قال :
6- أَكْرِمْ بها خُلَّةً لو أنها صَدَقَتْ = مَوعودَها أو لو أنَّ النُّصْحَ مَقبولُ
قولُه: " أَكْرِمْ بها " معناه: ما أَكْرَمَها، ومِثلُه: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } أي: ما أَسْمَعَهُمْ، وما أَبْصَرَهم في ذلك اليومِ.
وقد اخْتُلِفَ في ذلك ونحوِه على ثلاثةِ مَذاهبَ :
أحدُها: أنَّ " أَفْعَلَ " فِعْلٌ صُورتُه الأَمْرُ، ومعناه التَّعَجُّبُ، وأَصْلُه الأَوَّلُ فِعْلٌ ثُلاثيٌّ، ثم حُوِّلَ إلى فِعْلٍ ماضٍ مَزيدٍ فيه , وهو أَفعلُ بمعنى: صارَ كذا، كأَغَدَّ البعيرُ وأَبْقَلَ الْمَكانُ، أي: صارَا ذَوَي غُدَّةٍ وبَقْلٍ، ثم حُوِّلَ هذا إلى صِيغةِ الطَّلَبِ مع بَقاءِ المعنى الْخَبَرِيِّ، وضُمِّنَ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، فيَقْبُحُ حِينئذٍ رَفعُه للظاهِرِ؛ لكونِه على صُورةِ فِعلِ الأمْرِ، فزِيدَ في فاعلِه الباءُ، كما زِيدَتْ في فاعِلِ " كَفَى " نحوَ { كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا } إلا أنَّ زِيادةَ الباءِ في فاعلِ " كَفَى " غالِبةٌ , لا لازِمَةٌ؛ بدليلِ قولِ سُحَيْمٍ: ( البحر الطويل ) :
عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إن تَجَهَّزْتَ غَادِيًا = كفى الشَّيْبُ والإسلامُ للمرءِ نَاهِيَا
وعن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه , أنه قالَ له: لو قَدَّمْتَ الإسلامَ على الشَّيْبِ لأَجَرْتُكَ، وزِيادةُ الباءِ في فاعلِ أفعلَ هذا لازِمَةٌ لإصلاحِ اللفظِ؛ إذ صارَ بسَبَبِها على صُورةِ قولِك في الأَمْرِ الحقيقيِّ: امْرُرْ بزيدٍ، وهذا قولُ جُمهورِ البصْرِيِّينَ.
الْمَذْهَبُ الثاني: أنه أَمْرٌ باعتبارِ الصيغةِ , والمعنى جَميعًا , وأنَّ المأمورَ الْمُخاطَبُ، وأنَّ الفِعْلَ مُتَحَمِّلٌ لضميرِه، وأنَّ ذلك الضميرَ الْتَزَمَ استتارَه في الإفرادِ والتذكيرِ وفُروعِهما؛ لأنه كلامٌ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وأنَّ الْمُتَكَلِّمَ بما أَفْعَلَه مُتَعَجِّبٌ , والمتكلِّمُ بأَفْعِلْ أَمَرَ غيرَه بالتَّعَجُّبِ. قالَه الفَرَّاءُ مِن الكُوفِيِّينَ، والزَّجَّاجُ مِن البَصرِيِّينَ، وابنُ خَروفٍ والزَّمخشريُّ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ.
والْمَذْهَبُ الثالثُ: أنه أَمْرٌ كما قالَ هؤلاءِ، ولكنَّ المأمورَ الْمَصْدَرُ الذي دَلَّ عليه الفِعْلُ، فمعنى أَحْسِنْ بزَيْدٍ: أَحْسِنْ يا حُسْنُ بزَيدٍ، أي: دُمْ به والْزَمْهُ، وعلى هذا فلا يَحتاجُ إلى الاعتذارِ عن التزامِ الإفرادِ والتذكيرِ؛ لأنَّ المأمورَ واحدٌ في جَميعِ الصُّوَرِ، وهذا قولُ ابنِ كَيْسَانَ، وتَبِعَه ابنُ الطَّراوةِ ونَقَلَهُ أبو عبدِ اللهِ الفارسيُّ عن الزَّجَّاجِ، ونَقَلَ القولَ الذي قَبلَه عن الكُوفِيِّينَ.
وعلى الْمَذْهَبَيْنِ: فالباءُ باءُ التَّعْدِيَةِ، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بالفِعْلِ قَبْلَها، والاسمُ بعدَها في مَوْضِعِ رَفْعٍ.
قولُه: " خُلَّةً " منصوبٌ على التمييزِ، والْخُلَّةُ هنا الصديقةُ، ونَظيرُه قولُ الآخَرِ: ( البحر الطويل ).
ألا قَبَّحَ اللهُ الوُشاةَ وقولَهم = فلانةُ أَضْحَتْ خُلَّةً لفُلانِ
قالوا: وتُطْلَقُ أيضًا على الصديقِ، وأَنْشَدُوا ( البحر المتقارِب ):
ألا أَبْلِغَا خُلَّتِي جَابِرًا = بأنَّ خَليلَكِ لم يُقْتَلِ
تَخَطَّأَتِ النَّبْلُ أَحشاءَهُ = فأَخَّرَ دَهْرًا ولم يَعْجَلِ
ووجهُ الاستدلالِ أنه أَبْدَلَ جابرًا مِن خُلَّتِي، ولك أن تقولَ: لعلَّه على حَذْفِ مُضافٍ، أي: ذا خُلَّتِي، كما هو في قولِه تعالى: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ } أي: ولكنَّ ذا الْبِرِّ، والْخُلَّةُ على هذا نفْسُ الصَّداقةِ، مِثلُها في قولِه تعالى: { يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ } وجُمِعَتْ هذه على " خِلالٍ "، كَقُلَّةٍ وقِلالٍ، ومنه { لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خِلَالَ }.
وقيلَ: بل هو مَصدَرُ " خَالَلْتُهُ " ويُرَجِّحُه إفرادُ ما قَبلَه، والآيةُ التي قِيلَ فيها: " ولا خُلَّةٌ ".
ويُرْوَى: " فيالَها خُلَّةٌ ".
ويا هذه إمَّا حَرْفُ نِداءٍ، والْمُنَادَى مَحذوفٌ، وإمَّا حَرْفُ تَنبيهٍ بِمَنزِلَةِ " ألا " وعليهما فاللامُ متَعَلِّقَةٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ، والتقديرُ فيا قومِ اعْجَبُوا لها خُلَّةً، أو: ألَا اعْجَبُوا لها خُلَّةً.
فإن قلتُ: هلا قَدَّرْتَ الضميرَ مُنَادًى دَخَلَتْ عليه لامُ التَّعَجُّبِ كما في قولِه ( البحر الطويل ):
فيا لكَ مِن ليلٍ كأنَّ نُجومَهُ = بكلِّ مُغارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بيَذْبُلِ
الأصلُ: يا إيَّاكَ، أو يا أنتَ، ثم لَمَّا دَخَلَتْ لامُ الْجَرِّ، انْقَلَبَ الضميرُ الْمُنْفَصِلُ المنصوبُ أو المرفوعُ ضَميرًا مُتَّصِلًا مَخفوضًا؟
قلتُ: مَنَعَ من ذلك أنَّ ضَميرَ الْغَيْبَةِ لا يُنَادَى.
والْمُغارُ بضَمِّ الميمِ وبالْمُعْجَمَةِ مِن قولِهم: أَغَرْتُ الْحَبْلَ: إذا أَحْكَمْتَ فَتْلَه، و" يَذْبُلِ " جَبَلٌ، أي: كأنَّ نُجومَ هذا الليلِ شُدَّت بحِبالٍ مُحْكَمَةِ الفَتْلِ إلى هذا الْجَبَلِ , فهي لا تَسْرِي ولا تَغُورُ.
ويُرْوَى: " يا وَيْحَها خُلَّةً " " ووَيْلَهَا خُلَّةً ",
وقد مَضَى في صَدْرِ الكتابِ شرْحُ كَلِمَتَي " ويحَ " و " ويلَ " والفرْقُ بينَهما، ونَزيدُ هنا الأصلَ: " وَيْلَ أُمِّهَا " فحُذِفَتْ الهمزةُ لثِقَلِها بذاتِها وبالضَّمَّةِ، وكونِها بعدَ الضَّمَّةِ معَ كَثرةِ الاستعمالِ، ثم حُرِّكَت اللامُ بالكسرةِ ؛ لتُنَاسِبَ الكسرةَ بعدَها والياءَ قَبْلَها، وهذا قولُ البَصرِيِّينَ، وقيلَ: بل الأصلُ: وَيْ لأُمِّهَا، وي: بمعنى أَعْجَبُ، ولأُمِّهَا: جارٌّ ومَجرورٌ، ثم حُذِفَت الألِفُ للتخفيفِ، ويُؤَيِّدُ قولَ البَصرِيِّينَ قولُهم: ويلَ أُمِّهَا، ووَيْلَ أمِّه , بضَمِّ اللامِ.
وقولُه: " لو أنها صَدَقَتْ مَوعودَها " فيه أربعُ مَسائلَ:
المسألةُ الأولى: في " لو " وهي مُحْتَمِلَةٌ لوَجهينِ:
أحدُهما: التَّمَنِّي , مِثلُ في: { فَلْو أَنَّ لَنَا كَرَّةً }
والثاني: الشرْطُ , ويُرَجِّحُ الأَوَّلَ سَلامتُه مِن دَعْوَى حَذْفٍ؛ إذ لا يَحتاجُ حِينئذٍ لتَقديرِ جَوابٍ، بل سَلامتُه مِن دَعْوَى كَثرةِ الْحَذْفِ إذا قِيلَ: إنَّ في الكلامِ حَذْفَ فعْلِ الشرْطِ، أو خَبَرِ الْمُبتدأِ، كما سَيأتِي.
ويُرَجِّحُ الثانيَ أنَّ الغالِبَ على " لو " كونُها شَرْطِيَّةً، ثم الجوابُ الْمُقَدَّرُ مُحْتَمِلٌ؛ لأن يكونَ مَدلولًا عليه بالمعنى، أي: لو صَدَقَتْ لتَمَّتْ خِلالُها، فيكونُ مِثْلُها في قولِه تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ } أي: لَرأيتَ أَمْرًا عظيمًا , ولأنْ يكونَ مَدلولًا عليه باللفظِ , أي: لكانت كَريمةً، فيكونُ مِثلَها في قولِه تعالى: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } الآيةَ, أي: لكَفَرُوا به بدليلِ : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ }. والنَّحْوِيُّونَ يُقَدِّرُونَ: لكان هذا القُرآنُ، فيكونُ كالآيةِ قَبْلَها، والذي ذَكَرْتُه أَوْلَى؛ لأنَّ الاستدلالَ باللفظِ أَظْهَرُ.
ويَتَرَجَّحُ التقديرُ الثاني في البيتِ بأنه استدلالٌ باللفظِ، وأنَّ فيه رِباطًا للو بما قَبْلَها؛ لأنَّ دليلَ الجوابِ جَوابٌ في المعنى، حتى ادَّعَى الكُوفِيُّونَ أنه جَوابٌ في الصناعةِ أيضًا , وأنه لا تَقديرَ.
وقد يُقالُ: إنه يُبْعِدُه أمرانِ:
أحدُهما: أنَّ فيه اسْتِدلالًا بالإنشاءِ على الْخَبَرِ.
والثاني: أنَّ الكَرَمَ المرادُ به الشرَفُ مِثْلُه في: { إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } فلا يَحْسُنُ بحالِ الْمُحِبِّ تَعليقُ كَرَمِ مَحبوبتِه على شَرْطٍ، ولا سِيَّمَا شَرْطٌ مَعلومُ الانتفاءِ، وهو شَرْطُ " لو " وإن كان المرادُ به مُقابِلَ البُخْلِ لم يكنْ أَكْرِمْ بها مُناسِبًا لِمَقامِ التَّشْبِيبِ , بل لِمَقامِ الاستعطاءِ.
وقد يُجابُ عن الأَوَّلِ بأَمرينِ:
أحدُهما: مَنْعُ كونِ التَّعَجُّبِ إنشاءً، وإنما هو خَبَرٌ، وإنما امْتَنَعَ وَصْلُ الموصولِ بما أَفْعَلَه ؛ لإبهامِهِ، وبِأَفْعِلْ به كذلك، معَ أنه على صِيغةِ الإنشاءِ , لا لأنهما إنشاءٌ.
الثاني: أنَّ الْمُرادَ مِن الدليلِ كونُه مُلَوِّحًا بالمعنَى المرادِ، وأنه لم يَصْلُحْ لأن يَسُدَّ المحذوفَ، ألا تَرَى إلى قَولِ الْحَماسيِّ ( البحر البسيط ):
إذَنْ لقَامَ بنَصْرِيَ مَعْشَرٌ خُشُنٌ = عندَ الْحَفيظةِ إن ذُو لَوْثَةٍ لَانَا
إذ المرادُ: إن لانَ ذُو لَوْثَةٍ خَشِنُوا، فاسْتَدَلَّ بالْمُفْرَدِ على الْجُملةِ، ومِثلُه: مَرَرْتُ بِمُحْسِنٍ إذا سُئِلَ، أي: إذا سُئِلَ أَحْسَنَ، واللَّوْثَةُ بالفَتْحِ: الْقُوَّةُ.
وعن الثاني: أنَّ الْمُرادَ به البُخْلُ، وهو أَعَمُّ مِن الكَرَمِ بالمالِ والوِصالِ، ولو قالَ قائلٌ: ولو وَفَتْ لي لكانتْ أَكْرَمَ الناسِ، أو: لكانتْ فِي جُودِ حاتمٍ ثم لم يَمْتَنِعْ ذلك.
وقد شَرَحْتُ مَعنَى " لو " الشرطيَّةِ في مُقَدِّمَةِ قَواعِدِ الإعرابِ شَرْحًا شَافِيًا، فأَغْنَى ذلك عن ذِكْرِه هنا.
المسألةُ الثانيةُ: اخْتُلِفَ في " أنَّ وَصِلَتِها بعدَ " لو " في مِثلِ هذا البيتِ وقولِه تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا } على ثلاثةِ مَذاهِبَ:
أحدُها: أنها فاعلٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: ثَبَتَ، والدالُّ عليه " أنَّ " ؛ فإنها تُعْطِي مَعنى الثبوتِ، وهذا قولُ الكُوفِيِّينَ والزَّجَّاجِ والزَّمخشريِّ. ويُبْعِدُه أنَّ الفِعْلَ لم يُحْذَفْ بعدَ " لو " وغيرِها مِن أَدواتِ الشرْطِ إلا مُفَسَّرًا بفِعْلٍ بعدَه، نحو قولِه تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ... وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ}. { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } وقولِهم: لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتْنِي. ولا يُسْتَثْنَى مِن ذلك إلا " كان " بعدَ " إنْ " و " لو " نحوَ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ)). وقولِهم: الْمَرْءُ مَقتولٌ بما قُتِلَ به ؛ إن سَيْفًا فسَيْفٌ، والفعلُ الْمَقرونُ بلا بعدَ " إنْ " كقولِه ( البحر الوافر ) :
فطَلِّقْهَا فلستَ لها بِكُفْءٍ = وإلا يَعْلُ مِفْرِقَكَ الْحُسَامُ
أي: وإن لا تُطَلِّقْهَا.
الثاني: أنه مُبتدأٌ محذوفُ الخبَرِ وُجوبًا كما يُحْذَفُ بعدَ " لولا "، كذلك نَقَلَه ابنُ هِشامٍ عن أكثَرِ البَصْرِيِّينَ.
والثالثُ: أنه مُبتدأٌ لا خَبَرَ له أصلًا ؛ اكتفاءً بِجَريانِ الْمُسْنَدِ والْمُسْنَدِ إليه في الذِّكْرِ مع الطُّولِ , نَقَلَه ابنُ عُصفورٍ عن البَصْرِيِّينَ، وزَعَمَ أنه لا يَحْفَظُ عنهم غيرَه.
والرابعُ: أنه يَجوزُ هذا، ويَجوزُ كونُه فاعلًا. قالَه الْمُبَرَّدُ.
المسألةُ الثالثةُ: ذَكَرَ الزَّمخشريُّ أنَّ خَبَرَ " أنَّ " الواقِعَةِ بعدَ "لو" إنما يكونُ فِعْلًا، ورَدَّهُ ابنُ الحاجِبِ بقولِه تعالى: { وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } وقالَ: الصوابُ تَقييدُ الوُجوبِ بما إذا كان الْخَبَرُ مُشْتَقًّا. وزادَ ابنُ مالِكٍ على ابنِ الحاجِبِ بأنه قد جَاءَ اسمًا معَ كونِه مُشْتَقًّا , كقولِ: ( البحر السريع ).
لو أنَّ حَيًّا مُدْرِكَ الفَلاحِ = أَدْرَكَهُ مُلاعِبُ الرِّماحِ
وقد يُجابُ بأنه ضَرورةٌ كقولِه: لا تُكْثِرَنَّ إني عَسَيْتُ صائمًا.
والفَلَاحُ: البَقاءُ، والْمُرادُ بِمُلاعِبِ الرِّماحِ: مُلاعِبُ الأَسِنَّةِ: وهو عَلَمٌ على شَخْصٍ مَعروفٍ , ولَمَّا اضْطُرَّ الشاعِرُ غَيَّرَه , وهذا الجوابُ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ ذلك واقعٌ في كِتابِ اللهِ تعالى، قالَ اللهُ تعالى: { وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ }. ولو اسْتَحْضَرَ هذه الآيةَ ابنُ مالِكٍ، لم يَعْدِلْ إلى الاستشهادِ بالشعْرِ، ولو اسْتَحْضَرَها الزَّمخشريُّ وابنُ الحاجِبِ، لم يَقُولا ما قَالَاه، وقد اشْتَمَلَ بيتُ كَعْبٍ رَحِمَه اللهُ على الإخبارِ بالفِعلِ في " صَدَقَتْ " وفي الاسمِ في قولِه : " مَقبولُ ".
المسألةُ الرابعةُ: يَحْتَمِلُ قولُه: " مَوعودَها " ثلاثةَ أَوْجُهٍ :
أحدُهما : أن يكونَ اسمَ مفعولٍ على ظَاهِرِه، ويكونَ المرادُ به الشخصَ الموعودَ.
والثاني: أن يكونَ كذلك، ويكونَ الْمُرادُ به الشيءَ الموعودَ به.
والثالثُ: أن يكونَ مصدرًا على رأيِ أبي الحسَنِ في أنَّ الْمَصدَرَ يأتي على زِنَةِ مَفعولٍ، كالْمَعسورِ والْمَيسورِ، وفي قولِهم: دَعْهُ مِن مَعسورٍ إلى مَيسورٍ، أي: مِن عُسْرِه إلى يُسرِه، وحُمِل عليه قولُه تعالى: { بَأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ } أي: بأيِّكُمُ الفِتنةُ. وقيلَ: بل الْمَفتونُ اسمُ مفعولٍ، وأَيِّكُم مُبتدأٌ، والباءُ فيه زَائدةٌ، والمعنى: أَيُّكم الشخصُ الْمَفتونُ.
فإنْ قَدَّرْتَه اسْمًا للشخْصِ، فانتصابُه على الْمَفعوليَّةِ على وَجهِ الكلامِ وحَقيقتِه، وإن قَدَّرْتَه اسْمًا للموعودِ به، احْتَمَلَ أن يكونَ مَفعولًا به على الْمَجازِ، وكأنها وَعَدَتْ ذلك الشيءَ أنْ تَفِيَ به , وأن يكونَ على إسقاطِ " في " تَوَسُّعًا، كما في قولِهم في الْمَثَلِ: صَدَقَنِي سِنَّ بِكْرِهِ. ويَحتاجُ حينئذٍ إلى تَقديرِ مَفعولٍ حَقِيقِيٍّ، أي: لو صَدَقْتِنِي في الوَعْدِ الذي وَعَدَتْ به.
وإن قَدَّرْتَه مَصدرًا كان على التَّوَسُّعِ، أي: في وَعْدِها.
قولُه: " أو لو أنَّ النُّصْحَ مَقبولُ " فيه أربعُ مَسائلَ:
إحداها: أنه قد يَتَمَسَّكُ به مَن يَرَى أنَّ " أو " تأتي بمعنى الواوِ، ويَدَّعِي أنه ليس مُرادُه أن يَقَعَ أحَدُ الأمرينِ، بل أن يَقَعَا جَميعًا . وهذا قولُ أبي الْحَسَنِ، والْجرميِّ، وجماعةٍ مِن الْكُوفيِّينَ، وجَعَلُوا منه قولَه تعالى: { إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } وقولَ الشاعرِ: ( البحر الطويل ).
وقد زَعَمَتْ بأنِّي فاجِرٌ = لِنَفْسِي تُقاهَا أو عليها فُجُورُها
واسْتَدَلَّ ابنُ مالِكٍ بقولِ الآخَرِ: ( جريرٍ ) ( البحر البسيط )
جاءَ الْخِلافةَ أو كانت له قَدَرًا = كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
ولعلَّ الاستدلالَ ببَيتِ كعبٍ أَظْهَرُ؛ لأنَّ " أو " في الآيةِ مُحتَمِلَةٌ للإبهامِ وللشَّكِّ مَصروفًا إلى الْمُخَاطَبِينَ , أي: لو رَأَيْتُمُوهم لشَكَكْتُم في عِدَّتِهم، فقُلتمْ: مائةُ ألْفٍ أو يَزيدونَ، وللإضرابِ: عندَ مَن أَثْبَتَه , وكلُّ ذلك مَقولٌ في الآيةِ.
وأمَّا البيتُ الأَوَّلُ، فمعناه: لِنَفْسي تُقاها إن كنتُ مُتَّقِيًا، أو عليها فُجورُها إن كنتُ فاجرًا، فـ" أو " فيه لأحَدِ الشيئينِ وليستْ بمعنى الواوِ.
وأمَّا البيتُ الثاني، فالذي وَقَعْتُ عليه في إنشادِه في كُتُبِ الشعْرِ والأدَبِ: " إذ كانت " فلعلَّ الذالَ تَصحيفٌ بالواوِ، وهو تَصحيفٌ قَريبٌ.
المسألةُ الثانيةُ: زَعَمَ الخليلُ أنه لا يَجوزُ الجمْعُ بينَ نحوِ: " يَسوءُ " و " يُسِيءُ" في قَافيتينِ، وإن جازَ جَمْعُ: " يَعودُ " و " يُعيدُ " واحْتَجَّ باختلافِ الرَّوِيِّ إذا خُفِّفَ الْهَمْزُ ؛ إذ يَصيرُ واوًا وياءً. وخالَفَه أبو الْحَسَنِ مُحْتَجًًّا بأنَّ الشاعِرَ إذا بَنَى القَصيدةَ على التحقيقِ أَمِنَ الاختلافَ , واسْتَدَلَّ أبو الفَتْحِ لأبي الْحَسَنِ بقولِ الحماسيِّ: ( البحر الطويل ).
لكلِّ أُناسٍ مَقْبَرٌ بفِنَائِهِمْ = فهم يَنْقُصونَ والقُبورُ تَزيدُ
وما إن يَزالُ رَسْمُ دارٍ قد اخْلَقَتْ = وعَهْدٌ لِمَيْتٍ بالفَناءِ جَديدُ
وذلك أنَّ الشاعِرَ بَناهُ على تَخفيفِ هَمْزٍ " اخْلَقَتْ" ولولَا ذلكَ لانْكَسَرَ الوَزْنُ، وإذا جازَ بِناءُ الشِّعْرِ على التخفيفِ، فبِناؤُه على التحقيقِ أَوْلَى؛ لأنَّه الأَصْلُ ، وبيتُ كعبٍ نَظيرُ بيتِ الحماسيِّ.
وأَغْرَبُ مِن الاحتياطِ الذي ذَكَرَه الخليلُ رَحِمَه اللهُ في القَوَافِي ما قالَه أبو مُحَمَّدِ بنُ الْخَشَّابِ رَحِمَه اللهُ مِن أنه لا يَجوزُ أن تَكونَ القوافِي الْمُقَيَّدَةُ لو أُطْلِقَتْ لاختَلَفَ إعرابُها، واعْتَرَضَ على أبي القاسِمِ الحريريِّ في قولِه في الْمَقامَةِ التاسعةِ والعِشرينَ:
يا صارفًا عَنِّي الْمَوَدَّهْ = والزمانُ له صُروفُ
ومُعَنِّفِي في نُصْحِ مَن = جَاوَزْتَ تَعنيفَ العَسوفِ
لا تُلْحِنِي فيما أَتَيْتُ = فإنني بهمُ عَروفُ
ولقد نَزَلْتُ بهمْ فلم = أَرَهُمْ يُراعُون الضُّيوفَ
وبَلَوْتُهُم فوَجَدْتُهم = لَمَّا سَبَكْتُهُمُ زُيوفَ
مجزوءُ الكامِلِ الْمُرفَلِ.
ألا ترَى أنها إذا أُطْلِقَتْ ظَهَرَ الأوَّلُ والثالثُ مَرفوعينِ، والرابعُ والخامسُ مَنصوبينِ، والثاني مَجرورًا، وكذا باقي القَصيدةِ.
واعلَمْ أنَّ أَشعارَهم نَاطِقَةٌ بإلغاءِ هذا الذي اعْتَبَرَه ابنُ الْخَشَّابِ، بل قالوا في الأَسْجَاعِ ـ معَ أنها أَوْسَعُ مَجالًا مِن القَوافِي ـ في أنَّ مَبناهَا على سُكونِ الأعجازِ، كقولِهم: ما أَبْعَدَ ما فاتَ، وما أَقربَ ما هو آتٍ؛ فإنهما لو حُرِّكَا لاختَلَفا. ومِن مَجيءِ ذلك في الشِّعْرِ قولُ امرئِ القَيْسِ: ( البحر الطويل )
إذا ذُقْتَ فاهَا قُلْتَ طَعْمُ مُدامَةٍ = مُعَتَّقَةٍ مِمَّا تَجيءُ به التَّجْرُ
ثم قالَ: ( البحر الطويل )
إذا قَامَتَا يَضَّوَّعُ الْمِسْكُ مِنْهُمَا = برائحةٍ بينَ اللَّطِيمَةِ والْقَطْرِ
قولُه: " طَعْمُ " يُرْوَى مَرفوعًا بتقديرِ: هذا طَعْمُ، ومنصوبًا بتقديرِ، ذُقْتَ، والتَّجْرُ جَمْعُ تُجَّارٍ، ككَتْبٍ وكُتَّابٍ، وتُجَّارٌ جَمْعُ تَجْرٍ، كصَحْبٍ وصِحابٍ، والتَّجْرُ اسمُ جَمْعِ تاجرٍ عندَ سِيبويهِ، وجَمْعٌ له عندَ أبي الْحَسَنِ، فالتُّجُرُ بضَمَّتَيْنِ عندَه جَمْعُ جَمْعِ الْجَمْعِ، وعندَ سِيبويهِ جَمْعُ جَمْعِ اسمِ الْجَمْعِ، واللَّطيمةُ: الْعِيرُ التي تَحْمِلُ الْمِسْكَ، والقَطْرُ: العُودُ.
المسألةُ الثالثةُ: الألِفُ واللامُ في " النُّصْحِ " خَلَفٌ عن الضميرِ، والأَصْلُ: أو لو أنَّ نُصْحَها على إضافةِ المصدَرِ إلى المفعولِ، ومنه قولُه تعالى: { إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } أي: واشْتَعَلَ رأسي ، وقولُه تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أي: مَأواهُ، وقولُ العرَبِ: مَرَرْتُ بالرَّجُلِ الْحَسَنِ الوَجْهُ، برَفعِ الوَجْهِ، أي وَجْهٌ، سواءٌ قُدِّرَ فاعلًا، كما يقولُ الْجُمهورُ، أو بَدَلَ بعضٍ مِن ضميرٍ مُستَتِرٍ في الوَصْفِ، كما يقولُ أبو عَلِيٍّ، ذَكَرَه في قولِه تعالى: { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ } وهو تَكَلُّفٌ خِلافُ الظاهرِ، وليس بِمُتَأَتٍّ في مِثلِ: مَرَرْتُ بالرجُلِ الكريمِ الأبُ، ولا مَخْلَصَ مِن دَعْوَى تقديرِ الضميرِ، أو كونِ " أل " نائبةً عنه؛ لأنَّ الصفةَ كما تَفتَقِرُ إلى ضميرٍ يَرْبِطُها بالموصوفِ، كذلك بَدَلُ البعضِ يَفتَقِرُ إلى ضَميرٍ يَرْبِطُه بالْمُبْدَلِ منه، ونيابةُ " أل " عن الضميرِ قالَ بها الكُوفِيُّونَ وبعضُ البَصريِّينَ، وهو ظاهِرُ مَذهبِ سِيبويهِ، كقولِه في ضَرَبَ زيدٌ الظَّهْرَ والبَطْنَ في مَن رَفَعَ: إنَّ المعنى ظَهْرُه وبَطْنُه. ولم يَقُلْ: الظهرُ منه والبطْنُ منه، كما يَقولُ أَكثرُ البَصريِّينَ، ومِن حُجَّتِهم قولُ طَرَفَةَ: ( البحر الطويل ).
رَحيبٌ قِطابٌ الْجَيْبِ منها رَقيقةً = بِجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةُ الْمُتَجَرَّدِ
فجَمَعَ بينَ " أل " والضميرِ، فدَلَّ على أنها ليستْ عِوَضًا عنه.
والجوابُ: أنَّ " أل " هنا لِمُجَرَّدِ التعريفِ مِثلُها في الرجُلِ، لا للتعريفِ والتعويضِ مِثلُها في: { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } كما أنَّ الهاءَ في " وِجْهَة " لِمُجَرَّدِ التأنيثِ، مِثْلُها في مُسْلِمَة، لا للتأنيثِ والتعويضِ مِثْلُها في " عِدَة " وأيضًا فقد يَجْتَمِعُ العِوَضُ والْمُعَوَّضُ منه في الضرورةِ كقولِه:
أقولُ يا اللهمَّ يا اللهُمَّا
وقولِه:
هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِن فَمَوَيْهِمَا
والرحيبُ: الواسِعُ، والقِطَابُ: مَجْمَعُ الجيبِ، ومنه: قَطَّبَ بينَ عَيْنَيْهِ: إذا جَمَعَ، وجاؤوني قاطِبَةً، أي: جميعًا، يقولُ: إنَّ عُنُقَها واسعٌ بدليلِ اتِّساعِ مُجْتَمَعِ جَيْبِها. والْبَضَّةُ: البيضاءُ الرَّخْصَةُ، والْمُتَجَرَّدُ، بفَتْحِ الراءِ: الْجَسَدُ.
تَنبيهٌ: نِيابةُ " أل " عن الضميرِ في نَحْوِ: حَسَنُ الوجهِ من حيثُ هو الضميرُ، لا مِن حيثُ هو مُضافٌ إليه، ورُبَّمَا تُوُهِّمَ مِن كلامِهم الثاني، وقد اسْتَحْسَنَ ذلك الزَّمخشريُّ، حتى جَوَّزَ نِيابَتَها عن الْمُضافِ إليه الْمُظْهَرِ، فقالَ في قولِه تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ } : إنَّ الأصلَ أسماءُ الْمُسَمَّيَاتِ، ولا أَعْلَمُ أَحَدًا قالَ بهذا قَبْلُ، والمشهورُ في الآيةِ الكريمةِ قولان :
أحدُهُمَا: أنَّ الأَصْلَ مُسَمَّيَاتُ الأسْماءِ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضافَ، وعادَ الضميرُ مِن ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عليه ) كما عادَ على الْمُضافِ المحذوفِ في قولِه تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ } الأصْلُ: أو كذي ظُلُمَاتٍ يَغشاهُ.
الثاني: أنَّ الأسماءَ أُريدَ بها الْمُسَمَّيَاتُ، فلا حَذْفَ ألْبَتَّةَ.
المسألةُ الرابعةُ: أنه أَخْبَرَ عن اسمِ " أنَّ " بعدَ " لو " بالْمُفْرَدِ، وقد مَضَى ذلك مَشْرُوحًا.
قالَ :
7- لكنَّها خُلَّةٌ قد سِيطَ مِن دَمِهَا = فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتَبديلُ
قولُه: " لكنها خُلَّةٌ" البيتَ: مَوْقِعُ لكنَّ وما بعدَها مِمَّا قَبْلَها كموقِعِها في قولِك: لو كانَ عالِمًا لأَكْرَمْتُه، لكنه ليس بعالِمٍ ولا صالِحٍ في أنَّ ما بعدَها توكيدٌ لمفهومِ ما قَبْلَها معَ زِيادةٍ عليه.
وقولُه: " قد سِيطَ " إلى آخِرِه, جُملةٌ في مَوْضِعِ الرَّفْعِ صِفةٌ لِخُلَّةٍ، ولولا هي لم تَحْصُل الفائدةُ، ونَظيرُها الجملةُ التي بعدَ قومٍ مِن قولِه تعالى: { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ }. وعُلِمَ بذلك أنَّ الفائدةَ كما تَحْصُلُ مِن الْخَبَرِ كذلك تَحْصُلُ مِن صِفتِه، وهذا يُشْكِلُ على أبي عليٍّ في مَسألةٍ؛ وذلك أنه حَكَى عن أبي الْحَسَنِ رَحِمَه اللهُ أنه امْتَنَعَ مِن إجازةِ: أَحَقُّ الناسِ بمالِ أبيه ابنُه؛ لأنه ليس في الخبَرِ إلا ما في الْمُبتدأِ . ثم قالَ: فإن قلتَ: أَحَقُّ الناسِ بمالِ أبيه ابنُه البارُّ به، أو النافِعُ له، أو نحوَ ذلك، كانت المسألةُ على فَسادِها أيضًا؛ لأن الْخَبَرَ نفسَه غيرُ مفيدٍ ولا يَنفعُه مَجيءُ الصِّفةِ مِن بعدِه ؛ لأنَّ وَضْعَ الْخَبَرِ على تَناوُلِ الفائدةِ منه، لا مِن غيرِه. حَكَى ذلك عنه عبدُ الْمُنْعِمِ الإسكندريُّ، في كتابِ " التُّحْفَةِ " ونظيرُ تصحيحِ الصفةِ للخَبريَّةِ بتصحيحِها للابتدائيَّةِ في قولِه تعالى: { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } وتصحيحُها لدخولِ الفاءِ في الخبَرِ في قولِه تعالى: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ }.
ومِن هنا أَجازَ يُونسُ في النُّدْبَةِ: وا زيدٌ الطَّوِيلَاهُ، تَنزيلًا للصِّفَةِ والموصوفِ مَنزِلةَ الشيءِ الواحدِ، ويَشْهَدُ له قولُ بعضِ العرَبِ: واجُمْجُمَتَيَّ الشامِيتِيناهُ، وإذا جازَ للحالِ أن تَحْصُلَ به الفائدةُ المقصودةُ مِن الكلامِ كما في قولِه تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }.
{ فَمَا لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } . إذ السؤالُ إنما هو في المعنى عن الحالِ، فجَوازُ ذلك في الصِّفَةِ أَجْدَرُ، وعلى مسألةِ الحالِ يَتَخَرَّجُ قولُ الحسَنِ البَصريِّ: "كأنك بالدنيا لم تكنْ، وبالآخِرَةِ لم تَزَلْ". وذلك بأن تُقَدِّرَ الظرْفَ خَبَرًا، والجملةَ الْمَنْفِيَّةَ حالًا، ويُؤَيِّدُه أنها رُوِيَتْ مَقرونةً بالواوِ، فانْتَفَى أن يكونَ خَبَرًا، وعلى ذلك قولُهم: كأنك بالشمسِ وقد طَلَعَتْ. وقولُ الحريريِّ:
كأنِّي بكَ تَنْحَطُّ إلى القَبْرِ وتَنْغَطُّ
وقد أَسْلَمَكَ الرَّهْطُ إلى أَضْيَقَ مِن سَمِّ
أي: كأنِّي بكَ مُنْحَطًّا.
وأمَّا قولُ الْمُطَرَّزِيِّ: إنَّ الأصلَ كأني أُبْصِرُكَ، ثم حُذِفَ الفِعْلُ، ففيه حَذْفُ فِعْلٍ، وزيادةُ حَرْفٍ.
وقولُه: سِيطَ: مِن ساطَ الماءَ وغيرَه، يَسُوطُه سَوْطًا، إذا خَلَطَه بغيرِه، وضَرَبَهما حتى اخْتَلَطَا، ومنه قِيلَ للآلَةِ التي يُضْرَبُ بها: " سَوْطٌ " ؛ لأنه يَسُوطُ اللحمَ بالدَّمِ، ويَجوزُ أن يُقرأَ: " قد شِيطَ " بالشينِ الْمُعْجَمَةِ؛ لأنه يُقالُ: شَاطَه بمعنى: سَاطَهُ، وقد رُوِيَ بيتُ الْمُتَلَمِّسِ بالوجهينِ وهو:
( البحر الطويل)
أَحارِثُ إنَّا لو تُشَاطُ دِماؤُنا = تَزَايَلْنَ حَتَّى لا يَمَسَّ دَمٌ دَمَا
قولُه: تَزَايَلْنَ . البيتُ جارٍ على ما يَزْعُمُه العربُ مِن أنَّ دَمَ المتباغِضَيْنِ لا يَخْتَلِطُ، ولهذا قالَ: ( البحر الوافر ).
فلو أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا = جَرَى الدَّمَيَانِ بالْخَبَرِ اليَقينِ
ولِمَا لَحَظُوه بينَ الْمُتباغِضَيْنِ مِن تَباعُدِ قُلُوبِهما، وتَزايُلِ دِمائِهما، سَمَّوْهُما: " خَصْمَيْنِ " ؛ لأنَّ كُلًّا منهما في خَصْمٍ، والْخُصْمُ بالضَّمِّ: الجانبُ والناحيةُ. وقالَ الزَّمخشريُّ: أَتانِي آتٍ في النومِ فقالَ: مِمَّ اشْتُقَّ اسمُ الْعَدُوِّ؟ فقلتُ: من " العَدْوَةِ " ؛ لأنَّ كُلًّا مِن الْمُتَعَادِيَيْنِ في " عَدوةٍ " واشْتَقَّهُ غيرُه من عَدَا يَعْدُو؛ لأن كُلًّا منهما يَعْدُو على الآخَرِ، والعِدوةُ: شَطُّ الوادي، وأَوَّلُها مُثَلَّثٌ، ويُقالُ أيضًا: عِدْيَةٌ بقَلْبِ الواوِ ياءً للكَسرةِ، ولم يُعْتَدَّ بالدالِ لسُكونِها، ونَظيرُه : صِبْيَةٌ، وقد قُرئَ بالأَوْجُهِ الأربعةِ.
ويَجوزُ في أَوَّلِ سِيطَ وشِيطَ ونحوِهِما مِن فَعَلَ المفعولُ الثلاثيُّ الْمُعَلُّ العينِ إخلاصُ الكَسْرِ، وهو لغةُ قُريشٍ ومَن جاوَرَهم، وإشمامُ الكسرةِ الضمَّ وهو لغةُ كثيرٍ مِن قَيْسٍ وأكثرِ بني أَسَدٍ، وإخلاصُ الضمِّ، وهو لُغةُ بعضِ تَميمٍ وجميعِ فَقْعَسٍ ودُبَيْرٍ، وهما مِن فُصَحَاءِ بني أَسَدٍ.
ونَظيرُ بيتِ الْمُتَلَمِّسِ في رِوايتِه بالسينِ والشينِ بيتُ ابنِ دُرَيْدٍ: ( بحرُ الرجَزِ )
أَرْمُقُ الْعَيْشَ على بَرَضٍ فإنْ = رُمْتُ ارتشافًا رُمْتُ صَعْبَ الْمُنْتَسَا
فمَن رَواهُ بالْمُهْمَلَةِ فهو مِن قولِهم: نَسَأَ اللهُ في أَجَلِكَ، أي: أَخَّرَ، والأَلِفُ على هذا مُبْدَلَةٌ عن الهمْزِ , والمعنى: أُعْطَى مِن العيشِ ما يَسُدُّ رَمَقِي، أي: بَقِيَّةَ نَفْسِي، فإن قَصَدْتَ مَصَّ الشيءِ رُمْتَ الْمُسْتَبْعَدَ الصَّعْبَ وفيه تَقديمُ الصِّفةِ، وإضافتُها إلى الموصوفِ، كقولِهم: أخلاقُ ثِيابٍ، ومَن رَوَاهُ بالْمُعجَمَةِ فمعناه: استقصاءُ الشُّرْبِ بالْمَشافِرِ. وبيتُ عُروةَ بنِ أُذَيْنَةَ: ( البحر البسيط ).
لقد عَلِمْتُ وما الإسرافُ مِن خُلُقِي = أنَّ الذي هو رِزْقِي سوفَ يَأْتِينِي
وهو بالْمُعْجَمَةِ أَظهرُ، ومعناه: التطَلُّعُ إلى الشيءِ وبعدَه:
أَسْعَى إليه فيُعَنِّينِي تَطَلُّبُه = ولو قَعَدْتُ أَتَانِي لا يُعَنِّينِي
ولهذا الشعْرِ حِكايةٌ حَسَنَةٌ، وهي أنَّ قائلَه وَفَدَ على هِشامِ بنِ عبدِ الْمَلِكِ في جَماعةٍ مِن الشُّعراءِ، فقالَ: ألستَ القائلَ، وأَنْشَدَه البيتينِ؟ قالَ: نعمْ. قالَ: فما بالُك قد جِئْتَ مِن الْحِجازِ إلى الشامِ تَطْلُبُ الرِّزْقَ؟ فقالَ له: لقد وَعَظْتَ يا أميرَ المؤمنينَ، وأَذْكَرْتَنِي ما أَنسانِيهِ الدَّهْرُ. ثم خَرَجَ مِن فَوْرِه، فرَكِبَ راحِلَةً وتَيَمَّمَ الْحِجازَ، ومَكَثَ هِشامٌ يَوْمَه مُشْتَغِلًا عنه، فلَمَّا جاءَ الليلُ، ودَخَلَ إلى فِراشِه، ذَكَرَه، فقالَ : رجلٌ مِن قُريشٍ، قالَ حِكمةً، فرَدَدْتُه، ثم هو شاعرٌ، ولا آمَنُ لِسانَه، فلَمَّا أَصْبَحَ جَهَّزَ مَوْلًى له إلى الْحِجازِ، وأَعطاهُ مِائتَيْ دِينارٍ فلم يُدْرِكْه حتى دَخَلَ بيتَه، فلَمَّا دَفَعَها إليه، قالَ له: أَبْلِغْ أميرَ المؤمنينَ السلامَ، وقُلْ له: كيفَ رأيتَ البيتينِ؟ سَعَيْتُ فأَكْدَيْتُ، ورَجَعْتُ إلى بَيْتِي، فَأَتَانِي رِزْقِي.
ومِن ذلك قولُ الآخَرِ: ( البحر الوافر ).
أُعَلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ = فلَمَّا اشْتَدَّ ساعِدُه رَمَانِي
وَكَمْ عَلَّمْتُه نَظْمَ الْقَوَافِي = فلَمَّا قالَ قَافِيَةً هَجَانِي
الروايةُ الْجَيِّدَةُ " اسْتَدَّ " بالْمُهْمَلَةِ مِن السَّدَادِ، وهو الصوابُ، ومَن أَعْجَمَها ذَهَبَ به إلى معنى الاشتدادِ والقُوَّةِ.
ومِن ذلك قولُهم: سَمَّتَ العاطِسَ، وشَمَّتَه، فمَن أَهْمَلَها، فمَعناه: دَعَا له بالبَقاءِ على سَمْتِه، ومَن أَعْجَمَها، فمَعناه: دَعَا له بأن يُسْلَبَ عنه شامِتُوه، أي: يُصيبَه شيءٌ، فيَشْمَتَ به عَدُوُّه، وقد فُسِّرَا بغيرِ ما ذَكرناهُ وليس بِمُنَاسِبٍ.
وكذلك قولُهم: الشِّطْرَنْجُ، يُرْوَى بالْمُهمَلَةِ؛ لأنه يُجْعَلُ أَسْطُرًا، وبِالْمُعْجَمَةِ؛ لأن اللاعبينَ يَقتسمانِ القِطَعَ شَطْرَيْنِ، والشطْرُ: النِّصْفُ .
قالَ عَنترةُ بنُ شَدَّادٍ العَبْسِيُّ: ( البحر الكامل ).
إني امرُؤٌ مِن خَيْرِ عَبْسٍ مَنْصِبًا = شَطْرِي وأَحْمِي سائِرِي بالْمُنْصُلِ
وذلك لأنَّ أباه عَرَبِيٌّ، وأمَّه أَمَةٌ , فَشَطْرُهُ مِن جِهةِ أبيه يُفاخِرُ به الناسَ، وشَطْرُه مِن جِهةِ أُمِّهِ يُحامِي عنه بالنَّصْلِ: وهو السيفُ . وفي البيتِ استعمالُ " سائر " بمعنى الباقِي، لا بمعنى الجميعِ، ولا نَعْلَمُ أحدًا مِن أَئِمَّةِ اللغةِ ذَكَرَ أنها بمعنى الجميعِ إلا صاحبَ " الصِّحَاحِ " وهو وَهْمٌ.
وقولُه: " مِن دَمِها " أي: في دَمِها، كقولِه تعالى: { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ } ،{ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ }.
واختُلِفَ في وَزْنِ " دَم " فقالَ سِيبويهِ وأصحابُه: " فَعْلٌ " بالإسكانِ، واحْتَجُّوا بأَمرينِ:
أحدُهما: جَمْعُه على دماءٍ ودَمِيٍّ، كما جُمِعَ نحوَ: ظَبْيٍ ودَلْوٍ على ذلك، ولو كان مِثلَ عَصَا وقَفًا، لم يُجْمَعْ عليهما.
والثاني: أنَّ الحركةَ زِيادةٌ، فلا تُدْعَى إليه إلا بدليلٍ.
وقالَ الْمُبَرَّدُ: " فَعَل " بالتحريكِ بدليلينِ.
أحدُهما بأنَّ فِعْلَه: دَمِيَ يَدْمَى، كفَرِحَ يَفْرَحُ، فأَصْلُ الدمِ: دَمِيَ، كفَرِحَ، قالَ أبو بكرٍ: وليس قولُه بشيءٍ؛ لأن كلامَنا في الدَّمِ الذي هو جَوهَرٌ، لا في الدَّمِ الذي هو حَدَثٌ.
والثاني: أنَّهم لَمَّا رَجَعُوا إليه لامَه قَلَبُوها ألِفًا: ( بحرُ الرمَلِ ).
غَفِلَتْ ثم أَتَتْ تَطْلُبُهُ = فإذا هي بعِظامٍ ودِمَا
ولو كانت العينُ ساكنةً لصَحَّت اللامُ، كما في ظَبْيٍ وغَزْوٍ.
وقالَ أبو الفَتْحِ: والجوابُ عن هذا بأنَّ الْمُرادَ إمَّا الْمَصْدَرُ على حَذْفِ مُضافٍ , أي: ذي دِمَا، وإمَّا الْجَوْهَرُ، ولكنه ردَّ اللامَ، وأَبْقَى العينَ الْمُتَحَرِّكَةَ كما كانتْ قبلَ الرَّدِّ.
قلتُ: ويُؤَيِّدُ الثانيَ قولُه: ( البحر الكامل )
قد أَقْسَمُوا لا يَمْنَحُونَك نَفْعَهمْ = حتى تَمُدَّ إليهمُ كَفَّ اليدِ
واليدُ: " فَعْلٌ " بالإسكانِ عندَ الْمُبَرَّدِ وغيرِه مِن البَصرِيِّينَ، بل ذَكَرَ الْجَوهريُّ أنه مُتَّفَقٌ عليه، وليسَ كذلك، بل قالَ الكُوفِيُّونَ: إنها " فَعَلٌ " بالتحريكِ، واختارَه ابنُ طاهِرٍ.
فإن قُلْتَ: فكيفَ قالَ الآخَرُ: إنَّ مع اليومِ أخاه غَدْوًا؟
قلتُ: يَجِبُ أن يُدَّعَى أنه نَطَقَ بالكلمةِ على أَصْلِها، ولم يُقَدِّرْ أنه رَدَّ اللامَ بعدَ حَذْفِها، وإنما وَجَبَ هذا التقديرُ للجَمْعِ بينَ الأَدِلَّةِ.
قولُه: " فَجَعٌ " هو مَصدَرُ فَجَعَه، إذا أصابَه بمكروهٍ، والفَجيعةُ: ما أَوْجَعَ مِن الْمَصائبِ.
قولُه: " وَلَعٌ " وهو مَصدَرُ " وَلَعَ " بالفتْحِ إذا كَذَبَ، وإنما قالوا: وَلَعٌ والِعٌ على الْمَجازِ الإسناديِّ، كما قالوا: عَجَبٌ عاجِبٌ، وجَمْعُ الوالِعِ وَلَعَةٌ، ككاذِبٍ وكَذَبَةٍ، والوَلَعانُ بالتحريكِ، بمعنى: الوَلْعِ بالإسكانِ.
قالَ: وهُنَّ مِن الإخلافِ، والوَلَعانُ أي: مِن أهلِ الإخلافِ، أو قَدَّرَ أنهنَّ خُلِقْنَ من هذينِ الوصفينِ على الْمُبالَغَةِ في وَصْفِهِنَّ بهما، ومِثلُه: { خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ويُؤَيِّدُه أنَّ بَعْدَه { فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ }. وقيلَ: العَجَلُ: الطينُ، بلُغَةِ حِمْيَرَ، وأَنْشَدَ:
والنَّخْلُ تَنْبُتُ بينَ الماءِ والعَجَلِ
وليس يَثبُتُ عندَ عُلماءِ اللغةِ.
قولُه: " وإخلافٌ وتَبديلٌ " مَصدَرُ أَخلَفَ، وبَدَّلَ، ومعنى البيتِ: أنَّ هذه المرأةَ قد خُلِطَ بدَمِها الإفجاعُ بالمكروهِ، والكَذِبُ في الْخَبَرِ، والإخلافُ في الوَعْدِ، وتَبديلُ خَليلٍ بآخَرَ، وصارَ ذلك سَجِيَّةً لها، لا طَمَعَ في زَوَالِه عنها.
8- فما تَدومُ على حالٍ تكونُ بها = كما تَلَوَّنُ في أثوابِها الْغُولُ
قولُه: " فما تَدومُ ": الفاءُ للسبَبِيَّةِ، أي: فلِمَا جُبِلَتْ عليه مِن الإخلافِ والتبديلِ لا تَدومُ على حالٍ. " وتَدومُ " تَامَّةٌ لا نَاقصةٌ؛ لأن " ما " الْمُتَقَدِّمَةَ عليها نافيةٌ لا ظَرْفِيَّةٌ، ولأنها بلَفْظِ الْمُضارِعِ، والناقصةُ جامِدَةٌ على لَفْظِ الْمُضِيِّ على الصحيحِ.
وقولُه: " على حالٍ " مُتَعَلِّقٌ بتَدومُ. أو حالٌ، والحالُ: ما الإنسانُ عليه مِن خَيرٍ وشَرٍّ، وتأنيثُها كما جاءَ في البيتِ أَكْثَرُ مِن تَذكيرِها، والتذكيرُ لغةُ الْحِجازِيِّينَ، والجمْعُ أحوالٌ؛ كمالٍ وأموالٍ وربما قالوا: أَحْوِلَةٌ . حَكاهُ اللَّحيانيُّ، وقد يُقالُ: حالةٌ. قالَ الفَرَزْدَقُ: ( البحر الطويل ).
على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حَاتِمًا = على جُودِه لضَنَّ بالماءِ حاتِمِ
هذا هو المشهورُ في روايةِ هذا البيتِ، ورَوَاهُ الْمُبَرَّدُ في " الكاملِ " على ساعةٍ. و " حاتِمِ " في البيتِ مَخفوضٌ بدَلٌ مِن الهاءِ مِن " جُودِه " ولم يَجْعَل الجوهريُّ الحالَ والحالةَ بمعنًى، بل جَعَلَهما من بابِ تَمْرَةٍ وتَمْرٍ، وهو غريبٌ، وقد يُقالُ في الحالةِ: " آلةٌ " بهمزةٍ مكانَ الحاءِ كقولِ الراجزِ: ( البحر الرَّجَز ) :
قد أَتْرُكُ الآلةَ بعدَ الآلةِ = وأَترُكُ العاجِزَ بالْجَدَالَةِ
ورواه بعضُهم: " قد أَرْكَبُ الحالةَ بعدَ الحالةِ ". والْجَدالةُ بالفَتْحِ: الأرضُ. يُقالُ: طَعَنَه، فجَدَلَه: أي: رَماهُ إلى الأرضِ.
وقولُه: " تَكونُ بِهَا " في مَوْضِعِ خَفْضٍ , صِفةٌ لحالٍ، ورابطُها، الضميرُ المجرورُ، ويَحْتَمِلُ قولُه: " تكونُ " التمامَ والنُّقصانَ، فالظرْفُ مُتَعَلِّقٌ بها وبالاستقرارِ، ويَجوزُ على وَجْهِ التَّمامِ كونُ الظرْفِ حالًا، فيَتَعَلَّقُ بالاستقرارِ، كما في وَجهِ النُّقصانِ، والباءُ للإلْصَاقِ، مِثلُها في قولِك: بزَيْدٍ داءٌ , أو بمعنى " على "، مِثلُها في قولِه تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } أو بمعنى " في " مِثلُها في قولِه تعالى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } ويَحْتَمِلُ باءُ بالحِجابِ السببيَّةَ.
وقولُه: " كما " الكافُ وما حرفانِ: جارٌّ، ومَصدَرِيٌّ، خِلافًا لابنِ + مَضاءٍ في زَعْمِه أنَّ الكافَ اسمٌ أَبَدًا؛ لأنها بمعنى "مِثل" وللأَخْفَشِ في إِجازةِ كَوْنِها اسْمًا، وإن لم يَدْخُلْ عليها عامِلٌ مِن عوامِلِ الأسماءِ، وله ولابنِ السَّرَّاجِ في اسْمِيَّةِ " ما " الْمَصْدَرِيَّةِ. وتَرِدُ كما في العربيَّةِ على خمسةِ أَوْجُهٍ:
أحدُها: ما ذَكَرْنَا في كونِ الكافِ جَارَّةً، " وما " مَصدَرِيَّةً وهي وَصِلَتُها في مَوضِعِ جَرٍّ.
الثاني: أن تكونَ الكافُ جَارَّةً، و " ما " مَوصولًا اسْمِيًّا، وقد أُجِيزَ ذلك في قولِه تعالى: { قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } قيلَ: التقديرُ، كالذي هو آلِهَةٌ لهم.
الثالثُ: أن تكونَ الكافُ جَارَّةً و " ما " زائدةً غيرَ لازِمَةٍ، كقولِه: ( البحر الطويل ).
ونَنْصُرُ مَوْلانا ونَعْلَمُ أنَّهُ = كما الناسُ مَجرومٌ عليه وجَارِمُ
الرابعُ: أن يكونَ كذلك إلا أنَّ زِيادةَ " ما " لازِمةٌ، وذلك في نحوِ قولِهم: هذا حقٌّ كما أنك ههنا. قالَ سِيبوَيْهِ رَحِمَه اللهُ: زَعَمَ - يعني: الخليلُ- أنَّ " ما " لَغْوٌ، إلا أنها لا تُحْذَفُ كَراهةَ أنْ يَجِيءَ لَفْظُها كلَفْظِ " كأنَّ " .
الخامسُ: أن تكونَ " ما " كافَّةً للكافِ عن عَمَلِ الجَرِّ كقولِ: ( البحر الطويل ).
أخٌ ماجِدٌ لم يُخْزِنِي يومَ مَشْهَدٍ = كما سيفُ عمرٍو لم تَخُنْهُ مَضارِبُهْ
وقد خَرَّجَ عليه الآيةَ الزَّمخشريُّ وغيرُه، ومَن وَصَلَ " ما " الْمَصدرِيَّةَ بالجُمَلِ الاسميَّةِ ادَّعَى ذلك هنا، وأَبْطَلَ هذا القَسَمَ.
وقولُه: " تَلَوَّنُ " أَصْلُه: تَتَلَوَّنُ، فحُذِفَت التاءُ الثانيةُ للتَّخْفِيفِ، وقالَ هِشامٌ الكوفيُّ: المحذوفُ الأُولَى، وهو بعيدٌ؛ لأن حَرْفَ المضارَعَةِ حرفُ مَعْنًى، ولأنَّ الثِّقَلَ، إنما حَصَلَ بالثانيةِ، قيلَ: ولأنَّ الثانيةَ قد ثَبَتَ لها التَّغييرُ في مِثلِ " تَذَّكَّرُونَ " بالإدغامِ، ويَرُدُّه أنَّ الأُولَى ثَبَتَ فيها ذلك أيضًا، كما في قراءةِ البَزِّيِّ: { وَلَا تَيَمَّمُوا }.
وقولُه: تَلَوَّنُ في أَثوابِها الْغُولُ: صِلَةٌ لِمَا، وما وصِلَتُها في مَوْضِعِ جَرٍّ بالكافِ، والكافُ ومَجرورُها في مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه ما قَبْلَه؛ لأن الذي لا يَدومُ على حالٍ مُتَلَوِّنٌ، فكأنه قالَ: تَتَلَوَّنُ تَلَوُّنًا، كما يَتَلَوَّنُ الغُولُ، وهي مِن تَشبيهِ الْمَعقولِ بالمحسوسِ، كتَشبيهِ العِلْمِ بالنُّورِ.
والهاءُ في " أثوابِها " عائدةٌ على مُتَأَخِّرٍ لَفْظًا، مُتَقَدِّمٍ رُتْبَةً ونِيَّةً، كالهاءِ من قولِه تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }.
ويُستفادُ من قولِه: " تَلَوَّنُ " وقولِه: " في أثوابِها " تأنيثُ الغُولِ، كما اسْتُفِيدَ من قولِه: " بها " تأنيثُ الحالِ.
والغُولُ بالضَّمِّ: كلُّ شيءٍ اغتالَ الإنسانَ، فأَهْلَكَهُ، والمرادُ هنا: الواحدةُ مِن السَّعَالِي، وهي إناثُ الشياطينِ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنها فيما زَعَمُوا تَغتالُهم، أو لأنها تَتَلَوَّنُ كلَّ وَقْتٍ، من قولِهم: تَغَوَّلَت عليَّ البلادُ، إذا اخْتَلَفَتْ.
وللعرَبِ أُمورٌ تَزْعُمُها لا حقيقةَ لها، منها: أنَّ الغُولَ تَتَرَاءَى لهم في الْفَلَوَاتِ، وتَتَلَوَّنُ لهم، وتُضِلُّهُم عن الطريقِ.
ومنها: الْهَديلُ، زَعَمُوا أنه فَرْخٌ كان على عهدِ نوحٍ عليه السلامُ، فصادَه بعضُ الجوارِحِ، وأنَّ جميعَ الحمامِ تَبكِيهِ إلى يومِ القِيامةِ , قالَ: ( البحر المتقارِب ).
يُذَكِّرُنِيكِ حَنينُ العَجُولِ = وصوتُ الحمامةِ تَدْعُو هَدِيلًا
العَجولُ: بالفتْحِ: الفاقِدَةُ لوَلَدِها مِن الإِبِلِ.
ومنها: الصَّفَرُ، زَعَمُوا أنه حَيَّةٌ في جَوفِ الإنسانِ تَعَضُّ عندَ الجوعِ شَراسِيفَهُ , وهي أطرافُ الأضلاعِ التي تُشْرِفُ على البَطْنِ، قالَ أَعْشَى باهِلَةَ: ( البحر البسيط ).
لا يَتَأَرَّى لِمَا في القِدْرِ تَرْقُبُهُ = ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفِه الصَّفَرُ
يُقالُ: تَأَرَّى بالمكانِ: إذا أَقامَ به، أي: لا يَحْبِسُ نفسَه لإدراكِ طَعامِ القِدرِ ليَأكلَه.
ومنها: الْهَامَةُ، زَعَمُوا أنها طائرٌ يَخرُجُ مِن رأسِ الْمَقتولِ، فيَصيحُ: اسْقُونِي ؛ فإني عَطشانُ، إلى أن يُؤْخَذَ بثأرِه، وقالَ ( البحر البسيط ).
يا عمرُو إن لا تَدَعْ شَتْمِي ومَنْقَصَتِي = أَضْرِبْكَ حتى تَقولَ الْهَامَةُ اسْقُونِي
ومنها: النَّوْءُ، وهو أن يَسْقُطَ نَجْمٌ مِن مَنازِلِ القَمَرِ الثمانيةِ والعِشرينَ مِن الْمَغْرِبِ مَعَ طُلوعِ الفَجْرِ، ويَطْلُعُ في تلك الساعةِ آخَرُ يُقابِلُه مِن الْمَشْرِقِ، فيأتي الْمَطَرُ وأمورٌ أُخَرُ مِن الْخُرافاتِ لا حقيقةَ لشيءٍ فيها، وفي الحديثِ: ((لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا نَوْءَ وَلَا صَفَرَ)) وفي حديثٍ آخَرَ: ((لَا طِيَرَةَ وَلَا نَوْءَ وَلَا غُولَ)). رواهما مسلِمٌ، وقالَ بعضُ الشُّعراءِ: ( البحر البسيط ).
الْجُودُ والغُولُ والعَنقاءُ ثالثةٌ = أسماءُ أشياءَ لم تُخْلَقْ ولم تَكُنِ
ويُجْمَعُ الغُولُ على " غِيلانٍ " وعلى " أَغوالٍ " قالَ: ( البحر الطويل ).
أيَقْتُلُنِي والْمَشْرِفِيُّ مُضَاجِعِي = ومَسنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أَغوالِ
وليس بذي رُمْحٍ فيَطْعَنُنِي بِهِ = وليس بذي سَيْفٍ وليس بنَبَّالِ
قولُه: " والْمَشْرِفِيُّ مُضَاجِعِي " : حالٌ مِن المفعولِ. وقولُه: وليس بذي رُمْحٍ: حالٌ مِن الفاعلِ، والواوانِ وَاوَا الحالِ؛ إذ لا يُعْطَفُ حالٌ على أُخرى مُخَالِفَةٍ لها في صاحبِها، لا يُقالُ: لَقِيتُه مُصْعِدًا ومُنْحَدِرًا، ورابطُ كلٍّ مِن الْجُملتينِ يُصاحِبُها الواوُ والضميرُ.
" والْمَشْرِفِيُّ " بفَتْحِ الميمِ: السيفُ، مَنسوبٌ إلى الْمَشارِفِ: قُرًى من أرضِ العَرَبِ يَجودُ فيها طَبْعُ السُّيوفِ.
" والزُّرْقُ " النِّصالُ، وَصَفَها بالزُّرْقَةِ لِخُضْرَتِها وصِقَالِها.
واسْتَوْفَى في البيتِ الثاني ذِكْرَ المشهورِ مِن آلاتِ القَتْلِ، والمعنى: ليس مِن الفُرسانِ فيَطْعَنَنِي بالرُّمْحِ، ويَقْتُلَنِي بالسيفِ، ولا مِن الرماةِ فيَرْمِيَنِي.
" والْغَوْلُ " بالفَتْحِ: ما يَغتالُ الشيءَ ويَذهبُ به، ومنه قولُهم: الغَضَبُ غَوْلُ الْحِلْمِ، والحرْبُ غَوْلُ النفوسِ، وقولُه تعالى: { لَا فِيهَا غَوْلٌ } أي: ليس فيها ما يَغتالُ عقولَهم، فيَذْهَبُ بها، قالَه أبو عُبيدةَ وأَنْشَدَ: ( البحر المتقارِب )
وما زَالَت الكَاسُ تَغْتَالُنَا = وتَذهَبُ بالأَوَّلِ الأَوَّلِ
وقالَ الجَوْهَريُّ: المعنى أنه ليس فيها غائِلَةُ الصُّدَاعِ، واسْتَدَلَّ بقولِه تعالى: { لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ } وقولِه تعالى: { لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ } وقالَ البخاريُّ في صحيحِه في تفسيرِ الآيةِ: " الْغَوْلُ: وَجَعُ البطْنِ " انتهى وهو غريبٌ. وأمَّا " الْغَيْلُ " فسيأتي تفسيرُه إن شاءَ اللهُ تعالى عندَ ذِكْرِه في القَصيدةِ.