حرّر القول في واحدة من المسألتين التاليتين:
1: معنى "السيد" في قوله تعالى: {وسيّدا وحصورا ونبيّا من الصالحين}.
بسم الله, والصلاة والسلام على سيد خلق الله, نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه, وبعد:
فإن مدار البحث وموضوع التحرير هنا هو في معنى "السيد" في قوله تعالى :"وسيدا وحصورا", ومما يتبين لي مبدئيا, فإن ما يتناسب مع تحرير هذه المفردة هو الجمع بين أقوال أهل السلف, والرجوع للمصادر اللغوية في معنى هذه المفردة, إذ يتكئ معرفة معناها بشكل كبير على معرفة أصلها واشتقاقها, وهذا ما سيتبين لنا بإذن الله أثناء تباحث المسألة.
أولا: المراجع وفق ترتيبها التاريخي:
- تفسير الثوري للنهدي.
- جزء تفسير مسلم بن خالد الزنجي.
- تفسير غريب القرآن لابن قتيبة.
- تفسير الطبري.
- تفسير الزجاج.
- تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم.
- تفسير المشكل من غريب القرآن.
- تفسير ابن عطية.
- لسان العرب.
- تفسير ابن كثير.
- عمدة القاري للعيني.
- المعجم الوسيط.
ثانيا: الأقوال الواردة في معنى "السيد" في إرث السلف, مع التخريج:
وسأقوم باستعراضها دون تمحيص, وبعد ذلك يتم عرضها بعد التمحيص وجمع ما يمكن جمعه تحت نقطة واحدة أو استبعاد ما وجب استبعاده:
1 - السيد في الحلم والعلم والعبادة والورع. قتادة.
تخريج الأقوال:
- قول قتادة: أخرجه الطبري عن بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة, وذكر قوله.
2- الحليم التقي. ابن عباس وابن جبير والضحاك والثوري.
تخريج الأقوال:
- قول ابن عباس: أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ, وذكر قوله.
- قول الضحاك: أخرجه النهدي والطبري عن جويبرٍ عن الضّحّاك, وذكرا قوله.
وأخرجه الطبري بطريق آخر عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك, وذكر قوله.
- قول ابن جبير: أخرجه الطبري عن المثنّى، قال: حدّثنا الحمّانيّ، قال: حدّثنا شريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ, وذكر قوله.
- قول الثوري: أخرجه الطبري عن المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن سفيان, وذكر قوله.
3- الشريف. ابن زيد.
تخربج الأقوال:
-قول الشريف: أخرجه الطبري عن يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، عن ابن زيدٍ, وذكر قوله.
4- الفقيه العالم. ابن المسيب.
تخريج الأقوال:
- قول ابن المسيب: أخرجه الطبري عن سعيد بن عمرٍو السّكونيّ، قال: حدّثنا بقيّة بن الوليد، عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المسيّب, وذكر قوله.
5- الذي لا يغلبه الغضب (الحليم). الحسن وسعيد بن جبير وعطاء وأبو الشعثاء وعكرمة.
تخريج الأقوال:
- قول سعيد بن جبير: أخرجه الطبري عن ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن شريكٍ، عن سالمٍ الأفطس، عن سعيد بن جبيرٍ, وذكر قوله.
- قول عكرمة: أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن أبي بكرٍ، عن عكرمة, وذكرا قوله.
- وقد أخرج العيني قول الحسن وسعيد بن جبير وعطاء وأبو الشعثاء جميعا وذكر أن عبد وصله عن جعفر بن عبد الله السّلميّ عن أبي بكر الهذليّ عن الحسن وسعيد بن جبير وعطاء وأبي الشعثاء, وذكر قولهم.
6- السيد في خلقه ودينه. عطية.
تخريج الأقوال:
- قول عطية: أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيدٍ الأشجّ، ثنا ابن إدريس، عن أبيه قال: أراه عن عطيّة, وذكر قوله.
7- الكريم على الله. مجاهد والرقاشي.
تخريج الأقوال:
- قول مجاهد: أخرجه الرملي والطبري عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ, وذكرا قوله.
- قول الرقاشي: أخرجه الطبري عن المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، قال: زعم الرّقاشيّ, وذكر قوله.
وأخرجه ابن أبي حاتم عن حجّاج بن حمزة، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ, زعم الرقاشي, وذكر قوله.
ثانيا: معنى "السيد" في اللغة:
وسبب تعرضنا للمعنى اللغوي أنه المحك في التقييم وأخذ ما صلح من الأقوال, وذلك أن القرآن أنزل بلسان عربي مبين "إنا أنزلناه قرآنا عربيا", ومدار بحثنا هنا على المعنى والذي يعود بالدرجة الأولى على المعنى اللغوي, فليس المدار هنا فقهيا ولا عقديا ولا تاريخيا, وإنما لغوي, لذا وجب الاستعانة بأقوال أهل اللغة, لنقوم بعدها بعرض أقوال أهل السلف عليها ونرى ما كان منها صالحا قريبا من المعنى وما كان بعيدا, ونوجه الأقوال ونحاول فهم أسباب قول قائليها بها:
أقوال أهل اللغة في معنى "السيد" في الآية:
1- الذي يفوق في الخير قومه. الزجاج وابن منظور.
2- الحليم. ابن قتيبة ومكي بن أبي طالب.
وبالرجوع للمعجم الوسيط فإننا نجد أن مفردة "السيد" عامة تطلق على:
المالكُ, والمَلِكُ, والموْلَى ذو العبيد والخدمِ, والمُتَوَلِّي للجماعة الكثيرة, وكلُّ من افتُرِضَتْ طاعتهُ, وسيِّدُ كل شيء : أشرفُه وأرفعُه .
وذكر ابن منظور في لسان العرب بأن المراد في هذه الآية ليس المالك وإِنما الرئيسَ والإِمامَ في الخير ، كما تقول العرب فلان سيدنا أَي رئيسنا والذي نعظمه.
ثالثا: استعراض الأقوال وتحريرها وتوجيهها بعد سردها:
- أما ما ورد من أقوال كان في طريقة عرضها تفسير السيد بمتعلق السيادة كقولهم : السيد في خلقه ودينه وعلمه و..إلخ, فهذه من تفسير المعنى بمتعلقه, ولا أظنها تفسر معنى السيادة الذي نريد الوصول إليه في مبحثنا هنا, ورغم أنها وردت عن أكابر المفسرين, ورغم أن هذا لا ينفي صحة أقوالهم, إلا أن هذا ليس هو مدار البحث, فتستبعد الأقوال في هذه الحال, وقد نتعرض لها في نهاية بحثنا مبينين وجه الصلة بينها وبين السيادة.
- نأتي الآن للأقوال التي فسرت السيد بالحليم والتقي والشريف والفقيه والعالم, فهذه أقوال فسرت السيادة بأنها تلكم الصفات خاصة, ومنها ما كان لتفسيره علة بينة قريبة, ومنها ما كان علته أبعد وإن كان هذا لا ينفي صحتها.
- أما القول الأخير وهو القول بأنه "الكريم على الله", فلا يوجد ما يدعمه لغة ولا نقلا بشكل صريح, وإن كان يحيى -عليه السلام- كريما على الله بلا شك, وقد يكون تفسير الآية في هذا القول مبنيا على مفهوم كلام الله عنه وتكريمه له بوصفه بالسيادة, فهذا صحيح بلا شك, ولكنه ليس التفسير المباشر لمفردة "سيد", وقد يوجه هذا القول بأن مبناه مأخوذ من المعنى اللغوي للسيد بأنه الشريف في قومه المعزز فيهم, فيكون القائل انطلق من هذا المعنى وخصصه بأنه تكريم إلهي من الله وعزة وشرف من قبله, وهو صحيح ولا يمنع من دخول هذا المعنى تحت مفردة السيادة عامة في هذه الآية.
مما ذكرنا أعلاه فإن من فسر السيادة بأنها "السيادة في كذا وكذا" فإن تفسيرهم صحيح, لكنه من قبيل تفسير الشيء بمتعلقه لا بنفسه, وهو ما نحاول فعله هنا, والقول الأخير وجهناه وبيناه, أما القول الثاني فسنأتي على تفصيله الآن, فنقول فيه ما قاله ابن عطية رحمه الله فيه:
"كل من فسر من هؤلاء العلماء المذكورين السؤدد بالحلم فقد أحرز أكثر معنى السؤدد ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه فلم يفسر بحسب كلام العرب، وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله عز وجل مصدّقاً بكلمةٍ من اللّه وتحصل التقى بباقي الآية، وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاحتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل".
فيكون التفسير بالحلم والشرف هو الأقرب, إذ كلاهما قريبان جدا ومتعلقان بشكل كبير بمعنى السيادة ولوازمها.
رابعا: الترجيح, والعرض النهائي للمسألة:
ومن خلال تدارس أقوال السلف, والرجوع لمعاجم اللغة, فإننا نجد أن تعريف مفردة "السيد" تدور حول ثلاثة محاور: الشرف في القوم والتفوق في الخير والعزة والسؤدد فيهم, الحلم خاصة, التقى والعلم وغيرهما من الأخلاق الحميدة عامة.
ومما يتبين لي -والله أعلم-, ولأن للعامل اللغوي أثر كبير في تحديد الراجح من الأقوال, فإن "السيد" هنا يراد بها السيادة على معناها العام وبإطلاقها, لا سيما وأنها وردت منكرة, للتفخيم والعمومية دون تحديد السيادة في أمر دون آخر, ويظهر معنى السيادة بالمقام الأول بأنها الشرف والرفعة في القوم والتفوق فيهم, وذلك لا يتأتى إلا عن طريق الحلم خاصة, وبقية الأخلاق الحميدة كالكرم والتقى وغيرهما عامة, وفي تعريف ابن عطية -رحمه الله- خير جامع لمعنى السيادة حين قال: "أن السيادة هي بذل الندى، وهذا هو الكرم, وكف الأذى، وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان, واحتمال العظائم، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات, وجبر الكسير, والإفضال على المسترفد، والإنقاذ من الهلكات".
فنكون بذلك جمعنا بين الأقوال, ورتبناها بناء على أولويتها في تعريف السيادة, سائلين المولى أن يرزقنا التوفيق والسداد, وأن يعفو عن الخطأ, ويجبر النقص, ويصحح النوايا, والحمدلله رب العالمين.