(2)
عقيدة أهل السنة والجماعة
اعتقاد أهل السنة والجماعة يشمل ثلاثة أصول:
الأول: العقيدة العامة في الله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
الثاني: الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلام فيما يتصل بذلك من الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم.
الأصل الثالث من أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة: الكلام في أخلاق أهل السنة والجماعة.(1)
عقيدتنا
عقيدتنا: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
فنؤمن بربوبية الله تعالى؛ أي بأنه الرب الخالق الملك المدبّر لجميع الأمور.
ونؤمن بألوهية الله تعالى؛ أي بأنه الإله الحق وكل معبود سواه باطل.
ونؤمن بأسمائه وصفاته؛ أي بأن له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا.
ونؤمن بوحدانيته في ذلك؛ أي بأنه لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميّا} [مريم: 65]
ونؤمن بأنه: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة:255]
ونؤمن بأنه {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الحشر:22-24]
ونؤمن بأن له ملك السماوات والأرض: {يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} [الشورى: 49،50]
ونؤمن بأنه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير * له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم} [الشورى: 11، 12]
ونؤمن بأنه {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها كل في كتاب مبين} [هود:6]
ونؤمن بأن الله {عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [لقمان:34]
ونؤمن بأن الله يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء {وكلم الله موسى تكليما} [النساء:164]
ونؤمن بأنه {لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} [الكهف:109]
ونؤمن بأن كلماته أتم الكلمات صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام، وحسنا في الحديث، قال الله تعالى: {وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا} [الأنعام:115]
ونؤمن بأن القرآن الكريم كلام الله تعالى تكلم به حقا، وألقاه إلى جبريل فنزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل:102]
ونؤمن بأن الله عزوجل عليّ على خلقه بذاته وصفاته لقوله تعالى: {وهو العلي العظيم} [البقرة: 255]
ونؤمن بأنه {خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر} [يونس: 3]، واستواؤه على العرش: علوه عليه بذاته علوا خاصّا يليق بجلاله وعظمته لا يعلم كيفيته إلا هو.
ونؤمن بأنه تعالى مع خلقه وهو على عرشه، يعلم أحوالهم ويسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، ويدبر أمورهم، يرزق اتلفقير ويجبر الكسير، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ولا نقول كما تقول الحلولية من الجهمية وغيرهم: إنه مع خلقه في الأرض.
ونرى أن من قال ذلك فهو كافر أو ضال؛ لأنه وصف الله تعالى بما لا يليق به من النقائص.
ونؤمن بما أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له".
ونؤمن بأنه سبحانه وتعالى يأتي يوم المعاد للفصل بين العباد؛ لقوله تعالى: {كلا إذا دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا * وجائ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} [الفجر: 21-23]
ونؤمن بأنه تعالى: {فعال لما يريد} [هود:107]
ونؤمن بأن إرادته تعالى نوعان: كونية يقع بها مراده، ولا يلزم أن يكون محبوبا له، وهي التي بمعنى المشيئة كقوله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [هود: 34]
وشرعية لا يلزم بها وقوع المراد، ولا يكون المراد فيها إلا محبوبا له، كقوله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27]
ونؤمن بأن مراده الكوني والشرعي تابع لحكمته؛ فكل ما قضاه كونا أو تعبّد به خلقه شرعا فإنه لحكمة وعلى وفق الحكمة، سواء علمنا منها ما نعلم أو تقاصرت عقولنا عن ذلك {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين: 8]
ونؤمن بأن الله تعالى يحب أولياءه وهم يحبونه{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]
ونؤمن بأن الله تعالى يرضى ما شرعه من الأعمال والأقوال، ويكره ما نهى عنه منها: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 46]
ونؤمن بأن الله تعالى يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات {رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} [البينة: 8]
ونؤمن بأن الله تعالى يغضب على من يستحق الغضب من الكافرين وغيرهم {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم} [الفتح: 6]
ونؤمن بأن لله تعالى وجها موصوفا بالجلال والإكرام {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27]
ونؤمن بأن لله تعالى يدين كريمتين عظيمتين: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة: 64]
ونؤمن بأن لله تعالى عينين اثنتين حقيقيتين ؛ لقوله تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} [هود: 37]
وأجمع أهل السنة على أن العينين اثنتان، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: ((إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)).
ونؤمن بأن الله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103]
ونؤمن بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22-23]
ونؤمن بأن الله تعالى لا مثل له لكمال صفاته {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]
ونؤمن بأنه {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] لكمال حياته وقيوميته.
ونؤمن بأنه لا يظلم أحدا لكمال عدله، وبأنه ليس بغافل عن أعمال عباده لكمال رقابته وإحاطته.
ونؤمن بأنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض لكمال علمه وقدرته {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]
ونؤمن بثبوت كل ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، لكننا نتبرأ من محذورين عظيمين هما: التمثيل: أن يقول بقلبه أو لسانه: صفات الله تعالى كصفات المخلوقين.
والتكييف: أن يقول بقلبه أو لسانه: كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا.
ونؤمن بانتفاء كل ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن النفي يتضمن إثباتا لكمال ضده، ونسكت عما سكت الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ونرى أن السير على هذا الطريق فرض لابد منه؛ وذلك لأن ما أثبته الله لنفسه أو نفاه عنها سبحانه فهو خبر أخبر الله به عن نفسه، وهو سبحانه أعلم بنفسه وأصدق قيلا وأحسن حديثا، والعباد لا يحيطون به علما.
وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم أو نفاه عنه فهو خبر أخبر به عنه، وهو أعلم الناس بربه وأنصح الخلق وأصدقهم وأفصحهم.
ففي كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كمال العلم والصدق والبيان؛ فلا عذر في ردّه أو التردد في قبوله.
فصل
وكل ما ذكرناه من صفات الله تعالى تفصيلا أو إجمالا، إثباتا أو نفيا؛ فإننا في ذلك على كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم معتمدون، وعلى ما سار عليه سلف الأمة وأئمة الهدى من بعدهم سائرون.
ونرى وجوب إجراء نصوص الكتاب والسنة في ذلك على ظاهرها، وحملها على حقيقتها اللائقة بالله عزوجل، ونتبرأ من طريق المحرفين لها الذين صرفوها إلى غير ما أراد الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن طريق المعطّلين لها الذين عطلوها من مدلولها الذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن طريق الغالين فيها الذين حملوها على التمثيل أو تكلفوا لمدلولها التكييف.
ونعلم علم اليقين أن ما جاء في كتاب الله تعالى أو سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم فهو حق لا يناقض بعضه بعضا؛ لقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82]
فصل
ونؤمن بملائكة الله تعالى وأنهم {عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء:26-27]
ونؤمن بأن للملائكة أعمالا كلفوا بها: فمنهم جبريل الموكل بالوحي ينزل به من عند الله على من يشاء من أنبيائه ورسله، ومنهم ميكائيل الموكل بالمطر والنبات، ومنهم إسرافيل: الموكل بالنفخ في الصور حين الصعق والنشور، ومنهم ملك الموت: الموكل بقبض الأرواح عند الموت، ومنهم ملك الجبال: الموكل بها، ومنهم مالك: خازن النار، ومنهم ملائكة موكلون بالأجنة في الأرحام، وآخرون موكلون بحفظ بني آدم، وآخرون موكلون بكتابة أعمالهم ...
فصل
ونؤمن بأن الله تعالى أنزل إلى رسله كتبا حجة على العالمين، ومحجة للعالمين يعلمونهم بها الحكمة ويزكونهم.
ونؤمن بأن الله تعالى أنزل مع كل رسول كتابا؛ لقوله تعالى:{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد:25]
ونعلم من هذه الكتب:
التوراة: التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه الصلاة والسلام.
الإنجيل: الذي أنزل الله تعالى على عيس عليه السلام {وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين} [المائدة: 46]
الزبور: الذي آتاه الله تعالى داود عليه السلام.
صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام.
القرآن العظيم: أنزله الله تعالى على نبيه محمد خاتم النبيين {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185]
فنسخ الله تعالى به جميع الكتب السابقة، وتكفّل بحفظه عن عبث العابثين وزيغ المحرفين {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] لأنه سيبقى حجة على الخلق أجمعين إلى يوم القيامة.
أما الكتب السابقة فإنها مؤقتة بأمد ينتهي بنزول ما ينسخها ويبين ما حصل فيها من تحريف وتغيير، ولهذا لم تكن معصومة منه؛ فقد وقع فيها التحريف والزيادة والنقص {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} [النساء:46]
فصل
ونؤمن بأن الله تعالى بعث إلى خلقه رسلا {مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 165]
ونؤمن بأن أولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163]
وأن أفضلهم محمد ثم إبراهيم ثم موسى ثم نوح وعيسى ابن مريم، وهم المخصوصون في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} [الأحزاب: 7]
ونعتقد أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حاوية لفضائل شرائع هؤلاء الرسل المخصوصين بالفضل لقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13]
ونؤمن بأن جميع الرسل بشر مخلوقون عبيد من عباد الله أكرمهم الله تعالى بالرسالة، وليس لهم من خصائص الربوبية شيء، قال الله تعالى عن نوح وهو أولهم: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك} [هود: 31]
ونؤمن بأن الله تعالى ختم الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأرسله إلى جميع الناس لقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 158]
ونؤمن بأن شريعته صلى الله عليه وسلم هي دين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، وأن الله تعالى لا يقبل من أحد دينا سواه لقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام } [آل عمران: 19]
ونرى أن من زعم اليوم دينا قائما مقبولا عند الله سوى دين الإسلام، من دين اليهودية أو النصرانية أو غيرهما، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدا؛ لأنه مكذب بالقرآن.
ونرى أن من كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعا فقد كفر بجميع الرسل، حتى برسوله الذي يزعم أنه مؤمن به متبع له؛ لقوله تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء: 105]
ونؤمن بأنه لا نبي بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ادّعى النبوة بعده أو صدق من ادّعاها فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين.
ونؤمن بأن للنبي صلى الله عليه وسلم خلفاء راشدين خلفوه في أمته علما ودعوة وولاية على المؤمنين، وبأن أفضلهم وأحقهم بالخلافة أبوبكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
ونؤمن بأن هذه الأمة خير الأمم وأكرمها على الله عزوجل لقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]
ونؤمن بأن خير هذه الأمة الصحابة ثم التابعون ثم تابعوهم، وبأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله عزوجل.
ونعتقد أن ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الفتن فقد صدر عن تأويل اجتهدوا فيه، فمن كان منهم مصيبا كان له أجران، ومن كان منهم مخطئا فله أجر واحد وخطؤه مغفور له، ونرى أنه يجب أن نكف عن مساوئهم، فلا نذكرهم إلا بما يستحقونه من الثناء الجميل، وأن نطهر قلوبنا من الغل والحقد على أحد منهم؛ لقوله تعالى فيهم: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10]
وقول الله تعالى فينا: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} [الحشر: 10]
فصل
ونؤمن باليوم الآخر وهو يوم القيامة الذي لا يوم بعده، حين يبعث الناس أحياء للبقاء إما في دار النعيم وإما في دار العذاب الأليم.
فنؤمن بالبعث وهو إحياء الله تعالى الموتى حين ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68]
فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، حفاة بلا نعال، عراة بلا ثياب، غرلا بلا ختان {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104]
ونؤمن بصحائف الأعمال تعطى باليمين أو من وراء الظهور بالشمال {فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا * وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعوا ثبورا * ويصلى سعيرا} [الانشقاق: 7-12]
ونؤمن بالموازين توضع يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7-8]
ونؤمن بالشفاعة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، يشفع عند الله تعالى بإذنه ليقضي بين عباده حين يصيبهم من الهمّ والكرب ما لا يطيقون.
ونؤمن بالشفاعة فيمن دخل النار من المؤمنين أن يخرجوا منها؛ وهي للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من النبيين والمؤمنين والملائكة.
ونؤمن بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشدّ بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك، طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته كنجوم السماء حسنا وكثرة، يرده المؤمنون من أمته، من شرب منه لم يظمأ بعد ذلك.
ونؤمن بالصراط المنصوب على جهنم، يمرّ الناس عليه على قدر أعمالهم، فيمرّ أولهم كالبرق ثم كمرّ الريح ثم كمرّ الطير وشدّ الرجال، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول: يا رب سلّم سلّم. حتى تعجز أعمال العباد، فيأتي من يزحف، وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة، تأخذ من أُمرت به، فمخدوش ناجٍ ومكردس في النار.
ونؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة من أخبار ذلك اليوم وأهواله، أعاننا الله عليها.
ونؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوها؛ وهي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
ونؤمن بالجنة والنار؛ فالجنة: دار النعيم التي أعدها الله تعالى للمؤمنين المتقين.
والنار: دار العذاب التي أعدها الله تعالى للكافرين الظالمين، فيها من العذاب والنكال ما لا يخطر عل البال.
وهما موجودتان الآن ولن تفنيا أبد الآبدين {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا} [الطلاق: 11]
{إن الله لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيرا * خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} [الأحزاب: 64-66]
ونشهد بالجنة لكل من شهد له الكتاب والسنة بالعين أو بالوصف، فمن الشهادة بالعين: الشهادة لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ونحوهم ممن عيّنهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الشهادة بالوصف: الشهادة لكل مؤمن أو تقي.
ونشهد بالنار لكل من شهد له الكتاب والسنة بالعين أو بالوصف، فمن الشهادة بالعين : الشهادة لأبي لهب وعمرو بن لحي الخزاعي ونحوهما، ومن الشهادة بالوصف: الشهادة لكل كافر أو مشرك شركا أكبر أو منافق.
ونؤمن بفتنة القبر: وهي سؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه فــ {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [إبراهيم: 27]
ونؤمن بنعيم القبر للمؤمنين {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل: 32]
ونؤمن بعذاب القبر للظالمين الكافرين {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [الأنعام: 93]
فصل
ونؤمن بالقدر خيره وشره، وهو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته.
وللقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيء عليم، علم ما كان وما يكون، وكيف يكون بعلمه الأزلي الأبدي، فلا يتجدد له علم بعد جهل، ولا يلحقه نسيان بعد علم.
المرتبة الثانية: الكتابة، فنؤمن بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير} [الحج: 70]
المرتبة الثالثة: المشيئة، فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السماوات والأرض، لا يكون شيء إلا بمشيئته.
المرتبة الرابعة: الخلق، فنؤمن بأن الله تعالى: {خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض} [الزمر: 62-63]
وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله تعالى نفسه ولما يكون من العباد، فكل ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك فهي معلومة لله تعالى مكتوبة عنده، والله تعالى قد شاءها وخلقها {ولمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 28-29]
ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختيارا وقدرة بهما يكون الفعل.
ونرى أن لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى؛ لأن العاصي يقدم على المعصية باختياره من غير أن يعلم أن الله تعالى قدّرها عليه، إذ لا يعلم أحد قدر الله تعالى إلا بعد وقوع مقدوره {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا} [لقمان: 34]
ونؤمن بأن الشرّ لا ينسب إلى الله تعالى لكمال رحمته وحكمته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والشر ليس إليك)) رواه مسلم، فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شر أبدا؛ لأنه صادر عن رحمة وحكمة، وإنما يكون الشرّ في مقتضياته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت الذي علمه الحسن: ((وقني شر ما قضيت)) فأضاف الشر إلى ما قضاه، ومع هذا فإن الشرّ في المقضيات ليس شرّا خالصا محضا، بل هو شر في محله من وجه، خير من وجه، أو شر في محله، خير في محل آخر؛ فالفساد في الأرض من الجدب والمرض والفقر والخوف شر، لكنه خير في محل آخر، قال الله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41]
فصل
هذه العقيدة السامية المتضمنة لهذه الأصول العظيمة تثمر لمعتقدها ثمرات جليلة كثيرة؛ فالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته يثمر للعبد محبة الله وتعظيمه الموجبين للقيام بأمره واجتناب نهيه، والقيام بأمر الله تعالى واجتناب نهيه يحصل بهما كمال السعادة في الدنيا والآخرة للفرد والمجتمع {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]
ومن ثمرات الإيمان بالملائكة:
أولا: العلم بعظمة خالقهم تبارك وتعالى وقوته وسلطانه.
ثانيا: شكره تعالى على عنايته بعباده، حيث وكل بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم وغير ذلك من مصالحهم.
ثالثا: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى على الوجه الأكمل واستغفارهم للمؤمنين.
ومن ثمرات الإيمان بالكتب:
العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أنزل لكل قوم كتابا يهديهم به.
وظهور حكمة الله تعالى حيث شرع لكل أمة ما يناسبها.
ومن ثمرات الإيمان بالرسل:
أولا: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أرسل إليهم أولئك الرسل الكرام للهداية والإرشاد.
ثانيا: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.
ثالثا: محبة الرسل وترقيرهم والثناء عليهم بما يليق بهم.
ومن ثمرات الإيمان باليوم الآخر:
أولا: الحرص على طاعة الله رغبة في ثواب ذلك اليوم، والبعد عن معصيته خوفا من عقاب ذلك اليوم.
ثانيا: تسلية المؤمن عما يفوته من نعيم الدنيا ومتاعها بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
ومن ثمرات الإيمان بالقدر:
أولا: الاعتماد على الله تعالى عند فعل الأسباب؛ لأن السبب والمسبب كلاهما بقضاء الله وقدره.
ثانيا: راحة النفس وطمأنينة القلب؛ لأنه متى علم أن ذلك بقضاء الله تعالى، وأن المكروه كائن لا محالة، ارتاحت النفس واطمأن القلب ورضي بقضاء الرب.
ثالثا: طرد الإعجاب بالنفس عند حصول المراد؛ لأن حصول ذلك نعمة من الله بما قدره من أسباب الخير والنجاح.
رابعا: طرد القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول المكروه؛ لأن ذلك بقضاء الله تعالى الذي له ملك السماوات والأرض وهو كائن لا محالة {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحبّ كل مختال فخور} [الحديد: 22-23]
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على هذه العقيدة، وأن يحقق لنا ثمراتها ويزيدنا من فضله، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا؛ وأن يهب لنا من رحمته إنه هو الوهاب.
والحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.(2)
(1) شرح الشيخ صالح آل الشيخ للعقيدة الواسطية حفظه الله.
(2) ملخص عقيدة أهل السنة والجماعة لابن عثيمين رحمه الله.