فصلٌ: تقَعُ الحالُ اسماً مَفْرداً كما مضَى.
وظَرْفاً؛ كـ "رأيتُ الهلالَ بينَ السَّحَابِ", وجارًّا ومجروراً نحوَ: {فخَرَجَ عَلَى قَوْمِه فِي زِينَتِهِ}([1])،ويَتعَلَّقانِ بمُستَقِرٍّ, أو استَقَرَّ محذوفيْنِ وجوباً.
وجملةً بثلاثةِ شُروطٍ:
أحدُها: كونُها خبريَّةً, وغَلِطَ مَن قالَ في قولِه:
280- اطْلُبْ ولا تَضْجَرَ مِنْ مَطْلَبٍ([2]) :إنَّ "لا" ناهيةٌ, والواوُ للحالِ, والصوابُ أنَّها عاطفةٌ, مثلُ: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}([3]).
الثاني: أنْ تَكُونَ غَيْرَ مُصدَّرَةٍ بدليلِ استقبالٍ, وغلِطَ مَن أعرَبَ {سَيَهْدِينِ}. من قولِه تعالى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}([4]) حالاً.
الثالثُ: أنْ تكونَ مُرتبطةً إمَّا بالواوِ والضميرِ نحوَ: {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ}([5])،أو بالضميرِ فقطْ نحوَ: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}([6]) أي: مُتعادِينَ, أو بالواوِ فقط نحوَ: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ}([7]).
وتجبُ الواوُ قبلَ "قد"([8]) داخلةً على مضارعٍ نحوَ:
{لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ}([9]).
وتَمْتَنِعُ في سبعِ صُورٍ:
إحداها: الواقعةُ بعدَ عاطفٍ نحوَ: {فجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}([10]).
الثانيةُ: المُؤَكِّدَةُ لمضمونِ الجملةِ نحوُ: "هُوَ الْحَقُّ لا شَكَّ فيهِ", و{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فيهِ}([11]).
الثالثةُ: الماضي التالي إلاَّ نحوَ: {إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}([12]).
الرابعةُ: الماضي المَتْلُوُّ بأوْ نحوُ: "لأضْرِبَنَّهُ ذَهَبَ أوْ مَكَثَ".
الخامسةُ: المُضارعُ المنفيُّ بلا نحوُ: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ}([13]).
السادسةُ: المُضارِعُ المنفيُّ بـ"ما" كقولِه:
281- عَهِدْتُكَ مَا تَصْبُو وفِيكَ شَبِيبَةٌ([14]) السابعةُ: المضارعُ المُثْبَتُ؛ كقولِه تعالى: {وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}([15]).
وأمَّا نحوُ قولِه:
282- عُلِّقْتُها عَرَضاً وأَقْتُلُ قَوْمَهَا([16]) فقيلَ: ضرورةٌ. وقيلَ: الواوُ عاطفةٌ, والمضارعُ مُؤَوَّلٌ بالماضي. وقيلَ: واوُ الحالِ والمضارعِ خَبَرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ. أي: وأنا أقْتُلُ([17]).
([1]) سورة القصص، الآية: 79.
([2]) 280-نسَبَ الشيخُ خَالِدٌ هذا المثالَ لبعضِ المُوَلَّدِينَ، ولم يَزِدْ في التعريفِ به عن ذلك، ولم أقِفْ على نسبةٍ إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، وليسَ من غرضِ المُؤلِّفِ أنْ يَسْتشهِدَ بهذا الشطرِ حتى يُقالَ: إنَّ كلامَ المُولَّدِينَ لا يُسْتشهَدُ به. وإنَّما غرَضُه أنْ يُبَيِّنَ خَطَأَ الذينَ أعْرَبوه، وهذا صَدْرُ بيتٍ من السريعِ، ونحن نذكُرُه لك معَ بيتٍ آخرَ ذَكَرُوه معَه، وهما:
اطْلُبْ ولا تَضْجَرَ مِن مَطْلَبٍ = فآفَةُ الطالبِ أنْ يَضْجَرَا
أمَا تَرَى – الحَبْلَ بتَكْرَارِهِ = في الصَّخْرَةِ الصمَّاءِ قَدْ أثَّرَا
اللغةُ: (لا تَضْجَرَ) تقولُ: ضَجِرَ فلانٌ من كذا يَضْجَرُ ضَجَراً– مثلُ فَرِحَ يَفْرَحُ فَرَحاً– إذا قَلِقَ واغْتَمَّ منه، وهو ضَجِرٌ – بوَزْنِ فَرِحٌ – وضَجُورٌ– بوزنِ صَبورٍ, "آفةُ" الآفةُ: عَرَضٌ يُفْسِدُ ما يُصيبُه، وهي كالعاهَةِ وَزْناً ومعنًى، وتقولُ: إِيفَ الشيءُ– مَبنِيًّا للمجهولِ– يُؤافُ فهو مَؤُوفٌ؛ وذلك إذا أصابَتْهُ الآفةُ.
الإعرابُ: (اطْلُبْ) فعلُ أمرٍ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وفاعلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه وُجوباً تقديرُه: أنتَ, (وَلاَ) الواوُ قِيلَ: إِنَّها للحالِ. مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (لا) قِيلَ: هي حرفُ نَهْيٍ، مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (تَضْجَرَ) فعلٌ مضارعٌ مَبنِيٌّ على الفتحِ؛ لاتِّصالِه بنونِ التوكيدِ المحذوفةِ للتخفيفِ في مَحَلِّ جزمٍ بلا الناهيةِ، والصحيحُأنَّ الواوَ في قولِه: (وَلاَ). واوُ المَعِيَّةِ، ولا: نافيةٌ، وتَضْجَرَ: فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بأن المصدريَّةِ المُضمَرةِ بعدَ واوِ المعيَّةِ وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ, (من) حرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ, (مَطْلَبٍ) مجرورٌبمِن، وعلامةُ جَرِّه الكسرةُ الظاهرةُ، والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بلا تَضْجَرَ, "فَآفَةُ" الفاءُ حرفٌ دَالٌّ على التعليلِ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وآفَةُ: مبتدأٌ مرفوعٌ بالابتداءِ وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، وهو مضافٌ و"الطَّالِبِ" مضافٌ إليه، مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ,"أنْ" حرفٌ مَصدريٌّ ونَصْبٍ، مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ,"يَضْجَرَا" فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بأن المصدريَّةِ، وعلامةُ نَصْبِه الفتحةُ الظاهرةُ، وفاعلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه: هو, يعودُ إلى الطالبِ المضافِ إليه، والألِفُ للإطلاقِ، وأن المصدريَّةُ معَ ما دخلَتْ عليه في تأويلِ مَصْدَرٍ مرفوعٍ يقَعُ خبرَ المبتدأِ الذي هو قولُه: آفَةُ، وتقديرُ الكلامِ: فآفةُ الطالبِ الضَّجَرُ.
الشاهدُ فيه: ذهَبَ بعضُ العلماءِ– وهو الأمينُ المَحلِّيُّ كما ذكَرَه ابنُ هشامٍ في (مُغْنِي اللبيبِ) في الكلامِ على النوعِ الثامنِ من الجهةِ السادسةِ من البابِ الخامسِ في الجهاتِ التي يدخُلُ الاعتراضُ على المُعْرَبِ من جِهَتِها – إلى أنَّ (لا) في قولِ الشاعرِ: (وَلاَ تَضْجَرَ) ناهِيَةٌ، والواوُ التي قبلَها للحالِ، وتَضْجَرْ: فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بلا الناهيةِ، وأصلُه: "ولا تَضْجَرَا" بنونِ التوكيدِ الخفيفةِ، فحُذِفَتْ نونُ التوكيدِ الخفيفةُ وبَقِيَتِ الفتحةُ التي قبلَها لتدُلَّ عليها، وعلى هذا تكونُ الجُملةُ في مَحلِّ نصْبٍ حالٌ.
وهذا الذي ذهَبَ إليه الأمِينُ المَحَلِّيُّ مُخالفٌ لِمَا وقَعَ عليه الإجماعُ من النحاةِ من أنَّه يُشْتَرَطُ في جملةِ الحالِ أنْ تكُونَ خَبَرِيَّةً، ولا يَجوزُ أنْ تكُونَ طَلَبِيَّةً أصلاً.
والصوابُ المُطابِقُ لهذا الإجماعِ أنْ تجعَلَ الواوَ واوَ المَعِيَّةِ، ولا بعدَها نافِيَةٌ، والمضارِعُ الذي بعدَها مَنْصوبٌ, لا مفتوحٌ، وناصبُه أنْ مُضْمرةٌ بعدَ واوِ المَعِيَّةِ.
ويجوزُ أنْ تكُونَ الواوُ عَاطِفَةً، والمضارِعُ منصوبٌ بأنْ مَحْذُوفةٍ معَ بقاءِ عَمَلِها، والمصدرُ المَسْبوكُ مَعْطوفٌ على مصدرٍ مُتصَيَّدٍ مِمَّا قبلَها، أي: ليَكُنْ منكَ طَلَبٌ وعَدَمُ ضَجَرٍ، كما يَجوزُ أنْ تكُونَ الواوُ عاطفةً، ولا التي بعدَها ناهيةً، وتَضْجَرَ فعلٌ مضارعٌ مَبنِيٌّ على الفتحِ؛ لاتِّصالِه بنونِ التوكيدِ الخفيفةِ المنقلبةِ ألِفاً لأجْلِ الوقْفِ، ثم عُومِلَ الوَصْلُ مُعاملةَ الوقْفِ، وعلى هذا تَكُونُ الواوُ قد عَطَفَتْ جُمْلةَ النهْيِ على جملةِ الأمرِ، وهذا هو الذي يُنْظَرُ بالآيةِ الكريمةِ التي عُطِفَ فيها جملةُ {وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}, التي هي جُمْلَةٌ ناهيةٌ على جُمْلَةٍ {وَاعْبُدُوا اللهَ} التي هي جُملةُ أمرٍ.
فإنْ قلتَ: ألسْتُمْ تَقولونَ: إنَّ الحالَ يُشْبِهُ الخَبَرَ، وقدْ عَلِمْنَا أنَّ خَبَرَ المبتدأِ كما يَكُونُ جُملةً خَبريَّةً محتملِةً للصدقِ والكذبِ, يكونُ جملةً طَلبيَّةً، وذلك مِمَّا يقولُ به جمهورُ النحاةِ؛ فإِنَّه لم يُخالِفْ في صِحَّةِ مجيءِ الخبرِ جُملةً طَلَبيَّةً إلاَّ ابنُ الأنباريِّ، فلماذا لم يَصِحَّ مَجِيءُ الحالِ جملةً طلبيَّةً؟
قُلْتُ: الحالُ كما يُشْبِهُ الخبرَ يُشْبِهُ النعْتَ، وقد أُعْطِيَ الحالُ في هذا حُكْمَ النعْتِ، ولم يُعْطَ فيه حُكْمَ الخبرِ, ولذلك سِرٌّ, حاصلُه أنَّ الخبَرَ حُكْمٌ على صاحبِه، والأصلُ أنَّ الحكمَ يَكونُ مجهولاً قبلَ أنْ يَتكلَّمَ المُتكلِّمُ به فيَقْصِدُ بكلامِه إفادةَ السامعِ إِيَّاهَ، ولا كذلك الحالُ والنعتُ؛ فإنَّ النعْتَ لتَعْيِينِ المَنْعوتِ أو تَخْصِيصِه، وما به التعيينُ أو التخصيصُ لا بُدَّ أنْ يكُونَ معلوماً للمُخاطَبِ قبلَ التكَلُّمِ، ولَمَّا كانَ الطَّلَبُ لا يحصُلُ مَضْمُونُه إِلاَّ بعدَ الكلامِ لم يَصْلُحْ للتخصيصِ ولا للتعيِينِ، فلم يَصِحَّ أنْ يقَعَ حَالاً، ولَمَّا كانَ الحالُ قَيْداً للعاملِ في صَاحِبِ الحالِ حَمَلوه على النعتِ في هذا؛ لقُرْبِ شَبَهِهِ به فيه، فاعرِفْ هذا.
والخُلاصةُ أنَّ الأمِينَ المَحَلِّيَّ ادَّعى في قولِه: (وَلا تَضْجَرَ). ثلاثةَ أمورٍ: الأولُ: أنَّ الواوَ للحالِ، وثانيها: أنَّ لا ناهيةٌ، وثالثُها: أنَّ الفَتْحَةَ في المضارعِ فتحةُ بِناءٍ، وأنَّ الردَّ عليه، أنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ الواوَ للحالِ، بل هي الواوُ التي بمعنَى معَ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ لا ناهِيَةٌ، بل هي نافيةٌ، ولئنْ سَلَّمْنا أنَّ لا ناهيةٌ, وأنَّ الفعلَ المضارعَ مَبنِيٌّ بعدَها؛ فإنَّ هذا لا يُفيدُكَ في ادِّعاءِ أنَّ جملةَ الحالِ قد جَاءَتْ طَلَبيَّةً؛ لأنَّا نجَعَلُ الواوَ عاطفةً، وجملةَ النهْيِ معطوفةً بهذهِ الواوِ على جملةِ الأمرِ التي هي قولُه اطْلُبْ.
بَقِيَ أنْ نقولَ لك: إنَّه قد وَرَدَ في الحديثِ النبويِّ ما ظاهرُه وقوعُ الحالِ جملةً طلبيَّةً، وذلك في حديثيْنِ: أحَدُهما قولُه عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ((وَجَدْتُ النَّاسَ اخْبُرْ تَقِلَهْ)). إذا جَعَلْتَ وجَدَ بمعنَى أصابَ كانَتِ جملةُ (اخْبُرْ تَقْلَهْ) في مَحلِّ نصبٍ حالٌ، هذا بحَسَبِ الظاهرِ، والثاني قولُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ هَاءً وهَاءً)). فإنَّ هاءً اسمُ فِعْلِ أمرٍ بمعنَى خُذْ، والجملةُ بحَسَبِ الظاهرِ في مَحلِّ نَصْبٍ حَالٌ، وقد خَرَّجَ العلماءُ هذيْنِ الحديثيْنِ بأنَّ الجملةَ الطَّلَبيَّةَ في كلٍّ منهما في مَحلِّ نَصْبٍ مقولٌ لقولٍ محذوفٍ, هو الذي يقَعُ حالاً، وتقديرُ الكلامِ في الحديثِ الأوَّلِ: وجَدْتُ الناسَ مَقُولاً فِيهِم اخْبُرْ تَقْلَهُ، وتقديرُه في الحديثِالثاني: لا تَبِيعُوا الذهَبَ بالذهَبِ إلاَّ قائِلِينَ خُذْ وخُذْ، الأولى يقولُها البائعُ، والثانيةُ يقولُها المُشترِي.
([3]) سورة النساءِ، الآية: 36.
([4]) سورة الصافاتِ، الآية: 99.
([5]) سورة البقرةِ، الآية: 243.
([6]) سورة البقرةِ، الآية: 36.
([7]) سورة يوسُفَ، الآية: 14.
([8]) هذا أحدُ مَوضعيْنِ يَجِبُ في كلٍّ منهما ربطُ الجملةِ الواقعةِ حالاً بالواوِ، وخلاصتُه أنَّ جملةَ الحالِ إنْ كانتْ فعليَّةً فعلُها مضارعٌ مُثْبَتٌ مقرونٌ بقدْ, وجَبَ أنْ يكُونَ الرابطُ لها بصاحبِ الحالِ هو الواوَ، وشاهدُه الآيةُ الكريمةُ التي تَلاهَا المُؤلِّفُ، فلا يَذْهَبَنَّ بك الوهْمُ إلى أنَّه يَجِبُ في الجملةِ المُضارعيَّةِ أنْ تَقترِنَ بقدْ, وأنْ تَسْبِقَها الواوُ، فقد ورَدَتِ الجملةُ المضارعيَّةُ المثبتةُ حالاً من غيرِ"قَدْ" والواوِ جميعاً في أفصحِ الكلامِ، وذلك قولُه تعالى: {وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} ومِن أمثلتِهم "جاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ".
والخلاصةُ أنَّ الجملةَ الفعليَّةَ التي فعلُها مضارعٌ مُثْبَتٌ إنْ وَقَعَتْ حالاً فتَارَةً تَمتنِعُ الواوُ ويَجِبُ ربطُها بصاحبِ الحالِ بضميرٍ يَرْجِعُ منها إليه، ومن أمثلةِ ذلك قولُ اللهِ تعالى: {وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}. وقولُه جَلَّ شأنُه: {ونَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. وقولُه جَلَّتْ كلمتُه: {وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}.
ومن ذلك قولُ الشاعرِ:
وقَدْ عَلَوْتُ قَتُودَ الرَّحْلِ يَسْفَعُنِي = يومَ قُدَيْدِيمَةَالجَوْزاءِ مَسْمومُ
وقولُه الآخرِ:
ولَقَدْ أغْتَدِي يُدافِعُ رُكْنِي = أَحْوَذِيٌّ ذو مَيْعَةٍ إِضْرِيحُ
ولا يَجوزُ في هذهِ الحالةِ أنْ يَرْبِطَها بصاحبِ الحالِ الواوُ، فإنْ جاءَ من كلامِهم ما ظاهرُه أنَّ جملةَ المضارعِ المُثْبَتِ غيرِ المُقْتَرِنِ بقَدْ الواقعةِ حَالاً قَدْ رَبَطَها الواوُ– نحوُ قولِ الشاعرِ وهو عبدُ اللهِ بنُ همامٍ السَّلُولِيُّ:
فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ = نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا
ونحوُ بيتِ عنترةَ الآتي في كلامِ المُؤلِّفِ (الشاهدِ رَقْمِ 282) فهو مُؤوَّلٌ بأحدِ التأويلاتِ التي ذكَرَها المُؤلِّفُ في تخريجِ بيتِ عنترةَ, وسنُوَضِّحُها لك في شرحِه إنْ شاءَ اللهُ تعالى. وتارةً تَجِبُ معَ هذا المضارعِ المُثْبَتِ الواوُ، وذلك إذا اقتَرَنَ هذا المضارعُ بقَدْ.
الموضِعُ الثاني الذي تَجِبُ فيهِ الواوُ جملةَ الحالِ التي ليسَ فيها ضميرٌ يَعودُ منها على صاحبِ الحالِ، نحوُ قولِهم: "جاءَ زَيْدٌ والشمسُ طَالِعَةٌ". وقالَ اللهُ تعالى: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ}.
بَقِيَ الكلامُ على الفعلِ الماضي المُثبَتِ الذي تقَعُ جملتُه حالاً، هل يَجِبُ أنْ تَقْترِنَ هذه الجملةُ بقَدْ، أم أنَّ اقترانَها بقدْ جائزٌ غيرُ واجِبٍ، وقد اختَلَفَ النحاةُ في ذلك.
فذهَبَ نحاةُ الكوفةِ والأخفشُ من نحاةِ البصرةِ إلى أنه يَجوزُ أن يَقترِنَ الفعلُ الماضي المُثْبَتِ الواقعِ حالاً بقَدْ، ويَجوزُ ألا تَقْتَرِنَ بها، متى كانَ معَه ضميرٌ يعودُ على صاحبِ الحالِ– سواءٌ أكانَ معَ الضميرِ واوٌ أم لم يكُنْ – فإنْ لم يكُنْ معَه ضميرٌ يَعودُإلى صاحبِ الحالِ– بأنْ كَانَ الرَّابِطُ هو الواوَ وحْدَها – وجَبَ اقترانُه بقَدْ.
وذهَبَ جمهورُ البصْرِيِّينَ إلى أنه لا يَجوزُ مَجِيءُ الماضي المُثْبَتِ حالاً إلا معَ قَدْ، سواءٌ أكانَ الرابطُ هو الضميرَ وحْدَه، أم كانَ الرابطُ الواوَ وحْدَها، أم كانَ الرابطُ هو الضميرَ والواوَ جميعاً، فإنْ وُجِدَتْ (قَدْ) في اللفظِ فالأمرُ ظاهرٌ، وإنْ لم تُوجَدْ وجَبَ تقديرُها.
واختارَ مذهَبَ الكُوفِيِّينَ في هذهِ المسألةِ ابنُ مالكٍ وأبو حَيَّانَ، وهو الحَقُّ الذي تَنْصُرُه الأدلَّةُ، فقد جاءَ في جملةٍ صالحةٍ من الشواهدِ اقترانُ الماضي المُثْبَتِ الواقعِ حَالاً بقَدْ, وجاءَ في جملةٍ صَالِحَةٍ من الشواهدِ مَجِيءُ الماضي المُثْبَتِ حالاً من غيرِ أنْ يَقتَرِنَ بقَدْ، وحمَلَ العلماءُ على هذا آياتٍ من الكتابِ العزيزِ، قالَ أبو حَيَّانَ: (والصحيحُ جوازُ وُقوعِ الماضي حالاً بدونِ قَدْ، ولا يُحتاجُ إلى تقديرِها؛ لكثرةِ وُرودِ ذلك، وتأويلُ الكثيرِ ضعيفٌ جِدًّا؛ لأنَّا إنما نبني المَقايِيسَ العربيَّةَ على وُجودِ الشواهدِ الكثيرةِ) اهـ. كلامُه.
ونحن نذكُرُ لك من شواهدِ المسألةِ جملةً تَطْمئِنُّ معَها إلى الوجهيْنِ؛ اقترانِ الماضي المُثْبَتِ الواقعِ حَالاً بقَدْ، وعَدَمِ اقترانِه بها – ومعَ بَعْضِها الواوُ، ولم يَقْتَرِنْ بها بعضُها الآخرُ:
فمن شواهدِ اقترانِه بقد قولُ امرِئِ القيسِ:
فَجِئْتُ وقَدْ نَضَّتْ لنومٍ ثِيابَهَا = لَدَى السِّتْرِ إلاَّ لِبْسَةَ المُتفَضِّلِ
ومنه قولُ طرَفَةَ بنِ العبدِ:
يَقُولُ وَقَدْ تَرَّ الوَظِيفُ وسَاقُها: = أَلَسْتَ تَرَى أَنْ قَدْ أَتَيْتَ بمُؤْيِدِ
ومنه قولُ النابغةِ الذُّبْيانيِّ:
وَقَفْتُ برَبْعِ الدارِ قَدْ غَيَّرَ البِلَى = مَعَارِفَها والسَّارِيَاتُ الهَواطِلُ
ومنه قولُ الراعي:
طَافَ الخَيَالُ بأصحابِي وقَدْ هَجَدُوا = مِن أُمِّ عُلْوَانَ لا نَحْوٌ ولا صَدَدُ
ومنه قولُ امرِئِ القيسِ:
تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا مَعاً: = عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأَ القَيْسِ فانْزِلِ
ومنه قولُ مُعاويَةَ:
نَجَوْتُ وقَدْ بَلَّ المُرَادِيُّ سَيْفَهُ = مِن ابنِ أَبِي شَيْخِ الأباطحِ طَالِبِ
ومن مجيءِ الماضي المُثبَتِ حالاً، ولم يَقترِنْ بقَدْ، قولُ أبي صَخْرٍ الهذليِّ:
وإِنِّي لَتَعْرُونِي لذِكْرَاكِ هِزَّةٌ = كما انْتَفَضَ العُصفورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
وقولُ شاعِر الحَمَاسَةِ، يُقالُ: هو هذلولُ بنُ كَعْبٍ العَنْبَرِيُّ، ويقالُ: هو أبو محلمٍ السَّعْدِيُّ:
تَقولُ وصَكَّتْ وَجْهَهَا بيَمِينِهَا: = أبَعْلِي هذا بالرَّحَى المُتقاعِسِ؟
وقولُ عمرَ بنِ أبي رَبِيعَةَ المخزوميِّ في رائِيَّتِه الطويلةِ:
فَقَالَتْ وعَضَّتْ بالبَنَانِ: فَضَحْتَنِي = وأنتَ امْرِؤٌ مَيْسورُ أمْرِكَ أعْسَرُ
وقد حمَلَ النحاةُ على هذا قولَ اللهِ تعالى: {أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}. جَعَلوا جملةَ {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} حالاً من واوِ الجماعةِ في {جَاؤُوكُمْ}, وهي جملةٌ مَاضَوِيَّةٌ غيرُ مُقترِنَةٌ بقَدْ، وحَمَلوا على ذلك أيضاً قولَه جَلَّتْ كلمتُه: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا}. جَعَلوا جملةَ {وَقَعَدُوا} حالاً من واوِ الجماعةِ في قولِه سبحانَه: {قَالُوا}.
وإذا كَثُرَتِ الشواهدُ، وورَدَ الاستعمالُ في القرآنِ الكريمِ الذي هو أفْصَحُ الكلامِ، فمِن اللَّجاجةِ أنْ نُنكِرَه، أو نَتَلَمَّسَ له تَخريجاً آخرَ، أو نجعَلَ الكلامَ على تقديرِ محذوفٍ، فإنَّ ذلك يُبْعِدُ الثِّقَةَ بالقواعدِ التي أصَّلَها العلماءُ.
([9]) سورة الصفِّ، الآية:5.
([10]) سورة الأعرافِ، الآية: 4، وقائلون: جَمْعُ قَائِلٍ، وهم اسمُ الفاعلِ من القَيْلولةِ، وهي النومُ في نصفِ النهارِ، وإِنَّما امتنَعَتِ الواوُ في هذهِ المسألةِ كراهيةَ اجتماعِ حَرْفَي عطفٍ مُتجاوِرَيْنِ.
([11]) سورة البقرةِ، الآية: 2، ولم تدخُلِ الواوُ في هذه الصورةِ؛ لأنَّ التوكيدَ لا يدخُلُ عليهِ حرفُ العطفِ؛ لِئلاَّ يُتوهَّمَ أنه من عطفِ الشيءِ على نفسِه؛ لأنَّكَ تعلَمُ أنَّ التوكيدَ عينُ المُؤَكِّدِ.
([12]) سورة الحِجْرِ، الآية: 11، والقولُ بامتناعِ الواوِ في هذهِ المسألةُ هو اختيارُ ابنِ مالكٍ، واختارَ شارِحُ اللُّبِّ أنَّه يَجوزُ اقترانُ الفعلِ الماضي الواقعِ حالاً بعدَ إلاَّ بالواوِ, ويجوزُ عَدَمُ اقترانِه بالواوِ؛ قِياساً على الجملةِ الاسميَّةِ الواقعةِ بعدَ إِلاَّ، فقدْ وَرَدَتْ مقترنةً بالواوِ في نحوِ قولِه تعالى: {وَمَا أهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}. وأيضاً فقَدْ ورَدَ اقترانُ هذهِ الجملةِ الماضويَّةِ بالواوِ في قولِ الشاعرِ:
نِعْمَ امْرَأً هَرِمٌ لَمْ تَعْرُ نَائِبَةٌ = إِلاَّ وكَانَ لِمُرْتَاعٍ بِهَا وَزَرَا
([13]) سورة المائدةِ، الآية: 84، وهذا الذي قالَه المُؤلِّفُ من امتناعِ الواوِ معَ الفعلِ المضارعِ المُقترِنِ بلا النافيةِ هو اختيارُ ابنِ مالكٍ، ولم يُوافِقْهُ ابنُه بَدْرُ الدينِ على هذا، وذكَرَ أنَّه يَجُوزُ اقْتِرانُ المضارعِ المنفيِّ بلا بالواوِ، ويجوزُ عَدَمُ اقترانِه بالواوِ، ولكنَّ عَدَمَ اقترانِه بالواوِ أكْثَرُ، ومن وُرودِه مُقْترِناً بالواوِ قولُ مِسْكِينٍ الدَّارِمِيِّ:
أكْسَبَتْهُ الوَرِقُ البيضُ أَباً = ولَقَدْ كَانَ وَلا يُدْعَى لأبْ
الشاهدُ فيه قولُه: "وَلا يُدْعَى لأبْ". وادِّعاءُ أنَّ الواوَ زائدةٌ والجملةَ خَبَرٌ كانَ مِمَّا لا يَتِمُّ؛ لإنكارِ العلماءِ ذلك.
ومن ذلك ما أنشَدَه القاليُّ في (ذيلِ الأمالي) (ص127) لمالكِ بنِ أَخِي رَبِيعٍ الأسَدِيِّ:
أقَادُوا مِن دَمِي وتَوَعَّدُونِي = وكُنْتُ وَلاَ يُنَهْنِهُنِي الوَعِيدُ
مَحلُّ الشاهدِ قولُه: (وَلاَ يُنَهنِهُنِي الوَعِيدُ).
([14]) 281- أنشَدَ ابنُ مَالِكٍ هذا الشاهدَ في (شرحِ التسهيلِ) ولم يَنْسُبْه، ولم أقِفْ له على نسبةٍ إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ رغمَ طويلِ البحثِ، وهذا الذي أنْشَدَه المُؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قولُه:
*فَمَا لَكَ بعدَ الشَّيْبِ صَبًّا مُتَيَّمَا*
اللغةُ: (عَهِدْتُكَ) معناهُ: عَرَفْتُكَ، و(تَصْبُو) من الصَّبْوَةِ، وهي المَيْلُ إلى النساءِ, (شَبِيبَةٌ) هي الوقتُ الذي يَكونُ الإنسانُ فيهِ مَوْفورَ القُوَّةِ البَدَنِيَّةِ جَمَّ النشاطِ الجُسمانِيِّ مَشْبُوبَ القُوَى، ولا تَكونُ القُوَى العقليَّةُ حينَئذٍ قد تَمَّ نُضْجُها فيه, (صَبًّا) بفتحِ الصادِ وتشديدِ الباءِ الموحَّدةِ– هو وَصْفٌ من الصبابةِ, وهي رِقَّةُ الهَوَى والعشقِ, (مُتَيَّمَا) اسمُ مفعولٍ من مَصْدَرِ (تَيَّمَه العِشْقُ) بتضعيفِ الياءِ المُثنَّاةِ إذا استعْبَدَه وأذَلَّه وأخْضَعَه، ومن هذهِ المادَّةِ أخَذَ العَرَبُ اسمَ"تَيْمِ اللاَّتِ" يُرِيدونَ عَبْدَ اللاتِ، كما قالوا: عَبْدُ مَنافٍ، وعَبْدُ شَمْسٍ. وكما قالوا: عَبْدُ اللهِ، وعبدُ المَسيحِ.
الإعرابُ: (عَهِدْتُكَ) عَهِدَ: فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ على فتحٍ مُقدَّرٍ على آخرِه لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وتاءُ المُتكلِّمِ فاعلُه مَبنِيٌّ على الضمِّ في مَحلِّ رفعٍ، وكافُ المخاطَبِ مفعولٌ به مَبنِيٌّ على الفتحِ في مَحلِّ نَصْبٍ, (ما) حرْفُ نَفْيٍ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ,"تَصْبُو" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ؛ لتجَرُّدِه من الناصبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِه ضَمَّةٌ مُقدَّرَةٌ على الواوِ منَعَ من ظهورِها الثِّقَلُ، وفاعلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه وُجوباً تقديرُه: أنتَ، وجملةُ الفعلِ المضارعِ معَ فاعلِه المستترِ فيه في مَحلِّ نَصْبٍ حالٌ, صَاحِبُه كافُ المخاطَبِ الواقعةُ مفعولاً به في قولِه: (عَهِدْتُكَ). السَّابِقِ, (وفِيكَ) الواوُ واوُ الحالِ حرفٌ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، في: حرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ وضميرُ المُخاطَبِ مَبنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ جَرٍّ بفي، والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ, خَبرٌ مُقدَّمٌ, (شَبِيبَةٌ) مبتدأٌ مُؤخَّرٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وجملةُ المُبْتدأِ والخبرِ في مَحَلِّ نصبٍ حالٌ, صاحِبُه الضميرُ المستترُ في تَصْبُو,"فما" الفاءُ حرفُ عطفٍ، مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، ما: اسمُ استفهامٍ, مُبْتدأٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ رفعٍ,"لك" جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ خبرُ المبتدأِ، والتقديرُ: فأيُّ شيءٍ ثَابِتٌ لَكَ؟ "بعدَ" ظرفُ زمانٍ منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وهو مُتعلِّقٌ بقولِه: "صَبَا". الآتي، و"بعدَ" مضافٌ, و"الشَّيْبِ" مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ,"صَبًّا" حالٌ صاحبُه ضميرُ المخاطبِ المجرورُ مَحَلاًّ باللامِ في قولِه: "لَكَ". السابقِ,"مُتَيَّمَا" نعتٌ لقولِه: صَبًّا. ونعتُ المنصوبِ منصوبٌ وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ.
الشاهدُ فيه قولُه: (مَا تَصْبُو). فإنَّه جملةٌ مِن فعلٍ وفاعلٍ مُستتِرٍ فيه وُجوباً في مَحَلِّ نصبٍ حالٌ من كافِ المخاطَبِ في قولِه: (عَهِدْتُكَ). وهذه الجملةُ فِعليَّةٌ فعلُها مضارعٌ مَنْفِيٌّ بما, كما هو ظاهِرٌ، ولم تَقْتَرِنْ بالواوِ، واكتَفَى فيها بالربطِ بالضميرِ، وهو الفاعلُ المُستتِرُ.
([15]) سورة المُدَّثِّرِ, الآية: 6 والمرادُ بالمضارعِ المُثْبَتِ في هذهِ المسألةِ هو الذي لم يَقْتَرِنْ بقَدْ، فقَدْ عَلِمْتَ فيما مضَى أنَّ المُقترِنَ بقدْ تَجِبُ معَه الواوُ، نحوُ قولِه تعالى: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ}.
([16]) 282-هذا الشاهدُ من كلامِ عَنْتَرَةَ بنِ شَدَّادٍ العَبْسِيِّ، من مُعلَّقَتِه المشهورةِ التي أوَّلُها:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ؟ = أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ؟
وقدْ سبَقَ الاستشهادُ بعِدَّةِ أبياتٍ منها في أماكِنَ مختلفةٍ، وهذا الذي أنشَدَه المُؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ من الكاملِ، وعَجُزُه قولُه:
*زَعْماً لَعَمْرُ أَبِيكَ لَيْسَ بمَزْعَمِ*
اللغةُ: (عُلِّقْتُها) معناهُ: أحْبَبْتُها، و(عَرَضاً) معناهُ: عن غيرِ قَصْدٍ مِنِّي.
الإعرابُ: (عُلِّقْتُها) عُلِّقَ: فعلٌ ماضٍي مَبنِيٌّ للمجهولِ مَبنِيٌّ على فتحٍ مُقدَّرٍ على آخرِه لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وتاءُ المُتَكلِّمِ نائبُ فَاعِلِه مَبنِيٌّ على الضمِّ في مَحلِّ رفعٍ، وهو مفعولُه الأولُ، وضميرُ الغائبةِ العائِدُ إلى عَبْلَةَ مفعولٌ ثانٍ مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ, (عَرَضاً) مفعولٌ مُطْلَقٌ على نحوِ قولِهم: قَعَدْتُ جُلُوساً. (وأقْتُلُ) الواوُ حرفُ عطفٍ، مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، أقتُلُ: فعلٌ مضارعٌ في تأويلِ الماضي، مرفوعٌ؛ لتجَرُّدِه من الناصبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، وفاعلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه وجوباً تَقْدِيرُه: أنا, (قَوْمَها) قومَ: مفعولٌ بهِ لأقْتُلُ، مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، و"قومَ" مضافٌ, وضميرُ الغائبةِ العائِدُ إلى عَبلَةَ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ جَرٍّ، وجملةُ الفعلِ المضارعِ المُؤوَّلِ بالماضي معَ فَاعِلِه ومفعولِه لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ مَعْطُوفةٌ على الجملةِ الاستئنافيَّةِ التي لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ, وهي قولُه: (عُلِّقْتُهَا) السابِقُ، وتقديرُ الكلامِ على هذا: عُلِّقْتُها تَعَلُّقاً عَارِضاً وقَتَلْتُ قَوْمَها، ويَجوزُ أنْ تكُونَ الواوُ واوَ الحالِ، وجملةُ الفعلِ المضارعِ وفَاعِلِه ومفعولِه على هذا في مَحلِّ رفعٍ خَبَرٌ لمبتدأٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: وأنا أقْتُلُ قَوْمَها، وجملةُ المبتدأِ المحذوفِ معَ خَبَرِه في مَحلِّ نصبٍ حَالٌ, صَاحِبُه تاءُ المُتكلِّمِ في قولِه: (عُلِّقْتُها). السابِقِ,"زَعْماً" يُرْوَى مرفوعاً, ويُرْوَى منصوباً، فأمَّا على روايةِ الرفعِ فيَجوزُ أنْ يكُونَ خَبَرَ مبتدأٍ محذوفٍ، والتقدير: هذا زعْمٌ، وأنْ يكُونَ مبتدأً خَبَرُه جملةُ"ليسَ" الآتيةُ, وأمَّا على روايةِ النصْبِ فهو مفعولٌ مُطْلَقٌ لفعلٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: زَعَمَتْ زَعْماً,"لَعَمْرُ" اللامُ لامُ الابتداءِحَرْفٌ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، عَمْرُ: مُبْتدأٌ مَرْفوعٌ بالابتداءِ وعَلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، وهو مضافٌ وأَبِي من "أَبِيكَ" مضافٌ إليه مَجرورٌ بالياءِ نيابةً عن الكسرةِ؛ لأنَّه من الأسماءِ السِّتَّةِ، وهو مضافٌ, وضميرُ المُخاطَبِ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ جَرٍّ, وخَبَرُ المبتدأِ مَحْذوفٌ وُجوباً، وتقديرُ الكلامِ: لَعَمْرُ أَبِيكَ قَسَمِي، أو: لعَمْرُ أَبِيكَ مَا أُقْسِمُ به، وجملةُ المبتدأِ وخَبَرِه لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ مُعْتَرِضَةٌ بينَ الصفةِ والموصوفِ، أو بينَ المبتدأِ وخَبَرِه على روايةِ رَفْعِ "زَعْمٌ" في أحدِ الوجهيْنِ,"ليسَ" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ يرفَعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبَرَ، مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، واسمُه ضَمِيرٌ مُستتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه: هو, يَعودُ إلى الزَّعْمِ,"بمَزْعَمِ" الباءُ حرفُ جَرٍّ زَائِدٌ، مَزْعَمِ: خَبَرُ ليسَ، مَنْصوبٌ, وعلامةُ نصبِه فتحةٌ مُقدَّرَةٌ على آخرِه, منَعَ من ظُهورِها اشتغالُ المَحَلِّ بحركةِ حَرْفِ الجرِّ الزائدِ، والجملةُ مِن ليسَ واسمِه وخَبَرِه في مَحَلِّ نصبٍ أو رفعٍ صِفَةٌ لزَعْمٍ، ويجوزُ على روايةِ رَفْعٍ (زَعْمٌ) أنْ يكُونَ مبتدأً، وجملةُ"ليسَ بمَزْعَمِ" في مَحلِّ رفعٍ خَبَرُ المبتدأِ, كما ذَكَرْناه من قَبْلُ.
الشاهدُ فيه قولُه: (وأقْتُلُ قَوْمَهَا). وبيانُ ذلك أنَّ جماعةً من النحاةِ قَدْ ذَهَبوا في هذهِ الجملةِ إلى أنَّ الواوَ للحالِ، وجملةَ(أقْتُلُ قَوْمَها) من الفعلِ وفاعلِه المستترِ وُجوباً ومفعولِه في مَحَلِّ نَصْبٍ, حَالٌ من تاءِ المُتكلِّمِ في قولِه: (عُلِّقْتُها). وهذه الجملةُ الحَالِيَّةُ فعليَّةٌ, فعلُها مضارعٌ مُثْبَتٌ، وقد اقترَنَتْ بالواوِ، فيَكُونُ اقترانُها بالواوِ على ذلك الوَجْهِ ضرورةً من ضروراتِ الشِّعْرِ, والأثباتُ من النحاةِ يُخرِّجونَها على غيرِ هذا الوجهِ، ولهم فيها تخريجانِ:
أحدُهما: أنْ تكُونَ الواوُ للحالِ، ولكنَّ جملةَ المضارعِ ليسَتْ في مَحَلِّ نصبِ حالٍ، بل هي في مَحلِّ رفعٍ خَبَرٌ لمبتدأٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: وأنا أقْتُلُ قَوْمَها، وجملةُ المبتدأِ وخَبَرِه في مَحلّ نَصْبٍ على الحالِ، كما ذَكَرْناه في الإعرابِ.
التوجيهُ الثاني: أنْ تكُونَ الواوُ للعطفِ, لا للحالِ، والفعلُ المضارعُ مُؤوَّلٌ بالماضِي، أي: عُلِّقْتُها وقَتَلْتُ قَوْمَها، وهذا تخريجُ الشيخِ عبدِ القاهرِالجُرْجانيِّ.
وعلى هذيْنِ الاحتماليْنِ لا يَكونُ البيتُ ضَرورةً من ضروراتِ الشِّعْرِ.
ومثلُ هذا البيتِ في كلِّ هذه الاحتمالاتِ قولُ عبدِ اللهِ بنِ همامٍ السَّلُولِيِّ:
فَلَمَّا خَشِيتُ أظَافِيرَهُمْ = نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا
([17]) تَلخَّصَ لك من كلامِ المُؤلِّفِ ومِمَّا زِدْناه عليه أنَّ اقترانَ جملةِ الحالِ بالواوِ على ثلاثةِ أنواعٍ: وَاجِبٌ، وذلك في موضعيْنِ، ومُمْتنِعٌ, وذلك في سبعةِ مواضِعَ، وجائزٌ، وذلك فيما عَدَا ذلك.