الحَديثُ الرابِعَ عَشَرَ بَعْدَ الثلَاثِمِائَةٍ
314- عن فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا ألْبتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ - وفِي رِوايَةٍ: طَلَّقَها ثَلاَثًا- فأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطتْهُ، فقالَ : وَاللهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ. فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَتْ ذلكَ لَهُ، فقالَ: ((لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ)) - وفي لَفْظٍ :((وَلاَ سُكْنَى)) - فأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ في بيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثمَّ قالَ: ((تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاها أَصْحَابي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ فإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثَيَابَكِ عِنْدَهُ، فَإِذا حَلَلْتِ فآذِنِينِي)) .قلْتُ : فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبا جَهْمٍ خَطَبَانِي. فقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ , وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ , انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ)). فكرِهْتُه، ثُمَّ قالَ: ((انكِحِي أُسامَةَ بْنَ زَيْدٍ)). فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ بِهِ(136).
_______________________
(136) الغَرِيبُ:
ألَبَتَّةَ : البَتُّ : القَطْعُ. قالَ في ((المِصْباحِ)): ((بَتَّ الرَّجُلُ طلاقَ امْرَأَتِهِ, فَهِيَ مَبْتُوتَةٌ، والأصْلُ مَبْتوتٌ طَلاقُها)). والمُرادُ هُنا أنَّهُ طَلَّقَها طَلاقًا بائِنًا ، لا رَجْعَةَ فِيهِ.
فَسَخِطَتْهُ : السَّخَطُ ضِدُّ الرِّضا، قالَ في ((مُخْتارِ الصِّحاحِ)) : أَسْخَطَهُ : أَغْضَبَهُ، وتَسَخَّطَ عَطاءَهُ: اسْتَقَلَّهُ . فالمُرادُ هُنا أنَّها اسْتَقَلَّت النَّفَقَةَ.
أُمُّ : شَرِيك: بِفَتْحِ الشِّينِ، وكَسْرِ الرَّاءِ، بَعْدَها ياءٌ، ثُمَّ كافٌ : إِحْدَى فُضْلَيَاتِ نِساءِ الصَّحابَةِ رضي اللهُ عنهمْ.
يَغْشَاها أَصْحابي : يُرادُ بِغِشْيانِهِمْ، كَثْرَةُ تَرَدُّدِهِمْ إليها، لِصلَاحِها وفَضْلِها.
فآذِنيني : بِمَدِّ الهَمْزَةِ، أيْ أَعْلِمِيني.
فَلا يَضَعُ عَصاهُ عن عاتِقِهِ: العاتِقُ ما بَيْنَ العُنُقِ والمَنْكِبِ، وهُوَ مكانُ وَضْعِ العَصا.
وهذا التَّعْبيرُ كِنايَةٌ عن شِدَّتِهِ على النِّساءِ، وكَثْرَةِ ضَرْبِهِ لَهُنَّ، ويُفَسِّرُ هذا المَعْنَى رِوَايَتا ((مُسْلِمٍ)),
الأُولَى : ((وأمَّا أبو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ للنِّساءِ )).
والثانِيةُ : ((وأبو جَهْمٍ فيهِ شِدَّةٌ على النِّساءِ)).
و((جَهْمٌ)) مَفْتوحُ الجِيمِ، ساكِنُ الهاءِ.
فَصُعلُوكٌ : بِضَمِّ الصادِ ، التَّصَعْلُكُ، هُو الفَقْرُ، والصُّعْلوكُ هُوَ الفَقيرُ.
انْكِحِي أُسامَةَ: بِكَسْرِ الهَمْزَةِ ، ضَبَطَهُ المُطَرِّزِيُّ.
المَعْنى الإجْمالِيُّ:
بَتَّ أبو عَمْرِو بنُ حَفْصٍ طَلاقَ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنتِ قَيْسٍ.
والمَبْتوتَةُ لَيْسَ لها نَفَقَةٌ على زَوْجِها، ولكِنَّهُ أَرْسَلَ إليها بِشَعيرٍ، فَظَنَّتْ أنَّ نَفَقَتَها واجِبَةٌ عليهِ ما دامَتْ في العِدَّةِ، فاسْتَقلَّت الشَّعيرَ ، وكَرِهَتْهُ، فَأقْسَمَ أنَّهُ لَيْسَ لها عليهِ شَيْءٌ.
فَشَكَتْهُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَأَخْبَرَها أنَّهُ لَيْسَ لها نَفَقَةٌ عَليهِ ، ولا سُكْنَى، وأمَرَها أنْ تَعْتَدَّ في بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ.
ولمَّا ذَكَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أُمَّ شَرِيكٍ يَكْثُرُ على بَيْتِها تَرَدُّدُ الصحابَةِ، أمَرَها أنْ تَعْتَدَّ عِنْدَ ابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ؛ لِكَوْنِهِ رَجُلًا أَعْمَى، فلا يُبْصِرُها إذا وَضَعَتْ ثِيابَها، وأَمَرَها أنْ تُخْبِرَهُ بانْتِهاءِ عِدَّتِها.
ولَعَلَّهُ أرادَها لِأُسامَةَ بنِ زَيْدٍ، فَخَشِيَ أنْ تَعْتَدَّ, فَتَتَزَوَّجَ قبلَ أنْ يَعْلَمَ.
فلمَّا اعْتَدَّتْ خَطَبَها ((مُعَاوِيَةُ)) و((أبو جَهْمٍ)), فاسْتَشَارَتِ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلكَ.
بِما أنَّ النُّصْحَ واجِبٌ - لا سِيَّما للمُسْتَشِيرِ - فإنَّهُ لم يُشِرْ عَليها بِوَاحِدٍ مِنْهُما, ولَمْ يُرِدْهُ لَها.
لِأنَّ أبا جَهْمٍ شَديدٌ على النِّساءِ، وسَيِّئُ الخُلُقِ، ومُعَاوِيَةَ فَقيرٌ لَيسَ عِندَهُ مالٌ، وأَمَرَها بِنِكاحِ أُسامَةَ، فَكَرِهَتْهُ لِكَوْنِهِ مَوْلًى.
ولكِنَّها امْتَثَلَتْ أَمْرَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقَبِلَتْهُ، فاغْتَبَطَتْ بهِ، وجَعَلَ اللهُ فيهِ خَيرًا كَثيرًا.
ما يُؤخَذُ مِن الحَديثِ:
1- قولُهُ : ((طَلَّقَها ثَلاثًا )) . لَيسَ مَعْنَاهُ تَكَلَّمْ بِهِنَّ دُفْعَةً واحِدَةً, فَهذا مُحَرَّمٌ, غَضِبَ منهُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم, وقالَ : ((أيُلْعَبُ بِكتابِ اللهِ ، وأنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟)) . ولكِنَّهُ - كما قالَ النَّوَوِيُّ - : ((كانَ قَدْ طَلَّقَها قَبْلَ هذا اثْنَتَيْنِ )).
وكَما وَرَدَ في بَعْضِ ألْفاظِ هذا الحَديثِ في ((مُسْلِمٍ)): [أنَّهُ طَلَّقَها طَلْقَةً كانَتْ بَقِيَتْ لَها مِن طَلاقِها].
2- أنَّ المُطَلَّقَةَ طَلاقًا بَاتًّا، لَيسَ لها نَفَقَةٌ ولا سُكْنَى في عِدَّتِها، ما لمْ تَكُنْ حامِلًا.
3- جَوازُ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ المُعْتَدَّةِ البَائِنِ، حَيْثُ قالَ : [فإذا حَلَلْتِ فآذِنِيني].
4- ذِكْرُ الغائِبِ بِما يَكْرَهُ على وَجْهِ النُّصْحِ، ولا يَكونُ ـ حِينَئِذٍ ـ غِيبَةً مُحَرَّمَةً.
5- جَوازُ نِكاحِ غَيْرِ المُكافِئِ في النَّسَبِ، إذا رَضِيَتْ بهِ الزَّوْجَةُ والأَوْلِياءُ ، فـ((أُسامَةُ)) قدْ مَسَّهُ الرِّقُّ، وفاطِمَةُ قُرَشِيَّةٌ.
6- وُجوبُ النُّصْحِ لِكُلِّ أَحَدٍ, لَا سِيَّما المُسْتَشِيرُ،
فمَن اسْتَشارَكَ فقَدْ ائْتَمَنَكَ، وأداءُ الأمَانَةِ واجِبٌ.
7- تَسَتُّرُ المَرْأَةِ عن الرِّجالِ، وابْتِعادُها عنْ أمْكِنَتِهِمْ ومُجْتَمَعاتِهِمْ.
8- لَيْسَ في أمْرِها بالاعْتِدادِ في بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ دَلِيلٌ على جَوازِ نَظَرِ المَرْأَةِ إلى الرَّجُلِ، فقدْ أَمَرَها بالابْتِعادِ عن الرجَالِ عِنْدَ هذا الأعْمَى ، مع أمْرِها بِغَضِّ بَصَرِها عَنْهُ ، كما قالَ اللهُ تعالى : (وَقُلْ لِّلْمُؤْمِنَات يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ).
وكَما أَمَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّ سَلَمَةَ ومَيْمُونَةَ بالاحْتِجابِ حِينَ دَخَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فقالَتا : إنَّهُ أعْمَى .
فقالَ :((أَفَعَمْياوانِ أَنْتُما ، فَلَيْسَ تُبْصِرانِهِ؟)) حَديثٌ حَسَنٌ في السُّنَنِ. قالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ الَّذي عَليهِ الجُمْهُورُ ، وأكْثَرُ أصْحابِنا أنَّهُ يَحْرُمُ على المَرْأَةِ النَّظَرُ إلى الأجْنَبِيِّ، كَما يَحْرُمُ نَظَرُهُ إلَيْها. ثُمَّ اسْتَدَلَّ بالآيَةِ، وقالَ: إنَّ الفِتْنَةَ مُشْتَرَكَةٌ، كَما يُخافُ الافْتِتانُ بِها، يُخافُ الافْتِتانُ بهِ, ويَدُلُّ عليه مِن السُّنَّةِ حَديثُ أُمِّ سَلَمَةَ.
9- جَوازُ الخِطْبَةِ على خِطْبَةِ الغَيْرِ إذا لم يُعْلَمْ بالخاطِبِ، وعَلِمَ أنَّهُ لم يُجَبْ.
10- أنَّ امْتِثالَ أَمْرِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيْرٌ وبَرَكَةٌ، سَوَاءٌ أَحَبَّهُ الإنْسانُ أوْ لَا.
اخْتِلافُ العُلَماءِ:
اخْتَلَفَ العُلَماءُ هَلْ للبَائِنِ نَفَقَةٌ وسُكْنَى زَمَنَ العِدَّةِ أو لا؟
فَذَهَبَ الإمامُ أَحْمَدُ إلى أنَّهُ لَيْسَ لَها نَفَقَةٌ، ولَا سُكْنَى، وهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وابْنِ عَبَّاسٍ، وجَابِرٍ.
وبِهِ قالَ عَطَاءٌ، وطاوُسٌ، والحَسَنُ، وعِكْرِمَةُ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، ودَاودُ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَديثِ البابِ.
وَذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ إلى أنَّ لَها النَّفَقَةَ والسُّكْنَى، وهُوَ مَرْوِيٌّ عن عُمَرَ، وابنِ مَسْعودٍ، وقالَ بهِ ابنُ أبي لَيْلَى، وسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، مُسْتَدِلِّينَ بما رُوِيَ عن عُمَرَ :((لا نَدَعُ كِتابَ رَبِّنا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ )).
وذَهَبَ مالِكٌ، والشافِعِيُّ، إلى أنَّ لَها السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ، وهُوَ مَذْهَبُ عائِشَةَ، وفُقَهاءِ المَدِينَةِ السَّبْعَةِ، ورِوايَةٌ عن أَحْمَدَ، مُسْتَدِلِّينَ بقولِهِ تعالى :(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتم مِِن وُجْدِكُمْ ).
والصَّحيحُ هُوَ القولُ الأَوَّلُ؛ لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ، وعَدَمِ المَعارِضِ.
فأمَّا القَولُ الثانِي فَضَعِيفٌ؛ لِأنَّ هذه الكَلِمَةَ الَّتي اسْتَدَلُّوا بِها، لم تَثْبُتْ عن عُمَرَ، فَقَدْ سُئِلَ الإمامُ أَحْمَدُ: أَيَصِحُّ هذا عن عُمَرَ؟ قالَ : لا.
وعلى فَرْضِ صِحَّتِها، فَصَرِيحُ كَلامِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُقَدَّمٌ على اجْتِهادِ كُلِّ أَحَدٍ.
وأمَّا أَصْحابُ القَولِ الثَّالِثِ فَلا يَسْتَقِيمُ لَهُم الاسْتِدْلالُ بالآيَةِ؛ لِأنَّها جَاءتْ في حُكْمِ الرَّجْعِيَّةِ، لا في حُكْمِ البائِنِ.
ويُوَضِّحُ ذلكَ قولُهُ تعالى :(لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).
وإحْداثُ الأمْرِمَعْناهُ تغيُّرُهُ نَحْوَ الزَّوْجَةِ وَرَغْبَتُهُ فيها في زَمَنِ العِدَّةِ، وهُوَ مُسْتَحيلٌ في البائِنِ.