قال بعدها: " والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين, برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة,لا يبطلهما شيء, ولا ينقضهما".
يريد بذلك رحمه الله تقرير مسألة من المسائل الفقهية, التي صار القول بها علمًا على أهل السنة مخالفة للروافض والخوارج أيضاً, وهي أن الإمارة والولاية يُمضى مع أهلها, يعني: مع الأمير أو ولي الأمر في الطاعة والمعروف, والحج والجهاد والعبادات جميعاً، سواءً أكان برًّا أو فاجرًا، وسواء أكان مطيعاً أو عاصيًا, وسواء أكان كاملاً كالخلفاء الراشدين، أم كان يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً كغيرهم؛ وذلك لأن الحج عبادة عظيمة, يجتمع فيها الخلق الكثير, فلابد أن تقام عبادة لله –جل وعلا- ثم لابد أن يكون فيها ولها أمير يسير الناس, وإلا لكانوا فوضى فيما يرون؛ لأن أهواء الناس لأحد لها، ولا غاية لها، والجهاد فيه مقابلة الأعداء والنكاية بهم, وإذلال العدو, وهذا لا يكون إلا بولاية, والولاية هي التي تسير هذا الأصل, وبره: برُّ الولي.. ولي الأمر, أو عدم بره: صلاحه أم فساده, هذا يرجع إلى نفسه, وهذه الأمور أمور العبادات من المعروف الذي يجب على المسلم أن يطيع فيه, ومن البر والتقوى التي يجب أن يتعاون مع ولاة الأمر فيه, كما قال جل وعلا:]وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى [. خطاب لجميع المؤمنين لجميع طبقاتهم، ونذكر بعض المسائل:
الأولى:
أن المخالف في هذا الأصل هم الروافض والخوارج, أو من شابه الخوارج, أما الروافض فامتنعوا من الحج والجهاد مطلقاً, حتى يخرج المعصوم, وهو الإمام الثاني عشر من أئمتهم, وهو المدعو محمد بن عبدالله العسكري, الذي يزعمون أنه دخل السرداب, وكان صغيرًا, دخلت به أمه وهم ينتظرون خروجه، فلم يحجوا, أو رأوا أن الحج غير قائم, لا يرونه إلا مع معصوم، وكذلك الجهاد لا يرونه إلا مع معصوم، وليتهم أخذوا بهذا, وانتظروا خروجه, ولم يشغلوا المسلمين ببدعهم وفتنتهم.
أما الخوارج فعندهم أن هذه الأعمال إنما هي تبع للولاية, والولاية عندهم لا تصلح فيمن لم يكن بَرَّا, فلابد أن يكون الإمام برًّا صالحاً تقيًا كاملاً حتى يُجاهد معه، وحتى يُحج معه، وإلا نصَّبوا لهم أميراً, وصاروا يجاهدون معه, ويحجون معه, ولا يدينون بدين الجماعة، وهذا ظهر منهم في خلافهم لعثمان -t-، ثم في خلافهم لعلي -t-، ثم في قتالهم لخلفاء بني أمية إلى آخره.
وممن يشبه الخوارج في ذلك من لم ير الطاعة. طاعة في الحج والجهاد, وما فيه مصلحة عامة للمسلمين, وما هو من البر والتقوى والجهاد, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا مع الإمام الصالح, الذي ليس عنده فساد, أو ليس عنده محرمات، وهذا قول يلحق بأقوال الخوارج؛ لأن الحج والجهاد وكل أنواع المعروف أوجب النبي r الطاعة فيها, فقال: ((إنما الطاعة في المعروف)). والمعروف هو ما عرف في الشرع: أنه ليس بمعصية، وأعلاه الطاعات التي يتقرب بها إلى الله جل وعلا.
المسألة الثانية:
قوله: " إلى قيام الساعة ".
هذا المقصود منه إلى قرب قيام الساعة, يعني: إذا كان يوجد ولي أمر مسلم وجماعة وإمام وأناس يحجون, ويجاهدون, والذي دلت عليه الأحاديث أنه يترك ذلك قبل قيام الساعة, ولا يبقى في الأرض من يقول: الله الله. يعني: أطع الله أطع الله, أو اتق الله اتق الله, وهذا كثير عند أهل العلم, حتى في العقائد يذكرون إلى قيام الساعة, يريدون به ما يقرب منها مما هو زمن وجود المؤمنين.
المسالة الثالثة والأخيرة:
قوله: " لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما".
يعني: لا يبطل الحج شيء من معصية الولاة، ولا ينقض الحج والجهاد مع ولاة الأمر شيء من فجورهم أو نقصهم؛ لأن هذه من العبادات العظيمة, فلا تبطل بمخالفة المرء على نفسه, بل يجب القيام بها، الحج مع المسلمين والجهاد مع المؤمنين بأمر عام,وهذا الأصل الذي ذُكر تذكرونها في أول الكلام, هذا مضى عليه هدي الصحابة رضوان الله عليهم، فقد حج عدد من الصحابة, أو حج الصحابة في عهد بعض ولاة بني أمية، وكان فيهم من النقص ما فيهم.
بل أُمِّر الحجاج بن يوسف الثقفي على الحجيج من قبل والي بني أميَّة، والحجاج معروف بسفكه للدماء وظلمه وعدوانه, وعدم رعايته للعلماء، ولا لنفوس المؤمنين, مع ذلك أُمِّر على الحج, وكان عالم الحج ابن عمر t؛ لأنه كان هدي السلف أن يكون ثم أمير, وثم عالم يفتي الناس، فكان ابن عمر هو الذي يفتي الناس, وكان قيل للحجاج: لا تعمل شيئاً من أمور الحج إلا بأمر ابن عمر، يعني: في مناسك الحج، فحج معه ابن عمر وصلى وراءه في حجة الوداع يوم عرفة, أتاه عند زوال الشمس, وقال: اخرج.
قال: أفي هذه الساعة يا أبا عبدالرحمن.
قال: نعم. سنة أبي القاسم عليه الصلاة والسلام, فخرج, فخطب الناس, ثم صلى بهم الظهر والعصر، وكان ممن صلّى خلفه ابن عمر وطوائف من الصحابة وسادات التابعين.
فهذا الأصل كثير عند السلف, كانوا يفعلونه, وتلقوه جيلاً بعد جيل في مضي الحج والجهاد مع ولاة الأمر مهما كانت مرتبهم؛ لأن ذلك فيه إعلان للدين, وإعانة على الحق والهدى.