ثم ختم شيخُ الإسلامِ – رحمهُ اللَّهُ – هذا الكتابَ المبارَكَ بتقسيمِ ابنِ عباسٍ للتفسيرِ، والأثرُ – وإن كان فيه ضعفٌ – فإنَّ معناه صحيحٌ، وهذا التقسيمُ الواردُ فيه قد اعتمدَه بعضُ من جاءَ مِن المفسِّرين بعدَ ابنِ عباسٍ، كالماورديِّ مثلًا فقد شرَح هذا الحديثَ في مقدمةِ النُّكَتِ والعيونِ، وكذلك شيخِ الإسلامِ , ذَكَرَ هذا الأثرَ عن ابنِ عباسٍ على سبيلِ الاستشهادِ في أكثرَ مِن موطِنٍ.
وقد قسَّمَ ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما التفسيرَ إلى أربعةِ أوجُهٍ:
1- تفسيرٌ تعرِفُه العربُ من كلامِها، وهو على قسمَين:
أ) كلامٌ ظاهرٌ لا يَخفَى على أحدٍ منهم، كالشمسِ والقمرِ والنجومِ والأرضِ والسماءِ ونحوِ ذلك.
ب) كلامٌ قد يَخفَى على بعضِهم كما حَصلَ لأبي بكرٍ وعمرَ، فإذا جَهِلَ بعضُهم شيئًا من هذه المعاني فإنه يدخُلُ فيما تعلَمُه العلماءُ (المتشابِهِ النِّسبيِّ)، ومما تعرِفُه العربُ من كلامِها ما يتعلَّقُ بأساليبِ الخطابِ؛ لأن مرجِعَها إلى لغةِ العربِ.
2- تفسيرٌ لا يُعذرُ أحدٌ بجهالَتِه، وهو ما تقومُ به الدِّيانةُ، فهذا لا يَجوزُ ألا يَعرِفَه أحدٌ من المسلمين، وذلك مثلُ معرفةِ معنى: {فاعْلَم أنه لا إلهَ إلا اللَّهُ} , فمَن لا يَعرفُ معنى هذا لم يكنْ من المُسلِمين.
3- تفسيرٌ يعلَمُه العلماءُ، وهو يدخُلُ فيما يُسَمَّى المتشابِهَ النسبيَّ، فكُلُّ ما خَفِيَ على أحدٍ فإنَّ العلماءَ يعرِفونه ويُبيِّـنُونه لمَن خَفِيَ عليهم، سواءٌ كان هذا المتشابِهُ النسبيُّ من جهةِ اللغةِ أم من جهةِ الشريعةِ؛ لأنه لا يُوجدُ في كتابِ اللَّهِ ما لا يُعلمُ معناه.
4- تفسيرٌ لا يَعلَمُه إلا اللَّهُ، وهو المتشابِهُ الكُلِّيُّ، ويدخُلُ فيه ما يتعلَّقُ بالمُغَيَّبَاتِ وحقائِقِها وكيفياتِها، وذلك مِثلُ الدابَّةِ التي تَخرُجُ في آخِرِ الزمانِ؛ {وإذا وَقعَ عليهم القولُ أخْرَجْنا لهم دابَّةً من الأرضِ تُكلِّمُهم} فهذه الدابَّةُ ما لونُها؟ وكم طولُها؟ ومتى تَخرجُ؟ فكلُّ هذا مما لا يَعلمُه إلا اللَّهُ، ومَن ادَّعى عِلمَ مثلِ هذه الأمورِ فقد كذَبَ.
هذا ما يتعلَّقُ بهذه المقدِّمةِ المباركةِ، وقد اسْتُعْجِلَ في نهايَتِها لضيقِ الوقتِ، ولكنْ لعلَّ اللَّهَ يمُنُّ بشرحٍ آخرَ يكونُ أبسطَ من هذا الشرحِ, وأن يَنْفَعَنِي وإياكم بما سَمِعْنا.
والآن نأتي إلى الأمثلةِ، وسيكونُ المنهجُ فيها أن يُبَيَّنَ سببُ ونوعُ الاختلافِ، وإلى أيِّ شيءٍ يَرجعُ؟ إلى تنوُّعٍ أو إلى تضادٍّ؟ وإلى معنًى واحدٍ أو إلى أكثرَ مِن معنًى؟ ثم نَجتهدَ معًا في معرفةِ القاعدةِ التي يُمكنُ أن نرجِّحَ بها.
س: هذا يسألُ عن أفضلِ كتابٍ جَمعَ قواعِدَ التفسيرِ؟
ج: عندَنا كتابان في قواعدِ التفسيرِ، وكلُّ كتابٍ به اتجاهُه العلميُّ، فكتابُ الشيخِ خالدٍ السبت (قواعدُ التفسيرِ) هو في القواعدِ العامَّةِ في التفسيرِ.
والكتابُ الآخَرُ (قواعدُ الترجيحِ بينَ المفسِّرين) وهو فيما سنناقِشُةُ اليومَ , وهو القواعدُ المتعلِّقةُ بأقوالِ الترجيحِ بينَ المفسِّرين، والكتابُ الأخيرُ للشيخِ حُسَيْنٍ الحربيِّ.
س: هذا يسألُ عن المنهجيةِ التي يمكنُ أن يَسيرَ عليها طالبُ العلمِ في التفسيرِ، وهل يَقرأُ الطالبُ في تفسيرٍ واحدٍ حتى يُنهِيَه أو يَقرأُ جملةً من التفاسيرِ؟
ج: يقرأُ تفسيرًا واحدًا حتى يُنهِيَه، وهذا أفضلُ وأكثرُ فائدةً، والتفاسيرُ تختلِفُ، وقد طرَحْتُ هذا الموضوعَ في محاضرةٍ، لعلَّها إن شاءَ اللَّهُ تُطبَعُ وتُنشَرُ قريبًا.
(قولُه تعالى: {والشُّعراءُ يتَّبِعُهم الغاوونَ}..)
أولًا: ما هو سببُ هذا الاختلافِ؟
سببُ الاختلافِ هو أنه وصفٌ حُذفَ موصوفُه، وهو يَرجعُ إلى التواطؤِ.
ثانيًا: ما نوعُ الاختلافِ؟
اختلافُ تنوُّعٍ؛ لأنه ليس بينَ هذه الأقوالِ تضادٌّ.
ثالثًا: هل يَرجعُ إلى قولٍ واحدٍ أو إلى أكثرَ مِن قولٍ؟
هو يَرجعُ إلى أكثرَ من قولٍ، ومِن ثَمَّ يَرجعُ إلى أكثرَ من ذاتٍ.
رابعًا: هذه العباراتُ هل يمكنُ أن يدخُلَ بعضُها في بعضٍ؟
نعم، هذه العباراتُ بينَها تداخُلٌ، وأعمُّ عبارةٍ هي السفهاءُ؛ لأنَّ الشيطانَ سَفيهٌ، والمشركَ سفيهٌ، والعاصيَ من المسلمين الذي يتَّبِعُ الشِّعرَ سفيهٌ.
الأظهرُ من هذه المعاني أنَّ المرادَ بها السفهاءُ؛ لأنه أعمُّ الأقوالِ، فهذا مُرجَّحٌ.
(قولُه تعالى: {كذلك نَسْلُكُه في قُلوبِ المجرِمينَ}...)
- سببُ الاختلافِ هو مرجِعُ اسمِ الإشارةِ "ذلك".
- ونوعُ الاختلافِ اختلافُ تنوُّعٍ من قبيلِ المتواطئِ.
- وهو يَرجعُ إلى أكثرَ من قولٍ، وكلُّ هذه الأقوالِ محتمَلةٌ.
- وأولى هذه الأقوالِ هو القولُ بأنه الاستهزاءُ؛ لدَلالةِ السياقِ؛ لأنه وَردَ قبلَه قولُه تعالى: {إلا كانوا به يستهزِئونَ، كذلكَ نَسلُكُه في قلوبِ المجرِمينَ}، مع أنَّ الاستهزاءَ والشِّركَ والتكذيبَ هذه الثلاثةَ بينَها تلازُمٌ؛ لأنَّ الاستهزاءَ مظهرٌ من مظاهرِ التكذيبِ، والشِّركَ ناتجٌ عن التكذيبِ.
(قولُه تعالى: {وجَعَلْنا لكم فيها معايِشَ} ...)
- سببُ الاختلافِ هو مفسَّرُ الضميرِ في قولِه (فيها).
- نوعُ الاختلافِ: اختلافُ تنوُّعٍ، من قبيلِ المتواطئِ.
- وهو يَرجعُ إلى أكثرَ من معنَى، وهذه المعاني محتمَلَةٌ.
- والأَوْلَى أن يكونَ الضميرُ عائدًا إلى الأرضِ المذكورةِ في قولِه: {والأرضَ مدَدْناها وألْقَيْنا فيها رواسيَ وأنبتْنا فيها من كلِّ شيءٍ موزونٍ)؛ لأنَّ الضمائرَ في هذه الآيةِ كلَّها تعودُ إلى (الأرضِ), فإذا لم يكن الضميرُ في (فيها) عائدًا إلى الأرضِ كان ذلك مخالِفًا لقاعدةِ (تناسُبِ الضمائرِ).
وربما قيل: إنَّ الأولى عَوْدُه على المُنبَتِ في الأرضِ؛ لأنَّ قولَه (وأنبتنا) هو آخرُ مذكورٍ، والقاعدةُ أن الضميرَ يعودُ إلى أقربِ مذكورٍ.
فهذا المثالُ تنازَعَتْه قاعدتان هما: (تناسُبُ الضمائرِ) و (عودةُ الضميرِ إلى أقربِ مذكورٍ)، وتناسُبُ الضمائرِ أولى من عودِ الضميرِ إلى أقربِ مذكورٍ.
(وقولُه تعالى: {ومَنْ لستم له برازِقِينَ}...)
- سببُ الاختلافِ: وجودُ لفظٍ عامٍّ تُذكرُ له أمثلةٌ، أو وصفٍ لم يُحدَّدْ موصوفُه.
- نوعُ الاختلافِ: اختلافُ تنوُّعٍ.
- وكلُّ الأقوالِ المذكورةِ صحيحةٌ وتدخُلُ في عمومِ الآيةِ، ولا نحتاجُ إلى الترجيحِ بينَها؛ لأنَّ اللفظَ هنا عامٌّ فيبقى على عمومِه، وهذه طريقةُ شيخِ المفسِّرين ابنِ جريرٍ الطبريِّ في مثلِ هذا النوعِ من الاختلافِ.
(قولُه تعالى: {وما أنتم له بخَازِنِينَ}...)
هذان التفسيران ليس بينَهما اختلافٌ، وإنما المرادُ اختلافُ عبارةٍ.
والأولى أن يقالَ: (بحافِظين)؛ لأنَّ خَزَنَ في اللغةِ بمعنى حَفِظَ. وتفسيرُ سفيانَ (بمانِعين) هو من بابِ التفسيرِ باللازمِ؛ لأنه لو كانت خزائنُ الماءِ بأيديكم لمَنَعْتُمُوهُ، وما دُمتمْ لستم الحافِظينَ له فلا تستطيعون مَنعَه. فهذا التفسيرُ يدخلُ فيما ذكرَه شيخُ الإسلامِ مِن أن َّ السَّلفَ قد يفسِّرون الشيءَ بلازمِه أو نظيرِه أو بمقصودِه.
(قولُه تعالى: {ولقد عَلِمْنَا المستقدِمين منكم ولقد عَلِمْنا المستأخِرين}...)
سببُ الاختلافِ: هو حذفُ الموصوفِ الذي ذُكِرَ وصفُه.
نوعُ الاختلافِ: اختلافُ تنوُّعٍ؛ لأنه ليسَ بينَ الأقوالِ تضادٌّ.
وهذه الأقوالُ تَرجعُ إلى أكثرَ من معنًى، ومِن ثَمَّ تكونُ راجعةً إلى أكثرَ من ذاتٍ.
وكلُّ هذه الأقوالِ يمكنُ أن تدخُلَ في دلالةِ الآيةِ، لكن الأولى بالترجيحِ هو القولُ الثاني؛ لدلالةِ السياقِ عليه، فالآياتُ التي قَبلَ هذا كانت خطابًا للكفارِ {رُبَما يودُّ الذين كفروا لو كانوا مسلِمِين} إلى أن قال: {وإنَّا لنَحنُ نُحْيِي ونُميتُ ونحنُ الوارِثون، ولقد عَلِمنَا المستقدِمين منكم ولقد علمنا المستأخِرينَ} فالضميرُ في قولِه (منكم) يعودُ على (الذين كفروا) الذين بدأتِ السورةُ بخطابِهم، ومِن ثَمَّ فإنَّ أنسبَ هذه الأقوالِ لخطابِ الكفارِ هو القولُ الثاني , وهو أنَّ المستقدِمين مَن ماتَ , والمستأخِرين مَن هو حيٌّ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ من طريقِ العَوْفيِّ، وقولُ مجاهدٍ وعطاءٍ والضحَّاكِ ومحمدٍ القرطبيِّ.
أما الأقوالُ الأخرى فلا مناسبةَ بينَها وبين السياقِ، وإن كان كلٌّ منها قد يدخلُ تحتَ عمومِ المستقدِمين والمستأخِرين من جهةِ اللفظِ.
(قولُه تعالى: {وَفَدَيْناه بِذِبْحٍ عظيمٍ}...)
سببُ الاختلافِ: هو مفسَّرُ الضميرِ في قولِه (فديناه).
نوعُ الاختلافِ: اختلافُ تضادٍّ؛ لأنه لا يمكنُ الجمعُ بينَ القولَين، فالذبيحُ إما أن يكونَ إسماعيلَ، وإما أن يكونَ إسحاقَ.
إذا أرَدْتَ الترجيحَ بينَ هذين القولَين وجدتَ أن سياقَ الآياتِ يدلُّ على أنَّ الذبيحَ إسماعيلُ؛ لأنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قال: {فَبشَّرْناه بغلامٍ حليمٍ، فلمَّا بَلغَ معه السَّعيَ قال يا بُنيَّ إني أرى في المنامِ أنِّي أذبَحُكَ فانظرْ ماذا تَرى، قال يا أبتِ افعلْ ما تُؤمرُ ستجدنُي إن شاءَ اللَّهُ من الصابِرين} ثم قال بعدَ ذلك: {وبشَّرْنَاه بإسحاقَ نبيًّا من الصالِحين} فعُلمَ قطعًا أن التبشيرَ الثانيَ غيرُ التبشيرِ الأولِ؛ لأنه عُطِفَ عليه.
وإن كان ابنُ جريرٍ رحمهُ اللَّهُ تعالى يرى أنَّ الغلامَ في البِشارَتَين واحدٌ، ولكنَّ البشرى الأولى بكونِه غلامًا حليمًا، والبُشرى الثانيةَ بكونِه نبيًّا من الصالِحِين , ولهذا كان يُرجِّحُ أنَّ الذبيحَ إسحاقُ.
ولكنّ الصحيحَ أن الغلامَ الحليمَ هو إسماعيلُ , وأنَّ التبشيرَ بإسحاقَ جاء بعدَ ذلك، ويدلُّ لذلك أدلَّةٌ أخرى ليس هذا مَقامَ ذِكرِها، ومَن أراد التفصيلَ يمكنُ الرجوعُ مثلًا إلى كتابِ (القولُ الصحيحُ في تعيينِ الذبيحِ) للمعلِّمِ عبدِ الحميدِ الفراهيِّ، فهو من الكُتبِ الجيدةِ في هذا البابِ.
(قولُه تعالى: {وشَهِدَ شاهدٌ من بني إسرائيلَ على مِثلِه}..)
سببُ الاختلافِ: هو ذِكرُ وصفٍ حُذِفَ موصوفُه، وهو الشاهدُ من بني إسرائيلَ.
وهو اختلافُ تنوُّعٍ؛ لأنه يُمكنُ الجمعُ بينَ القولَين معًا، فيكونُ المعنى: شَهِدَ موسى عليه السلامُ وشهِدَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلاَمٍ.
إذا أَرَدْنا الترجيحَ بينَ هذين القولَين وجدْنا أن سورةَ الأحقافِ التي منها هذه الآيةُ نزلتْ بمكةَ، وعبدَ اللَّهِ بنَ سَلاَمٍ كان بالمدينةِ؛ ولهذا قال مسروقٌ: ما شأنُ عبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَمٍ وهذه الآيةِ؟ إنما نزلتْ هذه الآيةُ بمكةَ.
كما أن سياقَ الآيةِ يدلُّ على ذلك؛ لأن ما قَبلَها وما بعدَها خطابٌ للعَربِ من كفارِ مكةَ , وهو قولُه: {قل ما كنتُ بِدْعًا من الرُّسُلِ وما أَدْرِي ما يُفعلُ بي ولا بِكُمْ} وقولُه بعدها: {وقال الذين كَفُروا للذين آمَنُوا لو كان خيْرًا ما سَبقُونا إليه} أضفْ إلى ذلك أنَّ قولَه في الآيةِ (على مِثلِه) يؤكِّدُ أن المرادَ هو موسى عليه السلامُ، والمعنى أنَّ موسى شهِدَ على التوراةِ التي هي مِثلُ القرآنِ، أما عبدُ اللَّهِ بنُ سلامٍ فإنه شهِدَ على القرآنِ ذاتِه وليس على مِثلِه.
وكونُ المرادِ بهذه الآيةِ عبدَ اللَّهِ بنَ سلامٍ ورَدَ عن سعدِ بنِ أبي وقاصٍ وعبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ نفْسِه الذي كان يقول:ُ فيَّ نزلتْ هذه الآيةُ، وورد أيضًا عن جمهورِ الصحابةِ والمفسِّرين؛ ولهذا رَجَّحَه ابنُ جريرٍ الطبريُّ مع إشادَتِه بالقولِ الثاني الذي هو قولُ مسروقٍ والشعبيِّ.
ويمكنُ أن يُجمعَ بين القولين فيقالَ: إنَّ الآياتِ أصلًا نزلتْ والمرادُ بها موسى عليه السلامُ كما يَدلُّ عليه سياقُ الآياتِ ولأنها نزلتْ بمكةَ، ولكن عبدُ اللَّهِ بنُ سلامٍ يدخلُ في عمومِ معنى الآيةِ؛ لأنه يَصدُقُ عليه كونُه شاهدًا من بني إسرائيلَ.
وقريبٌ من هذا ما يُذكرُ في قولِه تعالى: {لمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التقوى من أوَّلِ يومٍ أحقُّ أن تقومَ فيه فيه رجالٌ يُحبُّون أن يتطَهَّروا) فالآيةُ وردتْ في سياقِ مسجدِ قُباءَ، ولما سئل عنها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ أخَذَ كفًّا من حَصْباءَ , وضَرَبَ به الأرضَ، وقال: مسجدِي هذا، ولا شكَّ أنَّ مسجدَ قُباءَ يدخُلُ وهو المرادُ بالآيةِ أولًا، ولكنه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ أراد أن ينبِّهَ على أن مسجدَه أولى بأن يقالَ فيه: إنه مسجدٌ أُسِّسَ على التقوى، وقد حَرَّرَ ذلك شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ وابنُ القيمِ رحمَهما اللَّهُ تعالى.
{قولُه تعالى: وما يَعلَمُ تأويلَه إلا اللَّهُ}..)
سببُ الاختلافِ: هو الاشتراكُ اللغويُّ؛ لأنَّ كلمةَ (التأويلِ) تأتي بمعنى ما يُأَوَّلُ إليه حقيقةُ الشيءِ، ويأتي بمعنى التفسيرِ.
نوعُ الاختلافِ: اختلافُ تنوُّعٍ.
وهو يرجعُ إلى أكثرَ مِن معنًى.
والقولان كلاهما صحيحٌ، وقال به طائفةٌ من السَّلفِ، ولكننا إذا أردنا الترجيحَ بينَهما، فإننا إذا رجَعْنا إلى لغةِ القرآنِ، وهي غالبُ استعمالِه للفظةِ (التأويلِ) وجدنا أنها تَرِدُ بمعنى ما تُأَوَّلُ إليه حقيقةُ الشيءِ، وقد وردتْ بهذا المعنى في ثمانيةِ مواطنَ في القرآنِ الكريمِ , منها قولُه تعالى: {ولمَّا يأْتِهم تأويلُه} في سورةِ يوسفَ وغيرِها.
وهذا يرجِّحُ أنَّ المرادَ بالتأويلِ هنا هو ما تأوَّلُ إليه حقيقةُ الشيءِ أو العاقبةُ المنتظرَةُ, ولهذا رجَّحَه ابنُ كثيرٍ والشنقيطيُّ رَحِمَهُما اللَّهُ تعالى. ويمكنُ أن يقالَ بالقولين معًا؛ لأن الاختلافَ هنا اختلافُ تنوُّعٍ.
(قولُه تعالى: {فلمَّا بَلغَ مَعَهُ السَّعيَ}...)
الخلافُ في هذه الآيةِ يمكنُ إرجاعُه إلى قولين فقط؛ لأنَّ القولَ الثالثَ يدخلُ في القولِ الأولِ، فالعبادةُ جزءٌ من العملِ، فيبقى في الآيةِ قولان هما أنَّ المرادَ بالسعيِ العملُ، والثاني أن المرادَ بالسعيِ المشيُ.
سببُ الاختلافِ: الاشتراكُ اللغويُّ؛ لأنَّ السعيَ يأتي في لغةِ العرَبِ بمعنى المشيِ، ويأتي بمعنى العملِ.
وكلا القولَيْن محتمَلٌ , ولكنَّ القولَ بأنَّ المرادَ بالسعيِ العملُ أولى؛ لأنه يدلُّ على بلوغِ إسماعيلَ وإدراكِه بأنه سيذبَحُه، وهذا أبْلَغُ في الابتلاءِ مما إذا قلتَ: إنَّ السعيَ بمعنى المشيِ.
(قولُه تعالى: {والنَّجمُ والشجرُ يَسجُدانِ}..)
سببُ الاختلافِ: هو الاشتراكُ اللغويُّ؛ لأنَّ النجمَ يُطلقُ على الكوكبِ، ويُطلقُ على النباتِ.
وهو اختلافُ تنوُّعٍ يرجعُ إلى أكثرَ من معنًى.
وكلا القولين محتمَلانِ، ولكن إذا أردتَ الترجيحَ بينَهما وجدتَ دلالةَ السياقِ ترجِّحُ أن يكونَ المرادُ بالنَّجمِ كلَّ نباتٍ لا ساقَ له؛ لأنه عَطَفَ عليه الشجرَ، والشجرُ نباتٌ له ساقٌ، فيكونُ قد عُطِفَ نباتٌ على نباتٍ , وهذا أنْسَبُ.
ولكن إذا نظرتَ إلى السياقِ من جهةٍ أخرى وجدتَ أنه ذَكرَ النجمَ بعد ذِكرِ الشمسِ والقمرِ فقال: {الشمسُ والقمرُ بحسبانٍ، والنجمُ والشجرُ يسجُدانِ} فَعَطفُ النجمِ هنا على الشمسِ والقمرِ يدلُّ على أنَّ المرادَ به الكوكبُ؛ لأنه مناسِبٌ لهما في الذِّكرِ.
أيضًا الغالبُ من مصطلَحِ القرآنِ هو استخدامُ النجمِ بمعنى الكوكبِ , كما في قولِه تعالى: {وعلاماتٍ وبالنجمِ هُمْ يهتدونَ} وقولِه: {أَلمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسجُدُ له مَن في السماواتِ والأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ}، فهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بالنجمِ الكوكبُ الذي في السماءِ.
ويمكنُ أن يُقالَ بالقولين معًا؛ لأنَّ الخلافَ خلافُ تنوُّعٍ.
(قولُه تعالى: {ملَّةَ أبيكم إبراهيمَ هو سمَّاكُم المسلِمين}..)
سببُ الاختلافِ: مفسَّرُ الضميرِ في قولِه (هو).
نوعُ الاختلافِ: اختلافُ تضادٍّ؛ لأنَّ المسمَّى واحدٌ، إما اللَّهُ تعالى وإما إبراهيمُ عليه السلامُ.
عِلَّةُ جعلِ الضميرِ عائدًا إلى إبراهيمَ كونُ الضميرِ عادةً يعودُ إلى أقربِ مذكورٍ , وأقربُ مذكورٍ للضميرِ هو إبراهيمُ.
وعِلَّةُ جعلِ الضميرِ عائدًا إلى اللَّهِ تعالى هي تناسُبُ الضمائرِ في الآيةِ؛ لأنه وَردَ في أولِ الآيةِ: {وجاهِدوا في اللَّهِ حقَّ جهادِه هو اجْتبَاكُم وما جَعلَ عليكم في الدِّينِ مِن حرجٍ} فهذه الضمائرُ كُلُّها تَعودُ إلى اللَّهِ تعالى، فكذلك ينبغي أن يكونَ الضميرُ في (هو سمَّاكم).
(قولُه تعالى: {عَيْنًا فيها تُسمَّى سَلْسَبيلاً}..)
القولُ بأنَّ (سلسبيلا) أصلُها (سَلْ سبيلًا) أي: طريقًا، قولٌ فيه ضعفٌ؛ لأنه مخالِفٌ لرَسمِ المصحفِ، فقد رُسِمَتْ في المصحفِ كلمةً واحدةً، فدلَّ هذا على أنَّ الصحيحَ هو القولُ بأنها اسمٌ للعينِ التي يَشرَبُ منها أهلُ الجنةِ.
ولو كانت معناها (سلْ طريقًا) لكُتِبتْ كلمَتين (سلْ سبيلًا)، فهذا القولُ فيه ضعفٌ , ولو كان مذكورًا في بعضِ التفاسيرِ.
(قولُه تعالى: {ويَذهبَا بطريقَتِكُم المُثلى}..)
سببُ الاختلافِ: هو الاشتراكُ اللغويُّ.
نوعُ الاختلافِ: اختلافُ تنوُّعٍ، وهو يرجعُ إلى أكثرَ مِن معنًى.
وكلا القولَيْن محتملانِ، والراجِحُ هو القولُ بأنَّ الطريقةَ هنا هي الدِّينُ؛ لأنه الأشهرُ في استعمالِ الطريقةِ في اللغةِ والقرآنِ، كما في قولِه تعالى: {وألَّوِ استقامُوا على الطريقةِ} أي: على الدِّينِ.
وبهذا أَخْتِمُ هذه الدروسَ التي أسألُ اللَّهَ سبحانه وتعالى أن يَجعلَها مباركةً ونافعةً لي ولكم في الدَّارَيْنِ، إنه سميعٌ مجيبٌ.
أُلْقِيَ أصلُ هذه الدروسِ في جامعِ الملكِ عبدِ العزيزِ بمدينةِ تَبُوكَ بتاريخِ (29: 6 ـ 5: 7: 1423) .