القارئ:
وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
((البرُّ: حُسْنُ الخُلق والإثم: ما حاك في نفسك، وكرهت أنّ يطَّلع عليه الناس)) رواه مسلم.
وعن وابصة بن معبد -رضي الله عنه- قال: أتيتُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ((جئت تسألُ عن البر؟. ))
قلت: نعم!
قال: (استفتِ قلبك.
البر: ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب.
والأثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)) حديث حسن رويناه في (مسندي الإمامين): أحمد بن حنبل والدارمي، بإسناد حسن.
الشيخ:
هذا الحديث من الأحاديث الجوامع، وهو حديث (النواس) -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((البرُّ حُسْنُ الخُلق))
(البرُّ) أنواع:
فيكون البرُّ في ما بين العبد وبين ربَّه -جل وعلا-، ويكون البرُّ في ما بين العبد وبين الناس.
فالبرُّ الذي بين العبد وبين ربه -جل وعلا- هو بالإيمان، وإتيان أوامر الله -جل وعلا- المختلفة، وامتثال الأمر واجتناب النهي، كما قال جلّ وعلا -في سورة البقرة-: {ولكنّ البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكةِ والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة}.. الآية، فذكر البرّ الذي يجب على العبد لله -جل وعلا- فهذا النوع من البر يأتي في القرآن كثيراً، والله -جل وعلا- هو الذي جعل هذا بِرّاً، فالعبد من أهل البر، إذا قام بما جاء في هذه الآية فيُقال: (هذا من الأبرار إذا امتثل ما في هذه الآية، وابتعد عمّا يكرهه اللهُ -جل وعلا).
والقسم الثاني من البر:البر مع الخلق، وهذا جِماعُهُ: حُسْنُ الخُلقُ، ولهذا قال عليه الصلاةُ والسلام: ((البر حُسْن الخُلق)) فجمَع البر في عبارة وجيزة وهي حُسْنُ الخُلق.
وَحُسْنُ الخُلُق يجمعُهُ أَنّهُ:بَذْلُ النَّدى، وكفُّ الأذى، وأَن تحسِنَ إلى الخلق، وأن تجزيَ بالسيئة الحسنة، وأن تُعامل الناس بما فيه عَفو عن المُسيء وكظْمُ للغيظ وإحسان للخَلق، فمن كان باذِلاً للندى، غير منتصرٍ لنفسه، كافاً الأذى، مقدماً المعروف للخلْق؛ فهو من ذوي حُسْن الخلق فيما بين الناس. فإن جمع إليه ما يُستحبُ من ذلك، وما يجبُ من حقوق العباد؛ كان حُسْنَ الخُلق عنده شرعياً.
فإذاً: حُسْنُ الخُلق الذي يكون فيه امتثال بما جاء في الشرع، من صفات عباد الله، المؤدين لحقوقه، وحقوق عباده؛ هذا يكون معه البر.
فالبرُّ إذاً: درجات؛لأنّ الإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر… إلخ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.. إلخ؛ هذا درجات، ومعاملة الخلق درجات.
فتحصّل من هذا: أنّ قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((البرُّ حُسْنُ الخُلق)) أنّ درجة البرِّ تختلفُ باختلاف حُسْن الخلق، والبر أن تؤدي حقوق الخلق الواجبة والمستحبة.
قال: ((والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطَّلِعَ عليه الناس)).
عرَّف الإثم وهو:ما يُقابل البر بشيئين شيء ظاهر، وشيء باطن. وهذا من الميزان الذي يُمكنُ تطبيقهُ، وهو عليه الصلاة والسلام الرؤوف الرحيم بهذه الأمة فقال لك: ((الإثم ما حاك في نفسك)) هذا أمرٌ باطن، ((وكرهت أن يطلع عليه الناس)) وهو الأمْر الظاهر، فإذا أتيت إلى شيء مُشتبهٍ عليك، فحاك في نفسك: هل هذا من الإثم، أم من البر؟
وتردّدت فيه، ولم تعلم أنّه من البر، وانضم إلى ذلك الظاهر أنَّكَ لو فعلته كرهت أن يطّلع عليه الناس، فهذا هو الإثم.
فالإثم يجمعُه شيئان:
- شيءٌ باطن مُتعلِّق بالقلب: (وهو: أنه يحوك في النفس وتتردّد في فعله النفس).
- وفي الظاهر يكرهُ أنَّهُ لو عمله أن يطلع عليه الناس فهذا يدل على أنَّهُ إثم.
وهذا وصْفٌ عظيم منه -عليه الصلاة والسلام- للبر والإثم.
فالبر: حُسْنُ الخُلق ببذل النّدى، وكفِّ الأذى، والعفْو عن المسيء، والصَّفح عن المخطئ في حقك.
والإثم: ما حاك في نفسك وجْهُه، وكرهت أن يطّلع عليه الناس فيما لو فعلته ظاهراً.
في الرواية الأخرى: عن وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((جئت تسألُ عن البر؟
فقلت: نعم.
قال: استفت قلبك، البر: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وترَّدد في الصدر)).
ذكرتُ لكم أن البر نوعان:
برٌّ متعلِّقٌ بحق الله.
وبرٌّ متعلِّق بحق العباد.
فالحديث الأول ذكرَ فيه -عليه الصلاة والسلام- البرُّ المتعلق بحقّ الناس، فقال: ((البرُّ حُسْنُ الخُلق)) وهنا ذَكَرَ البرَّ بعامَّة: فقال: ((استفت قلبك)) عن البرّ؛ هل هذا الشيء من البرِّ، أم ليس من البرّ؟ هل هو من الطاعة، أم ليس من الطاعة؟
استفت قلبك؛ (البرُّ: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) يعني: أنه لم يصل في القلب تردُّد من هذا الشيء المعين، ولا يكرهُ أن يُطْلع عليه الناس وهذا يعمُ جميع أنواع الطاعات.
وقابله بالإثم حيثُ قال: ((والإثم: ما حاك في النفس وتردَّد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)) فعرف الإثم أوجـعل -عليه الصلاة والسلام- علامة للإثمِ؛ بأنه: ما حاك في النفس وتردّد في الصدر -على نحو ما ذكرنا- وإن أفتاك الناس وأفتوك.
ولهذا يدخُل في ذلك جميع الأنواع المشتبهة، التي تدخُل في المتشابهات التي ذكرناها في حديث النعمان بن بشير.
فالإثم الشيءُ يحيك في الصدر، ولا تطمئن إليه النفس؛ لأنَّ المسلم بإيمانه، ودينه، وتقواه، تطمئن نفسه إلى ما فيه الطاعة، وأمَّا ما فيه شُبْهة، أو ما فيه حرام؛ فيجد أنّه خائِفٌ منه، أو أنّهُ متردد فيه، ولا يستأنِس لشيء فيه تعريض لمحرَّم، أو اشتباهُ؛ لأنه قد يقعُ في الحرام.
فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((والإثمُ ما حاك في النفس وتردّد في الصدّر وإن أفتاك الناس وأفتوك)) هنا قال: ((وإن أفتاك الناس)) يعني: قد تذهبُ إلى مُفْتٍ تستفتيه في شأْنِك، ويُفتيك بأنَّ هذا لا بأس به، ولكن يبقى في صدرك التردد، والمفتي إنما يتكلمُ بحسب الظاهر، يفتي بحسب ما يظهر له من السؤال، وقد يكون عند السائل أشياء في نفسه لم يُبدها، أو لم يستطع أن يبديها بوضوح، فيبقى هو الحَكمُ على نفسه، والتكليفُ مُعلق به، وإناطَةُ الثواب والعقاب معلقة بعمله هو.
فإذا بقي في نفسه تَردُّد، ولم تطمئن نفسه إلى إباحةِ من أباح له الفعل؛ فعليه أن يأْخُذ بما جاء في نفسه؛ من جَهةِ أنّه يمتنع عن المشتبهات، أو عمَّا تردَّد في الصدر.
وهنا يبحث العلماء بحْثاً معلوماً يطول، وهو بحث أُصولي وكذلك فقهي؛ في أنّ ما يتردَّد في الصدر ويحيكُ فيه ولا يطمئن إليه القلب؛ هل هو إثم بإطلاق، أم أنّ بعضَ أنواعه إثم؟
والتحقيق في هذا: أنَّ المسألة فيها تفصيل:
الحالة الأولى: أن يكون التردد الذي في النفس واقعاً عن جَهْلٍ من صاحِبهِ بالحكم الشرعي أو بالسنة، فهذا لو تردد في شيءٍ جاء النص بحُسْنِه، أو بإباحته، أو بالأمر به؛ فإنه يكونُ عاصياً ملوماً لو لم يمتثل للسنة. وقد جاء في (صحيح مسلم): أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أَمر ناساً بالإفطار في السَّفر، فبقي منهم بقية لم يفطُروا، فقيل للنبي -عليه الصلاة والسلام- إنَّ أناساً لم يُفطروا، فقال: ((أَولئكَ العُصاة أولئك العُصاة)).
فهذا يدل على أنَّ الأمر إذا كان من السنة بوضوح؛ فإنَّ ترْكهُ لتردد في الصّدرأنَّ هذا من الشيطان؛ فلا اعتبار لهذا النوع، يكون في سفر، يقول: أنا لن أقصر.
في نفسي شيء من أن أقصر، مع توافُر الشروط بما دلت عليه السنة بوضوح؛ فإنَّ هذا التردّدُ لا وجه له.
كذلك:شيء دلّ القرآن الكريم، أو دلت السنة على مشروعيته ثم يبقى تردُّد، فهذا لم يستسلم أولم يعلم حكم الله -جل وعلا-، فلا قيمة لهذا النوع.
الحالة الثانية:أن يقع التردُّد من جهة اختلاف المفتين، اختلاف المجتهدين في مسألة.
في تنزيل واقعة هذا المُستفتي على النصوص؛ فمنهم من أفتاهُ بكذا، ومنهم من أفتاهُ بكذا؛ فهذا ليس الإثم في حقه أن يبقى مع تردُّد نفسه، ليس الإثم في حقه أن يُزيل تردد نفسه، وليس البر في حِقه أن يعمل بما اطمأنت إليه نفسه خارجاً عن القولين؛ بل البر في حقَّهِ: ما اطمأنت إليه نَفسه من أحد القولين؛ لأنه لا يجوز للعامي، أن يأخُذ بقول نفسه مع وجود عالم يستفتيه؛ بل إذا استفتى عالماً، وأوضحَ له أمْرَهُ فأفْتاهُ، فإنَّ عليه أن يفعل ما أفتاه العالِم به.
فإذا اختلف المُفتون فإنَّه يأْخذ بفتوى الأعلم الأفقه بحاله.
الحالة الثالثة:وهي التي يُنزلُ عليها هذا الحديث، وهي: أنه يستفتي المُفتي، فَيُفتى بشيءٍ لا تطمأن نفسه لصوابه فيما يتعلقُ بحالته، فيبقى متردداً يخشى أنّه لم يُفهم، يقول: (هذا أفتاني لكن المسألة فيها أشياء أخر لم يستبنها) يقول: (المُفتي لم يستفصل مني) يكون المفتي ما استوعب المسألة من جهاتها؛ فإفتاء المُفتي للمكلف لا يرفَعُ التكليف عنه في مثل هذه الحال، وإنما ينجو بالفتوى إذا أوضح مُرادَه بدون التباس فأفتي؛ فإنه يكون قد أدّى الذي عليه بسؤال أهل العلم امتثالاً لقول الله -جل وعلا-: {فاسألوا أهل الذكر إن كُنْتم لا تعلمون}.
وأمَّا إذا لم يُفصِّل،أو لم يستفصل المفتي، أوْ لم يحسن فهْم المسألة؛ فاستعجل وأفتى، وبقي في قلْب المستفتي شيء من الرَّيب، من جهة أنَّ المُفتي لم يفهم كلامه لم يفهم حاله، أو أَنَّ هناك من حاله مالم يستطع بيانهُ؛ فإنَّ هذا يدخلُ في هذا الحديث بوضوح.
فالإثم:ما حاك في النفس وتردد في الصّدر وإن أفتاك الناس وأفتوك.
فإذاً:الأحوال -كما قال أهل العلم- ثلاثة:
اثنان منها لا تدخل في ذلك، وهي:
الأولى: نعيدها باختصار.
الأولى: ما ورد النص به، فإنه لا يجوز أن يبقى في النفس تردُّد مع ورود النص من الكتاب أو السنة أو إجماع أهل العلم في مسألة، أو إجماع أهل السنة في مسألة.
والثاني: أن يختلف المفتون، وقد أوضح لهم حاله؛ فإن عليه أن يأخذ بفتوى الأعلم الأفقه فمنهم، أو من تطمئن نفسه بفتواه.
والحال الثالثة: أنَّهُ لم يُحسن إبداء مسألة، أو لم يستفصل المُفتي؛ فرجَع الأمرُ فيما بينه وبين المُفتي إلى عدم وضوحٍ في موافقة حكم الله في المسألة؛ فإنه يترك الأمر ويخرج من الخلاف، استبراء لدينه ورغْبةً بزوال تعرضه للإثم.