(14)
مُنَاسَبَةُ هذا البابِ لِمَا قبلَهُ:
هيَ أنَّ الإنسانَ إذا أفردَ اللهَ سبحانَهُ بالتوَكُّلِ، فإنَّهُ يعتمدُ عليهِ في حصولِ مطلوبِهِ وزوالِ مكروبِهِ، ولا يعتمدُ على غيرِهِ.
والتوكُّلُ
: هوَ الاعتمادُ على اللهِ سبحانَهُ وتعالى في حُصُولِ المطلوبِ، ودَفْعِ المكروهِ، معَ الثقةِ بهِ وفِعْلِ الأسبابِ المأذونِ فيها. وهذا أقربُ تعريفٍ لهُ، ولا بُدَّ منْ أمريْنِ:
الأوَّلُ:
أنْ يكونَ الاعتمادُ على اللهِ اعتمادًا صادقًا حقيقيًّا.
الثاني:
فعلُ الأسبابِ المأْذُونِ فيها.
فمنْ جعَلَ أكثرَ اعتمادِهِ على الأسبابِ نقصَ توكُّلُهُ على اللهِ، ويكونُ قادحًا في كفايَةِ اللهِ، فكأنَّهُ جعلَ السببَ وحدَهُ هوَ العُمْدَةَ فيما يَصْبُو إليهِ منْ حُصُولِ المطلوبِ وزوالِ المكروهِ،
ومَنْ جَعَلَ اعتمادَهُ على اللهِ مُلْغِيًا للأسبابِ فقدْ طعنَ في حِكْمَةِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ جعلَ لِكُلِّ شيءٍ سببًا، فمَن اعتمدَ على اللهِ اعتمادًا مُجَرَّدًا كانَ قادحًا في حكمةِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ حكيمٌ يَرْبِطُ الأسبابَ بمُسَبَّبَاتِها، كمَنْ يعتمدُ على اللهِ في حصولِ الولدِ وهوَ لا يتَزَوَّجُ.
والنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أعْظَمُ المُتَوَكِّلينَ، ومعَ ذلكَ كانَ يَأْخُذُ بالأسبابِ، فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يأْخُذُ الزادَ في السفرِ، ولمَّا خرجَ إلى أُحُدٍ ظاهَرَ بينَ دِرْعَيْنِ؛ أيْ: لَبِسَ دِرْعَيْنِ اثنَيْنِ، ولمَّا خرجَ مُهَاجِرًا أخذَ مَنْ يدُلُّهُ الطريقَ، ولمْ يقُلْ: سأَذْهَبُ مُهَاجِرًا وأتَوَكَّلُ على اللهِ، ولنْ أصْطَحِبَ معيَ مَنْ يدُلُّنِي الطريقَ، وكانَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يتَّقِي الحَرَّ والبَرْدَ، ولمْ يُنْقِصْ ذلكَ مِنْ توَكُّلِهِ.
ويُذْكَرُ عنْ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قَدِمَ ناسٌ مِنْ أهلِ اليمنِ إلى الحَجِّ بلا زادٍ، فجيءَ بهِمْ إلى
عُمرَ فسألَهُم.
فقالُوا: نحنُ المُتَوَكِّلُونَ على اللهِ، فقالَ: (لَسْتُم الْمُتَوَكِّلِينَ، بَلْ أَنْتُم الْمُتَوَاكِلُونَ)
.
والتوَكُّلُ نصفُ الدِّينِ؛
ولهذا نقُولُ في صلاتِنَا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فنَطْلُبُ مِن اللهِ العونَ اعتمادًا عليهِ سبحانَهُ بأنَّهُ سيُعِينُنا على عبادتِهِ.
وقالَ تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وقالَ تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ولا
يُمكنُ تحقيقُ العبادةِ إلاَّ بالتوَكُّلِ؛
لأنَّ الإنسانَ لوْ وُكِلَ إلى نفسِهِ وُكِلَ إلى ضَعْفٍ وعَجْزٍ، ولمْ يتَمَكَّنْ من القيامِ بالعبادةِ، فهوَ حينَ يعبدُ اللهَ يشعرُ أنَّهُ مُتَوَكِّلٌ على اللهِ، فينالُ بذلكَ أجرَ العبادةِ وأجرَ التوكُّلِ.
ولكنَّ الغالبَ عِنْدَنَا ضعفُ التوَكُّلِ، وأنَّنا لا نَشْعُرُ حينَ نقومُ بالعبادةِ أو العادةِ بالتوَكُّلِ على اللهِ والاعتمادِ عليهِ في أنْ نَنَالَ هذا الفعلَ، بلْ نعتمدُ في الغالبِ على الأسبابِ الظاهرةِ، وننْسَى ما وراءَ ذلكَ، فيفُوتُنا ثوابٌ عظيمٌ، وهوَ ثوابُ التوكُّلِ، كما أنَّنا لا نُوَفَّقُ إلى حصولِ المقصودِ كما هوَ الغالبُ، سواءٌ حصلَ لنا عَوَارِضُ تُوجِبُ انقطاعَهَا، أوْ عَوَارِضُ تُوجِبُ نقْصَها.
والتوكُّلُ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ:
توَكُّلُ عبادةٍ وخضوعٍ،
وهوَ: الاعتمادُ المُطْلَقُ على مَنْ تَوَكَّلُ عليهِ، بحيثُ يعْتَقِدُ أنَّ بِيَدِهِ جلبَ النفعِ ودفعَ الضَّرِّ، فيعتمدُ عليهِ اعتمادًا كاملاً معَ شُعُورِهِ بافتقارِهِ إليهِ، فهذا يجبُ إخلاصُهُ للهِ تعالى، ومَنْ صرَفَهُ لغيرِ اللهِ فهوَ مشركٌ شركًا أكبرَ، كالَّذِينَ يعتمدونَ على الصالحِينَ من الأمواتِ والغائبينَ، وهذا لا يكونُ إلاَّ مِمَّنْ يعتقدُ أنَّ لهؤلاءِ تصَرُّفًا خَفِيًّا في الكونِ، فيعتمدُ عليهم في جلْبِ المنافعِ ودفْعِ المضارِّ.
الثاني:
الاعتمادُ على شخصٍ في رِزْقِهِ ومعاشِهِ وغيرِ ذلكَ، وهذا مِن الشركِ الأصغرِ.
وقالَ بعضُهم:
مِن الشركِ الخَفِيِّ، مثلُ: (اعتمادِ كثيرٍ مِن الناسِ على وظيفَتِهِ في حصولِ رزقِهِ) ولهذا تجدُ الإنسانَ يشْعُرُ منْ نفسِهِ أنَّهُ مُعْتَمِدٌ على هذا اعتمادَ افتقارٍ، فَتَجِدُ في نفسِهِ من المُحَابَاةِ لمَنْ يكونُ هذا الرزقُ عندَهُ ما هوَ ظاهرٌ، فهوَ لمْ يعْتَقِدْ أنَّهُ مُجَرَّدُ سببٍ، بلْ جعلَهُ فوقَ السببِ.
الثالثُ:
أنْ يعتمدَ على شخصٍ فيما فَوَّضَ إليهِ التصرُّفَ فيهِ،
كما لوْ وَكَّلْتَ شخصًا في بيعِ شيءٍ أوْ شرائِهِ، وهذا لا شيءَ فيهِ؛ لأنَّهُ اعتمدَ عليهِ وهوَ يَشْعُرُ أنَّ المنزلةَ العُلْيَا لهُ فَوْقَهُ؛ لأنَّهُ جعلَهُ نائبًا عنْهُ.
وقدْ وَكَّلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ أنْ يذْبَحَ ما بقيَ منْ هَدْيِهِ، ووكَّلَ أبا هُرَيْرَةَ على الصدقةِ، ووكَّلَ عُرْوَةَ بنَ الْجَعْدِ أنْ يشتريَ لهُ أُضْحِيَةً.
وهذا بخلافِ القسمِ الثاني؛ لأنَّهُ يُشْعِرُ بالحاجةِ إلى ذلكَ، ويَرَى اعتمادَهُ على المُتَوَكَّلِ عليهِ اعتمادَ افتقارٍ.
وممَّا سبقَ يتبيَّنُ أنَّ التوكُّلَ منْ أعلى المقاماتِ، وأنَّهُ يَجِبُ على الإنسانِ أنْ يكونَ مُصْطَحِبًا لهُ في جميعِ شُئُونِهِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (ولا يكونُ للمُعَطِّلَةِ أنْ يتوَكَّلُوا على اللهِ، ولا للمعتزِلَةِ القدَرِيَّةِ؛ لأنَّ المعطِّلةَ يعتقدونُ انتفاءَ الصفاتِ عن اللهِ تعالى، والإنسانُ لا يعتمدُ إلاَّ على مَنْ كانَ كاملَ الصفاتِ المُسْتَحقَّةِ؛ لأنَّهُ يعتمدُ عليهِ، وكذلكَ القدَريَّةُ؛ لأنَّهُم يقولونَ: إنَّ العَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بعملِهِ، واللهُ ليسَ لهُ تصَرُّفٌ في أعمالِ العباد).
ومِنْ ثَمَّ نَعْرِفُ أنَّ طريقَ السلفِ هوَ خيرُ الطُّرُقِ، وبهِ تجْتَمِعُ جميعُ العباداتِ، وتَتِمُّ بهِ جميعُ أحوالِ العابدينَ.
قولُهُ تعالى:
{وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا}، {على اللهِ} مُتَعَلِّقةٌ بقولِهِ: {فَتَوَكَّلُوا}، وتقديمُ المعمولِ يدُلُّ على الحَصْرِ؛ أيْ: على اللهِ لا على غيرِهِ.
{فَتَوَكَّلُوا}
أي: اعتَمِدُوا، والفاءُ لتحسينِ اللفظِ، وليْسَتْ عاطفةً؛ لأنَّ في الجملةِ حرفَ عطفٍ وهُوَ الواوُ، ولا يُمكنُ أنْ نعطِفَ الجملةَ بعاطفيْنِ؛ فتكونُ لتحسينِ اللفظِ، كقولِهِ تعالى: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ} والتقديرُ: (بل اللهَ اعْبُدْ).
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، {إنْ} شرطيَّةٌ، وفعلُ الشرطِ {كُنْتُمْ} وجوابُهُ قيلَ: إنَّهُ محذوفٌ دَلَّ عليهِ ما قبلَهُ، وتقديرُ الكلامِ: إنْ كُنْتُمْ مؤمنينَ فتوكَّلُوا.
وقيلَ: إنَّهُ في مثلِ هذا التركيبِ لا يحتاجُ إلى جوابٍ اكتفاءً بما سبقَ، فيكونُ ما سبقَ كأنَّهُ فعلٌ مُعَلَّقٌ بهذا الشَّيْءِ، وهذا أرْجَحُ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ الحذفِ.
وقولُ أصحابِ موسَى في هذهِ الآيَةِ يُفيدُ أنَّ التَّوَكُّلَ من الإيمانِ ومِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ، كما لوْ قُلْتَ: إنْ كُنْتَ كَرِيمًا فَأَكْرِم الضيفَ، فيقتضي أنَّ إكرامَ الضيفِ من الكرمِ.
وهذهِ الآيَةُ تقتضي انْتِفَاءَ كمالِ الإيمانِ بانتفاءِ التوكُّلِ على اللهِ، إلاَّ إنْ حصلَ اعتمادٌ كُلِّيٌّ على غيرِ اللهِ فهوَ شِرْكٌ أكبرُ، فينتفي بهِ الإيمانُ كُلُّهُ.
(15)
قولُهُ تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ}، {إنَّما}: أداةُ حصرٍ، والحصرُ هوَ: إثباتُ الحُكْمِ في المذكورِ، ونفيُهُ عمَّا عدَاهُ، والمعنى: ما المؤمنونَ إلاَّ هؤلاءِ.
وذكرَ اللهُ في هذهِ الآيَةِ وما بعدَها خمسةَ أَوْصَافٍ:
أحدُها:
قولُهُ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}؛ أيْ: خَافَتْ لِمَا فيها مِنْ تعظيمِ اللهِ تعالى، مثالُ ذلكَ: (رَجُلٌ هَمَّ بمعصيَةٍ فذَكَرَ اللهَ، أوْ ذُكِّرَ بهِ، وقيلَ لهُ: اتَّقِ اللهَ) فإنْ كانَ مؤمنًا فإنَّهُ سيَخَافُ، وهذا هوَ علامةُ الإيمانِ.
الوصفُ الثاني:
قولُهُ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}؛ أيْ: تصديقًا وامتثالاً.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ الإنسانَ قدْ ينتفعُ بقراءةِ غيرِهِ أكثرَ ممَّا ينتفعُ بقراءةِ نفسِهِ، كمَا أمرَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ أنْ يقْرَأَ عليهِ، فقالَ: كيفَ أقرأُ عليكَ وعليكَ أُنزِلَ؟
فقالَ:((إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)) فقرأَ عليهِ منْ سورةِ النساءِ حتَّى بلغَ قولَهُ تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاَءِ شَهِيدًا}، قالَ: ((حَسْبُكَ)) فَنَظَرْتُ فإذا عيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
الوصفُ الثالثُ:
قولُهُ: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أيْ: يعتمدونَ على اللهِ لا على غيرِهِ، وهمْ معَ ذلكَ يعملونَ الأسبابَ، وهذا هوَ الشاهدُ.
الوصفُ الرابعُ:
قولُهُ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} أيْ: يأْتُونَ بها مستقيمةً كاملةً، والصلاةُ: اسمُ جنسٍ تشمَلُ الفرائضَ والنوافلَ.
الوصفُ الخامسُ:
قولُهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (مِنْ) إما أن تكون للتبعيضِ؛ فيكونُ اللهُ يمْدَحُ مَنْ أنْفَقَ بعضَ مالِهِ لا كُلَّهُ. أوْ تكونُ للجنسِ؛ فيشملُ الثناءَ على مَنْ أنفَقَ البعضَ ومَنْ أنفَقَ الكلَّ.
والصوابُ، أنَّها لبيانِ الجنسِ، وأنَّ مَنْ أنفقَ الكلَّ يدخلُ في الثناءِ إذا توَكَّلَ على اللهِ في أنْ يرْزُقَهُ وأهلَهُ كما فعلَهُ أبو بكرٍ.
أمَّا إنْ كانَ أهلُهُ في حاجةٍ، أوْ كانَ المُنْفَقُ عليهِ ليسَ بحاجةٍ ماسَّةٍ تستلزمُ إنفاقَ المالِ كُلِّهِ، فلا ينبغي أنْ يُنْفِقَ مالَهُ كلَّهُ.
(16)
الآيَةُ الثالثةُ:
قولُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}المرادُ بهِ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، يُخَاطِبُ اللهُ رسولَهُ بوصفِ النبوَّةِ أحيانًا، وبوصفِ الرسالةِ أحيانًا، فحِينَمَا يأمرُهُ أنْ يُبَلِّغَ يُنَادِيهِ بوصفِ الرسالةِ، وأمَّا في الأحكامِ الخاصَّةِ فالغالبُ أنْ يُنَاديَهُ بوصفِ النبوَّةِ، قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}.
-
وقالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}، و{النبيُّ} فعيلٌ بمعنى مُفْعَلٍ مُفْعِلٍ؛ أيْ: مُنْبَأٍ، ومُنْبِئٍ، والرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُنْبَأٌ منْ قِبَلِ اللهِ، ومُنْبِئٌ لعبادِ اللهِ.
قولُهُ: {حَسْبُكَ اللهُ} أيْ: كَافِيكَ، والحَسْبُ الكافي، ومنهُ قولُهُ: أُعْطِي دِرْهَمًا فحَسْبُ، و(حَسْبُ) خبرٌ مُقَدَّمٌ، ولفظُ الجلالةِ: مبتدأٌ مؤخَّرٌ.
والمعنى: ما اللهُ إلاَّ حَسْبُكَ، ويجوزُ العكسُ، ويكونُ المعنى: ما حَسْبُكَ إلاَّ اللهُ. وهذا أرجحُ.
قال شيخ الإسلام في (الفتاوى) (10/154): (وأما العبادة وما يناسبها من التوكل والخوف ونحو ذلك فلا يكون إلا لله وحده) .
ثم قال: (وأما الحسب وهو الكافي فهو لله وحده كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}ومن ظن أن المعنى: حسبك الله والمؤمنون معه؛ فقد غلط غلطاً فاحشاً)
وقد بسط تلميذه
ابن القيم في الكلام على قوله تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله....} الآية، وبين الغلط فيمن جعل الواو عاطفة، وبين الصواب في ذلك في طليعة زاد المعاد (1/35-36).
قولُهُ: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، {مَنْ}: اسمٌ موصولٌ مَبْنِيَّةٌ على السكونِ، وفي عطفِها رَأْيَانِ لأهلِ العلمِ.
قيلَ:
حَسْبُكَ اللهُ، وحَسْبُكَ مَن اتَّبَعَكَ من المؤمنينَ،
و{مَنْ} معطوفةٌ على اللهِ؛ لأنَّهُ أقْرَبُ، ولوْ كانَ العطفُ على الكافِ في {حَسْبُكَ} لوجبَ إعادةُ الجارِّ، وهذا كقولِهِ تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}، فاللهُ أيَّدَ رسولَهُ بالمؤمنينَ، فيكونونَ حَسْبًا لهُ هنا، كما كانَ اللهُ حَسْبًا لَهُ، وهذا ضعيفٌ، والجوابُ عنهُ مِنْ وُجوهٍ:
أوَّلاً:
قوْلُهُم:
عُطِفَ عليهِ لكونِهِ أقربَ إليهِ، ليسَ بصحيحٍ؛ فقدْ يكونُ العطفُ على شيءٍ سابقٍ، حتَّى إنَّ النحْوِيِّينَ قالُوا: إذا تَعَدَّدَت المعطوفاتُ يكونُ العطفُ على الأوَّلِ.
ثانيًا:
قولُهُم: لوْ عُطِفَ على الكافِ لوَجَبَ إعادةُ الجارِّ، والصحيحُ أنَّهُ ليسَ بلازمٍ، قال ابنُ مالكٍ:
وليسَ عندي لازمًا إذْ قدْ أتى في النظمِ
والنثْرِ الصحيحِ مُثْبَتَا
ثالثًا:
استِدْلالُهُم
بقولِهِ تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} فالتَّأْيِيدُ لهُمْ غيرُ كونِهِم حَسْبَهُ؛ لأنَّ معنى كونِهم حسْبَهُ أنْ يعتمدَ عليهِمْ، ومعنى كونِهم يُؤَيِّدُونَهُ أيْ ينْصُرُونَهُ معَ استقلالِهِ بنفسِهِ، وبينهما فَرْقٌ.
رابعًا:
أنَّ اللهَ سبحانَهُ حينما يَذْكُرُ الحسْبَ يُخَلِّصُهُ لنفْسِهِ،
قالَ تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، ففرَّقَ بينَ الحَسْبِ والإيتاءِ.
وقالَ تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، فكما أنَّ التوَكُّلَ على غيرِ اللهِ لا يجوزُ، فكذلكَ الحسْبُ، لا يُمْكِنُ أنْ يكونَ غيرُ اللهِ حَسْبًا، فلوْ كانَ لجازَ التوَكُّلُ عليهِ، ولكنَّ الحسْبَ هوَ اللهُ، وهوَ الذي عليهِ يتوَكَّلُ المتوَكِّلُونَ.
خامسًا:
أنَّ في قولِهِ: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ}
، ما يمنعُ أنْ يكونَ الصحابةُ حَسْبًا للرَّسُولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ وذلكَ لأنَّهُم تَابِعُونَ، فكيفَ يكونُ التابعُ حَسْبًا للمتبوعِ؟ هذا لا يستقيمُ أبدًا.
فالصوابُ أنَّهُ معطوفٌ على الكافِ في قولِهِ: {حَسْبُكَ} أيْ: وحَسْبُ مَن اتَّبَعَكَ من المؤمنينَ، فتوَكَّلُوا عليهِ جميعًا أنْتَ ومَن اتَّبَعَكَ.
(17)
قولُهُ تعالى:
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، جملةٌ شرطيَّةٌ تُفِيدُ بِمَنْطُوقِهَا: أنَّ مَنْ يتوَكَّلْ على اللهِ فإنَّ اللهَ يكْفِيهِ مُهِمَّاتِهِ، ويُيَسِّرُ لهُ أمْرَهُ، فاللهُ حسْبُهُ، ولوْ حصلَ لهُ بعضُ الأذِيَّةِ فإنَّ اللهَ يكْفِيهِ الأذى، والرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سيِّدُ المتوَكِّلِينَ، ومعَ ذلكَ يُصِيبُهُ الأذى، ولا تحصُلُ لهُ المضَرَّةُ؛ لأنَّ اللهَ حسْبُهُ، فالنتيجةُ لمَن اعتمدَ على اللهِ أنْ يكْفِيَهُ ربُّهُ المئُونَةَ.
والآيَةُ تُفِيدُ بمفهومِهَا:
أنَّ مَنْ توكَّلَ على غيرِ اللهِ خُذِلَ؛ لأنَّ غيرَ اللهِ لا يكونُ حَسْبًا كما تقدَّم، فمَنْ توَكَّلَ على غيرِ اللهِ تخلَّى اللهُ عنهُ، وصارَ مَوْكُولاً إلى هذا الشيءِ، ولمْ يحْصُلْ لهُ مقصودُهُ، وابتعدَ عن اللهِ بمقدارِ تَوَكُّلِهِ على غيرِ اللهِ.
(18)
قولُهُ في أثرِ
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: _(قَالَها مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ حينَ قَالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}) وهذا في نصِّ القرآنِ، لَمَّا انصرفَ أبو سفيانَ منْ أُحُدٍ أرادَ أنْ يَرْجِعَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ وأصحابِهِ؛ لِيَقْضِيَ عليْهِم بِزَعْمِهِ، فلَقِيَ رَكْبًا فقالَ لهُم: إلى أينَ تذهبونَ؟
قالُوا: نَذْهَبُ إلى المدينةِ، فقالَ: بَلِّغُوا محمَّدًا وأصحابَهُ أنَّا راجعونَ إليْهِم فقاضُونَ عليهمْ، فجاءَ الركبُ إلى المدينةِ فَبَلَّغُوهمْ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ومَنْ مَعَهُ: ((حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، وخرَجُوا في نحوِ سبعينَ راكبًا، حتَّى بلَغُوا حَمْرَاءَ الأَسَدِ.
ثُمَّ إنَّ أبا سفيانَ تَرَاجَعَ عنْ رَأْيِهِ وانصرفَ إلى مَكَّةَ، وهذا منْ كفايَةِ اللهِ لرسولِهِ وللمؤمنينَ، حيثُ اعتمدُوا عليهِ تعالى.
قولُهُ: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} أي: الرَّكْبُ.
قولُهُ: {إِنَّ النَّاسَ} أيْ: أبا سفيانَ ومَنْ مَعَهُ، وكلمةُ {الناسِ} هنا يُمَثِّلُ بها الأُصُولِيُّونَ للعامِّ الذي أُرِيدَ بهِ الخصوصُ.
قولُهُ: {حَسْبُنَا} أيْ: كَافِينَا، وهيَ مبتدأٌ، ولفظُ الجلالةِ خبرُهُ.
قولُهُ: {نِعْمَ الْوَكِيلُ}، {نِعْمَ} فعلٌ ماضٍ، {الوكيلُ} فاعلٌ، والمخصوصُ محذوفٌ تقديرُهُ: هوَ؛ أي: اللهُ، والوكيلُ هو: المُعْتَمَدُ عليه، واللهُ سبحانَهُ يُطلَقُ عليهِ اسمُ وكيلٍ، وهوَ أيضًا مُوَكِّلٌ.
والوكيلُ
في مثلِ قولِهِ تعالى: {نِعْمَ الْوَكِيلُ} وقولِهِ تعالى: {وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً}.
وأمَّا المُوَكِّلُ ففي مثلِ قولِهِ تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}.
وليسَ المرادُ بالتوكيلِ هنا: إنابةَ الغَيْرِ فيما يحتاجُ إلى الاستِنَابَةِ فيهِ؛ فليسَ توكيلُهُ سبحانَهُ مِنْ حاجةٍ لَهُ، بل المرادُ بالتوكيلِ: الاستخلافُ في الأرضِ؛ ليَنْظُرَ كيفَ يعملونَ.
وقولُ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَهَا حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّار) قولٌ لا مجالَ للرأيِ فيهِ، فيكونُ لهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وابنُ عبَّاسٍ مِمَّنْ يَرْوِي عنْ بنِي إسرائيلَ، فَيُحَتَمَلُ أَخْذُهُ منهمْ، ولكنْ جَزْمُهُ بهذا، وقَرْنُهُ لِمَا قالَهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِمَّا يُبْعِدُ أنْ يكونَ أَخَذَهُ منْ بني إسرائيلَ.
والشاهدُ من الآيَةِ:
قولُهُ تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} حيثُ جَعَلُوا حَسْبَهُم اللهَ وحْدَهُ.
تنبيهٌ:
قوْلُنَا:
(وَابْنُ عبَّاسٍ مِمَّنْ يرْوِي عنْ بني إسرائيلَ) قولٌ مشهورٌ عندَ علماءِ المُصْطَلَحِ.
لكنْ فيهِ نظرٌ؛ فإنَّ ابنَ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما مِمَّنْ يُنْكِرُ الأخذَ عنْ بني إسرائيلَ، ففي (صحيحِ البخاريِّ) (5/291 - فتح) أنَّهُ قالَ: (يا معشرَ المسلمينَ.
كيفَ تسألونَ أهلَ الكتابِ وكتابُكُم الذي أُنْزِلَ على نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أحدثُ الأخبارِ باللهِ؛ تقْرَءُونَهُ لمْ يَشِبْ، وقدْ حدَّثَكُم اللهُ أنَّ أهلَ الكتابِ بَدَّلُوا ما كتبَ اللهُ وغيَّرُوا بأيدِيهِم الكتابَ.
فقالُوا: هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بهِ ثمنًا قليلاً، أفلا ينْهَاكُم ما جاءَكُم من العلمِ عنْ مُسَاءَلَتِهِم؟!
ولا واللهِ ما رَأَيْنَا منهمْ رجُلاً يسْأَلُكُم عن الذي أُنْزِلَ عليْكُم).
(19)
فيهِ مَسائِلُ:
الأولى:
(أنَّ التوَكُّلَ من الفرائضِ)
وَوَجْهُهُ: أنَّ اللهَ علَّقَ الإيمانَ بالتوكُّلِ في قولِهِ تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وسبقَ تفسيرُهَا.
(20)
الثانيَةُ: (أَنَّهُ مِنْ شُروطِ الإيمانِ) تُؤخَذُ منْ قولِهِ تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}وسبقَ تفسيرُهَا.
(21)
الثالثةُ: (تفسيرُ آيَةِ الأنفالِ) وهيَ قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...}الآيَةَ، والمرادُ بالإيمانِ هنا: الإيمانُ الكاملُ، وإلاَّ فالإنسانُ يكونُ مؤمنًا وإنْ لمْ يتَّصِفْ بهذهِ الصفاتِ، لكنْ مَعَهُ مُطْلَقُ الإيمانِ. وقدْ سبقَ تفسيرُ ذلكَ.
(22)
الرابعةُ: (تفسيرُ الآيَةِ في آخِرِهَا)
في آخرِ الأنفالِ، وهيَ قولُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أيْ: حسْبُكَ وحسْبُ مَن اتَّبَعَكَ من المؤمنينَ.
وهذا هوَ الراجحُ على ما سَبَقَ.
(23)
الخامسةُ: (تفسيرُ آيَةِ الطلاقِ)
وهيَ قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وقدْ سبقَ تفسيرُها.
(24)
السادسةُ: (عِظَمُ شأنِ هذهِ الكلمةِ، وَأَنَّها قولُ إِبْراهيمَ عَلَيهِ الصلاةُ والسَّلامُ، ومُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الشَّدائدِ)
يعني قوْلَهُ: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
وفي البابِ مسائلُ غيرُ ما ذكرَهُ المُؤَلِّفُ.
منها:
زيادةُ الإيمانِ؛
لقولِهِ تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}.
ومنها:
أنَّهُ عندَ الشدائدِ ينبغي للإنسانِ
أنْ يعتمدَ على اللهِ مَعَ فِعْلِ الأسبابِ؛ لأنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأصحابَهُ قالُوا ذلكَ عندَما قيلَ لهُمْ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} ولكنَّهُمْ فوَّضُوا الأمرَ إلى اللهِ وقالُوا: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
ومنها:
أنَّ اتِّبَاعَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ معَ الإيمانِ سببٌ لكفايَةِ اللهِ العبدَ.