المجموعة الثانية
فوائد مستنبطة من سورة الزلزلة :
- عظمة رهبة اليوم الآخر وما فيه من أهوال وأحداث عظيمة تثير الخوف في قلوب العباد فتحملَهم وتستحثَّهم على الإقبال على العمل الصالح والابتعاد عن الأعمال السيئة. {إذا زلزلت الأرض زلزالها}.
- إحاطة الله بالمخلوقات وما تكنه وتعمله مما خفي ودق وما فوقه، وأنه ليس غافلًا سبحانه عن مخلوقاته فقد أحصى عليهم مثال الذرة من خير أو شر {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}{شرا يره}.
- الحذر من محقِّرات الذنوب ومن الاستهانة بها والإصرار عليها مهما قلت، وعدم الاغترار بالله الغفور الحليم، فإنها قد تهلك العبد وتورده المهالك. {ومن يعمل مثال ذرة شرا يره}.
- قيام الأشهاد يوم القيامة على الإنسان -ومن جملتهم الأرض التي هي مبدأه التي عاش عليها ومشى في مناكبها، ومعاده التي تضمه، ومخرَجه مرة أخرى للصدور والنشور- إذا علم العبد ذلك أورث لديه الاجتهاد بأن لا تشهد عليه الأرضُ وسائرُ الأشهاد إلا مايسره يوم القيامة أن يراه. {يومئذٍ تحدِّث أخبارها}.
- الاجتهاد في العمل الصالح واستغلال الأوقات وعدم إهمال الخير مهما قل، فالحسنة تتضاعف ويراها المحسن يوم القيامة خيرا عظيما أحوج ما يكون له. {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}.
- نفسَك نفسَك أيها الإنسان خلِّصْها وأعتقها من العذاب، فلن تجازى إلا وحدك في موقف الحساب، الكل مشغول بنفسه ذلك اليوم لكي يبصر جزاء ما قدَّم، فانشغل بنفسك بما يخلصك وينجيك في ذلك الموقف الرهيب. {يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليُرَو أعمالهم}.
فسّر قول الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}
لقد كان أهل الكتاب والمشركون قبل البعثة المحمدية متفقين على انتظار نبي آخر الزمان وأنه النبي الخاتم للنبوات –كما جاء منعوتًا بذلك في كتبهم السماوية- فيبين الحق سبحانه ما كان عليه أهل الكتاب من جحودهم للحق، ومن إنكارهم له مع علمهم به، فقال:
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّامِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}
أي: أن الجاحدين والمعاندين والحاسدين لك- أيها الرسول الكريم- من أهل الكتاب، ما تفرقوا في أمرك، وما اختلفوا في شأن نبوتك، إلا من بعد أن جئتهم بما يدل على صدقك، دلالة لا يجحدها إلا جهول، ولا ينكرها إلا حسود، ولا يعرض عنها إلا من طغى وآثر الحياة الدنيا. فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يحزن لإعراض من أعرض عن دعوتك من أهل الكتاب، فتفرقهم بعد مجيء العلم لهم ناشئٌ من البغي بينهم والحسد على ما آتاك الله من فضله ، وليس ناشئا عن قصور في الرسالات والحجج ولا عن جهالة و غموض فيه.
وإنما خص الله هنا أهل الكتاب بالذكر، مع أن الكلام في أول السورة كان فيهم وفي المشركين؛ للدلالة على شناعة حالهم، وقبح فعالهم؛ لأن الإعراض عن الحق ممن لهكتاب، أشد قبحا ونكرا، ممن ليس له كتاب وهم المشركون.
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوااللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُواالزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}
أي: أن هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا في شأن الحق، والحال، أنهم لم يؤمروا في كتبهم التوراة والإنجيل وعلى ألسنة رسلهم وكذا في القرآن وعلى لسان نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بعبادة الله وحده، مخلصين له الطاعة، ومائلين عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق وهو الإسلام، مؤمنين بجميع الرسل بدون تفرقة بينهم، إذ ملتهم جميعا واحدة، ولم يؤمروا أيضا إلا بإقامة الصلاة في أوقاتها بشروطها وأركانها وآدابها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين، وبإيتاء الزكاة في مصارفها التي تطهرهم وتزكيهم، وذلك الذي أمرناهم به من إخلاص العبادة لنا، ومن أداء فرائضنا، دين الملة المستقيمة القيمة الموصلة للعبد إلى رضا الرب وجنات الخلد.
حرّر القول في المسائل التالية:
1: هل ليلة القدر متنقلة أم متعينة؟
أفرد ابن كثير رحمه الله فصلا مستقلا عن هذه المسألة، فأورد فيه قولي العلماء وأدلة كل قول:
فالقول الأول:أن ليلة القدر معينة لا تنتقل، وهو قول الشافعي.
أدلة هذا القول:
قَالَ الشَّافِعِيُّ: "كَأَنَّ هَذَا عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجِيبُ عَلَى نَحْوِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ، يُقَالُ لَهُ نَلْتَمِسُهَا فِي لَيْلَةِ كَذَا؟ فَيَقُولُ: «التَمِسُوهَا فِي لَيْلَةِ كَذَا» .
قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَأَقْوَى الرِّوَايَاتِ عِنْدِي فِيهَا لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ».
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَيَقُولُ: "أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلَامَتِهَا فَعَدَدْنَا وَحَفِظْنَا" رواه الترمذي.
والقول الثاني:أن ليلة القدر تتنقل في العشر الأواخر، حكاه أبو قلابة نصّ عليه مالكٌ، والثّوريّ، وأحمد بن حنبلٍ، وإسحاق بن راهويه،وأبو ثورٍ، والمزنيّ، وأبو بكر بن خزيمة وغيرهم، وهو محكيٌّ عن الشافعيّ، نقلهالقاضي عنه، قال ابن كثير: وهو الأشبه. والله أعلم.
أدلة هذا القول:
- ما ثبت في الصحيحين، عن عبد الله بن عمر، أنّ رجالاً من أصحاب النبيّصلّى الله عليه وسلّم أروا ليلة القدر في المنام في السّبع الأواخر من رمضان، فقالرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((أرى رؤياكم قد تواطأت في السّبع الأواخر، فمنكان متحرّيها فليتحرّها في السّبع الأواخر)).
- وفيهما أيضاًعن عائشة رضي الله عنها، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((تحرّوا ليلةالقدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)). ولفظه للبخاريّ.
- وما رواه البخاريّ في صحيحه، عنعبادة بن الصّامت، قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخبرنا بليلة القدر،فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلانٌ وفلانٌفرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التّاسعة والسّابعة والخامسة)).
وجه الدّلالة منه: أنها لو لم تكن معيّنةً مستمرّة التعيين لما حصل لهم العلم بعينها في كلّسنةٍ؛ إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إلاّ ذلك العام فقط، اللّهمّ إلاّ أنيقال: إنه إنّما خرج ليعلمهم بها تلك السّنة فقط.
2: المراد بأسفل سافلين.
للمفسرين في المراد بأسفل سافلين قولان مشهوران:
الأول: ثم رددنا الإنسان إلى أرذل العمر من القوة إلى الضعفومن الشباب إلى الهرم والخرف حتى يصير لا يعلم شيئًا. قاله ابن عباس وعكرمة، وقال عكرمة: من جمع القرآن لميردّ إلى أرذل العمر. وتعقبه ابن كثير قائلًا: ولو كانهذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك؛ لأنّالهرم قد يصيب بعضهم، وإنماالمرادما ذكرناه، كقوله: {والعصر*إنّ الإنسان لفي خسرٍ* إلاّ الّذين آمنوا وعملواالصّالحات} وهذا القول رجحه ابن كثير وهو اختيار ابن جرير. ذكره ابن كثير والأشقر.
الثاني: ثم رددنا الكافر بعد موته إلى النار والهاوية في أسفل الدرجات وأقبح صورة،بسبب انحرافه عن الفطرة، واستحبابه العمى على الهدى،والكفر على الإيمان، فعلى هذا تكون الآية فِي الكفار. قاله مجاهدٌ، وأبو العالية، والحسن، وابن زيدٍ، وغيرهم، ذكره ابن كثير والسعدي والأشقر.
استدلّ لما يلي مع بيان وجه الدلالة:
أ: صفة البصر لله تعالى.
الدليل: قوله تعالى: {ألم يعلم بأن الله يرى}.
وجه الدلالة: أن الله أثبت لنفسه العلية أنه يعلم ويرى سبحانه وتعالى كما يليق به، فهو سبحانه يرى كل شيء مهما خفي ودق، ويعلم الغيب والشهادة قد أحاط بكل شيءٍ علمًا.
ب: وقوع البعث.
الدليل: قوله تعالى: {يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم}.
وجه الدلالة: بين الله سبحانه أن الناس سيصدرون من قبورهم يوم البعث والنشور مختلفين في أحوالهم ليروا جزاء ماقدموا من عمل.
ج: فضل القرآن.
الدليل: قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}.
وجه الدلالة: أن الله عظم كتابه وفضله من وجوه ثلاث:
الأول: أنه ذكر ضمير القرآن وهي الهاء في قوله: {أنزلناه} دون اسمه الظاهر؛ دلالة على شهرته والعلم به.
الثاني: أنه اختار لإنزاله أفضل الأوقات وأشرفها قدرا.
الثالث: أن الله أسند إنزاله إلى نفسه، وكفى بذلك علوا وقدرا وفضلا.
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين