القارئ:
وعن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) رواه البخاري ومسلم.
الشيخ:
هذا الحديث هو الحديث التاسع من هذه الأربعين النووية وهو حديث أبي هريرة عبدالرحمن بن صخر الدوسي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) قال عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) فما نهى عنه فإنه يُجتنب وهذا عام في كلِّ منهيٍ عنه.
والمنهيُّ عنه قسمان:
- منهيٌ عنه للتحريم.
- ومنهيٌ عنه للأفضلية يعني: يكون النهي فيه للكراهة، وما كان للتحريم يجب فيه الاجتناب وما كان للكراهة يستحب فيه الاجتناب، إذاً قوله عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) هذا كقول الله جل وعلا: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فالذي نهى عنه -عليه الصلاة والسلام- نحنُ مَأمورون بالانتهاء عنه:
- فإن كان محرماً: فالأمر بالانتهاء عنه أمر إيجاب.
- وإن كان مكروهاً: فالأمر بالانتهاء عنه أمر استحباب.
إذا تقررّ هذا، فالمنهي عنه خلاف الأصل؛ لأنَّ الأصل في الشريعة ليس هو النهي وإنما الأصل فيها الأمر، والمنهيات بالنسبة للأوامر قليلة وما نُهي عنه لأجل أنه خلاف الأصل لم يجعل الله جلّ وعلا النفوس محتاجةً إليه في حياتها بل هي مستغنيةٌ عما نُهي عنه.
فإذا نظرت في باب الأطعمة:
- فإن ما أهل لغير الله به ليس محتاجاً إليه.
- الميتة ليس محتاجاً إليها.
- والأشربة المسكرة ليس المرءُ محتاجاً إليها.
- والألبسة المحرمة ليس المرءُ محتاجاً إليها.
وإنما في الحلال كثير كثير غنية عن هذه المحرمات، فتكون هذه المحرمات في كل باب كالاستثناء من ذلك الباب، فالمحرمات من الأشربة استثناء مما أَبيح وهو الكثرة في باب الأشربة، والمحرمات من الأطعمة استثناء مما أبيحَ وهو الكثرة في باب الأطعمة، وهكذا في باب الألبسة وهكذا في البيوعات والعقود وأشباه ذلك.
وهذا من لطفِ الله جلّ وعلا بالعباد؛ فإنه جلّ وعلا ما جعل شيئاً منهيّاً عنه فيه إقامة الحياة، بل كل المنهيات عنها إنما ابتلى الله جل وعلا العباد بها، وما أمر به فإنه خير سواءٌ:
- أفعله المرء رغبة في الأجر بإخلاص؟
- أو فعله لغير مرضاة الله؟
هذا التفصيل يذكره العلماء عند قول الله جل وعلا في سورة النساء: فقال: {لاخير في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس} هذه المأمورات فيها خيرٌ ولو فعلها بغير نية صالحة لأنها متعدية النفع، متعديه الأثر.
- وإذا فعلها بنية صالحه فإنه يُؤجر مع بقاء الخير.
- وإن فعلها بغير نية فإنه لا يُؤْجر مع بقاء خيرية هذه الأفعال.
ولهذا وصفها بالخيرية وقال بعد ذاك: {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} فمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس بلا نية فقد أتى خيراً ولو كانت نيته غير صالحة؛ لأنّ هذه أفعال متعدية، وإذا أتاها بنية صالحة فإنه يؤجر عليها.
بخلاف المحرمات فما حُرِّم ونُهِي عنه فإنه يجب اجتنابه فلا خير فيه البتة يعني من حيث تعدّي الخير أو تعدي المصلحة وقد يكون فيه منفعة دنيوية لكنها مقابلة بالمضرة كما قال جل وعلا في الخمر والميسر: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ومنافعُ للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما} ففيها نفعٌ باعتبار المعين، لكن باعتبار الضرر فيها إثم كبير، وهذا بخلاف الأوامر التي فيها خير.
إذا تقرّر هذا فنقول: قوله: -عليه الصلاة والسلام-: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) هذا عامٌ في كل منهي وجواب الشرط (فاجتنبوه).
والمنهي عنه:
- إما أن يكون محرماً.
- وإما أن يكون مكروهاً، كما ذكرت لك.
والأصل في المنهيات يعني: فيما نهى عنه عليه الصلاة والسلام إذا كان في أمور العبادات أنه للتحريم وإذا كان في أمور الآداب أنه للكراهة، يعني إذا جاء النهي في أمرٍ من العبادات فهو للتحريم لأن الأصل في العبادات التوقيف وإذا جاء النهي في أدب من الآداب فالأصل فيه أن يكون للكراهة، لهذا أجمع العلماء على أنَّ النهي الوارد في بعض الآداب والأمر الوارد في بعض الآداب أنه:
- للاستحباب في الأوامر.
- وللكراهة في النواهي.
ومنه أخذ طائفة من أهل العلم أن النهي في الآداب الأصل فيه للكراهة إلا إذا جاءت قرينة تدل على أن النهي للتحريم مثلاً: الحديث الذي رواه البخاري: ((وألا أكف ثوباً ولا شعراً في الصلاة)) هل هذا متصل بالعبادة؟ يعني هل هو عبادة أو هو أدبٌ لشرط من شرائط العبادة؛ وهو اللباس؟
هو أدبٌ، ألا يكف ثوباً في اللباس ألا يكف شعراً هذا أدب، ولهذا ذهب عامة أهل العلم إلا عدداً قليلاً إلى أن النهي هنا للكراهة، فلو صلى وهو كافٌ ثوبه أو وهو عاقصٌ شعره فالصلاة صحيحة ولا إثم عليه؛ ولو كان النهي للتحريم لصارت الصلاة فاسدة كنظائرها.
ومثل الأوامر: ((سمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك)) كل بيمينك عامّة أهل العلم على أن الأكل باليمين مستحب والأكل بالشمال مكروه وهناك من قال بالتحريم وفي كل المسائل هذه خلاف لتعارض الأصول فيما بين أهل العلم.
لكن الجمهور هنا قالوا هذا أدب (كل بيمينك) فلما كان أدباً صار الأصل فيه أنه للاستحباب.
(وكل مما يليك) الأصل فيه أنه للاستحباب ولهذا ترى في كثيرٍ من كتب أهل العلم يقول: النهي هذا للكراهة لأنه من الآداب، والأمر للاستحباب لأنه من الآداب فيجعلون من الصوارف كون الشي من الآداب وهذا مهم.
قال عليه الصلاة والسلام هنا ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)) ولم يُقيدهُ بالاستطاعة بل أوجب الاجتناب بلا قيد كما قلنا لأنّ الانتهاء عن المنهيات ليس فيه تحميل فوق الطاقة بل المنهيات لا حاجة للعبد بها لا تقوم حياته بها بل إذا استغنى عنها تقوم حياته فليس محتاجاً ولا مضطراً إليها، أمّا إذا احتاج إلى بعض المنهيات فهنا الحاجة يكون لها ترخيص بحسبها.
قال ((وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ لأن الأوامر كثيرة، ليست مثل المنهيات، ومنها ما قد لا يستطيعه العبد. ولهذا جاء في القواعد بناءً على هذا الحديث (لا واجب مع العجز) يعني: أنَّ المرءَ إذا عجزَ عن الشيء فلا يجب عليه، كما جاء في حديث عمران ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب)) فهنا يأتي ما استطاع.
- وقد قال جل وعلا: {لا يكلف الله نفساً إلا وُسْعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}.
- وقال جلّ وعلا: {فاتقوا الله ما استطعتم}.
- وقال جلّ وعلا: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} إلى آخر الأدلة على تعليق الوجوب بالقدرة والاستطاعه.
إذاً دلنا قوله عليه الصلاة والسلام: ((وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) أنّ الأوامر كثيرة وأنه لا واجب إلا مع القدرة، وإذا كنت عاجزاً وغير مستطيع فلا يجب عليك ذلك بنص النبي -عليه الصلاة والسلام-.
هنا اختلف العلماء في مسألة يطول الكلام عليها، هل منزلة النهي أعظم أو منزلة الأمر؟
يعني هل الانتهاء عن المنهيات أفضل أم فعل الأوامر والإتيان بها أفضل؟
تنازع العلماء في هذا على قولين:
القول الأول: أنّ الانتهاء عن المنهيات أفضل من فعل الأوامر.
واستدلوا عليه بأدلة:
- منها: هذا الحديث لأنه أمر بالانتهاء مطلقاً.
- وقالوا: الانتهاء فيه كَلَفَة لأنها أشياء تتعلق بشهوة المرء وحفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات فالانتهاء عن المنهيات أفضل.
وقال جماعة: بل الأمر أفضل يعني امتثال الأمر أفضل وأعظم منزلة.
واستدلوا عليه بإدلة:
- منها: أنّ آدم -عليه السلام- أُمرت الملائكة بالسجود له فلم يسجد إبليس يعني لم يمتثل الأمر فخسر الدنيا والآخرة فصار ملعوناً إلى يوم يبعثون ثم هو في النار أبد الآبدين، وهذا لعظم الأمر، قالوا: وآدم أكل من الشجرة التي نُهي عنها فَغُفر له بذلك؛ فهذا أمر بالأمر فلم يمتثل فخسِر، وذاك فعل المنهى عنه ثم أعقبته توبة.
وهذا القول الثاني: هو الأرجح والأظهر، لأن فعل الأوامر أعظمُ درجة وأمّا المنهيات ارتكابها فإنه على رجاء الغفران، أما التفريط في الأوامر يعني الواجبات الشرعية الفرائض والأركان ونحو ذلك فهذا أعظم مما نهى الله جل وعلا عنه مع ارتباطٍ عظيم بين هذا وهذا.
وهذا يُفيدنا في تعظيم مسألة الأمر، وأن الأمر في تعليق العباد به أعظم من تعليقهم بترك المنهي، خلاف ما عليه كثيرون مثلاً من الدعاة وغيرهم والوعاظ في أنهم يعظمون جانب المنهي عنه في نفوس الناس وينهونهم عنه ويُفصِّلون في ذلك ولا يفصلون لهم في المأمورات ولا يحضونهم عليها، وهذا ليس بجيد، بل أمرُ الناس بما أمر الله جلّ وعلا به وحضهم على ذلك هذا أولى يعني أرفع درجة مع وجوب كلِّ من الأمرين في البيان على الكفاية.
قال: ((فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) هذا لأن السؤال عن أشياء لم تُحَرّم لزيادة معرفةٍ أو لتنطعٍ أو ما أشبه ذلك هذا محرّم.
فما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- نأتي منه ما استطعنا وفي وقت التشريع في وقت نزول الوحي نُهي الصحابة أن يسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مسائل لأنّه رُبما حُرِّم عليهم بسبب المسألة.
قد جاء في الحديث: ((إنَّ الله فرض فرائض؛ فلا تضيعوها، وحدَّ حدوداً؛ فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان؛ فلا تسألوا عنها)).
وجاء أيضاً في (صحيح مسلم) أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرْماً رجُل سأل عن شيء لم يُحرم فحرم لأجل مسألته)) فكثرة المسائل لا تجوز، قد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام- وكانت مسائلهم قليلة، كلها في القرآن وكانوا يفرحون بالرجل يأتي من البادية ليسأل وليستفيدوا، وهذا من الأدب المهم الذي يُلتزم به، فإن كثرة المسائل ليست دالة على دين، ولا على ورع، ولا على طلب علم.
وإنما ينبغي على طالب الحق ، وصاحب الدين والخير، أن يُقلّ المسائل ما استطاع، وقد قال جلّ وعلا: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تَسؤْكُمْ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تُبد لكم عفا الله عنها}.
فالسؤال عن أشياء لم يأت فيها تنزيل هذا ليس من فعل أهل الاتّباع بل يُسألُ عما جاء فيه التنزيل، لأن الله جل وعلا في هذه الآية قال: {لاتسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تُبد لكم} فدّل على أنّ السؤال إذا كان متعلقاً بفهم القرآن ويتبعه فهم السنة فإن هذا لا بأسَ به.
أما أن تكثر المسائل في أمورٍ ليس ورائها طائل، فهذا مما ينبغي تركه واجتنابه، وقد قال هنا عليه الصلاة والسلام: ((فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) وأنت تلحظ هذا، الذين يُكثرون السؤال يكثر عندهم الخلاف ولو أخذوا بما عليه العمل وما تعلموه وعملوا به وازدادوا علماً بفقه الكتاب والسنة لحَصَّلوا خيراً عظيماً.
كثرة الأسئلة تؤدي إلى كثرة الخلاف، فلهذا ما يُسكت عنه ينبغي أن يظل مسكوتا عنه وألا يحرّك إلا فيما كان فيه نص أو تتعلق به مصلحة عظيمة للمسلمين فيُسكت لا يحرك عن شيء لأنه رُبمَّا لو حُرك بالسؤال لاختلف الناس ووقعت مصيبة الاختلاف والافتراق. وهذا ظاهر في بعض الأحوال والوقائع في التاريخ القديم والحديث، نقف عند هذا وأسال الله الكريم لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح نعوذ بالله أن نَزِلَّ أونُزَل أونَضِل أو نُضَل أو نَجْهل أو يُجْهل علينا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.