قال العلامة الطحاوي رحمه الله تعالى:
والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان , وإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق , وخلق لهما أهلا , فمن شاء منهم إلى الجنة فضلا منه , ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه , وكل يعمل لما قد فرغ له , وصائر إلى ما خلق له.
والخير والشر مقدران على العباد , والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به , فهي مع الفعل , وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن , وسلامة الآلات فهي قبل الفعل , وبها يتعلق الخطاب , وهو كما قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. وأفعال العباد خلق لله وكسب من العباد.
الشيخ: (بس) يكفي. بِسْمِ اللهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ , الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين , اللهم نسألك العلم النافع والعمل الصالح , اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً , ومن علينا بحسن الختام , وقنا الشر وأسبابه؛إنك على كل شيء قدير.
قال رحمه الله هنا: "والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان" يريد بذلك أن يقرر ما دل عليه كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , من أن الجنة موجودة اليوم , وأن النار موجودة , وأن الجنة مخلوقة قبل خلق آدم , والنار موجودة , خلقها الله جل وعلا كما خلق الجنة , وخلق لها أهلا كما قال: "وخلق لهما أهلا".
وهذا الأصل قرر في العقائد؛لأجل ما ذكرت لكم من الأسباب فيما قبله من أن هذه المسألة غيبية , والدليل جاء بإثباتها , وطائفة من الفرق الضالة خالفت في هذا الأصل , وأهل السنة يذكرون في عقائدهم ـ كما سبق أن بينت لكم ـ الأمور الغيبية , وما يجب أن يعتقد فيها , ويذكرون ما دلت عليه النصوص , مما يجب التسليم له , ويذكرون أيضا في عقائدهم ما يتميزون به عن الفرق الضالة , أو عن بعض تلك الفرق.
وهذه المسالة وهي مسألة خلق الجنة والنار , وأن الحنة باقية أبداً , والنار باقية أبدا , لا تفنى الجنة والنار ولا تبيدان ـ كانت من المسائل التي جرى فيها الكلام بعد ظهور الجهمية , وأصل هذه المسألة ـ كما سيأتي ـ مرتبط بأصلين كلاميين , زعمهما الجهمية ومن وافقهم في القدر , وفي تسلسل الأفعال والمخلوقات والمؤثرات , والله جل جلاله لم يجر عالم الغيب على قياس عالم الشهادة , وهذا أصل مهم في بيان ضلال من ضل في المسائل الغيبية؛حيث جعلوا عالم الغيب مَقِيساً على عالم الشهادة , ما يصلح لعالم الشهادة يصلح لعالم الغيب , والقوانين والسنن التي تحكم عالم الشهادة يجعلونها صالحة لعالم الغيب.
والله جل وعلا خلق كل شيء فقدره تقديراً , كل له تقديره الخاص , ووجود الجنة والنار عقيدة ماضية , دل عليها القرآن والسنة.
والأدلة في ذلك كثيرة جداً , نذكر منها قول الله جل و علا: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} , والجنة هذه هي جنة الخلد التي فيها الخلود الذي لا يزول عنه المرء ولا يحول , ووصفالله جل وعلا حين عُرج بنبيه أن عنده جنة المأوى, فقال جل وعلا: [ولقد رأى من آيات ربه الكبرى]* حيث قال جل علا: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى} فأثبت جل وعلا أنه حين عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الجنة هناك, والنبي عليه الصلاة والسلام أُرِيَ في ذلك المقام الشجرة الملعونة , قال جل وعلا: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً}.
لهذا لما وصف لهم حال النار وحال تلك الشجرة , قالوا ما قالوا في أن الزقوم والتزقم إنما هو خلط التمر بالزبد , ونحو ذلك , فقال جل وعلا: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم} والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي السنة أيضا في بيان هذا الأصل , وأن نسمة المؤمن في الجنة كقوله: ((نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة)) , وكقوله في أرواح الشهداء: ((أرواح الشهداء في جوف طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش في الجنة)) , وكذلك قوله جل وعلا في الشهداء: {بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) , ونحو ذلك مما فيه التقرير على أن الجنة موجودة , والنار موجودة , وأن هذه سيدخلها من يدخلها , وهذه سيدخلها من شاء الله أن يدخلها.
فإذن أهل السنة قرروا هذا في العقائد تبعاً للدليل , وهذا أمر واضح بين فيما دل عليه القرآن والسنة , ونذكر المسائل بهذا:
المسألة الأولى:
قوله: "الجنة والنار مخلوقتان" , يعني به: أن خلقهما قد تم موقوفا على قيام الساعة , وليس حال الجنة والنار كحال السماوات والأرض {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} , فذاك شأن والجنة والنار شأنهما آخر , فهما مخلوقتان يعني الآن حين قال وحين بعث الله نبيه وقبل ذلك فهما مخلوقتان , لا يعلم من خلقهما الله جل جلاله , وإنما خلقهما الله جل وعلا قبل خلق الخلق , يعني خلق آدم قبل خلق المكلفين , وهذا يدل عليه قوله:{ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} , والألف واللام في الجنة للعهد , يعني الجنة المعهودة التي هي دار النعيم.
المسألة الثانية:
قوله: "لا تفنيان أبداً ولا تبيدان" يعني: أن الجنة خلقت للبقاء , والنار خلقت للبقاء , وهذا هو الذي دل عليه القرآن والسنة , بأن أهل الجنة خالدين فيها أبداً , وأن أهل النار خالدين فيها أبداً , قال جل وعلا في ذكر النار: {يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون وليا ولا نصيرا} , وفي الجنة آيات كثيرة جداً فيها ذكر الأبدية , وأن من دخلها فهو خالد فيها أبداً.
وهذه الأبدية في الجنة والنار معاً مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة؛لأن الجنة والنار مخلوقتان للبقاء أبداً , والمقصود بالنار هنا في الإجماع جنس النار؛فإن الإجماع منعقد على أن جنس النار باق أبداً , والفرق المخالفة لهم عدة أقوال في هذه المسألة , تبلغ ستة أقوال أو أكثر , وأهمها قول من يقول: إن الجنة والنار تفنيان في وقت , ويبقى نعيم أهلها , نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار بالاستصحاب , لا بتجدد النعيم , يعني: يحصل لهم نعيم تتنعم به أبدانهم , ثم يقف وتفنى الجنة.
وذلك لأصل أصلوه وهو أن العقل اقتضى أن الحركة التي تبدأ فإنها ستنتهي , وكل متحرك بدأ بحركة فلا بد أن ينتهى بلا حركة , لهذا قالوا: أهل النار أيضا لا يستمرون في العذاب؛ بل تفنى النار ويبقى أهل النار ليسوا في نعيم.
ولذلك يصح أن يقال عنهم: إنهم في عذاب دائم , وهذا منسوب إلى الفرق الضالة الكافرة كالجهمية.
وطائفة أيضا من غيرهم والقول الثاني من الأقوال الضالة من يقول: إن الجنة تبقى والنار تبقى , لكن النعيم ينقطع , والعذاب ينقطع , ويكون الجنة يفعل الله جل وعلا بها ما يشاء , والنار يفعل الله بها ما يشاء.
وهذا لأجل الأصل السابق , ولأجل النظر في القدر؛حيث إن استدامة النعيم عندهم على عمل صالح قليل لا يوافق العدل , واستدامة العذاب على عمل سيئ قليل الزمن لا يوافق العدل , ولهذا نفوا هذا الأصل.
وثم أقوال أخر ليس مناسبا أن تذكر في مثل هذا المكان , أما قول أهل السنة المعروف هو ما ذكرته لك من أن الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ولا تفنيان أبد الآبدين , ينعم أهل الجنة في الجنة أبد الآبدين , ويعذب الكفار في النار أبد الآبدين , قد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((يؤتي يوم القيامة بالموت على هيئة كبش فيذبح بين الجنة والنار , ثم ينادي المنادي: يا أهل الجنة خلود فلا موت , ويا أهل النار خلود فلا موت)) , وتنصيص على الأبدية في نعيم أهل الجنة وخلودهم فيها يدل على أن المكان الذي يخلدون فيه يبقى , حيث قال جل وعلا في الجنة: {خالدين فيها أبداً} , وقال في النار: {خالدين فيها أبدا} , فهم خالدون في المكان , فيقتضي أن المكان أيضا يبقى أبد الآبدين.
ومن أهل السنة من قال: إن النار منها ما يفنى وينتهي بإنهاء رب العالمين له , وهو طبقة أو درك الموحدين من النار , وهي الطبقة العليا من النار؛لأن الموحدين موعودون بأن يخرجوا من النار , فلا يدخل , فلا يخلد في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان , لا بد لهم من يوم يخرجون منها؛لأن معهم التوحيد , ولو طالت مدتهم , ثم تبقى تلك الطبقة لا أحد فيها فيفنيها الله جل وعلا.
وهذا منسوب إلى بعض السلف.
وجاء في الأثر عن عمر وفي إسناده مقال وضعف , أن أهل النار لو لبثوا فيها كقدر رمل هالج موضع , فيه رمل كثير لكان لهم يوم يخرجون منها , وليأتين عليها يوم تصطفق أبوابها ليس فيها أحد.
ومما ينسب أيضا إلى بعض أهل السنة من أئمة أهل السنة , أن فناء النار ممكن , وأن فناءها لا يمتنع , وهو القول المشهور عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وعن غيره كابن القيم وجماعة من المتقدمين أيضا ومن الحاضرين.
وهذا القول منشؤه مع علم هؤلاء بالدليل وبالنصوص , منشؤه على وجه الاختصار النظر في صفات الله جل وعلا؛وذلك أن من المتقرر في النصوص أن صفة الرحمة ذاتية ملازمة للرب جل وعلا , والجنة من آثار رحمة الله جل وعلا ((أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)) , والنار أثر غضب الله جل وعلا , والغضب صفة فعلية اختيارية , لا تنقلب إلى أن تكون صفة ذاتية كالرحمة , ولو بقي أثر الغضب لبقي الأصل وهو الغضب , لو بقيت النار هو أصل الغضب لبقي الغضب أبد الآبدين.وهذا يعني أنه أصبح صفة ملازمة.
وهذا هو مأخذ هؤلاء الأئمة في هذه المسألة , وهذا فيه بحث وسمارت ويرنظر معروف في تقرير هذه المسألة , لكن من بحثها كثير من الناس كتبوا فيها لم يتوسعوا , أو لم يلحظوا علاقة المسألة في قول هؤلاء بصفات الله جل وعلا , وهي أصل منشأ هذه المسألة , وقد قال ابن القيم: سألت ابن تيمية عنها فقال: هذه مسألة عظيمة.
وذكر في موضع بعد أن ذكر أدلة الجمهور أهل السنة , وأدلة هؤلاء فقال في آخره: فإن قلت: إلى أي شيء انتهت أقدامكم في هذه المسألة العظيمة قلنا: انتهت أقدامنا إلى قول الله جل وعلا: {إن ربك فعال لما يريد}.
ومما لا ينبغي أن يخاض في هذه المسألة , لكن لما أوردها الشارح وهي مسألة مشهورة عند طلبة العلم , أوردت عليها هذا التقرير الموجز , وهي معروفة بتفاصيل من التعليل لقول ابن تيمية وابن القيم , ولم يصب من زعم أنه لا يصح نسبة هذا القول إلى الشيخين ابن تيمية وابن القيم.
* الصواب: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} . النجم (18) .