ثانيها: نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وتُقَدَّرُ بشيءٍ نحوَ: مَرَرْتُ بِمَا مُعْجَبٌ لكَ؛ أي: بشيءٍ، وأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
رُبَّمَا تَكْرُه النُّفُوسَ من الأمْرِ لَهُ فُرْجَةً كَحَلِّ العِقَالِ
أي: رُبَّ شَيءٍ وتَكْرَهُ النُّفوسَ، صِفَةً لَهُ، والعَائِدُ مَحْذُوفٌ؛ أي: تَكْرَهُهُ.
ثالثُها: تَعَجُّبِيَّةٌ، نحوَ: مَا أَحْسَنَ زَيداً؛ أي: شيءً، والفِعْلُ بعدَها في مَوْضِعِ خَبَرِها، كأنَّه قيلَ: شيءٌ أَحَسَنَ زيداً؛ أي: صَيَّرَهُ حَسَناً عندِي، وجَازَ الابْتِدَاءُ بالنَّكِرَةِ لمَكانِ التَّعَجُّبِ، كما جَازَ في قَوْلِهِم: عَجَبٌ لزيدٍ، وهذا على مذهبِ سِيبَوَيْهِ.
وقالَ الأخْفَشُ: مَوْصُولَةٌ، والفِعْلُ بعدَها صِلَةٌ، والخَبَرُ محذوفٌ لازِمُ الحَذْفِ، وحَمَلَهُ على ذلكَ اعْتِقَادَه أنَّه لم تُوجَدْ (ما) نَكِرَةٌ غيرَ مَوْصُوفَةٍ إلاَّ في شَرْطٍ أو اسْتِفْهَامٍ، وهو باطلٌ، بدليلِ قولِهم: غَسْلَته غسلاً نعما=، وممَّا يُفْسِدُ قولُه: إنَّ التَّعَجُّبَ إنَّما يكونُ من شيءٍ خَفِيِّ السَّبَبِ، واعْلَمْ أنَّ هذه لَيْسَتْ قَسِيماً للنَّكَرَةِ كما يُوهِمُ= كلامُ المُصَنِّفِ، بل النَّكِرَةُ قِسمَانِ: نَاقِصَةٌ وهي المَوْصُوفَةٌ، وتَامَّةٌ وهي التَّعَجُّبِيَّةٌ، نحوَ: ما أَحَسَنَ زيداً؛ أي: شيءٌ حَسَنُ زيداً.
رابعُها: اسْتِفْهَامِيَّةٌ: نحوَ: {وَمَا تِلْكَ بِيمَينِكِ يَا مُوسَى} ثمَّ إمَّا أنْ يُسْتَفْهَمَ بها مُسْتَثْبِتاً أو غيرَ مُسْتَثْبِتٍ، فإنْ كُنْتَ غيرَ مُسْتَثْبِتٍ لم يَجُزْ حَذْفُ إلاَّ معَ الخوافضِ، نحوَ: بِمَ جِئْتَ وعَمَّ سَأَلْتَ؟ وإلامَ سِرْتَ؟ قالَ تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {وَبِمَ تُبَشِّرُونَ} ولا تُحْذَفُ معَ غيرِ الخَافِضِ إلاَّ في ضرورةٍ، وإنْ كُنْتَ مُسْتَثْبِتاً حَذَفْتَ أَلَفَها معَ الخافضِ، فإذا قلتَ: رَأَيْتُ شيئاً حَسَناً، قلتَ له: مَا رَأَيْتُ أو رَأَيْتُ بهِ.
خامِسُها: الشَّرْطِيَّةُ، نحو: ما تَصْنَعُ وأَصْنَعُ؛ أي: إنْ تَصْنَعَ شيئاً أَصْنَعَه، وهي تَنْقَسِمُ إلى زَمَانِيَّةٍ، نحوَ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}؛ أي: اسْتَقِيمُوا لهم مُدَّةَ اسْتِقامَتِهم لَكُم. وقد أَثْبَتَ ذلك الفَارِسِيُّ وابنُ مالِكٍ.
وإلى غيرِ زَمانِيَّةٍ: {مَا نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}. وذَكَرَ إمامُ الحَرَمَيْنِ في بابِ الطلاقِ من (النهايةِ) قَوْلُ الأصحابِ في: كُلَّمَا لم أُكَلِّمُكِ فأَنْتِ طالِقٌ، إنَّه لِلْفَوْرِ، وليسَ فيه تَعَرُّضٌ للوَقْتِ، وأَجَابَ بأنَّ أهلَ العَرَبِيَّةِ أَجْمَعُوا على أنَّ (ما) في (كُلَّمَا) ظَرْفُ زَمانٍ؛ يعنِي بمَثَابَةِ إذا قلتَ: وإنَّما الذي أَجْمَعُوا عليه انْتِصابَ (كلَّ) في (كلَّما)، على الظرفِيَّةِ، وجَاءَتِ الظَّرْفِيَّةُ من جِهَةِ ما، فإنَّها مُحْتَمِلَةٌ؛ لأنَّ تَكُونَ اسْماً نَكِرَةً بمعنَى وَقْتٌ، أو حَرْفاً مَصْدَراً، والأصْلُ: كُلُّ وقْتٍ لم يَحْصُلْ كَلامٌ، ثمَّ عَبَّرَ عن معنَى المَصْدَرِ بمَا والفِعْلِ، ثمَّ أَنْبَأَ عن الزمانِ.
ص: ومَصْدَرِيَّةٌ كذلك، ونَافِيَةٌ كذلك وزَائِدَةٌ كَافَّةٌ، وغيرُ كَافَّةٍ.
ش: للحَرْفِيَّةِ اسْتعْمَالاتٍ:
أحدُها: أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةٌ؛ أي: يَكُونُ ما بَعْدَها في تَأْويلِ المَصْدَرِ، نحوَ: أَعْجَبَنِي ما قُلْتَ؛ أي: قَوْلُكَ، وأَشَارَ بقولِه: {كَذَلِكَ} إلى أنَّها تَجِيءُ ظَرْفِيَّةً وغيرُ ظَرْفِيَّةٍ، فغيرُ الظَّرْفِيَّةِ: يُعْجِبُنِي ما تَقُومُ؛ أي: قِيامُكَ، وقولُه تعالى: {لَمَا تَصِفُ أَلْسِنَتِكُمْ}؛ أي: لوَصْفٍ.
والظَّرْفِيَّةُ؛ أي: تَقَعُ مَوْقِعَ الظَّرْفِ، نحوَ: {مَا دُمْتُ حَيًّا}؛ أي: مُدَّةَ دَوَامِي حياًّ {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وتَقْسِيمُ المَصْدَرِيَّةِ كذلك ذَكَرَهُ الجَزُولِي، ونَازَعَ فيه ابنُ عُصْفُورٍ؛ لأنَّ الظرفِيَّةَ، ليْسَتْ من معانِي (ما) بل معَ الفِعْلِ بمَنْزِلَةِ المَصْدَرِ، والمَصَادِرُ قد تُسْتَعْمَلُ ظُروفاً؛ لقولِهم: أَتَيْتُكَ خُفُوقَ= النَّجْمِ أو خِلافَةَ= فُلانٍ؛ أي: مُدَّةَ خُفُوقِ النَّجْمِ ومُدَّةَ خَلافَتِه، فلا يَنْبَغِي أنْ تُعَدَّ قَسِيماً للمَصْدَرِ.
ثانيها: نَافِيَةٌ، إمَّا عَامِلَةٌ، كقولِه تعالَى: {مَا هُنَّ أُمْهَاتِهِمْ} أو غيرَ عَامِلَةٍ، نحوَ: مَا قَامَ زَيدٌ ومَا يَقُومُ عَمْرٌو.
ثالثُها: الزَّائِدَةُ، وهي إمَّا كَافَّةٌ أو غيرَ كَافَّةٍ، فالكَافَّةُ إمَّا عَن عَمَلِ الرَّفْعِ، نحوَ: (قَلَّمَا) و (طَالَمَا).
أو النَّصْبِ والرَّفْعِ، وهي المُتَّصِلَةُ بإنَّ وأَخَواتِها، نحوَ: {إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
أو الجَرِّ، وهي المُتَّصِلَةُ بُرُبَّ، وغيرُ الكافَّةِ، إمَّا عِوَضاً، أمَّا أنتَ مُنْطَلِقاً انْطَلَقْتُ، أو غيرُه نحوَ: شَتَّانَ ما بينَ زَيدٍ وعَمْرٍو.
ص: الثالثُ والعشرونَ: (مِن) لابْتِداءِ الغَايَةِ غَالِباً.
ش: أي: ويُعْرَفُ بأنْ يُذْكَرَ معَها (إلى) التي للغَايَةِ لَفْظاً، نحوَ: سِرْتُ مِن البَصْرَةِ إلى بَغْدَادَ.
أو تَقْدِيراً، بأنْ يَتَعَرَّضَ للابْتِداءِ من غيرِ قَصْدٍ إلى انْتِهاءٍ مَخْصُوصٍ، إذا كانَ المعنَى لا يَقْتَضِي إلاَّ المُبْتَدَأَ منه، نحوَ: أَعُوذُ باللهِ من الشيطانِ الرَّجِيمِ، وزَيدٌ أَفْضَلُ من عمرٍو ونحوِه.
وقالَ الخَفَافُ: معنى الابتداءُ به التي يَقَعُ بعدَها المَحَلُّ الذي ابْتَدَأَ منه الفِعْلُ، نحوَ: جِئْتُ من المَسْجِدِ؛ أي: ابْتِداءُ المَجِيءِ منه، ولا بُدَّ بعدَها من ذِكْرِ مَوْضِعِ الانْتِهاءِ، وقد يُحْذَفُ للعِلْمِ به، وقد يَقَعُ بعدَها المَحَلُّ الذي وُجِدَ فيه ابتداءُ الفِعْلِ وانْتِهاؤُهُ كأَخَذْتُ المَالَ من الكيسِ.
وأَشَارَ المُصَنِّفُ بقولِه (غالباً) إلى أنَّه الغالبُ عليها، حتى قالَ بعضُهم: إنَّها حيثُ وُجِدَتْ كانَتْ لابتداءِ الغَايَةِ، وسائِرِ مَعانِيهَا تَرْجِعُ إليه، تَقُولُ: أَخَذْتُ من الدَّراهِمِ، فقد جَعَلَ مالَه ابتداءَ غايةِ ما أَخَذَ، إنَّما دَلَّ على البَعْضِ من حيثُ صَارَ ما بَقِيَ انْتِهاءٌ له، قالَ ابنُ السَّمْعَانِيُّ: هذا قولُ النَّحْوِيِّينَ، وأمَّا الذي يَعْرِفُه الفقهاءُ، فهو لابتداءِ الغايَةِ والتَّبْعِيضِ جميعاً، وكلُّ واحدٍ في مَوضِعِه حقيقةٌ، ثمَّ هي لابتداءِ الغايَةِ في المكانِ اتِّفاقاً، نحوَ: {مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ}.
وفي الزمانِ عندَ الكُوفِيِّينَ، نحوَ: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}، {وَمِنَ الْلَيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ}، و {للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}. وصَحَّحَهُ ابنُ مالِكٍ وغيرُه لكَثْرَةِ شَواهِدِه، وتَأَوْيلُ البَصْرِيِّينَ مُتَعَسِّفٌ، لكنْ ذَكَرَ ابنُ أَبِي الرَّبِيعِ أنَّ مَحَلَّ الخِلافِ بينَ الفريقَيْنِ في أنَّ (مِن) هل يَجُوزُ أنْ تَقَعَ مَوْقِعَ مُدَّةَ، فإنَّها لابتداءِ غايةِ الزمانِ بلا خلافٍ، فالبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَ ذلك، والكُوفِيِّونَ يُجِيزُونَهُ، وما وَرَدَ في القرآنِ لا يُحْتَجُّ به على البَصْريِّينَ؛ لأنَّه لم يَرِدْ مُدَّةً، قبلُ وبعدُ.
(ص) وللتَّبْعِيضِ.
(ش) نحوَ: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ}، وعلامَتُها جَوازُ الاسْتِغْنَاءِعنها بـ (بعضِ)، وهنا بَحْثَانِ:
أحدُهُما: أنَّه يَظُنُّ تَساوِي الصِّيغَتَيْنِ، أَعْنِي، (بعضَ) و (مِن) قالَ ابنُ أَبِي الرَّبِيعِ: كانَ بعضُهم يقولُ ذلك، وليسَ كما قالَ. قالَ: فإذا قُلْتَ: أَكَلْتُ من الرَّغِيفِ دَلَّتْ (مِن) على أنَّ الأكْلَ وَقَعَ بالرَّغِيفِ على جِهَةِ التَّبْعِيضِ، أو مُتَعَلِّقُ الأكْلِ بالرَّغِيفِ على وَجْهَيْنِ؛ إمَّا على أنَّها عَمَّهُ أو خَصَّ بعضَه، فدَخَلَتْ (مِن) لِبَيانِ ذلك.
وإذا قلتَ: أَكَلْتُ بعضَ الرَّغِيفِ، فليسَ الرَّغِيفُ مُتَعِلِّقُ الأكْلِ، وإنَّما مُتَعَلِّقُ البَعْضِ، وسِيقَ الرَّغِيفُ لتَخْصِيصِ ذلك البعضِ وزَوالِ= شِياعِه.
وإذا قلتَ: أَكَلْتُ من الرَّغِيفِ، فالرَّغِيفُ مُتَعَلِّقُ الأكْلِ، ودَخَلَتْ للتَّبْيينِ؛ إنَّه لم يَتَعَلَّقْ به على أنَّه عَمَّه، بل تَعَلَّقَ به على أَنَّه وَقَعَتْ به على جِهَةِ التَّبْعِيضِ.
الثاني: في صِدْقِ البَعْضِ على النِّصْفِ أو ما دُونَه قولانٍ لأهلِ اللُّغَةِ، وقياساً جَرَيانُه هنا، ويَدُلُّ للثاني قولُه تعالَى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ}. وقالَ الإمِامُ في كتابِ (الوَكَالَةِ من النِّهايَةِ) لو قالَ: بِعْ من عَبِيدِي مَن شِئْتَ، ليسَ للوَكِيلِ أنْ يَبِيعَ جَمِيعَهم، فإنَّ (مِن) تَقْتَضِي التَّبْعِيضِ، فلو بَاعَ جَمِيعَهم إلاَّ واحداً نَفُذَ باتفاقِ الأصحابِ، وإن كانَ التَّبْعِيضُ في النَّظَمِ= المَعْرُوفِ، رُبَّمَا يُورَدُ على النِّصْفِ ممَّا دُونَه قالَ: وهذا يُنَاظِرُ الاسْتِثْنَاءَ، فإنَّ الغَالِبَ اسْتِثْنَاءُ الأقَلِّ واسْتِبْقَاءُ الأكْثَرِ، ولكنْ لو قالَ: على عَشْرَةٍ إلاَّ تِسْعَةٍ، صَحَّ وجُعِلَ مُقِرًّا بِدِرْهَمٍ.
ص: ولِلتَّبْيينِ:
ش: نحوَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}. فإنَّ الأوثانَ كلُّها رِجْسٌ، فجَاءَ التَّبْيينُ بمَا بَعْدَها لجِنْسِ الذي قَبْلَها، وقولُه: {خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ}، وقولُه {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}؛ أي: الذي هُمْ أَنْتُمْ؛ لأنَّ الخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فلا يُتَصَوَّرُ أنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةٌ.
وعلامَتُها أنْ يَصِحَّ جَعْلَ= الذي مكانَها، فإنَّه لو قيلَ: اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الذي مِن الأوثانِ لصَحَّ، أو أنْ يَكُونَ ما بعدَها وَصْفاً لِمَا قَبْلَها، لصِحَّةِ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الوَثَنِيَّ، وجَعَلَ منه صَاحِبُ (الأَزْهِيَةِ) قولُ سِيبَوَيْهِ: هذا بابُ علم ما الكلم من العربِيَّةِ=؛ لأنَّ الكَلِمَ قد يَكُونَ عَرَبِيًّا وعَجْمِيًّا، فبَيَّنَ المُرادُ وهو العربِيَّةُ، كأنَّه قالَ: ما الكَلِمُ، الذي هو العربِيَّةُ.
وحَكَى الصيمريُّ من أَصْحَابِنَا عن الشَّافِعِيِّ فيما لو قالَ له: من هذا المَالُ ألْفٌ، فكانَ المالُ كلُّه أَلْفاً، إنَّه إقرارٌ بجَميعِه حَمْلاً، لـ (مِن) على التَّبْيينِ.
ص: والتَّعْلِيلُ والبَدَلُ.
ش: مثالُ الأوَّلِ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ}. والثاني: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}.
ص: والغَايَةُ:
ش: يُحْتَمَلُ تَعْبِيرُهُ بالغايَةِ دونَ انتهاءِ الغايةِ؛ أمَرَيْنِ:
أحدُهما: أنَّ الغايةَ كلُّها، وحَكَاهُ ابنُ أَبِي الرَّبِيعِ عن قوم،ٍ نحوَ: أَخَذْتُ من الياقوتِ، فالياقوتُ مُبْتَدَأُ الأَخْذِ ومُنْتَهاهُ، فدَخَلَتْ (مِن) الغايَةُ كلَّها، قالَ: وهذا إذا حُقِّقَ رَجَعَ لابتداءِ الغايَةِ؛ لأنَّها دَخَلَتْ، ولَمَّا لم يكنْ لِلْفِعْلِ امتدادٌ، وَجَبَ أنْ يكونَ المبتدأُ والمُنْتَهَى واحدٌ، ألاَ تَرَى مِن لا يَجِدُها للانتهاءِ خاصَّةً، وإنَّما تكونُ للابتداءِ وما زَادَ على ذلك فبالانْجرارِ.
والثاني: وهو الظاهرُ أنَّه على حَذْفِ مُضَافٍ؛ أي: انتهاءِ الغَايَةِ، منزلَة= (إلى) فتَكُونُ لابتداءِ الغايَةِ من الفاعَلِ، ولانتهاءِ غايةَ الفِعْلِ من المفعولِ، مثلَ: رَأَيْتُ الهِلالَ مِن دَارِي من خَلَلِ السحابِ؛ أي: مِن مَكانِي إلى خَلَلِ السحابِ، فابتداءُ الرُّؤْيَةِ وَقَعَ من الدارِ وانْتِهاؤُها في خللِ السحابِ.
وذَكَرَ ابنُ مالِكٍ أنَّ سِيبَوَيْهِ أَشَارَ إلى هذا المعنَى، وأَنْكَرَهُ جماعةٌ، وقالُوا: لم يَخْرُجْ عن ابتداءِ الغايَةِ، لكنَّ الأوْلَى ابتداؤُها في حقِّ الفاعلِ، والثانيةَ في حقِّ المفعولِ؛ لأنَّ الرؤيةَ إنَّما وَقَعَتْ بالهِلالِ، وهو في خَلَلِ السحابِ، ومنهم مَن جَعَلَها في الثانيةِ لابتداءِ الغايَةِ أيضاًً، إلاَّ أنَّه جَعَلَ العامِلَ فيها فِعْلاً، كأنَّه قالَ: رَأَيْتُ الهلالَ من دَارِي ظاهِراً من خَلَلِ السحابِ، وَرَدَ بأنَّ الخَبَرَ المحذوفَ الذي يَقُومُ المجرورُ مَقَامَه، إنَّما يَكُونُ بما يُنَاسِبُ معنَاهُ الحَرْفُ، و (مِن) الابتدائِيَّةُ لا يُفْهَمُ منها معنَى الكَوْنِ ولا الظهورِ، فلا يَنْبَغِي أنْ يُحْذَفَ، ومنهم مَن جَعَلَها بَدَلاً من الأُولَى.
ص: وتَنْصِيصُ العُمُومِ.
ش: وهي الدَّاخِلَةُ على نَكِرَه=، لا تَخْتَصُّ بالنَّفْيِ، نحوَ: مَا جَاءَنِي مِن رَجُلٍ، فإنَّه قَبْلَ دُخُولِها تَحْتَمِلُ نَفْيَ الجِنْسِ ونَفْيَ الواحِدِ؛ ولهذا يَصِحُّ أنْ تَقُولَ: بل رَجُلانِ، ويَمْتَنِعُ ذلك بعدَ دُخولِ (مِن)، أمَّا الواقِعَةُ بعدَ الأسماءِ العامَّةِ التي لا تُسْتَعْمَلُ إلاَّ في النَّفْيِ فتُفِيدُ معنَى التَّأْكِِيدِ لا غيرَ، نحو: ما جَاءَنِي مِن أَحَدٍ، فهو كقولِك: ما جَاءَنِي أَحَدٌ سِواهُ، قالَهُ الخَفَافُ والصَّيْمَرِيُّ وابنُ بَابَشَاذٍ وغيرُهم، أمَّا الواقعةُ في الإثباتِ، فلا يَجُوزُ زِيادَتُها خلافاً للكوفيِّينَ: ولا حجه= لهم فيه {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} لجَوازِ إرادَةِ البعْضِ، فإنَّ من الذنوبِ حُقوقاً لعِبادِه، واللهُ لا يَغْفِرُها بل يَسْتَوْهِنُها، وما نُقِلَ أنَّ قولَه: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} إنَّما وَرَدَ في قومِ نُوحٍ، ولو سَلَّمَ أنَّها في هذه الآيةِ الأمَّةُ، فلا بُدَّ أنْ يَغْفِرَ بعضُ الذنوبِ لقومٍ، وجميعُها لآخَرِينَ.
ص: والفَصْلُ.
ش: نحوَ: {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحَ} وتَعَرَّفْ بدُخولِها على ثانِي المُتَضَادَيْنِ.
ص: ومُرادَفَةُ (الباءُ) و (في) و (عندَ) و (على).
ش: فالأوَّلُ: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}. قالَ يُونُسُ: أي بطَرْفٍ خَفِيٍّ، وتُحْتَمَلُ ابتداءُ الغايَةِ.
والثاني: نحوَ: {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} كذا قالُوا، والظاهرُ أنَّها على بابِها، والمعنَى صحيحٌ، والأَحْسَنُ التَّمْثِيلُ بما حَكَاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في (الشاملِ) عن الشَّافِعِيِّ في قَوْلِهِ تعالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} أنَّها بمعنَى (في) بدليلِ قولِه تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.
والثالثُ: نحوَ: {لَنْ تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالِهِمْ وَلاَ أَوْلاَدِهِمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً}، قالَه أَبُو عُبَيْدَةَ.
والرابعُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ}. وقيلَ: على التَّضْمِينِ؛ أي: مَنَعْنَاهُ.
ص: الرابعُ والعشرونَ من شَرْطِيَّةٍ واسْتِفْهَامِيَّةٍ ومَوْصُولَةٍ ونَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ، قالَ أَبُو عَلِيٍّ: ونَكِرَةٌ تَامَّةٌ.
ش: (مَن) بالفَتْحِ تَأْتِي شَرْطِيَّةً، نحوَ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}.
واسْتِفْهَامِيَّةً، نحوَ: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}.
ومَوْصُولَةً، نحوَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}.
ونَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، نحوَ: مَرَرْتُ بمَن مُعْجَبٌ لك، تُرِيدُ بإنسانٍ مُعْجَب=، فوصْفُكَ لـ (مَن) بمُعْجَبٍ، وهو نَكِرَةٌ، دليلٌ على أنَّ (مَن) نَكِرَةٌ، ولا تُسْتَعْمَلُ مَوْصُوفَةٌ إلاَّ في حالِ التَّنْكِيرِ، سواءٌ كانَ المَوضِعُ صالحاً؛ لأنْ تَقَعُ فيه المَعْرِفَةُ أو لم تَكُنْ، خِلافاً للكِسائِيِّ، فإنَّه زَعَمَ أنَّ العَرَبَ لا تَسْتَعْمِلُها نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إلاَّ بِشَرْطِ وُقُوعِها في مَوْضِعٍ لا تَقَعُ فيه إلاَّ النَّكِرَةُ، نحوَ: رُبَّ مَن عَالِمٍ أَكْرَمْتُ، ورُبَّ مَن أَتَانِي أَحْسَنْتُ إليه، وهذا ضعيفٌ، وقد أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
فكَفَى بِنَا فَضْلاً على مَن غيرنا= حُبُّ النبيِّ مُحَمَّدٍ إِيَانَا
بخَفْضِ غيرَ؛ أي: على أُنَاسٍ غَيْرَنَا، وأَثْبَتَ أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيٍّ مَجِيئِهَا نَكِرَةً تَامَّةً، قالَه في قَوْلِهِ: ونِعْمَ مَنْ في سِرٍّ وإعْلانٍ، فزَعَمَ أنَّ الفَاعِلَ مُسْتَتِرٌ، و(مَنْ) تَمْييزُه، وقولُه: هو، مَخْصُوصٌ بالمَدْحِ، وقالَ غيرُه، مَنْ مَوصُولُ فاعلٍ، وعُلِمَ من ذِكْرِ المُصَنِّفِ الزيادَةُ فيما دونَ (مَنْ) أنَّها لا تَجِيءُ زائدَةً، وهو مذهبُ البَصْرِيِّينَ؛ لأنَّ الأسْمَاءَ لا تُرادُ بالقياسِ خلافاً للكِسَائِيِّ.
ص: الخامسُ والعشرونَ: (هَلْ) لطَلَبِ العِلْمِ= التصديقُ الإيجابيُّ لا التصوريُّ ولا للتصديقِ السلبيِّ.
ش: (هَلْ) حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، ولا يُسْتَفْهَمُ بها عن التَّصَوُّرِ، وهو العِلْمُ بالمُفْرَدَاتِ؛ أي: لا يُسْأَلُ بها عن مَاهِيَّةِ الشيءِ، وإنَّما يُسْتَفْهَمُ بها عن التَّصْدِيقِ الإيجَابِيِّ كقولِك: هل قَامَ زَيْدٌ.
ص: السادسُ والعشرونَ: (الواو) لمُطْلَقِ الجَمْعِ، وقيلَ: للتَّرْتِيبِ، وقيلَ: لِلْمَعِيَّةِ.
ش: في الواوِ العَاطِفَةِ مذاهِبَ، أَصَحُّهَا: أنَّها لمُطْلَقِ الجَمْعِ؛ أي: لا تَدُلُّ على تَرْتِيبٍ ولا مَعِيَّةٍ، فإذا قلتَ: قَائمٌ زيدٌ وعَمْرٌو، احْتَمَلَ ثلاثةَ معانٍ، قيامُها في وقتٍ واحدٍ، وكونُ المُتَقَدَّمِ قَامَ أوْلاً، وكونُ المُتَأَخِّرِ قَامَ أوْلاً.
قالَ ابنُ مالِكٍ: لكنْ تَأْخِيرَ العَاطِفَ كثيرٌ وتَقَدَّمَه قليلٌ والمَعِيَّةُ احْتِمَالٌ رَاجِحٌ، وهذا مُخَالِفٌ لكلامِ سِيبَوَيْه فإنَّه قالَ: وكذلك قولُك: مَرَرْتُ برَجُلٍ وحمارٍ، وكأنَّك مَرَرْتَ بأحدِهما، وليسَ في هذا دليلٌ أنَّه بَدَأَ بشيءٍ قبلَ شيءٍ ولا شيءٍ بعدَ شيءٍ. انتهى.
واسْتَدَّلَ ابنُ مالِكٍ بقولِه تعالَى: عَن مُنْكِرِي البَعْثِ {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}. فالموتُ بعدَ الحياةِ معَ أنَّهم قَدَّمُوه لِمَا كانَ الغَرَضُ نَفْيُ الجَمْعِ لا التَّرْتِيبِ. وإنَّما عَبَّرَ المُصَنِّفُ بمُطْلَقِ الجَمْعِ دونَ الجَمْعِ المُطْلَقِ كما عَبَّرَ ابنُ الحَاجِبِ؛ تَنْبِيهاً على صوابِ العِبَارَةِ، فإنَّ الجَمْعَ المُطْلَقُ هو الجَمْعُ المَوْصُوفُ بالإطْلاقِ؛ لأنَّا نَقُولُ بالضَّرُورَةِ بينَ الماهيَّةِ بلا قَيْدٍ، والمَاهِيَّةُ المُقَيَّدَةُ ولو بقَيْدِ= لا، والجَمْعُ المَوْصُوفُ بالإطْلاقِ لا يَتَنَاولُ غيرُ صُورَةٍ وهي قولُنا مَثَلاً: قَامَ زَيدٌ وعَمْرٌ، ولا يَدْخُلُ فيه المُقَيَّدُ بالمَاهِيَّةِ ولا بالتَّقْدِيمِ ولا بالتَّأْخِيرِ لخُروجُهِمِا بالتَّقْييدِ عن الإطْلاقِ، وأمَّا مُطْلَقُ الجَمْعُ فعَامٌّ في؛ أي: جَمْع= كانَ، سواءٌ كانَ مُرَتَّباً أو غيرَ مُرَتَّبٍ، فتَدْخُلُ فيه الصُّوَرُ الثلاثةُ، ونَظِيرُه قولُهم: مُطْلَقُ الماءِ، والماءُ المُطْلَقُ.
والقولُ الثاني: أنَّها تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، ونُقِلَ عن الفَرَّاءِ وثَعْلَبٍ وأَنْكَرَهُ السِّيرَافِيُّ وقالَ: لم أَرَهُ في كتابِ الفَرَّاءِ، وعَزَاهُ المَاوَرْدِيُّ في بابِ الوضوءِ للجُمْهُورِ من أصْحَابِنَا.
والثالثُ: أنَّها للمَعَيِّةِ: ونسبهُ الإمامُ في (البُرْهَانِ) للحَنَفِيَّةِ، وعَلِمَ بذلك أنَّ ما ذَكَرَهُ السِّيرَافِيُّ والفَارِسِيُّ والسُّهَيْلِيُّ من إجماعِ النُّحاةِ بَصْرِيِّهُمْ وكُوفِيِّهِم على أنَّ (الواو) لا تُرَتَّبَ، غيرُ صحيحٍ، وعَزَى ابنُ الخَبَّازِ وغيرُه من النَّحْوِيِّينِ التَّرْتِيبُ للشَّافِعِيِّ، وهو غَلَطٌ وقد اشْتَّدَ نَكِيرَ ابنُ السَّمْعَانِيُّ والأستاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وغيرُهما على مَن نَسَبَ ذلك إلى الشَّافِعِيِّ.
وقالَ ابنُ عُصْفُورٍ في (شَرْحِ الإيضاحِ): الخِلافُ في أنَّ (الواو) للتَّرْتِيبِ، مَحَلَّه إذا كانَ الفِعْلُ يُمْكِنُ صُدُورُه من واحدٍ، فأمَّا نحوَ: اخْتَصَمَ زيدٌ وعمرٌو، فلا خِلافَ أنَّها لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وذَكَرَ في (شرحِ الجُمَلِ) مُحْتَجًّا على القائلِ بالتَّرْتِيبِ، بأنَّ هذه الأفعالَ لا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، فكذا غيرُها.