وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ هذهِ الروايَةَ، وَزَادَ بعضُ أصحابِ الأعمشِ في مَتْنِ الحديثِ: ((وَمَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَخَرَّجَا في (الصَّحِيحَيْنِ) منْ حديثِ ابنِ عُمَرَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ منْ حديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِهِ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُؤْمِنٍ عَوْرَتَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ)).
وَخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ منْ حديثِ مَسْلَمَةَ بنِ مُخَلَّدٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ نَجَّى مَكْرُوبًا فَكَّ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ)).
(2) فَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
هذا يَرْجِعُ إلى أنَّ الجزاءَ منْ جنسِ العملِ.
وقدْ تَكَاثَرَت النُّصوصُ بهذا المَعْنَى، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ))، وَقَولِهِ: ((إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا)).
وَالْكُرْبَةُ: هيَ الشِّدَّةُ العظيمةُ التي تُوقِعُ صَاحِبَهَا في الكَرْبِ، وَتَنْفِيسُهَا أَنْ يُخَفَّفَ عنهُ منها، مَأْخُودٌ مِنْ تَنْفِيسِ الْخِنَاقِ، كأَنَّهُ يُرْخَى لهُ الخِنَاقُ حتَّى يَأْخُذَ نَفَسًا، والتَّفْرِيجُ أَعْظَمُ منْ ذلكَ، وهوَ أنْ يُزِيلَ عنهُ الْكُرْبَةَ، فَتَنْفَرِجُ عنهُ كُرْبَتُهُ، وَيَزُولُ هَمُّهُ وَغَمُّهُ.
فَجَزَاءُ التَّنْفِيسِ التَّنْفِيسُ، وَجَزَاءُ التَّفْرِيجِ التَّفْرِيجُ، كما في حديثِ ابنِ عُمَرَ وقدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا في حديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ.
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ منْ حديثِ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: ((أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ)).
وَخَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ بالشَّكِّ في رَفْعِهِ.
وقيلَ: إنَّ الصحيحَ وَقْفُهُ.
وَرَوَى ابنُ أبي الدُّنْيَا بإسنادِهِ عن ابنِ مسعودٍ قالَ: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرَى مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَجْوَعَ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَظْمَأَ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَنْصَبَ مَا كَانُوا قَطُّ، فَمَنْ كَسَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَسَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَطْعَمَ لِلَّهِ عزَّ وَجَلَّ أَطْعَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَقَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ عَفَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ".
وَخَرَّجَ الْبَيْهَقِيُّ منْ حديثِ أنسٍ مَرْفُوعًا: ((أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُشْرِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، فَيُنَادِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ: يَا فُلانُ، هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لا وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُكَ، مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي مَرَرْتَ بِي فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَاسْتَسْقَيْتَنِي شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ فَسَقَيْتُكَ، قَالَ: قَدْ عَرَفْتُ، قَالَ: فَاشْفَعْ لِي بِهَا عِنْدَ رَبِّكَ. قَالَ: فَيَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقُولُ: شَفِّعْنِي فِيهِ. فَيَأْمُرُ بِهِ، فَيُخْرِجُهُ مِنَ النَّارِ)).
وقولُهُ: ((كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ))، ولمْ يَقُلْ: (مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، كما قالَ في التَّيْسِيرِ والسَّتْرِ.
وقدْ قِيلَ في مُنَاسَبَةِ ذلكَ: إنَّ الكُرَبَ هيَ الشَّدائدُ العظيمةُ، وليسَ كلُّ أَحَدٍ يَحْصُلُ لهُ ذلكَ في الدُّنيا، بخلافِ الإِعْسَارِ والعَوْرَاتِ المُحْتَاجَةِ إلى السَّتْرِ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لا يَكَادُ يَخْلُو في الدُّنْيَا منْ ذلكَ، ولوْ بِتَعَسُّرِ بعضِ الحاجاتِ المُهِمَّةِ.
وَقِيلَ: لأنَّ كُرَبَ الدُّنيا بالنِّسبةِ إلى كُرَبِ الآخرةِ كَلا شَيْءٍ، فَادَّخَرَ اللَّهُ جزاءَ تَنْفِيسِ الكُرَبِ عِنْدَهُ؛ لِيُنَفِّسَ بهِ كُرَبَ الآخرةِ.
وَيَدُلُّ على ذلكَ قولُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟)) وذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ، خَرَّجَاهُ بِمَعْنَاهُ منْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ.
وَخَرَّجَا منْ حديثِ عائشةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً)). قالَتْ: فَقُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، الرِّجالُ وَالنِّساءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ؟ قالَ: ((الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ)).
وخَرَّجَا منْ حديثِ ابنِ عُمَرَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المُطَفِّفِينَ: 6]، قالَ:((يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي الرَّشْحِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ)).
وَخَرَّجَا منْ حديثِ أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ)). وَلَفْظُهُ للبُخَارِيِّ.
ولفظُ مُسْلِمٍ: ((إِنَّ الْعَرَقَ لَيَذْهَبُ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ بَاعًا، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ، أَوْ إِلَى آذَانِهِمْ)).
وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ منْ حديثِ المِقْدَادِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ، فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ، فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا)).
وقالَ ابنُ مسعودٍ: (الأرضُ كُلُّها يومَ القيامةِ نَارٌ، والجنَّةُ مِنْ وَرَائِهَا، تُرَى أَكْوَابُهَا وَكَوَاعِبُهَا، فَيَعْرَقُ الرَّجلُ حتَّى يَرْشَحَ عَرَقُهُ في الأرضِ قَدْرَ قَامَةٍ، ثمَّ يَرْتَفِعُ حتَى يَبْلُغَ أَنْفَهُ، وما مَسَّهُ الْحِسَابُ).
قالَ: فَمِمَّ ذَاكَ يا أبا عبدِ الرحمنِ؟ قالَ: مِمَّا يَرَى النَّاسُ يُصْنَعُ بِهِم.
وقالَ أبو موسى: (الشَّمسُ فَوْقَ رُءُوسِ النَّاسِ يومَ القيامةِ، وَأَعْمَالُهُمْ تُظِلُّهُم أوْ تُضْحِيهِم).
وفي (المُسْنَدِ) منْ حديثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: ((كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ)).
(3) قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)). هذا أَيْضًا يَدُلُّ على أنَّ الإِعسارَ قدْ يَحْصُلُ في الآخرةِ، وقدْ وَصَفَ اللَّهُ يومَ القيامةِ بأنَّهُ يَوْمٌ عَسِيرٌ، وأنَّهُ على الكافرينَ غَيْرُ يَسِيرٍ، فَدَلَّ على أنَّهُ يَسِيرٌ على غَيْرِهِمْ، وَقَالَ: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26].
والتَّيْسِيرُ على المُعْسِرِ في الدُّنْيَا منْ جِهَةِ المالِ يكونُ بأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِإِنْظَارِهِ إلى المَيْسَرَةِ، وذلكَ وَاجِبٌ كما قالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
وتارةً بالوضعِ عنهُ إنْ كانَ غَرِيمًا، وَإِلا فَبِإِعْطَائِهِ ما يَزُولُ بهِ إِعْسَارُهُ، وَكِلاهُمَا لهُ فَضْلٌ عظيمٌ.
وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِصِبْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا. فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ)).
وفيهِمَا: عنْ حُذيفةَ وأبي مسعودٍ الأَنْصَارِيِّ سَمِعَا النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((مَاتَ رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُوسِرِ، وَأُخَفِّفُ عَنِ الْمُعْسِرِ)).
وفي روايَةٍ: ((قَالَ: كُنْتُ أُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، وَأَتَجَوَّزُ فِي السِّكَّةِ -أَوْ قَالَ- فِي النَّقْدِ. فَغُفِرَ لَهُ)).
وَخَرَّجَهُ مسلمٌ منْ حديثِ أبي مسعودٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وفي حديثِهِ: ((فَقَالَ اللَّهُ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ)).
وَخَرَّجَ أيضًا منْ حديثِ أبي قَتَادَةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ)).
وَخَرَّجَ أيضًا منْ حديثِ أبي الْيَسَرِ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ)).
وفِي (المُسْنَدِ): عن ابنِ عُمَرَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ أَرَادَ أَنْ تُسْتَجَابَ دَعْوَتُهُ، وَتُكْشَفَ كُرْبَتُهُ، فَلْيُفَرِّجْ عَنْ مُعْسِرٍ)).
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) هذا مِمَّا تَكَاثَرَت النُّصوصُ بِمَعْنَاهُ.
وَخَرَّجَ ابنُ مَاجَهْ منْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ)).
وَخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ منْ حديثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ، سَمِعَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى عَوْرَةٍ سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وقدْ رُوِيَ عنْ بعضِ السَّلفِ أنَّهُ قالَ: (َأدْرَكْتُ قَوْمًا لمْ يكُنْ لهمْ عُيُوبٌ، فَذَكَرُوا عُيُوبَ الناسِ، فَذَكَرَ الناسُ لهم عُيُوبًا. وأَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كانتْ لهمْ عُيُوبٌ، فَكَفُّوا عنْ عُيوبِ الناسِ، فَنُسِيَتْ عُيُوبُهُم) أوْ كما قالَ.
وشاهدُ هذا حديثُ أبي بَرْزَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، لا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْراتِهِمْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ)). خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ وأبو داودَ، وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مَعْنَاهُ منْ حديثِ ابنِ عُمَرَ.
وَاعْلَمْ أنَّ النَّاسَ على ضَرْبَيْنِ:
أحدُهُمَا: مَنْ كانَ مَسْتُورًا لا يُعْرَفُ بشيءٍ مِن المعاصِي، فإذا وَقَعَتْ منهُ هَفْوَةٌ أوْ زَلَّةٌ، فإنَّهُ لا يَجُوزُ كَشْفُها، ولا هَتْكُها، ولا التَّحَدُّثُ بها؛ لأنَّ ذلكَ غِيبَةٌ مُحَرَّمَةٌ.
وهذا هوَ الذي وَرَدَتْ فيهِ النُّصوصُ، وفي ذلكَ قدْ قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19].
والمرادُ: إِشَاعَةُ الفَاحِشَةِ على المُؤْمِنِ المُسْتَتِرِ فِيمَا وَقَعَ منهُ، أو اتُّهِمَ بهِ، وهوَ بَرِيءٌ منهُ، كما في قِصَّةِ الإِفْكِ.
قالَ بعضُ الوُزَرَاءِ الصالحِينَ لِبَعْضِ مَنْ يَأْمُرُ بالمعروفِ: اجْتَهِدْ أنْ تَسْتُرَ الْعُصَاةَ؛ فإنَّ ظُهُورَ مَعَاصِيهِمْ عَيْبٌ في أهلِ الإسلامِ، وَأَوْلَى الأُمُورِ سَتْرُ العيوبِ، ومثلُ هذا لوْ جَاءَ تَائِبًا نَادِمًا، وَأَقَرَّ بِحَدٍّ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ، لم يُسْتَفْسَرْ، بلْ يُؤْمَرْ بأنْ يَرْجِعَ وَيَسْتُرَ نَفْسَهُ، كما أَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ، وكما لمْ يَسْتَفْسِر الَّذِي قالَ: أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ.
ومثلُ هذا لوْ أُخِذَ بِجَرِيمَتِهِ، ولمْ يَبْلُغ الإِمامَ، فإنَّهُ يُشْفَعُ لهُ حتَّى لا يَبْلُغَ الإمامَ.
وفي مِثْلِهِ جاءَ الحديثُ عَن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ)).خَرَّجَهُ أبو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حديثِ عائشةَ.
والثاني: مَنْ كانَ مُشْتَهِرًا بالمَعَاصِي مُعْلِنًا بها، لا يُبَالِي بما ارْتَكَبَ منها، ولا بِمَا قِيلَ لهُ، فهذا هوَ الفاجِرُ المُعْلِنُ، وليسَ لهُ غِيبَةٌ، كما نَصَّ على ذلكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ.
ومثلُ هذا لا بَأْسَ بالبَحْثِ عنْ أمْرِهِ لِتُقَامَ عليهِ الحُدُودُ.
صَرَّحَ بذلكَ بعضُ أَصْحَابِنَا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)).
وَمِثْلُ هذا لا يُشْفَعُ لهُ إذا أُخِذَ ولوْ لمْ يَبْلُغ السُّلطانَ، بلْ يُتْرَكُ حتَّى يُقَامَ عليهِ الحدُّ لَيَنْكَفَّ شَرُّهُ، وَيَرْتَدِعَ بهِ أَمْثَالُهُ.
قالَ مَالِكٌ: (مَنْ لمْ يُعْرَفْ منهُ أَذًى للنَّاسِ، وإنَّمَا كَانَتْ منهُ زَلَّةٌ، فَلا بَأْسَ أنْ يُشْفَعَ لهُ ما لمْ يَبْلُغ الإِمامَ، وأمَّا مَنْ عُرِفَ بِشَرٍّ أوْ فَسَادٍ فلا أُحِبُّ أنْ يَشْفَعَ لَهُ أحدٌ، ولكنْ يُتْرَكُ حتَّى يُقَامَ عليهِ الحَدُّ).
حَكَاهُ ابنُ المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ.
وكَرِهَ الإِمامُ أحمدُ رَفْعَ الفُسَّاقِ إلى السلطانِ بكلِّ حالٍ.
وإنَّما كَرِهَهُ؛ لأِنَّهُم غَالِبًا لا يُقِيمُونَ الحدودَ على وَجْهِهَا؛ ولهذا قالَ: إنْ عَلِمْتَ أنَّهُ يُقِيمُ عليهِ الحدَّ فَارْفَعْهُ، ثمَّ ذَكَرَ أنَّهُم ضَرَبُوا رجلاً فَمَاتَ، يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ قَتْلُهُ جَائِزًا.
ولوْ تَابَ أحدٌ مِن الضَّرْبِ الأوَّلِ، كانَ الأفضلُ لهُ أنْ يَتُوبَ فيما بَيْنَهُ وبينَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسْتُرُ على نَفْسِهِ.
وأمَّا الضَّرْبُ الثاني، فَقِيلَ: إنَّهُ كذلكَ، وقيلَ: بل الأَوْلَى لهُ أنْ يَأْتِيَ الإِمامَ، وَيُقِرَّ على نفسِهِ بما يُوجِبُ الحَدَّ حتَّى يُطَهِّرَهُ.
(4) قولُهُ: ((وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)).
وفي حديثِ ابنِ عمرَ: ((وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ)).
وقدْ سَبَقَ في شرحِ الحديثِ الخامسِ والعشرينَ والسادسِ والعشرينَ فَضْلُ قضاءِ الحوائجِ والسَّعْيِ فيها.
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ منْ حديثِ عمرَ مَرْفُوعًا: ((أَفْضَلُ الأَعْمَالِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً)).
وبَعَثَ الحسنُ البَصْرِيُّ قَوْمًا منْ أصحابِهِ في قضاءِ حاجةٍ لرجلٍ وقالَ لهم: مُرُّوا بِثَابِتٍ البُنَانِيِّ، فَخُذُوهُ مَعَكُمْ.
فَأَتَوْا ثَابِتًا، فَقَالَ: أَنَا مُعْتَكِفٌ.
فَرَجَعُوا إِلَى الْحَسَنِ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: يَا أَعْمَشُ، أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ مَشْيَكَ فِي حَاجَةِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ؟ فَرَجَعُوا إلَى ثَابِتٍ، فَتَرَكَ اعْتِكَافَهُ وَذَهَبَ مَعَهُمْ.
وَخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ منْ حديثِ ابْنَةٍ لِخَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ، قالَتْ: خَرَجَ خَبَّابٌ في سَرِيَّةٍ، فكانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَتَعَاهَدُنَا حتَّى يَحْلِبَ عَنْزَةً لَنَا في جَفْنَةٍ لَنَا، فَتَمْتَلِئُ حتَّى تَفِيضَ.
فَلَمَّا قَدِمَ خَبَّابٌ حَلَبَها، فَعَادَ حِلابُهَا إلى ما كانَ.
وكانَ أبو بكرٍ الصدِّيقُ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُم.
فلمَّا اسْتُخْلِفَ قالَتْ جاريَةٌ منهم: الآنَ لا يَحْلِبُهَا، فقالَ أبو بكرٍ: (بلَى، وَإِنِّي لأََرْجُو أنْ لا يُغَيِّرَنِي مَا دَخَلْتُ فيهِ عنْ شيءٍ كُنْتُ أَفْعَلُهُ) أوْ كما قالَ.
وإنَّمَا كَانُوا يَقُومُونَ بالحِلابِ؛ لأنَّ العربَ كانتْ لا تَحْلِبُ النِّسَاءُ منهم، وَكَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ ذلكَ، فكانَ الرجالُ إذا غَابُوا احْتَاجَ النساءُ إلى مَنْ يَحْلِبُ لَهُنَّ.
وقدْ رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ لقَوْمٍ: ((لا تَسْقُونِي حَلَبَ امْرَأَةٍ)).
وكانَ عُمَرُ يَتَعَاهَدُ الأراملَ فَيَسْتَقِي لَهُنَّ الماءَ باللَّيْلِ، وَرَآهُ طَلْحَةُ باللَّيْلِ يَدْخُلُ بيتَ امْرَأَةٍ، فَدَخَلَ إليها طَلْحَةُ نَهَارًا، فإذا هيَ عجوزٌ عَمْيَاءُ مُقْعَدَةٌ، فَسَأَلَهَا: مَا يَصْنَعُ هذا الرَّجلُ عِنْدَكِ؟ قالَتْ: هذا لهُ مُنْذُ كذا وكذا، يَتَعَاهَدُنِي يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي، وَيُخْرِجُ عَنِّي الأَذَى، فَقَالَ طَلْحَةُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ طَلْحَةُ، عَثَرَاتِ عُمَرَ تَتَّبِعُ؟!
وكانَ أبو وائلٍ يَطُوفُ على نساءِ الحيِّ وَعَجَائِزِهِم كُلَّ يومٍ، فَيَشْتَرِي لهُنَّ حَوَائِجَهُنَّ وما يُصْلِحُهُنَّ.
وقالَ مجاهدٌ: صَحِبْتُ ابنَ عمرَ في السفرِ لأَِخْدُمَهُ، فكانَ يَخْدُمُنِي.
وكانَ كثيرٌ من الصَّالِحينَ يَشْتَرِطُ على أصحابِهِ في السفرِ أنْ يَخْدُمَهُم.
وصَحِبَ رَجُلٌ قومًا في الجهادِ، فَاشْتَرَطَ عليهم أنْ يَخْدُمَهُم، فكانَ إذا أَرَادَ أحدٌ منهُم أنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ أوْ ثوبَهُ قالَ: هذا مِنْ شَرْطِي، فَيَفْعَلُهُ.
فَمَاتَ، فَجَرَّدُوهُ للغُسْلِ، فَرَأَوْا على يدِهِ مَكْتُوبًا: منْ أَهْلِ الجنَّةِ، فَنَظَرُوا، فإذا هيَ كتابةٌ بينَ الجلدِ واللَّحْمِ.
وفِي (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أنسٍ قالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا المُفْطِرُ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فِي يَوْمٍ حَارٍّ، أَكْثَرُنَا ظِلاًّ صَاحِبُ الْكِسَاءِ، وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ، قالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ وَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ، وَسَقَوا الرِّكَابَ) فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ)).
ويُرْوَى عنْ رَجُلٍ منْ أَسْلَمَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِطَعَامٍ في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ أَصْحابُهُ، وَقَبَضَ الأَسْلَمِيُّ يَدَهُ، فقالَ لهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : ((مَا لَكَ؟)) قالَ: إِنِّي صَائِمٌ، قالَ: ((فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟))قالَ: مَعِي ابْنَايَ يَرْحَلانِ لِي وَيَخْدُمَانِي، فَقَالَ: ((مَا زَالَ لَهُمُ الْفَضْلُ عَلَيْكَ بَعْدُ)).
وفي (مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ): عنْ أبي قِلابَةَ، أَنَّ ناسًا منْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَدِمُوا يُثْنُونَ على صاحبٍ لهم خَيْرًا، قَالُوا: ما رَأَيْنَا مِثْلَ فلانٍ قطُّ، ما كانَ في مَسِيرٍ إلا كَانَ فِي قِرَاءَةٍ، وَلا نَزَلْنَا مَنْزِلاً إلا كانَ في صلاةٍ، قالَ: ((فَمَنْ كَانَ يَكْفِيهِ ضَيْعَتَهُ؟))، حتَّى ذَكَرَ: ((وَمَنْ كَانَ يَعْلِفُ جَمَلَهُ أَوْ دَابَّتَهُ؟)) قالُوا: نحنُ، قالَ: ((فَكُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنْهُ)).
(5) قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)).
وقدْ رَوَى هذا المعنَى أَيْضًا أبو الدَّرْدَاءِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
وَسُلُوكُ الطَّريقِ لالْتِمَاسِ العلمِ يَدْخُلُ فيهِ سلوكُ الطَّريقِ الحَقِيقِيِّ، وَهوَ المَشْيُ بالأقدامِ إلى مجالسِ العلماءِ، وَيَدْخُلُ فيهِ سلوكُ الطُّرُقِ المَعْنَوِيَّةِ المُؤَدِّيَةِ إلى حُصولِ العلمِ، مثلَ حِفْظِهِ، وَدِرَاسَتِهِ، وَمُذَاكَرَتِهِ، وَمُطَالَعَتِهِ، وَكِتَابَتِهِ، والتَّفَهُّمِ لهُ، ونحوِ ذلكَ مِن الطُّرُقِ المعنويَّةِ التي يُتَوَصَّلُ بها إلى العلمِ.
وقولُهُ: ((سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)).
قدْ يُرَادُ بذلكَ أنَّ اللَّهَ يُسَهِّلُ لهُ العلمَ الذي طَلَبَهُ وَسَلَكَ طريقَهُ، وَيُيَسِّرُهُ عليهِ؛ فَإِنَّ العلمَ طَرِيقٌ مُوصِلٌ إلى الجنَّةِ، وهذا كقولِهِ تَعَالَى: {ولَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].
قالَ بعضُ السَّلَفِ: هَلْ مِنْ طالبِ عِلْمٍ فَيُعَانَ عليهِ؟
وقدْ يُرَادُ أَيْضًا: أنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ لطالبِ العلمِ إذا قَصَدَ بِطَلَبِهِ وَجْهَ اللَّهِ الانْتِفَاعَ بهِ والعملَ بِمُقْتَضَاهُ، فيكونُ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِ ولدخولِ الجنَّةِ بذلكَ.
وقدْ يُيَسِّرُ اللَّهُ لطالبِ العلمِ عُلُومًا أُخَرَ يَنْتَفِعُ بها، وتكونُ مُوصِلَةً لَهُ إلى الجنَّةِ، كما قِيلَ: مَنْ عَمِلَ بما عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ ما لمْ يَعْلَمْ، وكَمَا قِيلَ: ثوابُ الْحَسَنَةِ الحَسَنَةُ بَعْدَهَا.
وقدْ دَلَّ على ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مَرْيَم: 76]، وقولُهُ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [مُحَمَّد: 17].
وقدْ يَدْخُلُ في ذلكَ أيضًا تَسْهِيلُ طريقِ الجنَّةِ الحِسِّيِّ يومَ القيامةِ -وهوَ الصِّراطُ- وما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ من الأهوالِ، فَيُيَسِّرُ ذلكَ على طالبِ العلمِ للانتفاعِ بهِ؛ فإنَّ العِلْمَ يَدُلُّ على اللَّهِ مِنْ أقْرَبِ الطرقِ إليهِ.
فَمَنْ سَلَكَ طريقَهُ، ولمْ يُعَرِّجْ عنْهُ، وَصَلَ إلى اللَّهِ وإلى الجنَّةِ مِنْ أقربِ الطُّرقِ وَأَسْهَلِهَا، فَسَهُلَتْ عليهِ الطُّرُقُ المُوَصِّلَةُ إلى الجنَّةِ كُلُّهَا في الدُّنْيَا والآخرةِ.
فلا طَرِيقَ إلى معرفةِ اللَّهِ، وإلى الوصولِ إلى رِضْوَانِهِ، والفَوْزِ بِقُرْبِهِ، وَمُجَاوَرَتِهِ في الآخرةِ إلا بالعلمِ النَّافعِ الذي بَعَثَ اللَّهُ بهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بهِ كُتُبَهُ، فهوَ الدَّليلُ عليهِ، وبهِ يُهْتَدَى في ظُلُمَاتِ الجهلِ والشُّبَهِ والشُّكُوكِ.
ولهذا سَمَّى اللَّهُ كِتَابَهُ نُورًا؛ لأنَّهُ يُهْتَدَى بهِ في الظُّلُمَاتِ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15ـ 16].
وَمَثَّلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حَمَلَةَ العلمِ الذي جَاءَ بهِ بِالنُّجومِ التي يُهْتَدَى بها في الظُّلُمَاتِ، فَفِي (المُسْنَدِ): عنْ أنسٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ)).
وما دَامَ الْعِلْمُ بَاقِيًا في الأرضِ فالنَّاسُ في هُدًى، وَبَقَاءُ العلمِ بَقَاءُ حَمَلَتِهِ، فإذا ذَهَبَ حَمَلَتُهُ وَمَنْ يَقُومُ بهِ وَقَعَ النَّاسُ في الضلالِ، كما في (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).
وذَكَرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا رَفْعَ العلمِ، فقيلَ لهُ: كَيْفَ يَذْهَبُ العِلْمُ وَقَدْ قَرَأْنَا القُرْآنَ وَأَقْرَأْنَاهُ نِساءَنا وَأَبناءَنا؟ فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:
((هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟))
فَسُئِلَ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ عنْ هذا الحديثِ، فقالَ: لوْ شِئْتُ لأََخْبَرْتُكَ بأوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِن النَّاسِ: الخُشُوعُ.
وإنَّمَا قالَ عُبَادَةُ هذا؛ لأنَّ العلمَ قِسْمَانِ:
أحدُهما: ما كانَ ثَمَرَتُهُ في قلبِ الإِنسانِ، وهوَ العلمُ باللَّهِ تَعَالَى، وأسمائِهِ، وصفاتِهِ، وأفعالِهِ المُقْتَضِيَةِ لِخَشْيَتِهِ، وَمَهَابَتِهِ، وَإِجْلالِهِ، والخضوعِ لهُ، وَلِمَحَبَّتِهِ، وَرَجَائِهِ، ودُعَائِهِ، والتَّوَكُّلِ عليهِ، ونحوِ ذلكَ.
فهذا هوَ العلمُ النافعُ، كما قالَ ابنُ مسعودٍ: (نَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ القرآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، ولكنْ إذا وَقَعَ في القلبِ فَرَسَخَ فيهِ نَفَعَ)
وقالَ الحَسَنُ: (العلمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ على اللسانِ، فذاكَ حُجَّةُ اللَّهِ على ابنِ آدمَ، وعِلْمٌ في القلبِ، فذاكَ العلمُ النافعُ)
والقسمُ الثاني: العلمُ الذي على اللِّسانِ، وهوَ حُجَّةُ اللَّهِ كما في الحديثِ: ((الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)).
فأوَّلُ ما يُرْفَعُ مِن العلمِ: العلمُ النَّافِعُ، وهوَ العلمُ الباطنُ الَّذي يُخالِطُ القلوبَ ويُصْلِحُهَا.
وَيَبْقَى عِلْمُ اللِّسانِ حُجَّةً، فَيَتَهَاوَنُ الناسُ بهِ، ولا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهُ، لا حَمَلَتُهُ ولا غيرُهُم.
ثمَّ يَذْهَبُ هذا العلمُ بِذَهَابِ حَمَلَتِهِ، فلا يَبْقَى إلا القرآنُ في المصاحفِ، وليسَ ثَمَّ مَنْ يَعْلَمُ مَعَانِيَهُ، ولا حُدُودَهُ، ولا أحْكَامَهُ.
ثمَّ يُسْرَى بهِ في آخِرِ الزمانِ، فلا يَبْقَى في المصاحفِ ولا في القُلوبِ منهُ شيءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وبعدَ ذلكَ تَقُومُ السَّاعةُ، كما قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ))، وقالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ وَفِي الأَرْضِ أَحَدٌ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ)).
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَا جَلَسَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)).
هذا يَدُلُّ على اسْتِحْبَابِ الجلوسِ في المساجدِ؛ لتلاوةِ القرآنِ وَمُدَارَسَتِهِ.
وهذا إنْ حُمِلَ على تَعَلُّمِ القرآنِ وَتَعْلِيمِهِ فلا خِلافَ في اسْتِحْبَابِهِ.
وفي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ): عنْ عُثْمَانَ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)).
قالَ أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيُّ: فذاكَ الذي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هذا.
وكانَ قدْ عَلَّمَ القرآنَ في زمنِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ حتَّى بَلَغَ الحَجَّاجَ بنَ يُوسُفَ.
وإنْ حُمِلَ على ما هوَ أَعَمُّ مِنْ ذلكَ دَخَلَ فيهِ الاجتماعُ في المساجدِ على دراسةِ القرآنِ مُطْلَقًا.
وقدْ كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أحْيَانًا يَأْمُرُ مَنْ يَقْرَأُ القرآنَ لِيَسْتَمِعَ قِرَاءَتَهُ، كما أَمَرَ ابنَ مسعودٍ أنْ يَقْرَأَ عليهِ وقالَ: ((إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)).
وكانَ عُمَرُ يَأْمُرُ مَنْ يَقْرَأُ عليهِ وعلى أصحابِهِ وهُمْ يَسْمَعُونَ، فَتَارَةً يَأْمُرُ أَبَا مُوسَى، وَتَارَةً يَأْمُرُ عُقْبَةَ بنَ عَامِرٍ.
وَسُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ: أيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قالَ: ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَا جَلَسَ قَوْمٌ في بيتٍ منْ بيوتِ اللَّهِ يَتَعَاطَوْنَ فيهِ كتابَ اللَّهِ فيما بَيْنَهُمْ وَيَتَدَارَسُونَهُ، إلا أَظَلَّتْهُم الملائكةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وكانوا أَضْيَافَ اللَّهِ ما دَامُوا على ذلكَ، حتَّى يُفِيضُوا في حديثٍ غَيْرِهِ.
ورُوِيَ مَرْفُوعًا، والموقوفُ أَصَحُّ.
ورَوَى يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عنْ أنسٍ قالَ: كانُوا إذا صَلَّوا الغداةَ قَعَدُوا حِلَقًا حِلَقًا، يَقْرَءُونَ القرآنَ، وَيَتَعَلَّمُونَ الفرائضَ وَالسُّنَنَ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
ورَوَى عَطِيَّةُ عنْ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا مِنْ قَوْمٍ صَلَّوْا صَلاةَ الْغَدَاةِ، ثُمَّ قَعَدُوا في مُصَلاهُمْ يَتَعَاطَوْنَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ، إِلا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِم مَلائِكَةً يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)).
وهذا يَدُلُّ على اسْتِحْبَابِ الاجتماعِ بعدَ صلاةِ الغداةِ لِمُدَارَسَةِ القرآنِ. ولكنْ عَطِيَّةُ فيهِ ضَعْفٌ.
وقدْ رَوَى حَرْبٌ الكِرْمَانِيُّ بإسنادِهِ عن الأَوْزَاعِيِّ، أنَّهُ سُئِلَ عن الدِّراسةِ بعدَ صلاةِ الصُّبحِ، فقالَ: أَخْبَرَنِي حَسَّانُ بنُ عَطِيَّةَ، أنَّ أوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهَا في مسجدِ دِمَشْقَ هِشَامُ بنُ إِسْمَاعِيلَ المَخْزُومِيُّ في خلافةِ عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ.
وبإسنادِهِ عنْ سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ وإبراهيمَ بنِ سُلَيْمَانَ، أنَّهُمَا كَانَا يَدْرُسَانِ القرآنَ بعدَ صلاةِ الصبحِ بِبَيْرُوتَ، وَالأَوْزَاعِيُّ في المسجدِ لا يُغَيِّرُ عَلَيْهِم.
وذَكَرَ حَرْبٌ أنَّهُ رَأَى أهلَ دمشقَ، وأهلَ حِمْصَ، وأهلَ مَكَّةَ، وَأَهْلَ البصرةِ يَجْتَمِعُونَ على القراءةِ بعدَ صلاةِ الصُّبحِ، لكنَّ أَهْلَ الشامِ يَقْرَءُونَ القرآنَ كُلُّهُمْ جُمْلَةً مِنْ سُورَةٍ واحدةٍ بأصواتٍ عاليَةٍ، وأهلَ مَكَّةَ وأهلَ البَصْرَةِ يَجْتَمِعُونَ، فَيَقْرَأُ أَحَدُهُم عَشْرَ آياتٍ، والنَّاسُ يُنْصِتُونَ، ثمَّ يَقْرَأُ آخَرُ عَشْرًا، حتَّى يَفْرُغُوا.
قالَ حَرْبٌ: وكُلُّ ذلكَ حَسَنٌ جميلٌ.
وقدْ أَنْكَرَ ذلكَ مَالِكٌ على أهلِ الشامِ.
قالَ زيدُ بنُ عُبَيْدٍ الدِّمَشْقِيُّ: قالَ لي مالِكُ بنُ أنسٍ: بَلَغَنِي أنَّكُمْ تَجْلِسُونَ حِلَقًا تَقْرَءُونَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ يَفْعَلُ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ مَالِكٌ: عِنْدَنا كانَ المُهَاجِرُونَ والأنصارُ ما نَعْرِفُ هذا.
قالَ: فَقُلْتُ: هذا طَرِيفٌ؟ قالَ: وَطَرِيفٌ رَجُلٌ يَقْرَأُ وَيَجْتَمِعُ الناسُ حَوْلَهُ، فقالَ: هذا عَنْ غَيْرِ رَأْيِنَا.
قالَ أبو مُصْعَبٍ وإسحاقُ بنُ مُحَمَّدٍ الفَرْوِيُّ: سَمِعْنَا مالكَ بنَ أَنَسٍ يَقُولُ: الاجتماعُ بُكْرَةً بعدَ صلاةِ الفَجْرِ لقراءةِ القرآنِ بِدْعَةٌ، ما كانَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ولا العلماءُ بَعْدَهُم على هذا، كانُوا إذا صَلَّوْا يَخْلُو كلٌّ بنفسِهِ وَيَقْرَأُ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ منْ غيرِ أنْ يُكَلِّمَ بَعْضُهُم بَعْضًا؛ اشْتِغَالاً بِذِكْرِ اللَّهِ، فهذهِ كُلُّهَا مُحْدَثَةٌ.
وقالَ ابنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يقولُ: لمْ تَكُن القراءةُ في المسجدِ مِنْ أمْرِ النَّاسِ القديمِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ذلكَ في المسجدِ الحَجَّاجُ بنُ يُوسُفَ.
قالَ مالكٌ: (وأنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ الذي يَقْرَأُ في المسجدِ في المصحفِ).
وقدْ رَوَى هذا كُلَّهُ أبو بكرٍ النَّيْسَابُورِيُّ في كتابِ (مَنَاقِبِ مَالِكٍ)رَحِمَهُ اللَّهُ.
واسْتَدَلَّ الأَكْثَرُونَ على استحبابِ الاجتماعِ لمُدَارسةِ القرآنِ في الجُملةِ بالأحاديثِ الدَّالَّةِ على استحبابِ الاجتماعِ للذِّكْرِ، والقرآنُ أَفْضَلُ أنواعِ الذِّكْرِ، ففي (الصَّحِيحَيْنِ)، عنْ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، فَيَقولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا رَأَوْهَا، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَشَدَّ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ فَيَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ. قالَ: يَقُولُ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا رَأَوْهَا، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْها فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. فَيَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَتِهِ. قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)).
وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عنْ مُعاويَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فقالَ: ((مَا يُجْلِسُكُمْ))؟ قالُوا: جَلَسْنا نَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَحْمَدُهُ لِمَا هَدَانَا لِلإِسْلامِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِهِ، فقالَ: ((آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلا ذَلِكَ؟)) قالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلا ذَلِكَ، قالَ: ((أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ لِتُهْمَةٍ لَكُمْ، إِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ)).
وَخَرَّجَ الحَاكِمُ منْ حديثِ معاويَةَ قالَ: كُنْتُ مَعَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَدَخَلَ المَسْجِدَ، فَإِذا هُوَ بِقَوْمٍ فِي المسْجِدِ قُعودٍ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَقْعَدَكُمْ؟)) فقالُوا: صَلَّيْنَا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، ثُمَّ قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا ذَكَرَ شَيْئًا تَعَاظَمَ ذِكْرُهُ)).
وفي المَعْنَى أَحَادِيثُ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ.
وقدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّ جزاءَ الذينَ يَجْلِسُونَ في بيتِ اللَّهِ يَتَدَارَسُونَ كتابَ اللَّهِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
أحدُها: تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عليهم، وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عن البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ قالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سورةَ الكَهْفِ وِعِنْدَهُ فَرَسٌ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فقالَ: ((تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ)).
وفيهما أَيْضًا: عنْ أبي سعيدٍ، أنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ، إذْ جَالَتْ فَرَسُهُ، فَقَرَأَ، ثمَّ جَالَتْ أُخْرَى، فَقَرَأَ، ثمَّ جَالَتْ أَيْضًا.
فقالَ أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أنْ تَطَأَ يَحْيَى -يَعْنِي: ابْنَهُ- قالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فإذا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي فيها أمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ في الجَوِّ حتَّى ما أَرَاهَا، قالَ: فَغَدَا على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذلكَ لهُ، فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((تِلْكَ الْمَلائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لأََصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ)). واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ فيهما.
ورَوَى ابنُ الْمُبَارَكِ عنْ يحيى بنِ أَيُّوبَ، عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ زَحْرٍ، عنْ سعدِ بنِ مَسْعُودٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كانَ فِي مَجْلِسٍ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلى السَّماءِ، ثُمَّ طَأْطَأَ بَصَرَهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ، فَسُئِلَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَن ذَلِكَ، فَقَالَ: ((إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى -يَعْنِي: أَهْلَ مَجْلِسٍ أَمَامَهُ- فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ تَحْمِلُهَا الْمَلائِكَةُ كَالْقُبَّةِ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُمْ تَكَلَّمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِبَاطِلٍ، فَرُفِعَتْ عَنْهُمْ)). وهذا مُرْسَلٌ.
والثاني: غِشْيَانُ الرَّحمةِ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
وَخَرَّجَ الحاكمُ منْ حديثِ سَلْمَانَ، أنَّهُ كانَ في عِصابةٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى، فَمَرَّ بهم رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ((مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَيْكُمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُشَارِكَكُمْ فِيهَا)).
وَخَرَّجَ البَزَّارُ منْ حديثِ أنسٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ لِلَّهِ سَيَّارَةً مِنَ الْمَلائِكَةِ، يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذِّكْرِ، فَإِذَا أَتَوْا عَلَيْهِمْ حَفُّوا بِهِمْ، ثُمَّ بَعَثُوا رَائِدَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ إِلَى رَبِّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَتَيْنَا عَلَى عِبَادٍ مِنْ عِبَادِكَ يُعَظِّمُونَ آلاءَكَ، وَيَتْلُونَ كِتَابَكَ، وَيُصَلُّونَ عَلَى نَبِيِّكَ، وَيَسْأَلُونَكَ لِآخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: غَشُّوهُمْ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، إِنَّ فِيهِمْ فُلانًا الْخَطَّاءَ، إِنَّمَا اعْتَنَقَهُمُ اعْتِنَاقًا، فَيَقُولُ تَعَالَى: غَشُّوهُمْ بِرَحْمَتِي؛ [فَهُمُ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ])).
والثالثُ: أنَّ الملائكةَ تَحُفُّ بهم.
وهذا مَذْكُورٌ في هذهِ الأحاديثِ التي ذَكَرْنَاهَا، وفي حديثِ أبي هُريرةَ المُتَقَدِّمِ: ((فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا)).
وفي روايَةٍ للإِمامِ أحمدَ: ((عَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَبْلُغُوا الْعَرْشَ)).
وقالَ خالدُ بنُ مَعْدَانَ، يَرْفَعُ الحديثَ: ((إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً فِي الْهَوَاءِ، يَسِيحُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، يَلْتَمِسُونَ الذِّكْرَ، فَإِذَا سَمِعُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى قَالُوا: رُوَيْدًا، زَادَكُمُ اللَّهُ. فَيَنْشُرُونَ أَجْنِحَتَهُمْ حَوْلَهُمْ حَتَّى يَصْعَدَ كَلامُهُمْ إِلَى الْعَرْشِ)). خَرَّجَهُ الخَلالُ في كتابِ (السُّنَّةِ).
الرابعُ: أنَّ اللَّهَ يَذْكُرُهُمْ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُمْ)).
وهذهِ الخِصَالُ الأربعُ لِكُلِّ مُجْتَمِعِينَ على ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كما في (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عنْ أبي هريرةَ وأبي سعيدٍ، كلاهُمَا عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ لأَِهْلِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَرْبَعًا: تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَتَغْشَاهُمُ الرَّحْمَةُ، وَتَحُفُّ بِهِمُ الْمَلائِكَةُ، وَيَذْكُرُهُمُ الرَّبُّ فِيمَنْ عِنْدَهُ)).
وَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
وذِكْرُ اللَّهِ لعبدِهِ: هُوَ ثَنَاؤُهُ عليهِ في المَلأَِ الأَعْلَى بينَ مَلائِكَتِهِ، وَمُبَاهَاتُهُمْ بهِ، وَتَنْوِيهُهُ بِذِكْرِهِ.
قالَ الرَّبِيعُ بنُ أَنَسٍ: إنَّ اللَّهَ ذَاكِرٌ مَنْ ذَكَرَهُ، وَزَائِدٌ مَنْ شَكَرَهُ، وَمُعَذِّبٌ مَنْ كَفَرَهُ. وقالَ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 41 - 43].
وصلاةُ اللَّهِ على عَبْدِهِ: هوَ ثناؤُهُ عليهِ بينَ ملائكتِهِ، وتَنْوِيهُهُ بِذِكْرِهِ.
كذا قالَ أبو العَالِيَةِ، ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ في (صَحِيحِهِ).
وقالَ رجلٌ لأَِبِي أُمَامَةَ: رَأَيْتُ في المَنَامِ كأنَّ المَلائِكَةَ تُصَلِّي عَلَيْكَ كُلَّما دَخَلْتَ وكُلَّمَا خَرَجْتَ، وَكُلَّما قُمْتَ وكُلَّما جَلَسْتَ.
فقالَ أبو أُمَامَةَ: وَأَنْتُم لوْ شِئْتُمْ صَلَّتْ عليكمُ الملائكةُ، ثمَّ قرأَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ومَلائِكَتُهُ}. خَرَّجَهُ الحَاكِمُ.
(6) قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ))، مَعْنَاهُ أنَّ العملَ هوَ الذي يَبْلُغُ بالعبدِ درجاتِ الآخرةِ، كَمَا قالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]. فَمَنْ أَبْطَأَ بهِ عَمَلُهُ أنْ يَبْلُغَ بهِ المَنَازِلَ العاليَةَ عندَ اللَّهِ تَعَالَى، لم يُسْرِعْ بهِ نَسَبُهُ، فَيُبَلِّغُهُ تلكَ الدَّرجاتِ؛ فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْجَزَاءَ على الأعمالِ، لا على الأنسابِ، كما قالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المُؤْمِنُونَ: 101]. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بالمسارعةِ إلى مغفرتِهِ ورحمتِهِ بالأعمالِ، كما قالَ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عِمْرَانَ: 133 - 134] الآيتَيْنِ، وقالَ: {إنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنونَ: 57 - 61].
قالَ ابنُ مَسْعُودٍ: (يَأْمُرُ اللَّهُ بِالصِّرَاطِ فَيُضْرَبُ على جَهَنَّمَ، فَيَمُرُّ النَّاسُ على قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ زُمَرًا زُمَرًا، أَوَائِلُهُم كَلَمْحِ البَرْقِ، ثمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، ثمَّ كَمَرِّ البَهَائِمِ، حتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ سَعْيًا، وَحَتَّى يَمُرَّ الرجلُ مَشْيًا، حتَّى يَمُرَّ آخِرُهُم يَتَلَبَّطُ على بَطْنِهِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، لِمَ بَطَّأْتَ بِي؟ فيقولُ: إنِّي لمْ أُبَطِّئْ بِكَ، إِنَّما بَطَّأَ بِكَ عَمَلُكَ).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حينَ أُنْزِلَ عليهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقرَبِينَ} [الشعراء: 214]: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا،يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)).
وفي روايَةٍ خارجَ (الصَّحِيحَيْنِ): ((إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ، لا يَأْتِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ وَتَأْتُونِي بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ، فَتَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: قَدْ بَلَّغْتُ)).
وَخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنيا منْ حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ نَسَبٌ أَقْرَبَ مِنْ نَسَبٍ، يَأْتِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ تَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ هَكَذَا وَهَكَذَا))، وَأَعْرَضَ فِي كِلا عِطْفَيْهِ.
وَخَرَّجَ البَزَّارُ منْ حديثِ رفاعةَ بنِ رافعٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ لِعُمَرَ: ((اجْمَعْ لِي قَوْمَكَ)) -يَعْنِي قُرَيْشًا- فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ: ((إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ، فَإِنْ كُنْتُمْ أُولَئِكَ فَذَاكَ، وَإِلا فَانْظُرُوا، لا يَأْتِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَأْتُونَ بِالأَثْقَالِ، فَيُعْرَضَ عَنْكُمْ)). وَخَرَّجَهُ الحاكمُ مُخْتَصَرًا وَصَحَّحَهُ.
وفي (المُسْنَدِ)، عنْ مُعَاذِ بنِ جبلٍ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إلى اليمنِ، خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ، ثمَّ الْتَفَتَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ إلى المدينةِ فقالَ: ((إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِيَ الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا)).
وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وزادَ فيهِ: ((إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا)).
وَيَشْهَدُ لهذا كُلِّهِ ما في (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ عمرِو بنِ العَاصِ، أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّ آلَ أَبِي فُلانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، وَإِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)).
يُشِيرُ إلى أنَّ ولايتَهُ لا تُنَالُ بالنسبِ وإنْ قَرُبَ، وَإنَّمَا تُنَالُ بالإِيمانِ والعملِ الصالحِ، فمَنْ كانَ أَكْمَلَ إِيمَانًا وَعَمَلاً فهوَ أَعْظَمُ وَلايَةً لهُ، سواءٌ كَانَ لهُ منهُ نَسَبٌ قريبٌ، أوْ لَمْ يَكُنْ. وفي هذا المعنَى يَقُولُ بعضُهُم: