هذَا بَابُ البَدَلِ([1])
وهو([2]): (التَّابِعُ المَقصُودُ بالحُكْمِ بلا وَاسِطَةٍ).
فخرَجَ بالفَصلِ الأوَّلِ النَّعْتُ والبَيَانُ والتَّأْكِيدُ؛ فإنَّها مُكَمِّلاتٌ للمَقصُودِ بالحُكمِ.
وأمَّا النَّسَقُ فثَلاثَةُ أَنوَاعٍ:
أَحَدُها: مَا لَيسَ مَقصُوداً بالحُكمِ, كـ (جاءَ زَيدٌ لا عَمرٌو) و(مَا جَاءَ زَيدٌ بلْ عَمْرٌو) أو (لَكِنْ عَمرٌو) أمَّا الأوَّلُ فَوَاضِحٌ([3])؛ لأنَّ الحُكمَ السَّابِقَ مَنفِيٌّ عنهُ, وأمَّا الآخرَانِ فلأنَّ الحُكمَ السَّابِقَ هو نَفيُ المَجِيءِ, والمَقصُودُ بهِ إنَّمَا هو الأوَّلُ([4]).
النَّوعُ الثَّانِي: ما هو مَقصُودٌ بالحُكمِ هو وما قَبلُهُ فيَصدُقُ علَيهِ أنَّهُ مَقصُودٌ بالحُكمِ لا أنَّهُ المَقصُودُ([5])، وذلك كالمَعطُوفِ بالواوِ, نَحوِ: (جاءَ زيدٌ وعَمرٌو) و(ما جَاءَ زَيدٌ ولا عَمْرٌو).
وهذان النَّوْعَانِ خَارِجَانِ بمَا خرَجَ بهِ النَّعْتُ والتَّوكِيدُ والبَيَانُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: ما هو مَقصُودٌ بالحُكمِ دونَ ما قَبلُهُ, وهذا هو المَعطُوفُ ببَلْ بَعدَ الإثبَاتِ, نحوُ: (جَاءَنِي زَيدٌ بلْ عَمرٌو).
وهذا النَّوْعُ خَارِجٌ بقَولِنَا (بلا وَاسِطَةٍ) وسَلِمَ الحَدُّ بذلك للبَدَلِ.
وإذا تَأَمَّلْتَ ما ذَكَرْتُهُ في تَفسِيرِ هذا الحَدِّ وما ذَكَرَهُ النَّاظِمُ وابنُهُ ومَن قَلَّدَهُمَا عَلِمْتَ أنَّهُم عَن إِصَابَةِ الغَرَضِ بمَعْزِلٍ.
وأَقسَامُ البَدَلِ أَربَعَةٌ([6]):
الأوَّلُ: بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ, وهو بَدَلُ الشَّيْءِ مِمَّا هو طِبْقُ مَعنَاهُ, نَحوُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ}([7])، وسمَّاهُ النَّاظِمُ البَدَلَ المُطَابِقَ؛ لوُقُوعِهِ في اسمِ اللَّهِ تعَالَى, نَحوُ: (إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ اللَّهِ)([8])،فيمَن قرَأَ بالجَرِّ, وإنَّمَا يُطلَقُ (كُلُّ) عَلَى ذِي أَجزَاءٍ, وذلك مُمتَنِعٌ هُنَا.
والثَّانِي: بَدَلُ بَعضٍ مِن كُلٍّ, وهو بَدَلُ الجُزءِ مِن كُلِّهِ, قَلِيلاً كانَ ذلك الجُزءُ أو مُسَاوِياً أو أَكثَرَ, كـ (أَكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ أو نِصْفَهُ أو ثُلُثَيْهِ).
ولا بُدَّ مِن اتِّصَالِهِ بضَمِيرٍ يَرجِعُ علَى المُبدَلِ منهُ: مَذكُورٍ كالأمثِلَةِ المَذكُورَةِ, وكقَولِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ}([9])، أو مُقَدَّرٌ كقَولِهِ تعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً}([10])؛ أَي: مِنهُم.
الثَّالِثُ: بَدَلُ الاشتِمَالِ, وهو بَدَلُ شَيءٍ مِن شَيءٍ يَشتَمِلُ عَامِلُهُ([11]) على مَعنَاهُ اشتِمَالاً بطَرِيقِ الإجمَالِ, كـ (أَعجَبَنِي زَيْدٌ عِلْمُهُ أَو حُسْنُهُ) و(سُرِقَ زَيْدٌ ثَوبُهُ أو فَرَسُهُ).
وأَمرُهُ في الضَّمِيرِ كأَمرِ بَدَلِ البَعضِ؛ فمِثَالُ المَذكُورِ ما تَقَدَّمَ مِن الأمثِلَةِ, وقَولُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}([12])، ومِثَالُ المُقَدَّرِ قَولُهُ تعَالَى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ}([13])؛ أي: النَّارِ فيهِ, وقيلَ: الأصلُ (نَارِهِ) ثُمَّ نَابَتْ أل عَن الضَّمِيرِ.
والرَّابِعُ: البَدَلُ المُبَايِنُ, وهو ثَلاثَةُ أَقسَامٍ؛ لأنَّهُ لا بُدَّ أن يَكُونَ مَقصُوداً كما تَقَدَّمَ في الحَدِّ.
ثُمَّ الأوَّلُ إن لم يَكُن مَقصُوداً أَلبَتَّةً, ولكن سَبَقَ إليهِ اللِّسَانُ, فهو بَدَلُ الغَلَطِ؛ أي: بَدَلٌ عَن اللَّفْظِ الذي هو غَلَطٌ, لا أنَّ البَدَلَ نَفسَهُ هو الغَلَطُ, كما قد يُتَوَهَّمُ.
وإن كانَ مَقصُوداً؛ فإن تَبَيَّنَ بعدَ ذِكْرِهِ فَسَادُ قَصدِهِ, فبَدَلُ نِسيَانٍ؛ أي: بَدَلُ شَيءٍ ذُكِرَ نِسيَاناً.
وقد ظَهَرَ أنَّ الغَلَطَ مُتَعَلِّقٌ باللِّسَانِ, والنِّسْيَانَ مُتَعَلِّقٌ بالجَنَانِ([14])، والنَّاظِمُ وكَثِيرٌ مِن النَّحْوِيِّينَ لم يُفَرِّقُوا بينَهُمَا فسَمَّوا النَّوْعَينِ بَدَلَ غَلَطٍ.
وإِن كانَ قَصْدُ كُلِّ وَاحِدٍ منهُمَا صَحِيحاً فبَدَلُ الإضرَابِ, ويُسَمَّى أَيضاً بَدَلَ البَدَاءِ([15]).
وقَولُ النَّاظِمِ: (خُذْ نُبْلاً مُدًى) يَحتَمِلُ الثَّلاثَةَ, وذلك باختِلافِ التَقَادِيرِ, وذلك لأنَّ النُّبْلَ اسمُ جَمْعٍ للسَّهْمِ, والمُدَى جَمعُ مُدْيَةٍ, وهي السِّكِّينُ.
فإن كانَ المُتَكَلِّمُ إنَّمَا أرادَ الأمرَ بأَخْذِ المُدَى فسَبَقَهُ لِسَانُهُ إلى النُّبْلِ, فبَدَلُ غَلَطٍ.
وإن كانَ أرَادَ الأمرَ بأَخذِ النُّبْلِ, ثُمَّ تَبَيَّنَ لهُ فَسَادُ تلكَ الإرَادَةِ, وأنَّ الصَّوَابَ الأمْرُ بأَخذِ المُدَى فبَدَلُ نِسْيَانٍ.
وإن كانَ أرَادَ الأوَّلَ, ثُمَّ أَضرَبَ عنهُ إلى الأمرِ بأَخذِ المُدَى وجَعَلَ الأوَّلَ في حُكمِ المَترُوكِ فبَدَلُ إِضرَابٍ وبَدَاءٍ.
والأحسَنُ فيهِنَّ أن يُؤْتَى ببَلْ.
فَصلٌ: يُبدَلُ الظَّاهِرُ مِن الظَّاهِرِ كما تَقَدَّمَ.
ولا يُبدَلُ المُضمَرُ مِن المُضمَرِ, ونَحوُ: (قُمْتَ أَنْتَ) و(مَرَرْتُ بِكَ أَنتَ) تَوكِيدٌ اتِّفَاقاً, وكذلكَ نَحوُ: (رَأَيْتُكَ إِيَّاكَ) عندَ الكُوفِيِّينَ والنَّاظِمِ([16]).
ولا يُبدَلُ مُضمَرٌ مِن ظَاهِرٍ, ونَحوُ: (رَأَيْتُ زَيداً إِيَّاهُ) مِن وَضْعِ النَّحْوِيِّينَ, وليسَ بمَسمُوعٍ.
ويَجُوزُ عَكسُهُ: مُطلَقاً([17]) إن كانَ الضَّمِيرُ لغَائِبٍ, نَحوُ: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}([18]) في أَحَدِ الأوجُهِ([19])، أو كانَ لحَاضِرٍ بشَرْطِ أن يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ, كـ (أَعْجَبْتَنِي وَجْهُكَ) وقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ}([20])، أو بَدَلَ اشتِمَالٍ, كـ (أَعْجَبْتَنِي كَلامُكَ) وقَولِ الشَّاعِرِ:
428- بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَسَنَاؤُنَا([21])
أو بَدَلَ كُلٍّ مُفِيدٌ للإحَاطَةِ, نَحوُ: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا}([22]).
ويَمتَنِعُ إن لَم يُفِدْ؛ خِلافاً للأَخْفَشِ؛ فإنَّهُ أجَازَ (رَأَيْتُكَ زَيْداً) و(رَأَيْتَنِي عَمْراً)([23]).
فَصلٌ: يُبْدَلُ كُلٌّ مِن الاسمِ والفِعْلِ والجُملَةِ مِن مِثْلِهِ؛ فالاسمُ كمَا تَقَدَّمَ, والفِعلُ كقَولِهِ تعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ}([24])، والجُمْلَةُ كقَولِهِ تعَالَى: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}([25])، وقَد تُبدَلُ الجُملَةُ مِنَ المُفرَدِ كقَولِهِ:
429- إِلَى اللَّهِ أَشْكُو بِالمَدِينَةِ حَاجَةً = وَبِالشَّامِ أُخْرَى كَيفَ يَلْتَقِيَانِ([26])
أَبدَلَ (كَيفَ يَلتَقِيَانِ) مِن (حَاجَةً وأُخْرَى)؛ أي: إلى اللَّهِ أَشكُو هَاتَينِ الحَاجَتَينِ تَعَذُّرَ التِقَائِهِمَا.
فَصلٌ: وَإِذَا أُبدِلَ اسمٌ مِن اسمٍ مُضَمَّنٍ مَعنَى حَرفِ استِفهَامٍ, أو حَرفِ شَرطٍ, ذُكِرَ ذَلِكَ الحَرفُ معَ البَدَلِ, فالأوَّلُ كقَولِكَ: (كَمْ مَالُكَ أَعِشْرُونَ أم ثَلاثُونَ) و(مَنْ رَأَيْتَ أَزَيْداً أم عَمْراً) و(مَا صَنَعْتَ أخَيْراً أَم شَرًّا), والثَّانِي نَحوُ: (مَنْ يَقُمْ إِن زَيدٌ وإِن عَمرٌو أَقُمْ معَهُ) و(مَا تَصْنَعُ إِن خَيراً وإِن شَرًّا تُجْزَ بِهِ) و(مَتَى تُسَافِرْ إِن غَداً وإِن بعدَ غَدٍ أُسَافِرْ مَعَكَ)
([1]) هذهِ هِيَ تَسْمِيَةُ البَصْرِيِّينَ لهذَا النَّوْعِ مِن التَّوَابِعِ، فأمَّا الكُوفِيُّونَ فيُسَمُّونَهُ (التَّرْجَمَةُ، وَالتَّبْيِينُ) حكَى ذلكَ الأَخْفَشُ, وحَكَى ابْنُ كَيْسَانَ أَنَّهُم يُسَمُّونَهُ (التَّكْرِيرُ).
([2]) البَدَلُ في اللُّغَةِ هو العِوَضُ، وهو فِي اصْطِلاحِ النُّحَاةِ مَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ، والغَرَضُ الذي يَقْصِدُهُ المُتَكَلِّمُ مِن الإتْيَانِ فِي كَلامِهِ بالبَدَلِ بَعْدَ ذِكْرِهِ المُبْدَلَ مِنْهُ هو إِفَادَةُ تَوْكِيدِ الحُكْمِ وتَقْرِيرِهِ بوَاسِطَةِ ذِكْرِ الاسْمِ مَقْصُوداً بِالحُكْمِ بَعْد أن يُوَطِّئَ ويُمَهِّدَ لذلكَ بالتَّصْرِيحِ بتِلْكَ النِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ، ألا تَرَى أنَّكَ حِينَ تَقُولُ: (سَمِعْتُ أَبَا الأَنْوَارِ مُحَمَّداً) أو تَقُولُ: (أَعْجَبَنِي الأُسْتَاذُ عِلْمُهُ)، وقَدْ ذَكَرْتَ الاسْمَ الثَّانِيَ مَقْصُوداً لكَ بنِسْبَةِ الحُكْمِ إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرْتَ هذَا الحُكْمَ مُصَرَّحاً بنِسْبَتِهِ إلَى الاسْمِ الأوَّلِ، فكُنْتَ كَمَنْ ذَكَرَ الحُكْمَ والمَحْكُومَ علَيْهِ مَرَّتَيْنِ؟ وهذَا هو السِّرُّ فِي قَوْلِهِم: (البَدَلُ فِي حُكْمِ تَكْرِيرِ العَامِلِ).
([3]) وبَيَانُ ذلكَ أنَّ الحُكْمَ في المِثَالِ الأوَّلِ هو إِثْبَاتُ المَجِيءِ لزَيْدٍ، وهذَا الحُكْمُ مَنْفِيٌّ عَن عَمْرٍو بوَاسِطَةِ لا.
([4]) وذلكَ لأنَّ المَعْطُوفَ ببَلْ والمَعْطُوفَ بلَكِنْ بَعْدَ النَّفْيِ يَثْبُتُ لَهُمَا نَقِيضُ الحُكْمِ السَّابِقِ، وأمَّا الحُكْمُ المَذْكُورُ فالمَقْصُودُ بهِ هو الأوَّلُ، فقَوْلُكَ: (مَا جَاءَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو) مَعْنَاهُ أنَّ عَدَمَ المَجِيءِ ثَابِتٌ لزَيْدٍ وأنَّ عَمْراً ثَبَتَ لهُ المَجِيءُ، عِنْدَ غَيْرِ المُبَرِّدِ كمَا عَلِمْتَ ممَّا تَقَدَّمَ، وكذلكَ شَأْنُ مِثَالِ لَكِنْ.
([5]) إذا قُلْتَ: (هَذَا مَقْصُودٌ بالحُكْمِ) دَلَّتْ هذهِ العِبَارَةُ علَى أنَّ المُشَارَ إليْهِ مَقْصُودٌ بالحُكْمِ، ولَم تَدُلَّ علَى أَنَّ غَيْرَ المُشَارِ إلَيْهِ يَمْتَنِعُ أن يَكُونَ مَقْصُوداً بالحُكْمِ؛ فيَجُوزُ أن يَكُونَ هو أَيْضاً مَقْصُوداً بالحُكْمِ؛ فأمَّا إذَا قُلْتَ: (هَذَا المَقْصُودُ بالحُكْمِ) فإنَّ هذِهِ العِبَارَةَ تَدُلُّ علَى شَيْئَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ المُشَارَ إليْهِ مَقْصُودٌ بالحُكْمِ.
والثَّانِي: أنَّ غَيْرَهُ يَمْتَنِعُ أن يَكُونَ مَقْصُوداً بالحُكْمِ.
([6]) زَادَ قَوْمٌ نَوْعاً خَامِساً، وسَمَّوْهُ (بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ) واسْتَدَلُّوا لهُ بقَوْلِ الشَّاعِرِ:
رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا = بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ
فإنَّ طَلْحَةَ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: (أَعْظُماً) وطَلْحَةُ كُلٌّ، والأَعْظُمُ: جَمْعُ عَظْمٍ وهو بَعْضُ طَلْحَةَ، قالَ السِّيُوطِيُّ: (وقَدْ وَجَدْتُ لَهُ شَاهِداً فِي التَّنْزِيلِ، وهُو قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأُولِئَكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ} وذلك أنَّ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} بَدَلٌ مِن {الجَنَّةَ} ولا شَكَّ أنَّهُ بَدَلُ كُلٍّ مِن بَعْضٍ؛ لأنَّ الجَمْعَ كُلٌّ، والمُفْرَدَ جُزْءٌ؛ إذ هو وَاحِدٌ مِنْهُ، وفَائِدَتُهُ تَقْرِيرُ أنَّها جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ لا جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ، ويُؤَيِّدُهُ ما رَوَى البُخَارِيُّ عَن أَنَسٍ أنَّ حَارِثَةَ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ، فقَالَت أُمُّهُ: (إِنْ يَكُنْ فِي الجَنَّةِ صَبَرْتُ)، فقَالَ النَّبِيُّ: ((جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ؟ إِنَّهَا جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ)) اهـ.
([7]) سورة فاتحة الكتاب، الآية: 6و7.
([8]) سورة إبراهيم، الآية: 1.
([9]) سورة المائدة، الآية: 71، و{كَثِيرٌ مِنْهُمْ} بَدَلٌ مِن وَاوِ الجَمَاعَةِ فِي {عَمُوا} أَمِ الوَاوِ فِي {صَمُّوا} فهِيَ رَاجِعَةٌ إلى "كَثِيرٌ"؛ إِذْ أَصْلُ النَّظْمِ: ثُمَّ عَمُوا كَثِيرٌ مِنْهُم وصَمُّوا.
([10]) سورة آل عمران، الآية: 97.
([11]) يَخْتَلِفُ النُّحَاةُ فِي بَدَلِ الاشْتِمَالِ: هَل المُشْتَمِلُ هُو الأوَّلُ الذي هو المُبْدَلُ مِنْهُ أو الثَّانِي الذي هو البَدَلُ أو العَامِلُ في المُبْدَلِ مِنْهُ؟ واخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ القَوْلَ بأنَّ المُشْتَمِلَ هو الأوَّلُ، وهو قَوْلُ الرُّمَّانِيِّ، وقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ: المُشْتَمِلُ هو الثَّانِي، واخْتَارَ المُؤَلِّفُ هنا أنَّ المُشْتَمِلَ هو العَامِلُ فِي المُبْدَلِ مِنْهُ، وهو رَأْيُ المُبَرِّدِ والسِّيرَافِيِّ وابْنِ جِنِّيٍّ وابْنِ البَاذِشِ وابْنِ الأَبْرَشِ وابْنِ أَبِي العَافِيَةِ وابْنِ مَلَكُونَ، وهو الرَّأْيُ الحَقِيقُ بالقَبُولِ، ألا تَرَى أنَّ الإعْجَابَ في مِثَالِ المُؤَلِّفِ يَشْتَمِلُ علَى كُلٍّ مِن البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنْهُ، وفِي المِثَالِ الثَّانِي السَّرِقَةُ وَاقِعَةٌ علَى المُبْدَلِ مِنْهُ، وهو زَيْدٌ بطَرِيقِ التَّجَوُّزِ، وعلَى ثَوْبِهِ أو فَرَسِهِ بطَرِيقِ الحَقِيقَةِ، وإنَّمَا رَجَّحْنَا هذَا الرَّأْيَ دُونَ الرَّأْيَيْنِ الآخَرَيْنِ؛ لأنَّهُ مُطَّرِدٌ في كُلِّ الأمْثِلَةِ، وكُلٌّ مِن الرَّأْيَيْنِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الأمْثِلَةِ ولا يَكُونُ في بَعْضِهَا الآخَرِ، فنَحْوُ قَوْلِكَ: (سُرِقَ زَيْدٌ عَبْدُهُ) لا يَشْتَمِلُ زَيْدٌ علَى العَبْدِ فيَكُونُ رَدًّا للقَوْلِ الأوَّلِ، ونَحْوُ (سُرِقَ زَيْدٌ فَرَسُهُ) لا يَشْتَمِلُ الفَرَسُ علَى زَيْدٍ، فيَكُونُ رَدًّا للقَوْلِ الثَّانِي.
([12]) سورة البقرة، الآية: 217.
([13]) سورة البروج، الآية: 4.
([14]) الجَنَانُ – بفَتْحِ الجِيمِ، بِزِنَةِ سَحَابٍ – هو القَلْبُ.
([15]) البَدَاءُ – بفَتْحِ البَاءِ وبالدَّالِ المُهْمَلَةِ – هو ظُهُورُ الأَمْرِ بَعْدَ أن لَمْ يَكُنْ ظَاهِراً، والمُرَادُ أنْ يَظْهَرَ لكَ الصَّوَابُ بَعْدَ خَفَاءِ حَالِهِ علَيْكَ.
([16]) اعْلَمْ أنَّ العَرَبَ يَقُولُونَ في حَالِ الرَّفْعِ: (قُمْتَ أَنْتَ) ولا يَقُولُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، ويَقُولُونَ في حَالَةِ النَّصْبِ: (رَأَيْتُكَ أَنْتَ) أَحْيَاناً، وأَحْيَاناً أُخْرَى يَقُولُونَ: (رَأَيْتُكَ إِيَّاكَ) ويَقُولُونَ في حَالَةِ الجَرِّ: (مَرَرْتُ بِكَ إِيَّاكَ) فِي بَعْضِ الأحْيَانِ، وفي أُخْرَى يَقُولُونَ: (مَرَرْتُ بِكَ بِكَ) وقَدْ نَقَلَ سِيْبَوَيْهِ هذهِ الاسْتِعْمَالاتِ كُلَّهَا عَنِ العَرَبِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ النُّحَاةَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَخْرِيجِ بَعْضِ هذهِ الاسْتِعْمَالاتِ، ونَحْنُ نُبَيِّنُ لكَ هذا الاخْتِلافَ بَيَاناً شَافِياً فنَقُولُ:
اتَّفَقَ البَصْرِيُّونَ والكُوفِيُّونَ علَى تَخْرِيجِ عِبَارَةِ الرَّفْعِ، فقَالُوا: الضَّمِيرُ الثَّانِي تَوْكِيدٌ للضَّمِيرِ الأوَّلِ، واخْتَلَفُوا فِي عِبَارَتَيِ النَّصْبِ وعِبَارَتَيِ الجَرِّ، فذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلَى أنَّ الضَّمِيرَ الثَّانِيَ فِي العِبَارَاتِ الأرْبَعِ تَوْكِيدٌ للضَّمِيرِ الأوَّلِ كمَا كانَ الأمْرُ كذلكَ فِي عِبَارَةِ الرَّفْعِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الثَّانِي مَرْفُوعاً مُنْفَصِلاً، نَحْوُ: (رَأَيْتُكَ أَنْتَ) ونَحْوُ: (مَرَرْتُ بِكَ أَنْتَ)، وأَنْ يَكُونَ مُوَافِقاً للأوَّلِ، نَحْوُ: (رَأَيْتُكَ إِيَّاكَ) ونَحْوُ: (مَرَرْتُ بِكَ بِكَ) وأَخَذَ بهذَا الرَّأْيِ ابْنُ مَالِكٍ، وأيَّدَهُ بقَوْلِهِ: (وَقَوْلُ الكُوفِيِّينَ عِنْدِي أَصَحُّ؛ لأنَّ نِسْبَةَ المَنْصُوبِ المُتَّصِلِ كنِسْبَةِ المَرْفُوعِ المُتَّصِلِ مِن المَرْفُوعِ المُنْفَصِلِ، نَحْوُ: فَعَلْتَ أَنْتَ، والمَرْفُوعُ تَوْكِيدٌ بإِجْمَاعٍ، فلْيَكُنِ المَنْصُوبُ تَوْكِيداً، فإنَّ الفَرْقَ بَيْنَهُمَا تَحَكُّمٌ بِلا دَلِيلٍ).
وذَهَبَ البَصْرِيُّونَ إلَى أنَّهُ إذا جِيءَ بالضَّمِيرِ مُنْفَصِلاً مَرْفُوعاً، نَحْوُ: (رَأَيْتُكَ أَنْتَ) ونَحْوُ: (مَرَرْتُ بِكَ أَنْتَ) كَانَ الثَّانِي تَوْكِيداً للأوَّلِ، وإذَا جِيءَ بالضَّمِيرِ الثَّانِي مُوَافِقاً للأوَّلِ، نَحْوُ: (رَأَيْتُكَ إِيَّاكَ) ونَحْوُ: (مَرَرْتُ بِكَ بِكَ) كانَ الثَّانِي مُوَافِقاً للأوَّلِ، نَحْوُ: (رَأَيْتُكَ إِيَّاكَ)، ونَحْوُ: (مَرَرْتُ بِكَ بِكَ) كانَ الثَّانِي بَدَلاً مِن الأوَّلِ.
([17]) المُرَادُ بالإطْلاقِ فِي هَذَا المَوْضِعِ أنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ البَدَلِ سَوَاءٌ.
([18]) سورة الأنبياء، الآية: 3.
([19]) وفي الآيَةِ وَجْهَانِ آخَرَانِ؛ أن يَكُونَ (الذينَ) مُبْتَدَأً مُؤَخَّراً، وجُمْلَةُ (أَسَرُّوا النَّجْوَى) فِعْلٌ وفَاعِلٌ ومَفْعُولٌ في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وثَانِيهُمَا: أن يَكُونَ (أَسَرُّوا) فِعْلاً والوَاوُ معَهُ عَلامَةٌ علَى جَمْعِ الفَاعِلِ، و(الذينَ) فَاعِلُهُ، وهِي اللُّغَةُ المَعْرُوفَةُ بِلُغَةِ (أَكَلُونِي البَرَاغِيثُ) وارْجِعْ إلَى بَيَانِ ذَلكَ في بَابِ الفَاعِلِ.
([20]) سورة الأحزاب، الآية: 21. وزَعَمَ الأَخْفَشُ أنَّهُ بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ. ونَظِيرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ فِي إِبْدَالِ الظَّاهِرِ مِن الضَّمِيرِ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
أَوْعَدَنِي بِالسِّجْنِ وَالأَدَاهِمِ = رِجْلِي، فَرِجْلِي شَثْنَةُ المَنَاسِمِ
فإنَّ قَوْلَهُ: (رِجْلِي) بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، والمُبْدَلُ مِنْهُ هو يَاءُ المُتَكَلِّمِ الوَاقِعَةُ مَفْعُولاً بهِ في قَوْلِهِ: (أَوْعَدَنِي).
([21]) 428-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلِمَةٍ لأبِي لَيْلَى النَّابِغَةِ الجَعْدِيِّ، أَنْشَدَهَا بَيْنَ يَدَيْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، والذي أَنْشَدَهُ المُؤَلِّفِ مِنْهُ هو صَدْرُ بَيْتٍ مِن الطَّوِيلِ، وعَجُزُهُ قَوْلُهُ:
*وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا*
اللُّغَةُ: (بَلَغْنَا السَّمَاءَ)؛ أي: وَصَلْنَا إلَى السَّمَاءِ، وهذهِ كِنَايَةٌ عَن ارْتِفَاعِ القَدْرِ وعُلُوِّ المَنْزِلَةِ. (مَجْدُنَا) المَجْدُ – بفَتْحِ المِيمِ وسُكُونِ الجِيمِ – كَرَمُ الآبَاءِ. (سَنَاؤُنَا) السَّنَاءُ – بفَتْحِ أَوَّلِهِ مَمْدُوداً – الشَّرَفُ والرِّفْعَةُ وعُلُوُّ المَنْزِلَةِ. (لَنَرْجُو)؛ أي: نَتَرَقَّبُ ونَأْمَلُ. (مَظْهَرَ) مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أو اسْمُ مَكَانٍ – ومَعْنَاهُ المَصْعَدُ.
المَعْنَى: وَصَفَ قَوْمَهُ بأنَّهُم قَدْ بَلَغُوا الغَايَةَ التِي يَأْمُلُهَا المُؤَمِّلُ مِنَ ارْتِفَاعِ الأقْدَارِ وسُمُوِّ المَنَازِلِ، وأنَّهُم قَدْ فَاقُوا كُلَّ ذَوِي المَجْدِ، وأنَّهُم – معَ كُلِّ ذَلكَ – يَتَرَقَّبُونَ مَنْزِلَةً أَعْلَى مِنَ المَنْزِلَةِ التِي بَلَغُوهَا.
ويُرْوَى أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ هذَا البَيْتَ بَدَتْ علَى وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةُ ثُمَّ قالَ: ((إِلَى أَيْنَ يَا أَبَا لَيْلَى؟)) قَالَ: إِلَى الجَنَّةِ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ((إِنْ شَاءَ اللَّهُ)).
الإعْرَابُ: (بَلَغْنَا) فِعْلٌ مَاضٍ وفَاعِلُهُ. (السَّمَاءَ) مَفْعُولٌ بِهِ. (مَجْدُنَا) مَجْدُ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِن فَاعِلِ بَلَغَ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، ومَجْدُ مُضَافٌ والضَّمِيرُ مُضَافٌ إليهِ. (وَسَنَاؤُنَا) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، سَنَاءُ: مَعْطُوفٌ علَى مَجْدٍ مَرْفُوعٌ وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، وسَنَاءُ مُضَافٌ والضَّمِيرُ مُضَافٌ إليْهِ. (وَإِنَّا) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، إِنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ ونَصْبٍ، والضَّمِيرُ اسْمُهُ مَبْنِيٌّ علَى السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (لَنَرْجُو) اللاَّمُ لامُ الابْتِدَاءِ، نَرْجُو: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ علَى الوَاوِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ نَحْنُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ إِنَّ. (فَوْقَ) ظَرْفُ مَكَانٍ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ حَالٌ مِن مَظْهَرٍ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وفَوْقَ مُضَافٌ واسْمُ الإشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: (ذَلِكَ) مُضَافٌ إِلَيْهِ، واللاَّمُ للبُعْدِ، والكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ. (مَظْهَرَا) مَفْعُولٌ بهِ لنَرْجُو [مَنْصُوبٌ] بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (مَجْدُنَا وَسَنَاؤُنَا) فإنَّهُ بَدَلٌ مِن الضَّمِيرِ البَارِزِ الوَاقِعِ فَاعِلاً فِي (بَلَغْنَا)، وهو بَدَلُ اشْتِمَالٍ.
([22]) سورة المائدة, الآية: 114.
([23]) خَرَّجَ الأَخْفَشُ المِثَالَ الأوَّلَ علَى أنَّ (زَيْداً) بَدَلٌ مِن الكَافِ المَنْصُوبَةِ المَحَلِّ فِي (رَأَيْتُكَ) وخَرَّجَ المِثَالَ الثَّانِيَ علَى أنَّ (عَمْراً) بَدَلٌ مِنَ اليَاءِ المَنْصُوبَةِ المَحَلِّ فِي (رَأَيْتَنِي). ويُؤَيِّدُ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ الأَخْفَشُ مَا حَكَاهُ الكِسَائِيُّ عَن بَعْضِ العَرَبِ أنَّهُ قَالَ: (إِلَيَّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) بإِبْدَالِ (أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) مِن يَاءِ المُتَكَلِّمِ المَجْرُورَةِ مَحَلاًّ بإِلَى فِي قَوْلِهِ: (إِلَيَّ)، كمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ = وَأَمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلاَ
مَحِلُّ الاسْتِدْلالِ قَوْلُهُ: (بِكُمْ قُرَيْشٍ) فإنَّ قَوْلَهُ: (قُرَيْشٍ) بالجَرِّ بَدَلٌ مِن كَافِ المُخَاطَبِ في قَوْلِهِ: (بِكُمْ) والأخْفَشُ تَابِعٌ للكُوفِيِّينَ فيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ.
([24]) سورة الفرقان، الآية: 68، وهذهِ الآية الكَرِيمَةُ مِثَالٌ لإبْدَالِ الفِعْلِ مِنَ الفِعْلِ بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ، ومِثَالُ بَدَلِ البَعْضِ فيهِ قَوْلُكَ: (إِنْ تُصَلِّ تَسْجُدْ للَّهِ يَرْحَمْكَ) فتَسْجُدْ بَدَلٌ مِن تُصَلِّ، وهُو بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ؛ لأنَّ السُّجُودَ بَعْضُ الصَّلاةِ، ومِثَالُ بَدَلِ الاشْتِمَالِ فِيهِ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
إِنَّ عَلَيَّ اللَّهَ أَنْ تُبَايَعَا = تُؤْخَذَ كَرْهاً أَوْ تَجِيءَ طَائِعَا
فإنَّ الأَخْذَ كَرْهاً والمَجِيءَ طَائِعاً مِن صِفَاتِ المُبَايَعَةِ، ومِثَالُ بَدَلِ الغَلَطِ فيهِ قَوْلُكَ: (إِنْ تُطْعِمِ الفَقِيرَ تَكْسُهُ تُؤْجَرْ).
([25]) سورة الشعراء، الآية: 132و133، والآية الكَرِيمَةُ مِثَالٌ لبَدَلِ البَعْضِ مِن الكُلِّ في الجُمَلِ، ومِثَالُ بَدَلِ الاشْتِمَالِ فِيهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَقُولُ لَهُ ارْحَلْ لاَ تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا = وَإِلاَّ فَكُنْ فِي السِّرِّ وَالجَهْرِ مُسْلِمَا
فإنَّ قَوْلَهُ: (لاَ تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا) بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ارْحَلْ، ولَيْسَ تَوْكِيداً لَهُ؛ لأنَّهُ لَيْسَ بلَفْظِهِ ولا بمَعْنَاهُ، وهو بَدَلُ اشْتِمَالٍ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّلازُمِ.
وقَدْ تَحَدَّثَ أَبُو الفَتْحِ بْنُ جِنِّيٍّ فِي (المُحْتَسِبِ) (1/149) عَن قَوْلِهِ تَعَالَى: (يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ّيَغْفِرْ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبْ مَنْ يَشَاءُ) في قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ بجَزْمِ (يَغْفِرْ) بغَيْرِ فَاءٍ، وقالَ: (فَجَرَى مَجْرَى بَدَلِ البَعْضِ أو الاشْتِمَالِ) اهـ. ومِن شَوَاهِدِ ذلكَ قَوْلُ وَدَّاكِ بْنِ تُمَيْلٍ:
رُوَيْدَ بَنِي شَيْبَانَ بَعْضَ وَعِيدِكُمْ = تُلاقُوْا غَداً خَيْلِي عَلَى سَفَوَانِ
تُلاقُوا جِيَاداً لاَ تَحِيدُ عَنِ الوَغَى = إِذَا مَا غَدَتْ فِي المَأْزِقِ المُتَدَانِي
([26]) 429-هذا بَيْتٌ مِنَ الطَّوِيلِ، وقَدْ نَسَبُوا هذَا البَيْتَ للفَرَزْدَقِ، وذَكَرُوا بَعْدَهُ بَيْتاً آخَرَ، وهو قَوْلُهُ:
سَأَعْمَلُ نَصَّ العِيسِ حَتَّى يَكُفَّنِي = غِنَى المَالِ يَوْماً أَوْ غِنَى الحَدَثَانِ
ومَعْنَى بَيْتِ الشَّاهِدِ أنَّهُ يَشْكُو مِن تَفَرُّقِ أَغْرَاضِهِ، وتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ حَاجَاتِهِ، وأنَّهُ مُوَزَّعُ القَلْبِ، مُشَتَّتُ البَالِ.
الإعْرَابُ: (إِلَى) حَرْفُ جَرٍّ. (اللَّهِ) مَجْرُورٌ بإِلَى، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بقَوْلِهِ: أَشْكُو. (أَشْكُو) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بضَمِّهِ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ علَى الوَاوِ، فَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنا. (بِالمَدِينَةِ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ حَالٌ مِن "حَاجَةً" تَقَدَّمَ علَيْهِ، وكانَ أَصْلُهُ صِفَةٌ، فلَمَّا تَقَدَّمَ علَى النَّكِرَةِ أُعْرِبَ حَالاً. (حَاجَةً) مَفْعُولٌ بِهِ لأَشْكُو مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ. (وبِالشَّامِ) الوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، بالشَّامِ: جَارٌّ ومَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ بالوَاوِ علَى الجَارِّ والمَجْرُورِ السَّابِقِ. (أُخْرَى) مَعْطُوفٌ بالوَاوِ علَى "حَاجَةً" السَّابِقِ، وكِلاهُمَا مَعْمُولٌ لأشْكُو؛ لأنَّ العَامِلَ فِي الحَالِ هو العَامِلُ في صَاحِبِهَا علَى مَا تَعْلَمُ، وكأنَّهُ قَالَ: وَأَشْكُو أُخْرَى بِالشَّامِ. (كَيْفَ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مَبْنِيٌّ علَى الفَتْحِ في مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ تَقَدَّمَ علَى صَاحِبِهِ وعَامِلِهِ. (يَلْتَقِيَانِ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بثُبُوتِ النُّونِ، وأَلِفُ الاثنَيْنِ فَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ رَفْعٍ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ) فإنَّ هذهِ الجُمْلَةَ – فِيمَا ذَكَرَ النُّحَاةُ – بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: (حَاجَةً) وقَوْلِهِ: (أُخْرَى) فَيَكُونُ فِيهِ إِبْدَالُ الجُمْلَةِ مِن المُفْرَدِ، وإنَّمَا صَحَّ ذلكَ؛ لأنَّ الجُمْلَةَ رَاجِعَةٌ بالتَّأْوِيلِ إلَى المُفْرَدِ، وكأنَّهُ قَدْ قَالَ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ حَاجَةً بِالمَدِينَةِ وحَاجَةً بالشَّامِ تَعُذَّرَ التِقَائِهِمَا، هكَذَا قَالَ أَبُو الفَتْحِ بْنُ جِنِّيٍّ، وتَبِعَهُ مَن جَاءَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ.
وقَالَ الدَّمَامِينِيُّ: ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ) جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً نَبَّهَ بِهَا علَى سَبَبِ الشَّكْوَى، وهو اسْتِبْعَادُ اجْتِمَاعِ هَاتَيْنِ الحَاجَتَيْنِ، اهـ.
ومِن أَمْثِلَةِ إِبْدَالِ الجُمْلَةِ مِن المُفْرَدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} فإِنَّ جُمْلَةَ {كَيْفَ خُلِقَتْ} بَدَلٌ مِنَ {الإِبِلِ} وكذلكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} فإنَّ جُمْلَةَ {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} بَدَلٌ مِن الاسْمِ الظَّاهِرِ قَبْلَهَا، قَالُوا: وَمِن هذِهِ البَابَةِ كُلُّ جُمْلَةٍ بُدِئَت بكَيْفَ بَعْدَ اسْمٍ مُفْرَدٍ.
فإِنْ قُلْتَ: فَمَا نَوْعُ هذَا البَدَلِ الذي هو بَدَلُ الجُمْلَةِ مِنَ المُفْرَدِ؛ لأنَّكَ لَمْ تُصَرِّحْ فِي إِعْرَابِ بَيْتِ الشَّاهِدِ بنَوْعِ البَدَلِ ولا حَدَّثْتَنَا عَنْهُ.
فالجَوَابُ عَن ذلكَ أَنْ نَقُولَ لكَ: إِنَّ كَثِيراً مِنَ النُّحَاةِ يُصَرِّحُونَ في بَيْتِ الفَرَزْدَقِ بأنَّ جُمْلَةَ (كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ) بَدَلُ كُلٍّ مِنَ المُفْرَدِ الذي قَبْلَهَا ومَا عُطِفَ عَلَيْهِ، ومِمَّن صَرَّحَ بذلكَ الشَّيْخُ خَالِدٌ، ولا نُقِرُّهُم علَى ذلكَ أَصْلاً، فإِنَّ تَعَذُّرَ التِقَاءِ الحَاجَتَيْنِ – وهو المَعْنَى الذي ذَكَرُوا أنَّ الجُمْلَةَ تُؤَدِّيهِ – لَيْسَ هو نَفْسَ الحَاجَتَيْنِ ولا مُرَادِفاً لَهُمَا، فكَيْفَ يَكُونُ بَدَلَ كُلٍّ مِنْهُمَا؟ بَلْ لَيْسَ هذا المَعْنَى بَعْضَ مَعْنَى الحَاجَتَيْنِ حتَّى يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ مِنْهُمَا، وإنَّمَا تَعَذُّرُ التِقَاءِ الحَاجَتَيْنِ أَمْرٌ مُرْتَبِطٌ بِهِمَا ومُتَّصِلٌ بسَبَبٍ مِنْهُمَا، فالظَّاهِرُ أنَّ هذَا البَدَلَ مِن نَوْعِ بَدَلِ الاشْتِمَالِ، ثُمَّ رَأَيْتُ السِّيُوطِيَّ فِي (الهَمَعِ) قَدْ نَصَّ علَى أنَّ بَدَلَ الجُمْلَةِ مِنَ المُفْرَدِ مِن بَدَلِ الاشْتِمَالِ، ورَأَيْتُ ابْنَ هِشَامٍ فِي (المُغْنِي) (1/207 بتَحْقِيقِنَا) يَنُصُّ فِي الآيَتَيْنِ الكَرِيمَتَيْنِ اللتينِ أَثَرْنَاهُمَا لكَ علَى أنَّ بَدَلَ الجُمْلَةِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ المُفْرَدِ قَبْلَهَا، فَلِلَّهِ مَزِيدُ الحَمْدِ.
فإِنْ قُلْتَ: فهَلْ جَاءَ عَكْسُ ذَلِكَ وهو إِبْدَالُ المُفْرَدِ مِنَ الجُمْلَةِ؟
فالجَوَابُ أَنْ نَقُولَ لَكَ: نَصَّ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً} علَى أنَّ {قَيِّماً} بَدَلٌ مِن جُمْلَةِ {لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً)}؛ لأنَّهَا بمَعْنَى مُفْرَدٍ، وكأنَّهُ قِيلَ: جَعَلَهُ مُسْتَقِيماً قَيِّماً فاعْرِفْ ذَلِكَ.
قَدْ تَمَّ بمَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى وحُسْنِ إِمْدَادِهِ
مُرَاجَعَةُ الجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ (أَوْضَحِ المَسَالِكِ)
لابْنِ هِشَامٍ الأَنْصَارِيِّ
معَ خُلاصَةِ شَرْحِنَا المَبْسُوطِ عَلَيْهِ
ويَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الجُزْءُ الرَّابِعُ
وَأَوَّلُهُ (بَابُ النِّدَاءِ) يَسَّرَ اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ بمَنِّهِ وفَضْلِهِ.